نظرية التجاوز المذهبي لا للعداء والوحدة والتقريب، نعم للتجاوز
فئة : مقالات
نظرية التجاوز المذهبي
لا للعداء والوحدة والتقريب، نعم للتجاوز
كان أرسطو يقول: من نقد الفلسفة فقد تفلسف، وقد يقال اليوم بحق الذين ينقدون المذهبية بأنهم متمذهبون، فمن جاوز المذهب أو نقضه فقد تمذهب هو الآخر. وقد واجهت الوضعية المنطقية حديثًا، في إطار فلسفة العلم، شبهة حول رؤيتها لتقسيم القضايا المعرفية، إذ ترى أن هذه القضايا لا تتجاوز ثلاثًا؛ فهي إما قضية تحليلية لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، أو قضية تقبل التحقيق الخارجي، أو أنها لا معنى لها. ومضمون الشبهة هو أن هذا التقسيم يعتبر في حد ذاته من القضايا، لكنه لا يمكن أن يكون ضمن ذات القضايا الثلاث المذكورة، وبالتالي فهو قضية رابعة، مما يجعل التقسيم واقعًا في تناقض. ومع أن فتجنشتاين مؤسس هذا التقسيم قد اعترف بأن ما أشاده من أفكار في كتابه "رسالة منطقية فلسفية" تخلو من المعنى طبقًا للمبدأ الذي بناه، لكنه استدرك وطلب من القارئ الذي يفهم كتابه: أنّ عليه العمل بإلقاء السلّم جانبًا بعد الصعود عليه، فعندها سيرى العالم على نحو صحيح. لكن الجواب الآخر الأكثر منطقية هو اعتبار قضية التقسيم تختلف عن طبيعة قضايا الأقسام الثلاثة، إذ تعود القضية الأخيرة إلى منطق آخر استعلائي، لا يوصف بمثل تلك المواصفات.
يمكن الإجابة، بناءً على ذلك، على الشبهة السابقة حول اتهام من ينقد المذهبية بالتمذهب، وهو أنه: إذا كان لهذا النقد تمذهبًا فلا بد أن يكون من منطق آخر مختلف عن التمذهب الحاصل، وبالتالي فهو نفي للتمذهب بالمعنى الشائع، مثلما أن من يقول بالتقريب بين المذاهب أو يدعو إلى الوحدة بينها لا يُعد صاحب مذهب جديد على غرار المذاهب الموجودة، بل يكون مذهبه من صنف آخر مختلف.
هذا منطق آخر ليس فيه ما يوازي سائر المذاهب، إذ للمذاهب اعتقاداتها المفصلة، وبعضها يعارض بعضها الآخر، كما أن كلاً منها يدعي أنه يمثل الدين الحق. وأي اتجاه يأتي ليصبغ مثل هذه التفاصيل المطروحة بصبغة الحقيقة الدينية إنما هو مذهب جديد يضاف إلى سائر المذاهب المعروفة. أما عندما يُطرح منطق جديد لا يعمل بآلية المذاهب المتعارف عليها من التقليد والتفصيل، فإنه لا يعد مذهبًا على غرار تلك المذاهب، وإذا ما أُطلق عليه وصف مذهب فالمقصود به أنه نظرية أو مدرسة جديدة تختلف عن المذاهب المشار إليها بالجملة، إذ ما بين المذاهب المعروفة نوع من الموازاة والارتباط العرضي، وقد يضيف اللاحق للسالف ارتباطًا طوليًا مكملاً، في حين أن النقد المذهبي لا يشكل عرضًا وتوازيًا لأي من هذه المذاهب، فضلاً عن أنه لا يدخل ضمن إطار الارتباط الطولي، وتبقى علاقته معبرة عن الجانب العرضي لجميع هذه المذاهب بجملتها وليس لفرد مخصوص منها؛ أي أن النقض وتجاوز المذهب يقع في المذاهب المعروفة قاطبة، وليس واحد منها، في حين أن هذه المذاهب يقف كل منها في مقابل البعض الآخر.
ومعلوم أن نظرية التجاوز تكون خارجية متبناة من قبل الاتجاه العلماني تارة، وداخلية تنتمي إلى ذات الفصيل الديني تارة أخرى، وهو ما نتبناه، بل نوليه أهمية عظمى لإنقاذ الدين بعد ما دنّسته يد التشويه بالخرافة والتكفير والقتل والاستبعاد والتضليل، والعمل بمقالة شعب الله المختار. ومعلوم أن كثيرًا من الناس يتوق إلى أن يجد حلاً عقلانيًا يحفظ للدين هيبته بالبعد عن التمذهب الذي ما زلنا نجني آثار مساوئه بفعل الصراع والنزاع نيابة عن الله أو عن الآلهة المصطنعة. وتبقى محنة كثيرين تتمثل بغياب البديل.
وتعتمد نظرية التجاوز المذهبي على أمرين أحدهما يتمم الآخر، هما: النقد الجذري وتقديم البديل عن دائرة المذاهب دون الخضوع لسلطتها، وهو تعبير آخر عن اللامنتمي، فلا يمكن تطبيعه ضمن إطار مذهب ما من المذاهب الدينية المعروفة، فقد يتفق مع بعض المذاهب بأمر ويختلف معها بأمور، وبالتالي لا يمكن تحديده ضمن مذهب معين. والأهم من ذلك أنه يخالف جميع المذاهب حول التفصيل الذي ابتدعوه واعتبروه جزءًا من الهوية الدينية بلا دليل، لا سيما أن هذا التفصيل مشوب بالظنون، فلا يصح إحالة شيء ما إلى الهوية الدينية ما لم يكن قطعيًا.
وبحسب نظرية التجاوز فليس الدين مصدرًا يعول عليه في التفاصيل، بل المصدر الأساس في ذلك هو الواقع، أما الدين فهو مصدر الإجمال، وبالإجمال نحصل على القطع والبيان، خلافًا للتفصيل المستمد من النصوص عبر الظنون والتكهنات البعيدة كالذي فصلنا الحديث عنه في "فهم الدين والواقع".
لقد أخرج لنا العلماء منظومة واسعة من التفاصيل الدينية التي لا يُعرف لها حدود، وعلّموا الناس بأن مرجعها الدين ذاته، وأصبح من الصعب على المرء أن يتصور خلوّ الدين من هذه التفاصيل التاريخية، فكل شيء يمكن أن تجد له جوابًا عبر مرجعية الدين، بل عبر مرجعيات فرعية جعلت نفسها نائبة عن الدين، لقد أصبح من الصعب على المرء أن يصدق أن أغلب ما قاموا بحشوه لنا من الدين ليس له علاقة بالأخير، وأن دعواه لا تتعدى المسائل القليلة، وهي فطرية بسيطة، وأن ما عداها أُوكلت إلى مقاصد الدين كما يدركها العقل البشري وتدركها الفطرة السليمة.
وأكثر من ذلك أن هذه المرجعيات تتنافس وتتناحر حول أيها أحق بالنيابة وتمثيل الدين عبر طروحاتها المذهبية، فلقد أثارت هذه الطروحات في مجتمعاتنا أزمات وصراعات لا تنتهي، وهي بحكم حالها ضعيفة لا تمتلك الرصيد المعرفي الإبستيمي المتين، رغم أنها تمتلك إيديولوجيا فعالة قوية تتحكم في الأتباع.
فيلاحظ حول السجال السني الشيعي أن لكل منهما قوة هجومية عالية باتجاه الآخر، رغم أنهما يضعفان في حالة الدفاع عن الذات، فهما كمن له القدرة على إصلاح الآخر دون التمكن من إصلاح ذاته، ولكل منهما القوة في تضعيف خصمه وإيهام أتباعه بتهافت المقابل، رغم أن الدفاع عن الذات أمر غير ميسور، فتكثر بذلك التأويلات والتوجيهات البعيدة التي لا تنتهي. وكثيرًا ما يمارس كل منهما الانتقاء والتعميم ليفرضه على المقابل، والأتباع يصدّقون ما يقوله زعماؤهم وما يصورونه لهم بلا تحقق. وكثيرًا ما تُمارس لعبة المخاتلة وحوار الصم واعتبار ما يقدمه الخصم من أدلة قوية من الشبهات، وغالبًا ما تتحكم الحالات النفسية بالصراع بعيدًا عن الطرح الإبستيمي المستقل.
إن الانتقاء والتعميم وغياب تفهم الطرف المقابل بممارسة التفكير الإيديولوجي هي الملامح العامة المشتركة للذهنية المذهبية لدى الطرفين المتناحرين، إذ يعمل بها المتصدون للنزاع كما يعمل بها الأتباع، وكلا المذهبين يتصرفان تبعًا لاعتبارات القبيلة والعشيرة؛ أي السعي لنصرة الانتماء العشائري ضد المقابل دون البحث عن الحقيقة. فالأخيرة مسلّم بها سلفًا مع الرغبة في أن تظل الأمور على ما هي عليه دون قلب الحقائق، ويبقى الهدف متمثلاً بإيقاع الخصم بشتى أنواع التهافت، وهو العمل الإيديولوجي المشابه للوضع القبَلي العشائري، مما يفقده صفة التدين وتقوى التعامل مع الذات والآخر، مع ضعف البناء المعرفي الإبستيمي.
فبالنسبة للتعميم، تجد من الشيعة من يعمم ويرى أن السنة مجسمة أو مشبهة، ويأتي بشواهد تدل على مراده، لكنه يجهل أن هذا التعميم خاطئ، كما يجهل أو يتجاهل أن من قدماء الشيعة من كان مجسمًا ومشبهًا بشهادة عدد من زعماء المذهب. وتجد من السنة من يتهم الشيعة في بأنهم قائلون بتحريف القرآن، أو أنهم مجسمة، ويأتي بشواهد من روايات المذهب واعتقادات عدد من علمائه، لكنه يجهل أو يتجاهل أن هذا التعميم خاطئ، وأن هناك من يتهم بالتهمة ذاتها لدى السنة.
كذلك الحال مع الانتقاء، فهي صفة يمارسها المذهبان بشكل كبير أحدهما ضد الآخر، ولسان حال كل منهما يقول: "من فمك أدينك". فيأتي الشيعي إلى كتب السنة ومنها الصحاح ليبحث عن المثالب التي تطعن في عدد من الصحابة، ويلتقط بعض الأحاديث ويدع أغلب الروايات التي تثني عليهم، إذ لا يهمه ما تقوله هذه الكتب سوى تأييد نزعته المتشددة للانقضاض على غريمه، دون التفات إلى المعارضات. وكذلك يفعل السني، إذ يتجه إلى كتب أحاديث الشيعة ويعزز وجهة نظره حول ما تقوله في الغلو وتأليه الأئمة أو اعتبارهم غير مخلوقين أو غير ذلك، فيعاملها معاملة الأحاديث الصحاح، ويترك سائر الروايات المعارضة، كما يترك خلاف العلماء حولها.
إن هذه اللعبة والمخاتلة كثيرًا ما تزاولها الأطراف المتنازعة، علماء وأتباعًا، وعلى الرغم من أن من يتوسمون باسم العلم يمارسون هذا النهج التعسفي إلا أنهم يدركون أن الممارسة التي تماثلها في الفقه تعد جهلاً فاضحًا، فلا يغتفر لمن يقوم بهذا الدور السقيم، لكنهم مع ذلك يزاولونه في العقائد أو عندما يكون الأمر متعلقًا بالطرف الآخر. فمتى كان الدين خاضعًا لهذا اللعب والمخاتلة؟ ولماذا تحوّل إلى نهج قبلي وعشائري تتحكم فيه الميول الطائفية على حساب الحق والحقيقة؟ فلو أن أتباع كل طائفة صادف أن نشأوا ضمن الطائفة الند، لكانوا مخلصين لهذه الأخيرة، فلا فرق بين أن ينتمي زيد، مثلاً، لهذا المذهب أو ذاك، فالتقليد واتّباع القبيلة والعشيرة يبقى ثابتًا دون تغاير واختلاف، مما يجعل الحالة رهينة دراسة علم النفس الاجتماعي "سوسيوسايكولوجي" عوض الجدال معهم فيما يقلدونه من الأدلة دون تحقق. لذلك، فعندما نقول: لماذا لا يخلص هؤلاء باتّباع الحق حيثما كان؟ إنما نريد بذلك دراسة حالتهم النفسية قبل كل شيء. فما زالت شبهة الغزالي تلاحقهم إلى يومنا هذا، إلا من رحم ربي. فهو يقول بالاقتصاد في الاعتقاد: «وأما اتّباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقًا وقوّاهم على اتباعه، وإن أردت أن تجرب هذا في الاعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت إنه مذهب الأشعري لنفر وامتنع عن القبول وانقلب مكذبًا بما صدّق به مهما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا، وكذلك تقرر أمرًا معقولاً عند العامي الأشعري، ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر من قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب. ولست أقول هذا طبع العوام، بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين باسم العلم، فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما اعتقدوه حقًا بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الاعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كل ما يوافقه، وإنما الحق ضده، وهو ألا يعتقد شيئًا أصلاً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقًا ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الاستحسان والاستقباح بتقديم الألفة والتخلق بأخلاق منذ الصبا.»؟
لقد أصبحت لفظة العالم لا معنى لها، فهي ستار للجهل والمصالح الطائفية أو الإيديولوجية.
عجيب أمر هؤلاء، إذ يزعمون أنهم مالكو الحقيقة المطلقة، ومع ذلك يتناقضون حولها، إن هذا يذكّرني بما صوره المرحوم علي الوردي، من أن العالم الشيعي والعالم السني كل منهما يدعي أن استدلالاته منطقية صحيحة لا ريب فيها، ومع ذلك يتضارب القياس المنطقي فيما بينهما، ويبقى من الصعب حل النزاع بين الطرفين وكل منهما يضفي على نفسه وهم القداسة الدينية، حتى أصبح المذهب دينًا، والدين مذهبًا، وصار التفريق بينهما عسيرًا للغاية. فسواء العلماء أم الأتباع، أغلبهم يظن بأنه يحمل ما يمثل عين الدين، أو يطابقه دون تردد، خلافًا لما يحمله المذهب الخصم، فنحن بالتالي أمام حق مطلق إزاء باطل مطلق، يرى كل منهما أنه صاحب حق مطلق، وكثيرًا ما يكون التوهم بأنه الحق لا يتجاوز الكيانين المذكورين، فإما أن يتمثل الدين بما يقوله الشيعة أو ما يقوله أهل السنة ولا ثالث لهما. ويحضرني في هذا الصدد كلام لمحمد جواد مغنية، وهو ينقل حواره مع أحد المشايخ السنة الذي يرى أن الحوار بين السنة والشيعة يحتاج إلى طرف ثالث، فيجيبه مغنية بأن ذلك يعني الحاجة إلى مسيحي أو يهودي، مما يعني أن الإسلام قد انحصر في هذين المذهبين المتخاصمين.
لقد اعتادت المؤسسات الدينية إظهار التناقضات العقدية الحادة لاستفزاز الآخر، فمن المألوف تضليل المقابل وجواز غيبته وعدم الاعتراف بإيمانه وإبطال عباداته، بل تكفيره، ويصل بعض كبار العلماء إلى أن يصف في أحد كتبه الفقهية الاستدلالية أتباع الطرف الآخر بأنهم أشرّ من النصارى واليهود وأنجس من الكلاب والخنازير، وأنه لا يجوز الترحّم على موتاهم...إلخ. ومثل هذا الوصف نجده لدى عدد من رجالات الطرفين وعلمائهم.
إن نسبة كبيرة من الطرفين تساهم في هذه النغمة، بدعوى الديانة، والحقائق الواضحة، وانجلاء الحق وتمايزه عن الباطل، والفرقة الناجية وسط فرق الضلال، وما إلى ذلك من مبررات قد أشبعتها الكتب المتنافسة، لذلك كان من الصعب القضاء على هذه الآثار التاريخية المدمرة التي مازالت تخيم على عقول كثير من الناس علماء وأتباعًا. ومن الحقائق المفارقة والصادمة أنه بالرغم من أن الإسلام جاء ليوحّد أبناءه ويحذّر من حلول الفرقة فيهم، كما حلّت بأهل الكتاب من قبل، فإذا بهم يعملون على تفريقه وتقويضه.
أما دعوات التقريب بين المذاهب، فلم تجنِ شيئًا رغم ما مرّ عليها من عقود طويلة، وأن الاعتراف بشرعية الطرف المقابل ظل محصورًا وضيّقًا إلى أبعد الحدود، ولا أتوقع أنها ستتغلب على المشاكل التي تواجهها، وذلك لمسألة بسيطة تتعلق ببعض التناقضات المستفزة التي يصعب حلها ما لم يتم التنازل عن أمور تعتبر لدى الطرفين من صميم العقيدة الدينية. فالدعوة إلى الوفاق تتطلب التضحية بأغلى الأثمان. وقد كنت في الماضي من الراكبين هذا المركب، لكن أين التمني من الرياح العاتية؟
فليست المشكلة ثنائية، بل ثلاثية يدخل فيها بعمق طرف ثالث هو ما يجعل الموضوع معقدًا، وبالتالي لا بد من صياغتها بدقة لرؤية ما إذا كان هناك ضوء في نهاية النفق المظلم أو أن الأفق مسدود، بل لا بد من معالجة أخرى مختلفة قد تفتح للأجيال القادمة سعة في الحياة والتواصل بعد ما أصابنا الضيق والتخلف وسوء الحال. ولا أقل من أن ما يشغلنا دومًا هو الماضي لا المستقبل، والموتى لا الأحياء، وكما يعبّر الشهيد محمد باقر الصدر في "المحنة" عن نزعتنا الاستصحابية التي تجعلنا نثبت على الأشياء دون تغيير، والتي «تجعلنا دائمًا نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، والأمة الحية لا نتعامل معها».
أقول: لا الشيعة ولا السنة تمثل الإسلام ذاته، فهما ينتميان إلى الفكر الإسلامي بكل ما يحمله هذا الفكر من مضامين اجتهادية وصور ذهنية بشرية لا تطابق بالضرورة عين الإسلام، وأن بالإمكان نهج طريق ثالث غير هذين المذهبين، طالما كانا منتميين إلى الفكر الإسلامي لا إلى الإسلام ذاته، فالفكر واسع، وقد يأتي ما هو لاحق أقرب إلى الإسلام مما مضى من مذاهب. الفرق بين المذهب والإسلام كالفرق بين تصورنا لشيء ما وحقيقة هذا الشيء، فكل منهما يمثل نفسه وليس عين الآخر، وإن التطابق المدعى بينهما يحتاج الى أدلة كافية ليس من السهل تحصيلها. ويبقى أن للكل رؤيته التأويلية، بالمعنى الهرمنوطيقي مثلما لكل منا هذه الرؤية للعالم، وهي لا تطابق العالم بالضرورة. وكل ذلك يدعونا إلى الاعتراف بالتواضع المعرفي دون التعصب والزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة.
لا يهم التفكيرُ في الأسس التي تقوم عليها الاعتقادات المذهبية أو ما يطلق عليها الاعتقادات الدينية ومدى متانة هذه الأسس، الباحثين والعلماء والأتباع. فالحديث عن الدين ملتبس بالحديث عن المذهب، فيوهم بأنه يحمل القداسة المطلقة، رغم أنه لا يتجاوز الرأي. لقد تحولت قداسة الدين إلى قداسة المذهب، وقد سوّقها الأخير لنفسه وعلى الضد من الآخر، لهذا ظهر التكفير والتضليل وساد وما زال. فلو التفت الباحثون إلى أسس البحث الديني لكانت النتيجة غير ما يصوره أطراف النزاع، ولكان الحديث عن المقدس والحق المطلق يضيق إلى أبعد الحدود، في حين أنه يتسع يومًا بعد آخر لدى الأطراف المتنازعة التي يدعي كل منها أنه يحمل جوهر القداسة والحقيقة المطلقة دون سواه.
وبنظرة فاحصة للمذهبين السني والشيعي، سيجد الباحث أنهما يحملان أكثر من تسعين بالمئة من الأفكار مردها الظنون والأوهام والاحتمالات الكثيرة، أو على الأقل أنها ليست معلومة من صحيح الدين. وإن أغلب الناس لا يعرفون هذه الحقيقة ولا يدركون كيف ذلك، باعتبارهم لم يطّلعوا على كيفية نشأة المذاهب تاريخيًا ومعرفيًا، وإن من يعرف ذلك يخشى التصريح به، لكن الحقيقة تكشف عن نفسها مهما طالت محاولات التغطية والتستر، فإذا لم تنجل اليوم فستظهر للأجيال غدًا، وسنكون محل إشكال واتهام على جهلنا وتعصبنا.
لقد تبلور كلا المذهبين بعد فترة طويلة من الإسلام، فكيف يدعي كل منهما أنه يمثل الدين الخالص بحق مع أنهما نتاج تاريخي؟
تحضرني المحاورة التي جاءت في كتاب "المراجعات" للسيد عبد الحسين شرف الدين مع شيخ الأزهر سليم البشري، وكيف أن كلا المحاورين أراد أن يثبت امتداده الطبيعي للإسلام، خلافًا للآخر الذي اعتبره حادثًا وطارئًا على الجماعة الإسلامية. ومثل ذلك ما صادف بعض السنة والشيعة أن حكوْا قصة مماثلة لتطيح بالآخر، وهي قصة "النعل المسروق"، إذ قدّموا للمقابل تهمة تلوح مؤسس المذهب بأنه سرق نعلاً في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ليثبتوا أنه إذا لم يكن زعيم المذهب سارقًا فمذهبه حادث أو متأخر عن ذلك العهد، ومن ثم لا قيمة له. مع أن الفكرة تصدق على المذاهب جميعًا دون استثناء، فزعماء الإيديولوجيا المذهبية جميعهم لم يصادف أحد منهم ان سرق نعلاً في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، لكنه سرق الدين فيما بعد.
لقد حذّر القرآن الكريم من الفرقة كتلك التي أصابت الأمم السالفة، وإذا بأمة الإسلام تقع بمثل ما وقعت به أخواتها من الأمم القديمة، فكل مذهب يرى نفسه أنه الفرقة الناجية خلافًا لسائر الفِرق، وأنه حلقة الوصل بالإسلام.
لا أدري ما هي العلاقة التي تربط المذهبية بالإسلام، ولا سيما أن الأخير قد نهى عن الفرقة أو التمذهب؛ فالمذهب مذهب والدين دين، والدين لله والمذهب للبشر، فالدين مذهب إلهي، والمذهب دين بشري؛ أي أنهما يفترقان، إذ يسعى المذهب لفهم الدين من دون عكس؛ فهو يجتهد، سواء في العقائد والأصول، أم في الفقه والفروع، رغم أن المذاهب لا تعترف بطابعها الاجتهادي على مستوى العقائد والأصول لتبرر لنفسها قطعية المسار وحقانية المسلك. فالمذهب يخطئ ويصيب، وبالتالي كان من الممكن نقده وتقويضه وإبداله بآخر، كما ننقد وننقض سائر أفكار البشر، في حين لا يجري هذا الحال مع الدين إذا ما اعترفنا بمصدره الإلهي. ويمتلك الطرفان، من الناحية المعرفية الإبستيمية، منظومة واسعة لما يدعى بأنها حقائق دينية، وهي في غالبها مقتبسة من الحديث المعنعن. وإن من يراجع أصول هذه الأحاديث وكيف تكونت، سوف يجد أنها تفتقر إلى القيمة العلمية لدى الطرفين على السواء، كالذي عرضناه في كتابنا "مشكلة الحديث". فالشيعة يرون أن أهم كتاب لديهم في الحديث هو الكافي للكليني، وهو كتاب ضعيف الاعتبار لكونه لم يلتزم الدقة في النقل الصريح المباشر؛ فهو لا يشير إلى كيفية تعويله على الروايات، فيما إذا كان قد رواها بالسماع؟ وهل كان السماع مباشرًا أم غير مباشر؟ أم أنه نقلها من الكتب الموجودة في عصره عبر ما يطلق عليه "الوجادة" دون أن يبين ذلك؟ ففي الغالب إنه اعتمد في نقله على الوجادة، كما تدل بعض الروايات التي رواها بهذا الشأن.
أما أهل السنة، فيرون أن أهم كتبهم في الحديث هو صحيح البخاري ومن بعده صحيح مسلم، وكلاهما التزم السماع المباشر الصريح بداية السند، كالقول بكلمة حدثني أو أخبرني زيد أو عمر...إلخ، لكن كتب الصحاح في المقابل، بغض النظر عن سائر ما يعتريها من مشاكل قوية، تسقط هي الأخرى من الاعتبار فيما لو قارناها بفعل ما كان عليه كبار الصحابة، كالذي يشهد عليه أهل السنة أنفسهم. فلو تخيّلنا أن كبار الصحابة قد طال بهم العمر إلى عصر الصحاح، لما رضوا عن فعل أصحاب الحديث، ولاعتبروا ذلك من البدع التي لا يمكن السكوت عنها، لا سيما بعد طول الزمان وكثرة العنعنة، وقد كانوا لا يتقبلون الرواية بشاهد واحد، رغم اتصال عصرهم بعصر النبي، صلى الله عليه وسلم، فكيف الحال والعصور قد تعددت وتغيرت، والعنعنة زادت وكثرت، والحديث قد جرى عليه من التغيير الكثير، كما يشهد على ذلك أهل السنة أنفسهم.
على ذلك، فالمنصف يجد أن أهل السنة واقعون بحرج بين أمرين، أحلاهما مر، فإما أن جرأتهم تستدعي ضرب ما فعله كبار الصحابة عرض الحائط، كالذي يقوله الشيعة ويتهمون به هؤلاء الكبار، أو أنهم لا يتقبلون ما فعله أصحاب الصحاح ويعتبرونه من البدع التي لا يرضى بها الصحابة الذين هم أدرى بمقاصد الدين وسيرة النبي الأكرم. هذا هو الحرج المنطقي، ومع أن السنة لجأوا إلى قبول ما فعله أصحاب الصحاح وغيرهم من المكثرين في الحديث، ظنًا منهم أنه لا يمكن فهم الدين وإدراكه إلا من خلال هذه الأحاديث، وإلا اندرس الدين وانتهى، للتصور الذي يرى ضرورة اتصاف الدين بسعة القضايا وتفصيلها لمختلف مجالات الحياة، وأن التضييق يحصر الدين في زاوية تفضي به إلى الموت والاندراس، ومع أن السنة لجأت إلى هذا الخيار، لكنها ظلت تواجه السؤال الحرج، وهو لماذا كان الصحابة حريصين على تضييق قبول الرواية؟ فهل كان ذلك للتهمة التي يتهمهم بها الشيعة؟ أم لأنهم كانوا يخشون أن يتبدل الدين إلى آخر بفعل تكثير الرواية؟ وبالتالي لماذا كان الصحابة مضيّقين، في حين كان الأتباع موسّعين؟ هذا سؤال محرج لا نجد للسنة جوابًا شافيًا عليه، ولو أن الناس الواعين التفتوا إلى هذه الناحية مع غيرها من النواحي التي تضعف العمل بالأحاديث الواصلة إلينا لكان الموقف إزاء ما يقوله السنة والشيعة موقفًا يشوبه كثير من الشك والحذر.
ونجد أن الحديث الشيعي ساقط بحسب اعتبار الدقة، ولو بالحد الذي حاوله الحديث الصحيح السني، وأن الأخير ساقط بحسب اعتبار مسلك كبار الصحابة دون معارضة. وبالتالي فمن الناحية الإبستيمية لا يمكن الركون إلى ما يدعيه كلا الطرفين، فأحدهما انقلب فيما انحرف الآخر، وأن من اللازم الرجوع إلى الأصل كما كان عليه أهل البيت وكبار الصحابة، لا سيما أنه لم يردنا خلاف بينهم حول ما سبق، وأهل مكة أدرى بشعابها.
وعليه، فنحن أمام فهم جديد لا يعود إلى أحد من هذين المذهبين أو غيرهما من المذاهب الناشئة؛ فالفهم الجديد يبتعد عما اعتاد عليه كلا المذهبين من ظنون متهافتة، أو احتمالات يُظن بأنها تنمّ عن العلم، فهم يعتمدون في الأساس على النقل البعيد المعنعن، كما أنهم لا يضعون في الاعتبار احتمالات تغيّر المعنى، سواء بالنقل المعنعن، أم عند تجرّد النص عن الواقع، لا سيما وهم لا يولون الأخير أهمية في الفهم الديني كالذي كشفنا عنه في "جدلية الخطاب والواقع". وبالتالي، ستكون المحصلة لدى الطرفين أن ما يسمى بالدين هو أوهام بأوهام، فلا دليل على ما يقولونه وينقلونه ويعدونه من الدين.
وهذا ما يجعلنا نعتمد على طريقة أخرى مباينة هي جوهر ما جاءت به الديانة الإسلامية، فالآيات على كثرتها تجدها في الأعم الأغلب تتناول مسائل هامة وقليلة للغاية دون تفاصيل، ولو كان من الدين ما ينقله المذهبان لكان من الأولى أن يشار إليه في القرآن بوضوح كوضوح ما أتى لأجله، بدل هذا الاختلاف والتنازع والصراع المخزي الذي لا ينتهي.
وأخيرًا نقول: إذا كان الإسلام يُحصر في اتّباع وتقليد رؤساء السنة والشيعة، فهل كان علي والحسن والحسين وأبو بكر وعمر: من أهل السنة أم الشيعة؟ فإن قلتم إنهم المؤسسون للفريقين قلنا فلماذا انقلبتم عليهم أو انحرفتم عنهم؟ بل لماذا ظلّ هدفكم التفرقة والتنابذ، وأحيانًا الاقتتال، مع أنكم تعدّون أنفسكم من أخلص أتباع هذا الدين، وهو يدعو بما لامزيد عليه من الصراحة والوضوح إلى المحبة والأخوة والتعاون والوئام مقصدًا من أسمى المقاصد والغايات؟