نقد مشروع الإسلام السياسي في المغرب في فكر الدكتور فريد الأنصاري
فئة : مقالات
نقد مشروع الإسلام السياسي في المغرب
في فكر الدكتور فريد الأنصاري
تكمن القيمة العلمية لنقد الدكتور فريد الأنصاري للمشروع السياسي، في كونه نقدا موجها من أحد أهم من خبر هذا المجال؛ إذ الدكتور فريد الأنصاري كان سابقا من أبناء الحركة الإسلامية في المغرب، بل ومن الأوائل المؤسسين والمتحمسين لمشروع الإسلام السياسي، غير أنه سرعان ما سيغير الاتجاه، ويبدأ في نقد مشروع الحركات الإسلامية، وربما هنا تأتي الميزة الثانية لنقده لهذه الحركة الإسلامية، وهو نقد يستند بالأساس إلى أسس الدين، وخاصة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، حيث إن قراءاته التجديدية في الخطاب الدعوي الإسلامي، أفضت به بعد تأنّ إلى إفلاس المشروع السياسي الإسلامي، ثم الأمر الثالث الذي يميز هذا النقد، فهو لم يستثن طائفة دون أخرى، بل حاول أن يبين عيوب جميع المشتغلين في حقل المشروع السياسي الإسلامي، كان نقده يتأرجح بين الليونة والحدة، كما نجد في كتابه البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، وربما هذا الكتاب كان هو أول كتاب يبدأ به مشروعه النقدي، وبالتالي بناء مفهوم جديد، فهو يفضل استعمال الدعوة على الحركة، ثم يأتي الكتاب الآخر، والذي كان أكثر حدة من سابقيه، وهو الأخطاء الستة للحركة الإسلامية، حيث تناول فيه بالنقد والتحليل، حتى التيار السلفي والتيار الصوفي، وطبعا نقد الدكتور فريد الأنصاري هو مخصص بالأساس لتجربة الإسلام السياسي بالمغرب، وليس بأي بلد آخر، حيث إن مشروع الإسلام السياسي ينشط أصحابه في عدة دول، غير أن كل تجربة تختلف من بلد إلى آخر، وأما آخر الكتب في هذه السلسلة حسب ما أرى فهو كتابه الموسوم بالفطرية بعثة التجديد المقبلة، وهو الكتاب الذي كتبه قبيل وفاته بسنتين، طبعا له مؤلفات كثيرة، طبعا له كتب أخرى لا تهمنا هنا.
البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي
هذا الكتاب هو الكتاب الأول الذي يبدأ به الدكتور فريد الأنصاري مشروعه في نقد الإسلام السياسي، وإذا ما قرأنا العنوان الفرعي للكتاب، نجد "نحو بيان قرآني للدعوة الإسلامية"، كما أن هذا الكتاب عد جزءا من سلسلة كتب سيصدرها تباعا، تحت عنوان من القرآن إلى العمران، هنا لا بد من الوقوف عند تكوين الدكتور فريد الأنصاري، وهو الأديب المفوه، إذا ما أردنا استعراض تكوينه، نجده أنه كان متخصصا في أصول الفقه، سواء على مستوى الماستر أو الدكتوراه، غير أن مشروعه في الدكتوراه كان تحت عنوان، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، كعادة جل الدراسات الإسلامية، وبشكل خاص المنتسبين للحركات الإسلامية، كانت تتجه اهتماماتهم إلى دراسة كتاب الموافقات للشاطبي، وهو الفقيه الذي يعد أول من أفرد علم مقاصد الشريعة بالتأليف، في كتابه الشهير الموافقات، لم يكن أمام أبناء الحركات الإسلامية من خيار سوى التشبث بأطروحة هذا العالم الأصولي؛ لأن من خلالها كانوا يستطيعون الإجابة عن عدة مشاكل معاصرة، دون أن يتنازلوا عن المرجعية الإسلامية، وخاصة أمام خصومهم الذين كانوا يقدمون قراءات وبحوث في فكر العالم الاجتماعي ابن خلدون، الذي اختطف من سياقه هو الآخر، ما يهمني هنا هو المرجعية الفكرية للدكتور فريد الأنصاري، أو الإطار الإيبستمولجي الذي يستعمله فريد الأنصاري في مشروعه الفكري، يمكننا تحديد ذلك في أمرين هما اعتبار أن النص هو المرجع، الذي ينبغي التحاكم إليه، ثم إن هذا النص يحمل معنى أوليا مسبقا، والآلية الوحيدة لقراءة هذا النص هو اللغة العربية.
لهذا إذا ما أردنا فهم مغزى كلمة من القرآن إلى العمران، فإننا لا بد وأن نستحضر المشروع الخلدوني، وهو الذي يمكن أن يصاغ له عنوان مقابل لهذا العنوان، وهو من العمران إلى القرآن، ينبغي العلم هنا أن كلا من الشاطبي وابن خلدون، كانا يعيشان نفش الظروف؛ لأنهما كانا معاصرين، كما أنهما كانا خصمين مختلفين في الرؤية، ومن هنا صاغ الدكتور فريد الأنصاري، عنوان هذه السلسلة حيث أنه يرى أن الذي ينبغي أن يسبق هو النص، والاحتكام إليه واجب، طبعا هنا لا بد من التذكير أيضا على تصور الدكتور فريد الأنصاري لمفهوم الزمن، فهو عنده تصور خلدوني، حيث إنه يرى أن الزمن هو بمثابة دوائر حلزونية، ولهذا هو يكثر من استعمال الدورة الحضارة، أو غيرها من المصطلحات التي تشير إلى هذا المفهوم، إذا ما أدركنا هذا الأمر فإنه يسهل علينا استيعاب مشروع الدكتور فريد الأنصاري، فهو وإن كان ينتقد الحركات الإسلامية، إلا أن نقده بسبب أنه كان يرى أن هذه الحركة قد حادت عن طبيعة الدعوة الإسلامية، وما ذلك إلا بتضخيمها للسياسي على الدعوي.
كتاب البيان الدعوي، إذا ما أردنا الوقوف عند مضامينه، نجدها تتأرجح بين أمرين؛ الأول هو دراسة في مفهوم الحركة الإسلامية، وبيان علاقتها بالبيان الدعوي، أو الدعوة الإسلامية، كما هي عند العلماء الأقدمون، والذين يستندون هم الآخرون إلى النص القرآني، فالإطار المرجعي دائما للدكتور فريد الأنصاري، هو النص القرآني والذي يحتكم إليه، بين الفينة والأخرى من خلال الاستشهاد بآيات أو نصوص من الحديث، وعند وقوفه على مفهوم الحركة الإسلامية، فهو رغم سرده لبعض التعريفات والتحليلات للحركة الإسلامية، إلا أنه يقر على أنه من الصعب الإحاطة إحاطة شاملة بهذا المفهوم، وذلك لتشعبه بين الديني، والسياسي الأيديولوجي، والتاريخي والاجتماعي، كما أنه ينكر على بعض الدارسين الذين يدرسون هذه الظاهرة الدينية، غير أنهم يسندونها لكل شيء إلا الدين نفسه، حيث إنه لا يوافق أولئك الذين يرجعون هذه الظاهرة، إلى أسباب اقتصادية، اجتماعية، أو سياسية، بل يرى أن هناك سببا دينيا وراء نشوئها، وإن كان هذا السبب الديني مهمش، وهذا ما دفعه إلى كتابة هذا الكتاب، وأضفى له تعبير التضخم السياسي، فهو يرى أن السياسي في الدين الإسلامي يأتي تبعا وليس هو الأصل، ثم إن السياسي ليس كما يرى هؤلاء، هو عبارة عن تنظيمات وجماعات سرية، بل هو قد يكون في سلوك جميع المسلمين، دون أن ينضووا تحت جزب أو راية، أو حركة معينة.
ولهذا فمسألة تراتبية التشريع الإسلامي، هي التي أخذت بحظ وافر من هذا الكتاب، حيث إنه بعدما فصل في مفهوم الحركة الإسلامية، انتقل للحديث عن مراتب التشريع الإسلامي وموقع الأحكام السياسية من كل ذلك، ويرى أن مرتبتها تأتي متأخرة جدا، عن باقي الأحكام الأخرى، بل حتى إن التأليف فيها لم يكن في عصر الاجتهاد، بل أتى بعد ذلك بسنوات، ثم إن مسألة التأليف في الأحكام السياسية تدخل في المصالح العامة، وحفظ النظام العام، ولهذا وردت الإشارة إليها ضمن كليات عامة، ولم ترد مفصلة، مما يجعل هذا الأمر قابلا لأن يتكيف مع مختلف الوقائع والأزمنة، وهذا فيه رد كذلك على الفكر المتحجر للجماعات الإسلامية، حتى إن البعض منهم حدا به الأمر إلى القتال بغية استرجاع الخلافة الراشدة، بعد هذا الأمر ينتقل إلى الحديث عن أن الأصل في القرآن هو الدعوة وليس السياسية، غير أن هذه الدعوة ليست كما هي موجودة في المسيحية، بل الدعوة الإسلامية تختلف.
الأخطاء الست للحركة الإسلامية بالمغرب
يختلف هذا الكتاب عن سابقه ولاحقه، سواء من حيث لغته أو مضمونه، حيث إنه ربما هو الأكثر حدة في النقد، كما أنه لم يستثن كما سلف وذكرت تيارا دون آخر في المغرب، والمقصود هنا هو التيار السلفي الذي سيخصه بالنقد، ثم بعض المتمذهبين بالتيار الصوفي، غير أن الذي سيحظى بالنصيب الأوفر من هذا النقد هو التيار السلفي، والحركة الإسلامية بالمغرب، يمكن إجمال جميع الأخطاء التي سيذكرها بالتفصيل، هي أن هذه الحركة حادت عن الصواب كما يرى فريد الأنصاري، وذلك بأنها ضخمت من الجانب السياسي على الجانب الدعوي، بل ربما أنها أصبحت بمثابة صنم يصد الناس عن الدين الحق، حيث إن المعالم ستنقلب، وسيصبح ما كان ينبغي أن يكون وسيلة هو المقصد، وبالتالي من حاد عنه فكأنما حاد عن الحق، حيث تصبح خيارات الحركة الإسلامية هي الدين، ومن خالفها فكأنما خلف الدين.
يتكون الكتاب من بابين؛ الباب الأول خصه لما سماها الأخطاء المنهجية الكبرى للحركة الإسلامية، والباب الثاني خصه للتيار السلفي، أو ما أسماه باستصنام المذهبية الحنبلية، لكلمة استصنام هنا أكثر من دلالة، حيث إنها تختزل عمق الإشكال الذي جعل الدكتور يثور على هذه الحركة، وما ذلك إلا لأنها قدمت نفسها على أنها الموكل الشرعي الذي سيحمي للناس دينهم، ويوصلهم إلى القول الحق، غير أنها في الحقيقة حالت بين الناس وفهمهم لدينهم، ولهذا نجد الدكتور رحمه الله، يسم هذه الأخطاء بكونها استصناما، وفيه إشارة إلى مفهوم الصنم في الدين، حيث إن من يعبدوه يعتقدون أنهم على صواب، بينما الواقع خلاف ذلك، فهذا التشبيه هو مقصود من الدكتور.
في تعداد تلك الأخطاء اتي وقعت فيها الحركات الإسلامية، نجد عدة أخطاء، من ذلك مثلا، استصنام الخيار الحزبي، وهذا الخطأ جاء على ثلاثة مستويات، سواء على مستوى الفهم التصوري للدين، وهو ما سبق وفصله في الكتاب الأول، حيث إنه اختل عندهم ميزان الأولويات، وكذلك على المستوى التربوي والدعوي؛ لأنهم فرطوا في هذا الجانب، وتمسكوا بالشكليات، ثم على المستوى الأمانة الأخلاقية، التي كان المطلوب منهم أن يتحلوا بها، وأما الخطأ الثاني، فهو استصنام الخيار النقابي، فيه يفصل انهيار الأخلاق في الصف الإسلامي، فشبيبتهم لا تختلف أخلاقيا عن باقي الفصائل والتيارات الأخرى إلا شكليا فقط، وأما الخطأ الثالث، فهو استصنام الشخصية المزاجية في الحركة الإسلامية، وأما الخطأ الرابع، فهو استصنام التنظيم الميكانيكي، وأما الخطأ الخامس، فهو استصنام الشخصية المطيعية، والإشارة إلى أول مؤسس للحركة الإسلامية بالمغرب الإسلامي، حيث إنها كان تتبنى فكرة التقية، قبل أن تدعي أنها تراجعت عنها.
أما الباب الأخير، فيخصصه لنقد التيار السلفي، عبر ما سماه استصنام المذهبية الحنبلية؛ إذ إن هذا المذهب، رغم أنه لا يختلف عن باقي المذاهب الأخرى، إلا أنه أضحى في أوساط هؤلاء مساويا للكتاب والسنة، وكأن المذاهب الأخرى لا تعتمد على الكتاب والسنة، وبذلك فالدكتور يرى أن التيار السلفي وقع في أخطاء منهجية كثيرة، منها الإعراض عن المذهب المالكي، وهو المذهب الرسمي، بل والتاريخي للمغاربة منذ قرون، حيث إنه إلى جانب التصوف السني، وإمارة المؤمنين، والعقيدة الأشعرية يشكلان ثوابت الأمة المغربية، كما أن من الأخطاء المنهجية لهؤلاء غلوهم في التحقيقات العقدية، وكأنها هي الدين وما عداها ليس بدين، كما أنه طغت عليهم الشكلانية المظهرية، بالإضافة إلى التبعية لبعض دول المشرق والارتباط العضوي بها.
الفطرية وبعثة التجديد المقبلة
هذا هو عنوان الكتاب الثالث، وهو بمثابة توطئة للمشروع الذي كان يروم تأسيسه الدكتور رحمه الله، حيث إن نقده للحركة الإسلامية في الحقيقة ما هو إلا للدعوة إلى مشروع بديل، كما يرى هنا وفي كتب أخرى؛ فالدكتور كان يصاب بالهول أمام التدخل الأجنبي في البلدان العربية والإسلامية، ويرى أن في ذلك هزيمة حضارية للمسلمين، وبعد تأمل رأى أن هذه الحركات أغفلت الأهم واهتمت بالشكل، وبذلك فهي في الحقيقة عبارة عن صنم، حالت بين الناس وتدينهم الحق، الذي يرى فيه الدكتور أنه هو المخلص لهم مما لحق بهم، ولذك فهو يرى أن الذي ينبغي أن يكون هو الدعوة بدل الحركة.
هذا الأمر يبدو جليا في فهرست الكتاب، حيث نجد أن الحيز الأكبر من هذا الكتاب، خصص لما أسماه الفطرية، لكن قبل ذلك فصل في مسألة الحركة والدعوة الإسلامية، وخاصة في مبحث مهم خصه، لبحث قضية النص الشرعي، بين الحركة الإسلامية، ودعوة الإسلام، وبالتالي فهو ينتصر للدعوة على حساب الحركة الإسلامية، ومن ثم باقي فصول الكتاب، هي مخصص لتفصيل هذا المشروع، والذي سيخصص له كتبه، الأخرى تحت عنوان مجالس القرآن؛ وذلك إيمانا منه بأن القرآن جاء ليصلح الفرد، ولم يأت بنظام سياسي أو اجتماعي جاهز، بل ذلك يدخل في إطار المصالح العامة للمسلمين، يتولاها ولي أمرهم.
من خلال تصفح لائحة المصادر والمراجع، نجد أن الدكتور فريد الأنصاري، لم يكن يعتمد كثيرا على مراجع من خارج الدائرة الإسلامية، إلا ناذرا، كما أن المراجع التراثية حاضرة بقوة عنده، وهذا ما يؤكد لنا طبيعة مشروعه النقدي؛ أي إنه نقد من الداخل، وفي اعتقادي أن هذا ما يمثل قوة هذا المشروع، ولهذا لم يتحمل أصحاب الحركة نقده، حيث إنه يصعب عليهم نعته بتلك النعوت الجاهزة من قبيل العمالة وغيرها.
المراجع المعتمدة:
- فريد الأنصاري، البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي، نحو بيان قرآني للدعوة الإسلامية، ط دار السلام، الطبعة الثانية 2012
- فريد الأنصاري، الأخطاء الست للحركات الإسلامية، انحراف استصنامي في الفكر والممارسة، 2007
- فريد الأنصاري، الفطرية بعثة التجديد المقبلة، ط دار السلام، 2009
- عبد الله العروي، العرب والفكر التاريخي، ط المركز الثقافي العربي، ط الخامسة 2006
- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، ط منشورات الجمل، 2009
