نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس : قراءة في المنطلقات والأبعاد
فئة : مقالات
مقدمة:
يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس من رواد الفلسفة وعلم الاجتماع على مستوى العالم،كما أنه يمثل الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت النقدية.
تتنوع كتاباته بين الفلسفة والسوسيولوجيا والايتيقا، بالإضافة إلى مئات الأبحاث والمقالات المنشورة في كبريات المجلات والجرائد الدولية. من بين الكتب والدراسات المعروفة عالميا، نجد على سبيل المثال لا الحصر : "ملامح فلسفية وسياسية، الخطاب الفلسفي للحداثة، أخلاقيات المناقشة، الحق والديمقراطية، الاندماج الجمهوري، الأخلاق والتواصل ونظرية الفعل التواصلي".
ويعد كتاب نظرية الفعل التواصلي أهم كتاب في مشروعه الفلسفي؛ فهو كتاب يتوج مجهودات هابرماس في فترة الستينيات والسبعينيات، ويجمع مرجعيات فلسفية وسوسيولوجية وعلمية ولغوية مختلفة.
إذن، ما هي المنطلقات السوسيولوجية والفلسفية والعلمية لنظرية الفعل التواصلي؟ وما هي أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية؟
·لايمكن استيعاب مشروع هابرماس الفلسفي دون الرجوع إلى منطلقاته السوسيولوجية والفلسفية والعلمية.
ـ المنطلقات السوسيولوجية
أولا : ماكس فيبر
خصص هابرماس لماكس فيبر أكثر من مائة صفحة في كتابه "نظرية الفعل التواصلي"، حيث اهتم هابرماس أساسا بسوسيولوجيا فيبر،انطلاقا من طرح وتحليل مسألة وصيرورة عقلانية/عقلنة للعلم الحديث والمعاصر. فهذه العملية التاريخية والمعقدة والممتدة التي بدأت وتعمقت في الغرب، وامتدت إلى دول العالم، تحمل في طياتها عناصر الضعف والسلب وعناصر القوة والإيجاب : فهي من جهة وضعت الإنسان في مقام القدرة والسيطرة والكشف ( نزع السحرعن العالم)، ومن جهة أخرى حولت الفرد إلى أسير وأداة عقله نفسه. ومن هنا جاءت نزعة التشاؤم والسلبية إزاء مسيرة الحضارة الغربية، كما تتراءى في سوسيولوجيا فيبر مقابل تعمقها في فلسفات معاصرة، مثل نيتشه وفوكو وهيدغر وليوطار..
ولتجاوز هذه النزعة العدمية والتشاؤمية، يعيد هابرماس قراءة وتأويل سوسيلوجيا فيبر: ونقطة انطلاقه هي إبرازه لخاصية المعنى والقصد للفعل الإنساني كما يؤكدها فيبر، فليس كل فعل إنساني هو نشاط جدير بالاهتمام السوسيولوجي باستثناء ما له معنى مرتبطا بقصد الفاعل صريحا أو ضمنا. وبالرغم من وقوع هذا التحديد الفيبري للفعل الاجتماعي مقترنا بالمعنى والقصد في دائرة فلسفة الوعي، يلاحظ هابرماس تضاربا لدى فيبر فيما يخص مضمون هذا الفعل في حد ذاته: فمن جهة هو مرتبط أصلا وحصرا بفاعل معزول وبعينه، ومن جهة أخرى هو علاقة لا يمكن أن تغيب بالكامل حضور الآخر. في الحالة الأولى يحسب الفاعل أنانيا من أجل نجاحه الشخصي المحض ( فعل أداتي)، وفي الحالة الثانية يحضر الآخر ضمن حساب استراتيجي لبلوغ القصد المخطط له ( فعل استراتجي). والنتيجة واحدة، هي: البحث عن النجاح والسعي لتحقيقه. في المقابل يطرح هابرماس نوعا آخر من الفعل الاجتماعي أسماه الفعل التواصلي الذي لا يبحث عن مجرد النجاح الشخصي فقط، بل تحقيق التفاهم عن طريق الحوار.
ثانيا : هربرت ميد
تأثر هابرماس بالكثير من علماء الاجتماع الأمريكيين، ومن بينهم السوسيولوجي هربرت ميدالذي أخذ عنه فكرة دور الآخر في تشكل الأنا. إذ يعتبر ميد أن الذات تنشأ وتتطور مجتمعيا من خلال عملية التفاعل الاجتماعي؛ إذ يبدأ الفرد بالتعرف على ذاته من خلال آراء الآخرين فيه، ومنذ السنوات المبكرة من حياته وتحديدا من خلال عملية اللعب التي يقوم بها، محاولا تقمص العديد من الأدوار المختلفة؛ فمسألة القيام بدور ما لا يتطلب معرفة الدور فقط، بل ما يتوقعه الآخرون من هذا الدور أيضا. (1)
فالفرد "الذي يريد أن يقيم علاقة عملية مع ذاته يؤكد من تلقاء نفسه أنه ليس فقط كائنا مستقلا، وإنما متفرد، وأنه قادر على اتخاذ الموقف الذي يمكنه من تحقيق التوافق التذاوتي، أضف إلى ذلك إمكانية تحقيق مثل هذا التأكيد الأخلاقي للذات يكون مضمونا من خلال علاقة الاعتراف المتبادل الذي تلتقي فيه الأنا مع الآخر في أفق القيم والغايات.(2)
ثالثا: تالكوت بارسونز
استفاد هابرماس من السوسيولوجي بارسونز في معالجته لإخفاقات منهجيات التأويل، وذلك في تشخيصه للطريقة التي تفرض بها خارجيات المجتمع البنيوية كالاقتصاد والسياسية. وكيف أنها تقتحم العوالم الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين، وذلك باستعمار العالم المعيش. ولاشك بأن هذا هو المهم بالنسبة لهابرماس، إذ إنه يجب نقل الاهتمام من حيز الافتراضات المنهجية التي يجب أن تستخدم في دراسة العالم الاجتماعي إلى حيز الاهتمام بكيفية عمل العالم الاجتماعي نفسه.(3)
وتجلى ذلك عند هابرماس في فهمه لعلاقات العالم الاجتماعي على أنها متكونة من نظام وعالم حياة، ويجب أن "ينظر إلى النظام على أنه ينبع جوهريا من عالم الحياة؛ بمعنى أن المجتمع هو نتاج للتفاعل الإنساني بين الذوات والعالم الخارجي على السواء".(4)
ـ المنطلقات الفلسفية
أولا: ماركس
يعتبر ماركس من المرجعيات الفلسفية المهمة في فكر هابرماس بصفة خاصة، ولدى مدرسة فرانكفورت بصفة عامة .
لكنه تجاوزه لاحقا، وخاصة في كتابه ما بعد ماركس، حيث كان العمل الاجتماعي في نظر ماركس ليس هو ما يمنح الإنسان إنسانيته فحسب، ولكنه هو أيضا ما يخلق شروط إعادة إنتاج الواقع عبر إدراكه المعرفي ( نظرية المعرفة)، والتأثير عليه ( نظرية الممارسة). وهذا ما يمكن نعته بالشروط الترانسدتالية لموضوعات المعرفة والتجربة المؤطرة والمندرجة في سياق بناء تاريخي للإنسان والمجتمع. وعليه تحضر اللحظة الكانطية هنا بالشكل الذي لا يمكن تجاوز محدودية الذات الترنسدتالية إلا بانحلالها، ليس ضمن تركيبة كلية تتماهى فيها الذات مع الموضوع ( هيغل)، ولكن ضمن شروط العمل الإنساني المنتج للعالم المادي؛ انطلاقا من أن شروط هذا العالم المادي نفسها هي ما يحدد شروط العالم الإنساني نفسه.
وهنا يتدخل هابرماس، وهو يعيد بناء المادية التارخية سوسيولوجيا للتمييز بين العمل والتفاعل : فليست فقط القيم المادية ( الاقتصادية ) هي ما ينتجه الناس ويتبادلونه ( مجال العمل الاجتماعي )، ولكن هناك أيضا قيم معيارية رمزية تخضع لنفس فعلي الإنتاج والتبادل، هو مجال التفاعل (5)، وأخذ المجالين معا هو ما يشكل لب إعادة التأسيس الهابرماسي للمادية التاريخية في صيغتها الكلاسيكية.
ثانيا: هيغل
استطاع هابرماس الاستفادة من فلسفة هيغل خاصة محاضراته في جامعة ايينا، حيث وجد هابرماس ضالته في التحديد الهيغلي للذات التي يعتبرها "كمن يجد تعريف نفسه في الآخر"(6)، وهي بذلك اكتساب للمعنى في منطق تأملي ومتناظر. إن هذه العلاقةمن الآخر إلى الذات ومن الذات إلى الآخر ( الاعتراف المتبادل) ليست تمثلا للما بين ذاتية؛ لكن طريقة للتنشئة الاجتماعية. فهذا الاعتراف ما بين الذوات، يجد تحققه في جدلية السيد والعبد في ظاهريات الروح عند هيغل.
فالإنسان يتعرف على ذاته بالآخر، ومن خارج ذاته، لأنه لا يستقبل إحساسه بكونه مكتملا إلا بكونه يستقبل ذات الآخرين كذلك. إن الهوية تتم بالعودة إلى الموضوع انطلاقا من الذات، والاعتراف بالموضوع / الذات مرادف للاعتراف بنفسه في الموضوع أو إنكاره، ومن هنا أهمية الحوار كتفاعل يركز عليه هابرماس. (7)
ثالثا: هوسرل
وظف هابرماس فكرة العالم المعيش في نظريته التي استقاها من هوسرل رائد الفنومنلوجيا، حيث يميز هوسرل بين نوعين من الحقائق، وبين نوعين من العوالم. فهناك حقائق العالم المعيش، وهناك أيضا حقائق العالم الموضوعي: فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وخبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة. أما حقائق العلوم الموضوعية، فهي كونية غير ثقافية ولا تتعلق بمحيط ثقافي معين، ومسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان؛ بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود، مثلما في حياة الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي؛ فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان، ويتعلق بالإنسان وببيئته الثقافية والجمعية. (8)
رابعا: كانط
استفاد هابرماس كثيرا من كانط، سواء على المستوى الأخلاقي أو السياسي على المستوى الأخلاقي وظف هابرماس مفهوم الكلية الأخلاقية لتأسيس أخلاقيات المناقشة بديلا عن أخلاقيات الواجب وأخلاقيات المنفعة.لكن ذلك لم يمنعه من انتقاد كانط بتأسيسه للأخلاق على الذات وحدها، ليطرح التذاوت بديلا لفلسفة الوعي القائمة على الذات. أما على المستوى السياسي، فقد وظف هابرماس مفهوم الفضاء العمومي ( كانط) في كتاباته ( التحول البنيوي للفضاء العمومي )، ولطرح نظرية الديمقراطية التشاورية. بالإضافة إلى تأثره الواضح بمشروع كانط حول السلام الدائم، ودعوته إلى مواطنة كوسومبوليتية.
خامسا: فلسفة اللغة مع أوستين وسيرل وفيتنغشتين
أثناء بحث هابرماس عن أدوات علمية قد تساعده في عملية إعادة البناء، ستقوده الصدفة هذه المرة إلى إحدى الواحات الخضراء في صحراء الفلسفة التحليلية – الكلام هنا لهابرماس- يتعلق الأمر بالفلسفة التحليلية الأنغلوسكسونية، وبالتحديد فلسفة اللغة العادية الما بعد فيتنغشتينية، مع كل من أوستين وسيرل وستروسمان.
والحال هذه، فإن هابرماس سيعتبر نظرية أفعال الكلام في صيغتها أوستينية وسيرلية ابتكارا رائعا، ذلك أنها تركيب بين اللغة من جهة والفعل من جهة ثانية(9). وعليه، فإن هابرماس سيستعير التمييز المهم الذي وضعه أوستين بين أفعال الكلام التقريرية والإنجازية، كما سيعمل على إعادة صياغته.
وبعد قيامه بتعديلات من داخل نظرية أفعال الكلام، سينتقل هابرماس إلى إعادة بناء النظريات السوسيولوجية التي سجلها، ولنقف الآن عند النظريات الليبرالية والنفعية للعقلانية والفعل الاجتماعي.
توجه فعل / وضعية فعل | موجه نحو نجاح | موجه نحو تفاهم |
غير اجتماعي | فعل أداتي | |
اجتماعي | فعل استراتيجي | فعل تواصلي |
إن الفعل الأداتي يتوجه نحو تحقيق النجاح من خلال السيطرة التقنية على العالم الموضوعي، لهذا فإنه لا يعتبر فعلا اجتماعيا، لكونه لا يتم عبر وسيط اللغة، وبالمقابل يعد الفعل الاستراتيجي هو الآخر فعلا أداتيا، على اعتبار أنه يسعى إلى تحقيق النجاح، مع فارق أنه يتم عن طريق اللغة. وبما أن الفعل الاستراتيجي فعل يتم عبر وسيط اللغة، فإن نموذج العقلانية والفعل الاجتماعي اللذين تقدمهما النظريات الليبرالية المنفعية تبقى نماذج أحادية الجانب واختزالية. ورغم أن هابرماس يقر بأن الفعل الاستراتيجي فعل اجتماعي، إلا أنه فعل يميزه عن الفعل التواصلي، لكون الأول يرتبط بتحقيق النتائج والمصالح، بينما الثاني يسعى إلى تحقق التفاهم.
ـ المنطلقات العلمية:
بياجيه وكولبرغ
شكلت الأبحات العلمية لبياجيه وكولبرغ مرجعية علمية مهمة لهابرماس، لإعادة بناء الفلسفة الماركسية قصد فهم طبيعة الصراعات والتفاعلات الاجتماعية داخل المجتمع؛ فهذه الأبحاث توضح مراحل تطور الوعي الأخلاقي التي توافق مراحل أهلية التفاعل. ففي المراحل العرفية القبلية، حيث ترك الأفعال والذوات، باعتبارها تنتمي إلى المستوى الوحيد للواقع، لا تقدر عندما يحدث نزاع إلا بنتائج الفعل. ففي المرحلة العرفية يمكن أخذ الدوافع بعين الاعتبار بمعزل عن النتائج المباشرة للفعل. فما هو محدد هو الامتثال لدور اجتماعي معين ونظام من المعايير القائمة. في المرحلة الما بعد عرفية تفتقد أنظمة المعايير صلاحيتها شبه الطبيعية، وتحتاج هذه المعايير إلى أن تبرز حسب التصورات ذات النزعة الكونية. (10)
الأبعاد:
لنظرية الفعل التوصلي لهابرماس أبعاد وامتدادات داخل الحقل الاجتماعي والسياسي والأخلاقي.
-البعد الاجتماعي: لتجاوز الفعل الأداتي، أبدع هابرماس مفهوم الفعل التواصلي لمحاولة تنمية البعد الموضوعي والإنساني للعقل. إنه فاعلية يتجاوز العقل المتمركز حول الذات والعقل الشمولي المنغلق، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع. فالعقل لم يعد جوهرا سواء أكان الجوهر ذاتا أو موضوعا، بل فاعلية ؛ فالفعل التواصلي صاغه هابرماس لمحاولة بلورة إجماع يعبر عن المساواة داخل فضاء عمومي ينتزع فيه الفرد جانبا من ذاتيته ويدمجها في مجهود جماعي قائم على التواصل والتفاهم، وهذا التفاهم لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اتفاق مؤسس على أساس عقلاني.
كما جاء الفعل التواصلي لتجاوز العلاقات الاجتماعية القائمة على الإكراه والهيمنة ( الفعل الاستراتيجي) لبلورة علاقات اجتماعية سليمة، قائمة على الحوار والنقاش في أفق تحقيق إجماع .
-البعد الأخلاقي: فبعد أفول الأخلاق الدينية والتقليدية في الغرب، جاءت أخلاقيات النقاش لتطرح البديل؛ فإخضاع الآراء والقناعات والاختيارات للنقاش شرط لتحقيق الموضوعية والنزاهة والاتفاق، وبذلك يصبح في الآن شرطا لاجتناب العنف اللفظي والمادي والحروب والاستبداد.
ليست أخلاقيات النقاش مذهبا ولا نسقا من القيم والمعايير، بل هي كما يقول ابل إجرائية تراسندنتالية تجمع شروط مناقشة أطروحات ومبادئ عملية في المجال الأخلاقي والسياسي بحثا عن امتحان مشروعيتها ومعقوليتها وصلاحيتها.
وتجدر الإشارة إلى أن لأخلاقيات المناقشة أربعة افتراضات أساسية :
أولا: ضرورة توفرها على المعقولية التي يتم إنجازها بفعل جملة مركبة تركيبا صحيحا، تحترم قواعد اللغة المستعملة.
ثانيا: يتعلق الأمر بحقيقة مضمون القول التي تضمن وظيفيا وصف حالة واقعة مجردة وغير مستوحاة من الخيال.
ثالثا: يتعلق الأمر بمصداقية التلفظ، باعتبارها وظيفة لإقامة علاقة مستقيمة ما بين الأشخاص، ويتكفل هذا الادعاء بموضوع تطابق الفعل اللغوي مع مقتضيات مخطط معياري سابق معترف به من طرف المجتمع.
رابعا: يتعلق الأمر بصدقية ما يقال بالقدر الذي يسمح به للمتحدث بالتعبير عن نوايا محددة، وبطريقة صادقة بعيدة عن الكذب والتضليل.
تنحدر هذه المبادئ الأربعة من "الحالة المثالية للكلام"، وللشروط الصافية لخطاب يتوخى احترام معايير الصدق الصارمة، أو ما يطلق عليه جماعة التواصل غير المحدودة عند هابرماس، وهي صورة المجتمع الذي يتواصل فيه أعضاؤه بطريقة سليمة. ويمكن إجمالا اعتبارها شروطا لا يستقيم من دونها تواصل عقلاني بين المتحدثين.(11)
-البعد السياسي : لتجاوز أزمات العالم المعاصر ونواقص الديمقراطية التمثيلية، يسعى هابرماس إلى " تأسيس ديمقراطية على أسس جماعية مثالية للتواصل، خالية من أية هيمنة أو سيطرة، ما عدا أفضل حجة. كما أنه يطرح مفهوم التشاور الذي يعتبره جوهريا في ديمقراطيته التشاورية، لأنه في التشاور يعطي للآخرين الحق في الكلام والنقد ورفع ادعاءات الصلاحية وتقديم اقتراحات جديدة بخصوص القضايا المطروحة للنقاش في الفضاء العمومي، وفي ظل هذه الصيرورة الخطابية المؤسسة على النقاش، يتشكل الرأي العام والإرادة السياسية للمواطنين في المجتمع الديمقراطي، لأن الهدف الأسمى للديمقراطية التشاورية ليس الدفاع عن المصالح الشخصية لأعضاء الجماعة؛ وإنما هو الدفاع عن المصالح العامة. هذه الأخيرة كل واحد مطالب بالدفاع عنها، انطلاقا من وجهة نظره الخاصة، وذلك لإقناع المواطنين برأيه بالاعتماد على وسيلة المناقشة الحجاجية.(12)
خاتمة :
بالرغم من كل الانتقادات الموجهة إلى نظرية هابرماس، فلا يزال يتربع على عرش كبار الفلاسفة في العالم المعاصر.
ونحن في العالم العربي، لا يسعنا سوى الانفتاح على مشروع هابرماس نظرا لغنى وتنوع إنتاجه من جهة، ومن جهة أخرى مواكبته للأسئلة المعقدة للإنسان المعاصر. فما أحوجنا اليوم إلى الانكباب على إنتاجات هابرماس! خاصة في تنظيره للتواصل والفضاء العمومي والحداثة والمواطنة لتبيئتها وتعميقها في المجتمعات العربية.
والآن بعد تباشير الربيع العربي:هل نحن قادرون على بناء مجتمع ديمقراطي حداثي قائم على أخلاقيات الحوار والمناقشة، لا على العنف والصراع ؟ وهل نحن قادرون على إدارة اختلافاتنا الإيديولوجية والإثنية واللغوية ؟
تلكم بعض الأسئلة التي لن تجيبنا عليها سوى الأيام القادمة؛ فهل نكون في مستوى تطلعات شعوبنا ودماء شهدائنا؟.
الهوامش:
1- كمال عويسي، دراسة في النظريات التربوية المعاصرة، معهد العلوم الإنسانية المركز الجامعي بغرداية الجزائر ص 2008-2009 ص 5
2- كمال بومنير، النظرية النقدية من هوركهايمر إلى هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2010 ص 152
3- علي عبود المحمداوي، الإشكالية السياسية للحداثة، منشورات الاختلاف ودار الأمان الطبعة الأولى 201 ص 56
4- م س ص 56
5- حسن المصدق، هابرمس ومدرسة فرانكفورت، المركزالثقافي العربي الطبعة الاولى 2005 ص 109
6- م س ص 134
7- م س ص 135
8- م س ص 139
9- حمزة الخليفي، عرض حول ماكس فيبر، ماستر فلسفة التواصل بتطوان موسم 1011-1012ص 15
10- محمد الأشهب، مذهب التواصل في الفلسفة النقدية لهابرماس، أطروحة دكتوراه جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس موسم 2006- 2007 تحت إشراف الدكتور لحكيم بناني ص 316
11-حسن المصدق م س ص 146
12- محمد الأشهب، الفلسفة والسياسة عند هابرماس، دفاتر سياسية مطبعة النجاحالمغرب 2006 ص 195-196