نقد الأزمات والمشكلات... واقترح الحلول والمعالجات
فئة : مقالات
نقد الأزمات والمشكلات... واقترح الحلول والمعالجات
عبدالحميد أبو سليمان... رحلة خاطفة في مسيرته الحافلة
د. صادق وجيه الدين
تبدو الأمة الإسلامية، في واقعها الراهن، بحاجة ماسة إلى المفكِّرين الذين يحملون همومَها ومشكلاتِها على عواتقهم، ويحرصون - بأقصى ما أمكنهم- على تشخيص الأمراض التي تعاني منها، ومعرفة مواطن إصاباتها وبواطنها، ومن ثَمَّ الانتقال من مرحلة كشف الداء إلى مرحلة البحث عن الدواء، من خلال تقرير الإجراءات النافعة والعلاجات الناجعة، فإنَّ الأمم تصح وتمرض، وتنهض وتتخلَّف، وتتقدَّم وتتراجع، وفقًا للسنن الثابتة التي لا تعرف المحاباة، ولا يخفى على أحد حالة التراجع التي أوقع أمتنا في واقع مأساوي من التخلف الحضاري ذي الأشكال المتعدِّدة والألوان المتنوِّعة، بصورة تجعلها بحاجة ماسة إلى مشروعات جادة، في مختلف الجوان، يأتي الجانب المعرفي/ الفكري في مقدمتها.
لا أريد الاستطراد في هذا الموضوع، وكل ما رميتُ إليه في هذه الاستهلالية العابرة ليس أكثر من إبراز حجم الخسارة التي تعرَّضتْ لها الأمةُ الإسلامية برحيل عَلَمٍ بارزٍ من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، وأحد أبرز روَّاد الإصلاح من بوابة المدخل المعرفي؛ وهو الأستاذ الدكتور عبدالحميد أبو سليمان الذي غادر الدنيا قبل أيام، وتحديدًا يوم الثامن عشر من أغسطس الجاري، مع العلم بأني حينما أتحدث عن الخسارة؛ فإني أعي معناها تمامًا، فقد كان مثالًا لــ "رجل الأمة"، ولهذا كرَّس جهوده للاشتغال في قضايا الأمة عمومًا، متأثِّرًا في هذا من نشأته في مكة المكرمة التي تجمع المسلمين من كل بقاع الأرض، فقد كانت شهرتُه مبنيةً على مكانته العلمية ومشروعه الفكري، وارتبط اسمه بالمدرسة الإصلاحية الرائدة المتمثِّلة في (المعهد العالمي للفكر الإسلامي) الذي حرص مؤسِّسوه وروَّادُه على استقلاليته عن الأُطر التنظيمية الضيِّقة، فكريًّا وسياسيًّا، وقد كان أبو سليمان ثالث ثلاثة تحمَّلوا العبء الأكبر في التأسيس والإدارة والإشراف، بجانب رفيقيه: الفلسطيني أ.د. إسماعيل راجي الفاروقي (ت1986م) والعراقي أ. د.طه جابر العلواني (ت2016م) مع وجود مجموعة ممَّن اشتغلوا معهم وساعدوهم في بعض الأمور، من بعض الأساتذة والدارسين في أمريكا.
وبدافع من حرصه على التفرُّغ للعمل في المعهد العالمي المذكور؛ فقد اضطر الدكتور أبو سليمان -بعد ذلك- إلى تقديم استقالته من عمله في جامعة الرياض (الملك سعود حاليًّا)([1])، فاشتغل بدايةً مديرًا للمعهد عند تأسيسه مطلع العقد الثامن من القرن العشرين الماضي، في ولاية فرجينيا بأمريكا، وكان الدكتور الفاروقي رئيسًا والدكتور العلواني نائبًا للرئيس، وشكَّلت فكرةُ إسلامية المعرفة وإصلاح مناهج التفكير ومعالجة أزمة الفكر الإسلامي المعاصر المرتكزَ العام للمشروع، ثم تولَّى -أبو سليمان- رئاسة المعهد المذكور خلفًا للدكتور العلواني، نهاية التسعينيات من القرن العشرين الماضي؛ أي بعد إنهائه عمله رئيسًا للجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا الذي استمر منذ تأسيسها 1988م وحتى 1999م، واستمر في قيادته إيَّاه إلى ما قبل سنوات، ويتولَّى رئاسة المعهد حاليًّا الدكتور هشام الطالب.
لقد كان الدكتور عبدالحميد أبو سليمان المولود في مكة المكرمة عام 1935م، واحدًا من المفكِّرين المسلمين الذين اشتغلوا في خدمة الإسلام ورفع راية الفكر الإسلامي في مختلف أرجاء العالم، فإلى جانب تجوُّله في الغرب وإقامته في أمريكا سنواتٍ طويلةً، قبل نيله الدكتوراه 1973م وبعده، فقد اشتغل على نفس الفكرة وقام بذات المهمة في الشرق -أيضًا-؛ فهو الرئيس المؤسِّس للجامعة الإسلامية العالمية في العاصمة الماليزية (كوالالمبور)، وهي الجامعة التي تم إنشاؤها خدمةً لمشروع إسلامية المعرفة الذي دعا إليه المعهد واشتغل عليه وعُرِف به؛ بهدف تفعيل رؤية التكامل بين العلوم الإسلامية (وبينها -بالضرورة- اللغة العربية) من جهة والعلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة أخرى، وهو ما يعني الانتقال بهذه الرؤية أو الفكرة من جانب التنظير إلى جانب التطبيق، في خطوة عملية مهمة مثَّلت نقلةً نوعيةً وأحدثت قفزةً كبيرةً في مسيرة المشروع.
وقد سنحت لي فرصة الاستماع لشرح من شخص الدكتور أبي سليمان نفسه، عن موقع الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا من إعراب المشروع الفكري للمعهد، ولا سيَّما الكلية التي تتضح طبيعة المهمة المناطة بها من خلال اسمها، وهي "كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية"، وأبان لي في شرحه الشفوي خلاصة ما يتعلق بهذه التجربة الناجحة، وهي التي كان قد عرضها في أحد فصول كتابه "الإصلاح الإسلامي المعاصر: رؤية منهجية واجتماعية"([2])، وذلك حينما شرفتُ وسررتُ بلقاء سيادته، قبل سنوات، في القاهرة، وتعلَّمتُ على يديه في دورة تدريبية نظَّمها مركز الدراسات المعرفية([3])، وأكَّدتُ له وقتها بأنَّ هذه الدورة مثَّلت بالنسبة إليَّ الانتقال إلى التعلم على يديه بطريقة مباشرة، بعد سنوات من التعلم غير المباشر، من خلال مؤلفاته وبحوثه التي تعلَّمتُ منها الكثير، وكان له - بفضل الله- فضلٌ عليَّ فيها، وهو من المفكِّرين الذين حرصتُ على تتبع مؤلفاتهم وجمعها والاهتمام بها، فهي -حسب قناعتي- من الكتب التي لا أظن حاجتي إليها تنتهي بمجرد قراءتها مرة أو مرتين، وقد أبدى -رحمه الله- أسفه وحزنه إزاء ما آلت إليه أحداث بلادي (اليمن)، وكانت الحرب لا تزال -آنذاك- في أشهرها الأولى، موضحًا أن له دراسةً عن سياسة بريطانيا في عدن، وهي -فعلًا- الرسالة التي نال بها درجة الماجستير في العلوم السياسية.
ومع أنَّ الدكتور أبا سليمان اشتغل كثيرًا في جوانب إدارية عديدة، في مؤسَّسات أكاديمية وبحثية ودعوية واجتماعية مختلفة، داخل العالم الإسلامي وخارجه، في الشرق والغرب، فإنَّ كل هذا الاشتغال لم يشغله عن الاشتغال في جانب الإنتاج العلمي؛ إذ إنَّ له نتاجاته العلمية رفيعة القيمة، عالية الدقة، قوية العمق؛ فقد اشتغل بهمة ومسؤولية عاليتين على البحث عن حلول جادة للأزمات والمشكلات التي تعاني منها الأمة، فتناول أزمة المعرفة الإسلامية التي تمثِّل فكرة إسلامية المعرفة علاجًا لها، فكتب عرضًا إجماليًّا عن هذه الفكرة أو المشروع في كتاب المبادئ العامة وخطة العمل وإجمالي الأهداف المنشودة([4])، ثم كانت له كتاباته التطبيقية للفكرة، من واقع تخصصه في مجال العلوم السياسية؛ إذ كتب دراسةً عن "إسلامية المعرفة والعلوم السياسية"([5])، واللافت أنَّ موضوع دراسته في مرحلة الدكتوراه (1973م) جاءت في سياق هذا المشروع أو هذه الفكرة؛ وفقًا للعنوان الذي حملته الدراسة المشار إليها عند صدورها في كتاب، بعد ترجمتها إلى العربية، وهو "النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية"([6])، بل إن تتبُّع مؤلفاته وترتيبها زمنيًّا، حسب تواريخ صدور كلٍّ منها، حسب الأقدمية، يوضِّح لنا أن أول إصدار له كان في إطار المشروع، وهو "نظرية الإسلام الاقتصادية: الفلسفة والوسائل المعاصرة"([7])، وكان ذلك عام 1960م، أي بين حصوله على البكالوريوس 1959م وحصوله على الماجستير 1963م.
كما بدا واضحًا أنَّ الدكتور عبدالحميد يحمل هموم الأمة ومشكلاتها، ويتسم بالحرص على الإسهام في معالجاتها؛ بناءً على تناوله بحرص وجدية عددًا من الأزمات والمشكلات التي كانت تبدو في نظره أسبابًا أكثر من كونها آثارًا للتخلف الحضاري في المجتمع الإسلامي؛ منها: "أزمة العقل المسلم"([8])، و"أزمة الإرادة والوجدان المسلم"([9])، و"إشكالية الاستبداد والفساد في الفكر والتاريخ الإسلامي"([10])، و"العنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي"([11])، وحرص على التنبيه في كتاب صغير إلى ضرورة إيلاء "قضية المنهجية في الفكر الإسلامي"([12]) الاهتمام الذي تستحقه، رغم أنها كانت جزءًا من موضوعات أزمة العقل، وليس ذلك إلا زيادة في توكيد الأهمية.
وحرص أبو سليمان على إبراز "الرؤية الكونية الحضارية القرآنية"([13]) وتقريبها إلى الناس؛ باعتبارها تمثِّل خارطة الطريق أمام المسلمين، يمكن أن تساعدهم على تجاوز التخلف الموجود وتحقيق النهوض المنشود، فهي -أي الرؤية المذكورة- عنده تمثِّل (المدخل الأساس للإصلاح الإنساني)، بناءً على العنوان الفرعي الوارد في غلاف الكتاب، وقد كان الحرص السليماني على تفعيل "الإصلاح الإسلامي المعاصر" بارزًا في عموم كتاباته وأطروحاته، منهجيًّا واجتماعيًّا، من قبل أن يصدر له كتابه الذي حمل نفس العنوان، وجَمَع دراسات كانت قد نُشرَت متفرقةً، مع إضافة دراسات أخرى إليها، على نحو ما سبقت الإشارة إليه.
ولأنّ أبا سليمان -رحمه الله- ظل يحمل هموم الأمة الإسلامية ومشكلاتها، ويحرص على أن يسهم ما أمكنه في النهوض الحضاري، فقد كان من آخر ما صدر له في حياته من مؤلفات، كتابه عن "انهيار الحضارة الإسلامية وإعادة بنائها: الجذور الثقافية والتربوية"([14])، ولعله كان آخر مؤلفاته التي ألَّفها منفردًا، وكشف في مستهل فصله الأول هدف الكتاب ومقصده، بقوله: "قضية هذا الكتاب هي معرفة أسباب تدهور حال الأمة وقصور أدائها، ومِنْ ثَمَّ معرفة السُبُل الموصلة إلى استنهاض همَّتها واستعادة قدرتها"([15]).
وعلى الرغم مما عُرِف عن أبي سليمان من قوة الكتابة وعمق الفكرة وجزالة العبارة، بشكل يبدو فيه مخاطِبًا -في كتاباته- النخبة، فقد أظهر قدرةً عاليةً على الطرح الميسَّر الذي يراعي فيه إمكانات المخاطَبين وطبيعة احتياجاتهم على المستويين النفسي والعقلي، وهذا ما برز في كتاباته التربوية التي استهدف فيها الطفل المسلم بشكل مباشر، أو ما عبَّر عنه في فترته الأخيرة بـ"التربية الوالدية" و"التربية الأسرية"([16])، وكذلك قصة "جزيرة البنَّائين"([17])، وخاطب بها الطفل بشكل غير مباشر، عن طريق البيت والمدرسة والمجتمع.
رحمه الله وغفر له وعفا وأسكنه فسيح جناته، وجزاه خيرًا عن كل جهوده وإسهاماته، وجعلها في موازين حسناته.
([1]) ذكر لي ذلك الدكتور طه جابر العلواني -رحمه الله- شخصيًّا، في زيارة قمتُ بها إليه بمقر إقامته بالقاهرة، وهو وارد -أيضًا- في كتابه "التعليم الديني بين التجميد والتجديد". من خلال مشاهداته لقدوم الناس، من مختلف البلدان، إلى مكة المكرَّمة. ورد هذا في مقالة نُشِرت للأستاذ خالد في موقع "إندونيسيا اليوم"، بتاريخ 24 أبريل 2021م، يمكن الرجوع إليها بهذا الرابط: shorturl.at/sxV57.
([2]) صدر هذا الكتاب بدايةً في عام 2006م، تحت عنوان "الإصلاح الإسلامي المعاصر: الثابت والمتغيِّر"، واقتصر على مناقشة قضيتين، كانت الثانية منها خاصة بتجربة الجامعة الإسلامية بماليزيا، فيما كانت الأولى حول نظام العقوبات بين الثابت والمتغير، ثم صدر في الطبعتين الثانية والثالثة 2010و2011م، تحت العنوان المذكور في المتن، وناقش خمس قضايا، بمعنى أنه تم إدراج ثلاث دراسات فيه: قضية الإيمان والتصديق الجازم بصدق إلهية الرسالة المحمدية، وقضية الدولة المدنية الإسلامية، وقضية الحوار الحضاري الإسلامي المسيحي.
([3]) كانت الدورة عن المنهجية الإسلامية في الفكر والبحث والسلوك، وأُقيمت في أبريل 2015م، حاضر فيها إلى جانب الدكتور أبي سليمان عددٌ من الأساتذة الكبار؛ هم: الراحل د.عبدالرحمن النقيب، د.محمد عمارة، د.فتحي ملكاوي، د.السيد عمر، د.رفعت العوضي، د.عبدالحميد مدكور، د.زكريا سليمان.
([4]) صدر الكتاب عام 1986م، تحت عنوان (إسلامية المعرفة: المبادىء العامة- خطة العمل- الإنجازات)، وأسهم به أبو سليمان، تأليفًا وتحريرًا وإشرافًا.
([5]) أول ما نُشِرت هذه الدراسة -حسب اطلاعي وتتبُّعي- كان في مجلة المسلم المعاصر، العدد 31، 1982م: (ص19- 45)، ثم تمت مناقشة نفس القضية في كتابه الشهير "أزمة العقل المسلم"، إذ جاء المبحث الثاني من الفصل الخامس، ولكن بطريقة مختلفة وأكثر سعةً.
([6]) ترجمه إلى العربية الدكتور ناصر راشد البرَّاك، وصدر عام 1992م، أي بعد عقدين من الزمن على إنجاز الدراسة في حامعة بنسلفانيا بأمريكا، وإن كان يتم وضع تاريخ 1973م أمامه، فهو على اعتبار تاريخ إنجاز الرسالة.
([7]) بناءً على تاريخ نشر هذا الكتاب "نظرية الإسلام الاقتصادية"، فإنه بعد نيله البكالوريوس (1959م) بسنة، وقبل نيله الدكتوراه (1973م) بثلاث سنوات، وهذا يعني أنه إمَّا بحث تخرجه في المرحلة الجامعية الأولى وإمَّا بحث مستقل عن أي التزام دراسي، وفي كلتا الحالتين أو كلا الاحتمالين فهو يكشف عن عبقرية فذَّة لدة مفكرنا الراحل الكبير، رحمه الله.
([8]) صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 1986م، وذلك عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي والدار العالمية للكتاب الإسلامي، ضمن سلسلة "المنهجية الإسلامية".
([9]) صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 2004م.
([10]) صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 2011م، ولكن بعض ما يخصه كان قد تم التطرق إليه في كتاب (الإصلاح الإسلامي المعاصر)، ضمن قضية الدولة المدنية الإسلامية، منذ الطبعة الثانية له 2010م.
([11]) صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 2002م.
([12]) صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى 1998م.
([13]) صدر هذا الكتاب في طبعته الأولى عام 2009م.
([14]) صدر الكتاب في طبعته الأول عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016م.
([15]) انهيار الحضارة الإسلامية وإعادة بنائها: الجذور الثقافية والتربوية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أمريكا/ الأردن، ط1، 1437ه/ 2016م: (ص17).
([16]) صدر له كتاب بعنوان "التربية الوالدية: رؤية منهجية تطبيقية في التربية الأسرية"، عام 2019م عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي، بالاشتراك مع د.هشام الطالب ود.عمر هاشم الطالب.
([17]) صدرت القصة بعنوان "جزيرة البنَّائين: قصة تعليمية في التفكير الإبداعي والتربية العقدية والاجتماعية والسياسية"، وقد وقفت على بحث حولها، بعنوان ""، للباحثة: آلاء عبدالرحمن عبدالرحمن النقيب"، صدرت في مجلة كلية التربية- جامعة المنصورة، العدد 111، يوليو 2020م، (ص441- 467).