نظريّة التأويل: التفسير والفهم عند بول ريكور
فئة : قراءات في كتب
نظريّة التأويل: التفسير والفهم عند بول ريكور
قراءة في كتاب "نظريّة التأويل: الخطاب وفائض المعنى"
الكتاب الذي نقدم قراءته للقارئ هو كتاب لـ "بول ريكور" المعنون بـ: "نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى" ترجمة سعيد الغانمي، الناشر "المركز الثقافي العربي" الطبعة الثانية 2006، عدد صفحاته 159 صفحة، وقد جاء الكتاب في محاور كبرى؛ الأوّل: خصّصه للحديث عن اللغة خطأ، والثّاني: الكلام والكتابة، والثّالث: الاستعارة والرّمز، والرّابع: التفسير والفهم. هذه المحاور في الأصل عبارة عن محاضرات ألقاها بول ريكور في جامعة تكساس 1973. في مقدمة كتابه يرى ريكور أنّ الصراع الوحيد والواضح موجود بين التفسير والفهم، لكن رغم ذلك يعتقد ريكور أنّ هذا الصراع يمكن التغلّب عليه، إذا ما تمّ التمكّن من بيان ارتباط أحدهما بالآخر ارتباطًا جدليًّا. يقول ريكور: "إذا كان الجدل بين التفسير والفهم يوفّر مرجعًا أخيرًا لملاحظاتي، فإنّ الخطوة الأولى للسير فيه ينبغي أن تكون خطوة حاسمة؛ إذ يجب أن نعبر العتبة التي تقف وراءها اللغة بوصفها خطابًا..."[1]. إذن، يمكننا القول إن نظرية التأويل من الموضوعات المهمة، والتي أصبح الحديث عنها اليوم أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا في وقت كثرت فيها المذاهب والطوائف كلٌّ يؤول النص كما يريد وحسب مصلحته، وفي قراءة لهذا كتاب سأتوقف عند موضوع التفسير والفهم في رأي بول ريكور؛ لما للموضوع من أهمية، في قراءة النص وتخمينه وفهمه واستنطاقه واستيعابه.
ما وراء التأويليّة الرومانسيّة:
بخصوص جدل التفسير والفهم، يقدم ريكور تحليلًا للكتابة ليكون نظيرًا لتحليل النص بوصفه عملًا من أعمال الخطاب، يقول: "ما دام فعل القراءة يشكل نظيرًا لفعل الكتابة، فإنّ الجدل بين الواقعة والمعنى الذي يشكّل جوهر بنية الخطاب، يولّد جدلًا متلازمًا له في القراءة بين الفهم والاستيعاب. إنّ الفهم يمثل للقراءة ما تمثله واقعة الخطاب بالنسبة لنطق الخطاب، وإنّ التفسير للقراءة يمثّل ما يمثّله الاستقلال النّصي واللفظي للمعنى الموضوعي للخطاب؛ لذلك تتطابق البنية الجدلية للقراءة مع البنية الجدلية للخطاب"[2]. ويؤكد ريكور أنّه مثلما يظل جدل الواقعة والمعنى ضمنيًا يصعب التعرف عليه في الخطاب الشفوي، فمن المستحيل تمامًا تحديد جدل التفسير والفهم في الموقف الحواري؛ أي المحادثة.
يرى ريكور، وهو يتحدث عن التفسير والفهم، أنّ هناك تداخلًا بينهما، معتبرًا أنّ التفسير ميدان تطبيقه التبادلي يكون في العلوم الطبيعية، يقول موضحًّا ذلك: "حين تكون هناك وقائع خارجية ينبغي ملاحظتها ورصدها، تعرض الفروض على التحقق التجريبي، بحيث تغطي قوانين عامة مثل هذه الوقائع، وتحيط نظريات شاملة بالقوانين المتفرقة في كلٍّ نَسَقي، وتندرج العمليات الافتراضية – الاستنتاجية في تعميمات تجريبية، ثمّ يكون بوسعنا بعد ذلك أن نقول إنّنا نفسّر. والمعادل المناسب للتفسير هو الطبيعة مفهومة على أنّها الأفق المشترك للوقائع، والقوانين والنظريات، والفرضيات وعمليات التحقق والاستنتاجات"[3]. أمّا الفهم حسب ريكور فإنّ ميدان تطبيقه الأصيل هو العلوم الإنسانية، يقول شارحًا ذلك: "للعلم علاقة بتجارب ذوات أخرى أو عقول أخر مشابهة لعقولنا وذواتنا، وهي تعتمد على انطواء أشكال التعبير من نوع أسارير الوجه والإيماءات والعلامات اللفظية والكتابية على معنى، كما تعتمد على الوثائق والنصب، التي تشترك مع الكتابة..."[4].
إنّ الثنائية بين الفهم والتفسير في التأويلية الرومانسية هي ثنائية إبستمولوجية وأنطولوجية معًا، فهي، حسب ريكور، تضع في مقابلة منهجيتين وعالمين من الواقع والطبيعة والعقل، وليس التأويل بطرف ثالث، ولا هو، باسم الجدل بين التفسير والفهم، فهو يقول: "بل التأويل حالة خاصة من حالات الفهم، هو الفهم حين يطبّق على تعبيرات الحياة المكتوبة، وفي نظرية للعلامات تغضّ الطرف عن الفرق بين الكلام والكتابة، وقول كل شيء لا يؤكد على جدل الواقعة والمعنى، يمكن توقّع أن يظهر التأويل بوصفه مجرد مقاطعة ملحقة بإمبراطورية الاستيعاب أو الفهم"[5]. كما ذهب ريكور إلى أن هناك توزيعًا مختلفًا لمفاهيم الفهم والتفسير والتأويل قوامه أنّ الخطاب إذا أنتج بوصفه واقعة، فإنّه يفهم بوصفه معنى. هنا يستند الفهم المتبادل إلى الاشتراك في عالم المعنى نفسه.
يوضّح ريكور ذلك بقوله: "ففي مناقشة شفوية، على سبيل المثال، يجد الانتقال إلى حياة نفسية غريبة دعمه في التطابق في عالم المعنى المشترك، وبذلك يكون جدل التفسير والفهم قد بدأ، وهكذا يشكّل معنى الناطق ومعنى النطق عملية دائرية، وينبثق تطوّر التفسير كعملية مستقلة بذاتها من تخارج الواقعة والمعنى، الذي يكتمل بالكتابة وقوانين الأدب التوليدية، وهكذا يميل الفهم، الذي هو أكثر اتجاهًا نحو الوحدة القصدية للخطاب، والتفسير الذي هو أكثر اتجاهًا نحو البنية التحليلية للنص، إلى أن يصيرا قطبين متميزين في ثنائية متطورة"[6]. إذن، فمصطلح التأويل حسب ريكور لا ينبغي أن يطبّق على حالة فهم جزئية منفردة؛ أعني التعبيرات الحياتية المكتوبة، بل على كامل العملية التي تحيط بالتفسير والفهم، يقول: والتأويل بصفته جدل التفسير والفهم أو الاستيعاب يمكن إرجاعه إلى المراحل الابتدائية من السلوك التأويلي الذي يعمل في المناقشة أصلًا، وفي حين يصح أن الكتابة والتأليف الأدبي وحدهما يقدّمان تطويرًا كاملًا لهذا الجدل، فلا ينبغي الإحالة إلى التأويل بوصفه إقليمًا من أقاليم الفهم"[7]. يضيف أيضًا: "ومن أجل تقديم عرض علمي لجدل التفسير والفهم، كمرحلتين من عملية فريدة، أقترح وصف الجدل أولا كنقلة من الفهم إلى التفسير، ثم كنقلة من التفسير إلى الاستيعاب؛ في المرة الأولى، سيكون الفهم إمساكًا ساذجًا بمعنى النص ككل، وفي المرة الثانية، سيكون الاستيعاب نمطًا معقّدًا من الفهم، تدعمه إجراءات تفسيرية. في البداية، الفهم مجرّد تخمين، وفي النهاية، يرضي الفهم مفهوم التملّك. سيبدو التفسير، إذن، بوصفه وساطة بين مرحلتين من الفهم. فإذا عزل عن هذه العملية العينيّة فسيكون مجرّد صنيع للمنهجية"[8].
من التخمين إلى التصديق:
يطرح ريكور سؤالًا مهمًّا وهو: لماذا ينبغي أن يتّخذ أوّل فعل من أفعال الفهم شكل تخمين؟ وما الذي يجب تخمينه في النص؟ يقول ريكور: "قد يمكن ربط الضرورة التي تقضي بتخمين معنى نص ما بنوع من "الاستقلال الدلالي" لا يتوافق المعنى اللفظي للنص مع المعنى العقلي أو قصد النص، فهذا القصد يحققه النص ويلغيه معًا، لأنّه لم يعد يحمل صوت شخص حاضر. النص أخرس، لا صوت له؛ هنا تحصل علاقة غير متناسبة بين النص والقارئ، يتحدث فيها الشريكان على لسان كليهما. النص أشبه بقطعة موسيقية، والقارئ أشبه بعازف الأوركسترا الذي يطلع تعليمات التنغيم. وبالتالي، فليس الفهم مجرد تكرار للواقعة الكلامية في واقعة شبيهة؛ بل توليد واقعة جديدة تبدأ من النص"[9]. ويضيف ريكور قائلًا: "علينا أن نخمّن معنى النّص لأن قصد المؤلف بعيد عن متناول أيدينا، ولعلّ اعتراضي على التأويلية الرومانسية، هنا، يتضاعف ويزداد قوة، ليس السبب في مشكلة التأويل هو عدم إمكان نقل التجربة النفسية للمؤلف؛ بل يكمن في طبيعة القصد اللفظي للنص. ويدلّ تخطّي المعنى للقصد على أن الفهم يحدث في فضاء غير نفسي، بل دلالي، نَحت فيه النص نفسه منفصلًا عن القصد العقلي لمؤلفه"[10]. فحسب ريكور، إذا كان المعنى الموضوعي شيئًا آخر غير القصد الذاتي للمؤلف فيمكن تشكيله بطرق مختلفة، وسوء الفهم ممكن، بل لا يمكن تحاشيه، ولا يكون بالمستطاع حل مشكلة الفهم الصحيح عن طريق عودة بسيطة إلى موقف المؤلف المزعوم، ولا مصدر آخر سوى هذا لمفهوم التخمين.
يقول موضحًا أكثر: "لأنّ ترجمة المعنى إلى معنى لفظي للنص هو التخمين بعينه، إذا كنا نفتقر إلى وجود قواعد للقيام بتخمينات صحيحة، فإنّ هناك مناهج للتصديق على تلك التخمينات الني نقوم بها، وكلا الطرفين مطلوب في هذا الجدل الجديد؛ إذ يتطابق التخمين مع ما يسميه "شليرماخر" بالتكهني، بينما ينطبق التصديق على ما يسميه بالقواعدي، وكلاهما ضروري لعملية قراءة النص"[11].
يواصل بول ريكور قائلًا: ما الذي يجب على الفهم تخمينه؟
أوّلًا: إنّ تفسير المعنى اللفظي للنص يعني تفسيره ككل، ونحن هنا نعتمد على تحليل النص بصفته عملًا أكثر ممّا نعتمد على تحليل الخطاب بصفته مكتوبًا. وعمل الخطاب أكثر من مجرّد تتابع خطي للجمل؛ بل هو عملية تراكمية، كلّية. يقول بول ريكور: "وما دامت هذه البنية المتعينة للعمل لا يمكن استمدادها من بنية الجمل المفردة، فإنّ للنص بذاته نوعًا من التعدد اللفظي، الذي هو غير تعدد المعاني في الألفاظ المفردة، وغير غموض الجمل المفردة، وهذا التعدد النصي سمة نموذجية تسم أعمال الخطاب المعقدة، وتنفتح بها على تعدد الأبنية، والعلاقة بين الكل والأجزاء، كما في عمل فني أو لدى الحيوان، تتطلب نوعًا معيّنًا من الحكم..."[12].
ثانيًا: إنّ تفسير نصّ ما يعني تفسيره منفردًا، يمكن مقارنة النص بصفته كلًّا وبصفته كلًّا منفردًا بموضوع تمكن رؤيته من جوانب متعددة، ولكن لا تمكن رؤيته من جميع الجوانب دفعة واحدة؛ ولذلك فلإعادة بناء الكل ناحية منظورية مشابهة للناحية المنظورية في الموضوع المدرك، يمكن دائمًا أن نربط الجملة نفسها بطرق مختلفة بهذه الجملة أو تلك، باعتبارها حجر الزاوية في النص، ينطوي فعل القراءة، إذًا، على نوع معين من الواحدية، وهذه الواحدية هي التي تضفي على التخمين سمة التأويل.
ثالثًا: أنّ تتضمن النصوص الأدبية آفاق معانٍ ضمنية، يمكن تحقيقها بطرق مختلفة، وترتبط هذه السمة ارتباطًا مباشرًا بدور المعاني الاستعارية والرمزية.
يقول ريكور "إذا صحّ القول دائمًا بوجود أكثر من طريقة لتفسير النص، فلا يصحّ القول أنّ التأويلات متساوية؛ فالنصّ يقدّم ميدانًا محدودًا من الأبنية الممكنة، ويتيح لنا منطق التصديق أن نتحرّك بين حدّي الدوغمائية والشكّية، بل يمكن دائمًا الوقوف مع أو ضد تأويل معين، والمواجهة بين التأويلات، والفصل بينهما، والبحث عن اتفاق، حتى لو كان هذا الاتفاق بعيدًا عن متناول أيدينا"[13].
من التفسير إلى الاستيعاب:
يرى ريكور، أنّ الوظيفة المرجعية للنصوص المكتوبة تتأثر تأثرًا عميقًا عند غياب موقف مشترك بين الكاتب والقارئ، فهي تتجاوز الدلالة الظاهرية لأفق الواقع المحيط بالموقف الحواري، معتبرًا هذا الجدل بين التفسير والاستيعاب هو النظير لهذه المغامرات في الوظيفة المرجعية للنص في نظرية القراءة.
كما يذهب ريكور إلى أنّ التجريد يتسبّب في العالم المحيط الذي تجعله الكتابة ممكنا ويحقّقه الأدب في وجود موقفين متعارضين، وهنا يقول ريكور: "إما أن نبقى كقرّاء في نوع من حالة التعليق فيما يخصّ أي نوع من المحال به إلى الواقع، أو نحقّق خياليًّا الإحالات غير الظاهرية الضمنية للنص في موقف جديد، وهو موقف القارئ؛ في الحالة الأولى نعامل النص ككيان لا واقع له، وفي الحالة الثانية نخلق إحالة ظاهرية بفضل نوع التنفيذ الذي يتضمنه فعل القراءة، وهاتان الإمكانيتان موقوفتان معنا على فعل القراءة والمفهوم بوصفه تفاعلهما الجدلي"[14]. هكذا يكون فعل القراءة يصل إلى الأعماق، فالنص يتكلّم عن عالم ممكن وعن طريقة ممكنة يوجّه بها المرء ذاته فيه، وأبعاد هذا العالم يفتحها ويفضحها معا النص نفسه، والخطاب، حسب ريكور، هو المكافئ للغة المكتوبة في الإحالة الظاهرية بالنسبة إلى اللغة المنطوقة، وهو يتعدّى مجرّد وظيفة التأشير والكشف عما يوجد أصلًا، وبهذا المعنى، يتعالى على وظيفة الإحالة الظاهرية المرتبطة باللغة المنطوقة، وهنا يكون الكشف في الوقت نفسه خلقًا لنمط جديد من الوجود"[15].
تحدّث بول ريكور أيضًا عن مسألة جوهرية وهي الجدل بين التفسير والفهم، يقول: "يسعى التأويل في مرحلته الأخيرة إلى المساواة والمعاصرة والاندماج بمعنى المشابهة، وتحقّق هذه الغاية بمقدار ما يحقّق التأويل معنى لنص للقارئ الحاضر"[16]. يضيف: "ليس قصد المؤلف الذي يفترض أن يختفي وراء النص، ليس السياق التاريخي المشترك بين المؤلف وقراءه الأصلاء، ولا حتى فهمهم هم أنفسهم من حيث هم ظواهر تاريخية وثقافية. ما ينبغي تملكه هو معنى النص نفسه، مفهومًا بالمعنى السيّال المتحرّك بوصفه اتجاه الفكر الذي يفتتحه النصّ..."[17].
أخيرًا وليس آخرًا، ستبقى نظرية التأويل بحاجة إلى الغوص فيها أكثر فأكثر، حتى لا تترك الفرصة لكل من هبّ ودبّ يؤوّل النصوص وفق ما يريد، وتكون الخطورة أكبر عندما يتعلق الأمر بالنصّ الديني، ومن ثمّة، فالأمر بحاجة إلى آليات منهجية لقراءة النص، أيّ نص.
[1]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، الناشر المركز الثقافي العربي، ط2، 2006، ص 22
[2]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ص 118
[3]- نفسه، ص 119
[4]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ص 119
[5]- نفسه، ص 120
[6]- نفسه.
[7]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ص 121
[8]- نفسه، ص ص 121-122
[9]- نفسه، ص 122
[10]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ص 123
[11]- نفسه، ص ص 123-124
[12]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ص ص 124-125
[13]- نفسه، ص 128
[14]- نظرية التأويل - الخطاب وفائض المعنى، بول ريكور، ص 130
[15]- نفسه، ص 140
[16]- نفسه، ص 144
[17]- نفسه، ص 145