نقد كارل ماركس للدولة الرّأسمالية
فئة : مقالات
نقد كارل ماركس للدولة الرّأسمالية
سفيان البرّاق
تقديم:
يُعتبرُ كارل ماركس (1818 - 1883) من أهم المفكّرين الغربيين الذين أحدثوا رجّة كبيرة في الأوساط الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، كما يعدّ من أبرز الأهرام الفكرية التي ساهمت بشكلٍ كبير في إحداث التواءٍ حاسم ساعد أوروبا في النّهوض وتحقيق مُرادها، لتُصبح حضارةً إنسانية مُزدهرة، وهذا ما جعل كارل ماركس يتبوّأُ مكانةً خاصة في الفكر الغربي، قبل أن يُصبح فيما بعد أيقونةً رائدة، وشعاراً ترفعهُ الشّعوب في مختلف بقاع العالم، وتنادي حناجرهم بالأفكار والرؤى التي بلورها. كتب كارل ماركس في السياسة ونظّر للاقتصاد، ودرس التاريخ وأدلى بدلوه فيه، وزاوج، إذن، بين ثلاثة مجالات زاخرة بالأفكار والمناهج المتعدّدة التي لا تنقضي عدّاً. تُعدّ الأفكار التي طرحها ماركس في كتاباته أفكاراً امتدت إلى جلّ أرجاء العالم، وأحدثت ثورات كبرى غيّرت مجرى التاريخ، وتشبّت بها المتشبعون بها حتى نالوا ما كانوا يصبون إليه، هنا بالضبط تتجلّى قيمة ماركس.
حاولت في هذه الورقة، الوقوف عند إشكالية تعدّ من بين أهم الإشكاليات التي تطرّق إليها كارل ماركس، إذ تناولتها الدراسات والأبحاث المعاصرة؛ لأنّها إشكالية يصعبُ حصرها. هذه الإشكالية التي بصدد الاشتغال عليها هي نقد كارل ماركس للدّولة الرأسمالية، باعتباره رائداً مرموقاً للتيار الاشتراكي؛ النّقيض الرّسمي للرأسمالية.
يأتي نقد ماركس للرأسمالية في خضمّ معضلة ذائعة الصيت هي الصراع القائم بين الطبقات، هذا الصراع أسهب في الكتابة عنه، وهو صراعٌ عرفه التاريخ قبل مجيء كارل ماركس نفسه، ولا زال مستمرّاً لحدّ الآن، إذا جاز لنا التعبير. بؤرة هذا الصراع، حامي الوطيس، كانت في أوروبا، وجوهره هو أنّ الطبقة البرجوازية الغارقة في الأبّهة تتعامل مع الطبقة المسحوقة بنظرةٍ دونية، ولا تتقاضى هذه الأخيرة سوى أجرٍ زهيد، رغم جهدها الجادّ والمضني. البروليتاريا هي طبقة تتطلّعُ إلى مستقبلٍ زاهٍ، وتحملُ أحلاماً تحتاجُ لثورة حتى تتحقق، وحقوقها مهضومة، واستمرّ هضمها حتى بزغ نور فكر ماركس، ليحرّض على ثورتهم حتى ينالوا مطالبهم ويسترجعوا حقوقهم.
1 ـ فلسفة ماركس وجهازها المفاهيمي: المادية التاريخية والصراع الطبقي أنموذجاً
أسّس كارل ماركس تياراً لازالت أفكاره تروج لحد الآن، هو التيار الماركسي، وتأسيسه هذا لم يكُن ليتأتّى لولا استفادة ماركس من ثلاثة مصادر أساسية نهل منها ومزجها: "الفلسفة الألمانية والاشتراكية الطوباوية الفرنسية والاقتصاد الإنجليزي"[1]. تعتبرُ فلسفة ماركس إذن: "فلسفةً مادية تقومُ على مقولة أساسية تُفيد بأنّ الأشياء والظواهر تمثّلُ واقعاً مادياً موضوعياً يوجدُ خارج الوعي وينعكِسُ فيه"[2]. ورغم أنّ ماركس هو سليل الفكر الهيغلي، إلّا أنّه أسّس فلسفةً ماديّة في مقابل فلسفة هيغل التي هي "ذات طبيعةٍ مثالية"[3].
قبل الغوص في موضوع هذه الورقة، لابدّ لنا أن نتوقّف، ولو بشكلٍ سريع، عند أهم الأفكار والمفاهيم التي أنتجها ماركس، واستلهمها أتباعه الذين ألهمهم فكره وتطلّعاته، ليشكّلوا امتداداً حقيقياً له فيما بعد. نبدأ أوّلا بعبارة المادية التاريخية. نَظَرَ إليها كارل ماركس باعتبارها: "تاريخاً ينشأ وينمو انطلاقاً من الواسطة الأولى الّتي تضعُ الإنسان على علاقةٍ مع الطبيعة، والتي تضعُ الإنسان على علاقة مع النّاس الآخرين؛ أي العمل"[4]. ورد في كتاب أميرة حلمي مطر الموسوم بعنوان: الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس جزءاً مهمّاً ومركّزاً يتعلّقُ بمفهوم المادية التاريخية، ونقرأ لها في هذا المضمار: "المادية التاريخية هي النظرية العلمية التي تتناولُ تفسير قوانين تطوّر المجتمع، وهذه القوانين هي قوانين موضوعية مستقلّة عن الوعي الإنساني".[5]
طرحتُ نموذجاً أولياً في إطار إعطاء لمحة عن أهم المفاهيم التي أنتجها ماركس، وشكّلت مرتكزاً أساسياً لفلسفته، هي المادية التاريخية، ثم سأعطي نموذجاً آخر هو الصراع الطبقي. هذه المعضلة الحقيقية (=الصراع الطبقي) يمكنُ اعتبارها جوهر فكر ومشروع كارل ماركس، وما ينمّ عن ذلك هو حضورها القويّ والكثيف في جل كتاباته التي تصبُّ في نفس السياق الّذي بصدد الحديث فيه. خلص ماركس إلى أنّ الصراع الحاصل بين الطبقات المُكوّنة للمجتمع "هو العُنصر المُحرّك للصيرورة التاريخية"[6]، وقد ذهب إلى أبعد من ذلك، مؤكداً أنّ "تاريخ كلّ مجتمعٍ، حتى يومنا لم يكُن إلّا تاريخ صراع الطبقات"[7]. هذه الجملة الأخيرة التي أوردها جان توشار في كتابه "تاريخ الفكر السياسي"، هي الجملة نفسها التي افتتح بها ماركس البيان الشّيوعي الشّهير الذي كتبه بمعية فريدريك إنجلز. يتكوّن المجتمع في عهد كارل ماركس من طبقتين: الطبقة البرجوازية والطبقة البروليتارية، بصرف النّظر عن الطبقات الأخرى التي تضاءل مفعولها في الاقتصاد الرأسمالي: "النّبالة الإقطاعية، طبقة الفلّاحين، الحرفيون، والبروليتارية السفلى"[8].
إنّ الطبقة البرجوازية، حسب كارل ماركس، "قد ساعدت على القفز بصورةٍ هائلة نحو كوننة الإنسان: لقد ملأ الكون بقُدرته، وبالتالي أصبحت الطبقة البرجوازية المُتحكِّمة في وسائل الإنتاج الطبقة المُسيطرة، واستولت في النّهاية على السلطة السياسية المُطلقة في الدولة التمثيلية المُعاصرة"[9]. يرى جان توشار أنّ: "البروليتاريا هي إلى حدٍّ ما نقيضُ البُرجوازية، فهي مثلها، وليدة نمو القِوى المُنتجة ونتيجة تراجع كلّ التحديدات التي تحدُّ من الإنتاج ومن التجارة"[10]، ثم اعتبرها كالبرجوازية، تحملُ في ثناياها "رسالة كونية، إنّما سلبياً: كونية الشّقاء، واللاّتملُّك واللاّوجود".[11]
يرنو كارل ماركس إلى الذّود عن الطبقة الكادحة، المقهورة، المنخورة؛ التي نخرتها الرأسمالية كما تنخرُ دودةُ القزّ ورق العنب، وهذا ما دفعهُ إلى محاولة "الإطاحة الثّورية الرأسمالية من قبل الطبقة العاملة".[12] وحتى يتمّ ذلك، جرى "تعويضُ الرأسمالية بالاشتراكية وبعد ذلك، عندما تتحققُ الوفرة يمكنُ الانتقال إلى الشيوعية؛ أي المُجتمع الذي تُشبع فيه كلّ الرغبات".[13] حرّض كارل ماركس على الثورة البروليتارية، وأن تُرفع شعاراتها حتى تتحقّق مطالبها وتعتنق الاشتراكية، باعتبارها "حتمية" وقد قدّمها الماركسيون (= الاشتراكية) "كآخر محطّةٍ في سلسلة التطورات التاريخية"[14]؛ إذْ إنّ "الرأسمالية ستنهارُ بفعل تناقضاتها الداخلية، ولن يكون أمام عمّالٍ معدمين، يتزايد عددهم باطراد، من حلٍّ سوى الإطاحة بها".[15]
2 ـ أنواع العلاقات الإنتاجية:
يرى ماركس أنّ تاريخ البشرية أفرز خمسة أنواعٍ من العلاقات الإنتاجية: أوّلاً المشاعية البدائية، حيث كان كل شيء في هذه الفترة مشاعاً في ظلّ غياب المِلكية الخاصّة للأفراد، وكلهم مجتمعون حول الأكل، وما إن وعى الأفراد بالملكية الفردية حتى حدث انقسام كبير، ووجد كل واحد منهم نفسه ملزماً بحماية ممتلكاته، حتى لا تعبث بها أيادٍ تضمر نوايا سيئة، ثم العبودية "الّتي أوجدتها الطاحونة اليدوية"[16]، ثم الإقطاع الذي أفرز "وسائل التبادُل أو الإنتاج التي هي القاعدة للتطوُّر البورجوازي"[17]. ومن سلبيات التنظيم الإقطاعي، أنه "عرقل الإنتاج بدلاً من أن يُطوِّره"[18]، وقد أجهزت عليه (= التنظيم الإقطاعي) الثورة الفرنسية، التي انقدحت شرارتُها سنة 1789م، "وأصبحت البرجوازية هي الطبقة التي تحمل لواء الثورة في مجتمعٍ سائر إلى التحلُّل"[19]. ومعلومٌ أنّ الطبقة البرجوازية هي التي "هدّمت الوحدة القومية، وأخضعت الرّيف للمدينة، وحرّرت الإنسان من الحق الإلهي المُقدّس"[20]، ثم الرّأسمالية التي تُعدُّ تجربةً مهمّة في التاريخ، وفيها "امتلك أصحاب العمل وكدسوا، بينما كافح العُمّال الذين هم على شفا الإملاق، ولا يمتلكون شيئاً وانفصلوا عن وسائل الإنتاج"[21]. أخيراً الاشتراكية التي نادى بها ماركس، وواصل دفاعه المُستميت عن مقوّماتها وركائزها، فهي: "نظامٌ اجتماعي يقومُ على المِلكية العامّة لوسائل الإنتاج منعاً لاستغلال فئةٍ من المُلّاك لأكثرية عاملة"[22]، وقد برزت النظرية الاشتراكية "نتيجة لمساوئ النّظام الرأسمالي، خاصّةً بعد تحقُّق الثورة الصناعية وزيادة حجم اليد العاملة"[23]. وسأسهبُ في الحديث عن النموذجين المتنافرين: الرأسمالية والاشتراكية في الجزء المتعلّق بالنّقد الماركسي للرأسمالية.
3 ـ النّقد الماركسي للدولة الرأسمالية:
سبق وأن أعطيت إشارات بسيطة، بشكل سريع، حول نقد ماركس للرأسمالية، إذ يعارضها وبشدّة، باعتبارها نظاماً حطّ من كرامة العمل والعُمّال. نشأت البُرجوازية بعد تطوُّرٍ رهيب عرفهُ "الإنتاج الصناعي الذي كان يقوم في العُصور الوسطى على نظام الطوائف، ويعتمدُ على الإنتاج اليدوي بأنّه مع استعمار القارّة الأمريكية واتّساع التجارة الأوروبية إلى أسواق الهند والصين، لم تعُد تفي بحاجة هذه التجارة، ومن هنا استعملت الآلة وقوّة البُخار ونشأت هذه الطبقة"[24]. كارل ماركس له كتاب موسوم بـ رأس المال (نقد الاقتصاد السياسي)، هو كتابٌ غنيٌّ عن التعريف نظراً لشهرته الواسعة، كما أنّه يصبُّ في الموضوع الذي نحن بصدد التطرق إليه، ويقصد ماركس برأس المال: "ثورة منتجة في الصورة الخاصّة التي تنتجُ الربح".[25] هناك أمران أساسيان ينتميان إلى الرأسمالية لا يمكنُ الاستغناءُ عنهما؛ أوّلاً: "الملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج"[26]، وثانياً: "وجود جماعة من النّاس لا يمتلكون أية وسيلةٍ من وسائل الإنتاج"[27].
حاول ماركس تبيان التناقضات التي وقعت فيها الرأسمالية، ابتداءً "من نظرية فائض القيمة، وخلاصتها أنه في النّظام الرأسمالي يشترى العمل كسلعة؛ يعني أنّ العامل يبيعُ عملهُ لصاحب رأس المال مقابل تكاليف ضروريات الحياة أو الحدّ الأدنى منها، وهو المُسمّى بأجر الكفاف"[28]. وتحدّث ماركس عن معضلة أخرى هي: "تراكم رؤوس الأموال نتيجة للتوسع الرأسمالي في استخدام الآلات، والاستفادة من تخفيض نفقات الإنتاج كي ينخفض سعر السلعة في السوق"[29]، ثم "الملكية الفردية التي تسيرُ عليها علاقات الإنتاج الرأسمالي"[30].
وصفوة القول: "يرى ماركس أنّ نظام المِلكية الخاصة في المُجتمعات الرأسمالية يُحوِّل الإنسان -أي العامل- إلى سلعة، فهو يفقد حريّته وذاته وسيطرته على عمله، ويصبح عمله غريباً عنه وذاته غريبة عنه"[31]. نحن أمام مفهومٍ تداولته كتابات ماركس هو مفهوم الاغتراب، وهناك أمران يُكرّسانه: الأمر الأوّل: "هو بالضرورة المادية؛ أي محدودية الطبيعة"[32]، والأمر الثّاني: "الّذي يحدُّ من حريّة الإنسان هو تحوّلهُ من ذاتٍ فاعلة إلى موضوعٍ لفعل الآخرين"[33]. وللقضاء على الاغتراب، من وجهة نظر ماركس، فإنّ ذلك رهينٌ "بتغيير نظام الملكية الخاصّة وتحويل الاقتصاد الرأـسمالي، الذي يبيع فيه العامل عملهُ كسعلة للرأسمالي، إلى الاقتصاد الاشتراكي"[34]. وجديرٌ بالذّكر أنّ في الاقتصاد الاشتراكي يتلاشى "استغلال الطبقة العامِلة"[35] كما أنه "يلغي استغلال الطبقة العاملة وتحقيق المُجتمع اللاّطبقي عن طريق الثّورة البروليتارية".[36]
لا شك أنّ ماركس، في اعتقادي، لم يضع توقيتاً معيّناً لأفول النّظام الرأسمالي؛ بيد أنّ هذا التوقيت "كان ضمنياً في تحليله الأسباب التي يجبُ أن تؤدّي إلى زوال الرأسمالية في البلدان الأكثر تصنيفاً"[37]. كل هذا قد يُفضي إلى: "رفض أو إعادة درس الحتمية الاقتصادية التي تجعلُ من زوال الرأسمالية التتمة الضرورية (حتى ولو ظلّ الموعِد غير مُحدّد) للتركيز الرأسمالي والبروليتاري"[38].
نجِدُ تفنيداً واضحاً لماركس بخصوص تنبّئه بمصير الرأسمالية، ونقرأ في هذا الصدد: "فمنذ قرن بعد أن توصّل إلى نتائجه (التنبّؤ)، من الإنصاف أن ننكر أنّ إدخال الآلات لابدّ أن يُفضي إلى إطالة عمل اليوم، ولابدّ أن تكون هناك بطالة تكنولوجية كبيرة، ومتزايدة، ولابدّ أن تصبح البرجوازية بروليتاريا، وتصبح البروليتاريا فقيرة، وتكون الاشتراكية هي ذروة الرّأسمالية"[39]. ويُضيف صاحب التفنيد: "إنّ تنبؤات ماركس تقومُ على اعتقادٍ مُؤداه النّظام الاقتصادي يمتلك حياة، وهي حياتهُ الخاصّة؛ أي إنّه يشبهُ اتّصال أجزاء خاملة، وعندما يسيرُ فيه بصورةٍ، أو بأخرى، فإنّه يقومُ بوظيفته بصورةٍ آلية"[40].
يُؤكّد ماركس أنّ "شُروط الإنتاج الرأسمالي هي التي خلقت الصراع، وحالما تختفي هذه الشروط تموتُ الطبقات نفسها، وتزولُ سيطرة الطبقة العاملة بالضرورة"[41]. نفهمُ من هنا أنّ ماركس يُحمِّل النّظام الرأسمالي كل ما يعيشهُ المجتمع في تلك الفترة، وقد عايش ذلك بنفسه، من تقهقر اقتصادي، وتشرذمٍ سياسي، وانحطاط فكري وثقافي.
اتّجه كارل ماركس إلى الاعتقاد بأنّ الصراع القائم بين الطبقات، والذي لايزال مستمرّاً، هو ما أفضى إلى تكوُّن الدولة، لذلك "لم ينظُر إلى العلاقة بين الطبقات في شكلها السلبي، بل نظر إليها في شكلها الإيجابي لتبدو علاقةَ صراعٍ بالدرجة الأساسية"[42]. وتتحدّد الدولة عند ماركس "باعتبارها قوّةً ناتجة عن المُجتمع، لكنها تحتلُّ موقعها فوقهُ وتُمارسُ وظائفها فيه كأداة تستخدمها الطبقة أو الطبقات المُستغلة في إطار الصراع بين الطبقات لاستلاب الطبقة المستغلة وإخضاعها"[43]، وترمي الطبقة العاملة إلى الاستيلاء على السلطة "في صراعها مع الطبقة الرأسمالية".[44]
تشيرُ أميرة حلمي مطر إلى أنّ تصوّرات ماركس حول إلغاء الرأسمالية وبذله لجهدٍ جهيد حتى تُصبح على شفا الاضمحلال، ويبرز النّظام الاشتراكي كنظامٍ سامٍ ينتشل المجتمع من تبعات وعقابيل الرأسمالية، وستكون الاشتراكية، فيما بعد، وراء انبثاق النظام الشيوعي. نقرأُ لها في هذا الشّأن: "يرى نقّاد الماركسية في هذا الأمل نوعاً من الأحلام اليوتوبية، فيذهبون إلى أن هذا المبدأ يمكن أن يكون قانوناً تسير عليه جماعة صغيرة من الأصدقاء أما بالنسبة إلى مجتمعٍ بأسره يخلو تماماً من عوامل الصراع والظلم؛ ففيه مُغالاة في تقدير الخير في الطبيعة الإنسانية".[45]
بعد أفول النظام الاشتراكي وبزوغ النظام الشيوعي، فإنّ ذلك سيؤدّي، دون أدنى شك، إلى "إلغاء نظام الدولة إذْ لن يكون هناك قوّة سياسية تعملُ لصالح طبقةٍ معيّنة؛ لأنّنا ما دُمنا قد ألغينا الطبقات، فقد ألغينا الصراع الذي يُؤدّي إلى نشأة الدولة من قبل الدولة المالكة"[46]. إنّ حاسة التخمين والتنبّؤ لم تكن متمكّنة بما فيه الكفاية عند كل من ماركس وإنجلز، حيث تنبّآ "بقيام الثورة الاشتراكية في المجتمعات الصناعية المتقدمة، إلّا أنها لم تتم فيها، بل حدثت في مجتمعات أقل تطوراً"[47]. كما أنّ انهيار الطبقة الرأسمالية لم يتم، بل إنها "على أيّ الحالات لم تظل كما كانت، ولا ظلّ العمال كما كانوا عليه في القرن التاسع عشر".[48]
على سبيل الختم:
سعت هذه الورقة، رغم بساطتها، إلى طرح النّقد الماركسي للرأسمالية، باعتباره مناهضاً رئيسياً لها. وطرحتْ أيضاً أهم الأفكار التي أنتجها ماركس وذاع صيتُها، كالمادية التاريخية والصراع القائم بين الطبقات. كما أنّ تفرُّد ماركس يتمثّلُ في أنّه لم يعد مجرّد أفكار تتناولها الكتب والدراسات والأبحاث الرصينة فحسب، بل تحوّل إلى شعار وإلى إيديولوجيا يُمكنُ لأيّ مرءٍ أثرت فيه كتاباته أن يعتنق الأيديولوجية الماركسية ويدافع عنها. وصفوة القول: إنّ الماركسية نجحت في أن تصبح إيديولوجية رسمية لسياسيين دوّنوا أسماءهم في سجلّات التاريخ بمدادٍ من ذهب، ونذكرُ على سبيل المثال لا الحصر: فلاديمير لينين (1870 - 1924)، وجوزيف ستالين (1878 - 1953)، والزعيم الصيني ماوتسي تونغ (1893 - 1976). هؤلاء يشكّلون امتداداً رسمياً للماركسية، كما أسسوا نظاماً شيوعياً شكّل المرتكز الأساسي لأهدافهم السياسية. نجحت (=الماركسية)، أيضاً، لكونها أدّت إلى: "تغيير نصف العالم خلال النّصف الأوّل من القرن العشرين"[49] ومردّ ذلك "أنّها أحدثت انقلاباً في تمثُّلات الوعيّ واتجاهات الخيال داخل عقول النُّخب الثقافية والحزبية والزعامات النّقابية والقيادات الطلابية، وجعلتها قادرةً على تصوُّر إمكانيات جديدة"[50].
لائحة المراجع المعتمدة في البحث:
ـ كيملشكا، ويل. مدخل إلى الفلسفة السياسية المُعاصرة، ترجمة: منير الكشو، دار سيناترا - المركز الوطني للترجمة، تونس، الطبعة الأولى، 2010
ـ محافظة، علي. الفكر السياسي الغربي الحديث من بداية القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، بلا فهرسة، https://www.researchgate.net/publication/271836196.
ـ محمود، مؤيد جبير. الفكر السياسي الغربي الحديث والمُعاصر، الجزء الأوّل، كلية القانون والعلوم السياسية، العراق، 2019
ـ مطر، أميرة حلمي. الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1995
ـ شتراوش، ليو، كروبسي، جوزيف. تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الثاني: من جون لوك إلى هيدجر، ترجمة: محمود سيّد أحمد، مراجعة: إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005
ـ توشار، جان. تاريخ الفكر السياسيّ، ترجمة: علي مقلد، الدار العالمية للطباعة والنّشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1983
- ناشيد، سعيد. قلقٌ في العقيدة، دار الطليعة للطباعة والنّشر ورابطة العقلانيين العرب، بيروت، الطبعة الأولى، 2011
[1] مؤيد جبير محمود، الفكر السياسي الغربي الحديث والمعاصر، الجزء الأوّل، كلية القانون والعلوم السياسية، العراق، 2010، ص 67.
[2] الفكر السياسي الغربي الحديث والمعاصر، المرجع نفسه، ص 68.
[3] المرجع نفسه، ص 68.
[4] جان توشار، تاريخ الفكر السياسي، ترجمة: علي مقلد، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، 1983، ص 489.
[5] أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، دار المعارف، القاهرة، ط 5، 1995، ص 108.
[6] الفكر السياسي الغربي الحديث والمعاصر، المرجع نفسه، ص 68.
[7] جان توشار، تاريخ الفكر السياسيّ، المرجع نفسه، ص 493.
[8] تاريخ الفكر السياسي، المرجع نفسه، ص 494.
[9] المرجع نفسه، ص 495.
[10] تاريخ الفكر السياسي، المرجع نفسه، ص 496.
[11] المرجع نفسه، ص 496.
[12] ويل كيملشكا، مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، ترجمة: منير الكشو، دار سيناترا - المركز الوطني للترجمة، تونس، ط 1، 2010، ص 219.
[13] ويل كيملشكا، مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة، المرجع نفسه، ص 219.
[14] المرجع نفسه، ص 219.
[15] المرجع نفسه، ص 219.
[16] عليّ محافظة، الفكر السياسي الغربي من بداية القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، كتاب الكتروني بلا فهرسة، https: //www.researchgate.net/publication/271836196، ص 208.
[17] علي محافظة، الفكر السياسي الغربي من بداية القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، المرجع نفسه، ص 208.
[18] الفكر السياسي الغربي من بداية القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، المرجع نفسه، ص 208.
[19] المرجع نفسه، ص 209.
[20] المرجع نفسه، ص 209.
[21] ليو شتراوس، جوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، الجزء الثاني: من لوك إلى هيدجر، ترجمة محمود سيّد أحمد، المجلس الأعلى للثقافة، ط 1، القاهرة، 2005، ص 470.
[22] أميرة حلمي مطر، الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، مرجع سابق، ص 103.
[23] المرجع نفسه، ص 103.
[24] المرجع نفسه، ص 111.
[25] ليو شتراوس، جوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية، المرجع نفسه، ص 483.
[26] تاريخ الفلسفة السياسية، المرجع نفسه، ص 487.
[27] المرجع نفسه، ص 487.
[28] الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، المرجع نفسه، ص 111.
[29] المرجع نفسه، ص 111.
[30] المرجع نفسه، ص 111.
[31] المرجع نفسه، ص 117.
[32] المرجع نفسه، ص 117.
[33] المرجع نفسه، ص 117.
[34] الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، المرجع نفسه، ص 117.
[35] المرجع نفسه، ص 118.
[36] المرجع نفسه، ص 112.
[37] جان توشار، تاريخ الفكر السياسي، مرجع سابق، ص 552.
[38] المرجع نفسه، 552.
[39] تاريخ الفلسفة السياسية، المرجع نفسه، ص 493.
[40] المرجع نفسه، ص 493.
[41] عليّ محافظة، الفكر السياسي الغربي الحديث من بداية القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، مرجع سابق، ص 210.
[42] الفكر السياسي الغربي الحديث والمعاصر، مرجع سابق، ص 69.
[43] المرجع نفسه، ص 69.
[44] المرجع نفسه، ص 69.
[45] الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، المرجع نفسه، ص 113.
[46] المرجع نفسه، ص 113.
[47] الفلسفة السياسية من أفلاطون إلى ماركس، المرجع نفسه، ص 114.
[48] المرجع نفسه، ص 114.
[49] سعيد ناشيد، قلق في العقيدة، دار الطليعة للطباعة والنّشر ورابطة العقلانيين العرب، بيروت، ط 1، 2011، ص ص 113 - 114.
[50] قلق في العقيدة، المرجع نفسه، ص 114.