نهاية الحداثة
فئة : قراءات في كتب
صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ترجمة لكتاب الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو Gianni Vattimo "نهاية الحداثة"، مع مقدمة للمترجم نجم بوفاضل أستاذ الفلسفة واللغة الإيطالية في الجامعة اللبنانية، وظهرت الطبعة الأولى للكتاب في أبريل (نيسان) 2014 عن المنظمة العربية للترجمة.
يقع الكتاب في 223 صفحة، ويتألف من ثلاثة أقسام وعشرة فصول، مع مقدمة وثبت تعريفي وآخر للمصطلحات.
تبدأ مقدمة الكتاب بتحديد معنى العنوان (نهاية الحداثة)، بالعودة إلى نيتشه وهيدغر. إذ لا يمكن فهم نهاية العصر الحديث والانتقال إلى عصر ما بعد الحداثة، سوى بالعلاقة "مع إشكالية العود الأبدي النيتشوية ومع الإشكالية الهايدغرية فيما يخص تجاوز الميتافيزيقا" (11). من هنا يظهر أنّ الكتاب يخاطب شريحة خاصة من المثقفين هم المتخصصون في الفلسفة، وبالضبط في الفلسفة المعاصرة، مادامت أطروحة الكاتب تستلهم هاتين الإشكاليتين من بدايتها إلى نهايتها.
تجد الإشكالية النيتشوية والهايدغرية صداها ـ بل تحققهاـ في المسار الذي عرفه التاريخ المعاصر، قياسًا إلى التاريخ الحديث، حيث غابت عنه فلسفة التاريخ. أليست فلسفة "العود الأبدي" وفلسفة "تجاوز الميتافيزيقا"، إعلانًا عن انحلال التاريخ بمعناه الشامل؟ و"انحلال التاريخ، في مختلف المعاني التي يمكن منحها لهذه العبارة، هو على الأرجح الطابع الذي يميز بصورة أوضح التاريخ المعاصر بالنسبة إلى التاريخ "الحديث". فالمعاصرة (و ليس التاريخ المعاصر طبعًا في التقسيم المدرسي، الذي يحدد بدايته مع الثورة الفرنسية) هي تلك الحقبة التي فيها أصبح مستحيلاً تحقيق "تاريخ شامل"، في الوقت الذي قد بات ذلك، بفضل إتقان وسائل جمع المعلومة ونقلها، ممكنًا.. وهذا أيضًا لا يشير ربما إلى استحالة "تاريخ شامل"، كتاريخ واقعي وحسب، إنّما قد يشير إلى أنّ الظروف نفسها لقيام تاريخ شامل، من حيث هو مسار فعلي موحد للأحداث، من حيث هو واقع، قد انتفت" (22).
ما أضحى ممكنًا، إذن، ليس هو التاريخ الواقعي، وإنّما هو تاريخ جمع المعلومة عبر وسائل الاتصال، ثم نقلها وتعميمها. ومن ثم أصبح بالإمكان قراءة التاريخ وإدراكه بوصفه "حكاية"، إنّه حكاية يرويها المنتصرون لضمان استمرار سلطتهم. لقد بين والتر بنيامين ذلك بوضوح في كتابه عن "فلسفة التاريخ". فالتاريخ الشامل والموحد هو تاريخ المنتصرين، "أما المنهزمون فلا يستطيعون رؤيته على هذا النحو، وخاصة أنّ أحداثهم ونضالاتهم مسحتها بعنف الذاكرة الجماعية" (21). وهذا ما يطرح على المؤرخ مهمة شبه مستحيلة، ألا وهي استعادة الماضي على مستوى الوعي. وحتى لو افترضنا إمكانية حصول تلك الاستعادة، فسوف نجد أنفسنا أمام "تواريخ" وليس أمام "تاريخ" بوصفه "صورة عن مسار موحد للأحداث" (21).
بعد المقدمة، ينتقل الكاتب إلى القسم الأول بعنوان "العدمية قدرًا"، وهو عنوان لا تخفى على القارىء المتخصص نفحته النيتشوية. أما الفصل الأول فجاء تحت عنوان "تقريظ العدمية"، وهو عنوان يشي بالانتصار اللامشروط لنيتشه. وقصد تقديم تعريف للعدمية، يمزج فاتيمو بين نيتشه وهايدغر دفعة واحدة، يقول: "العدمية تعني هنا ما تعنيه في الملاحظة التي أوردها نيتشه في طبعة "إرادة القوة" القديمة: الحالة التي يتدحرج فيها الإنسان من الوسط نحو x. لكن العدمية في هذا المعنى تتطابق أيضًا مع تلك التي حددها هايدغر: المسار الذي فيه، في النهاية، "لا يبقى شيء" من الكائن" (29). معنى تدحرج الكائن عند نيتشه هو فقدان البوصلة التي كانت تمثلها القيم العليا، وإفراغ تلك القيم من أيّ قيمة (و هذا ما يختزله شعار "موت الإله"). أما عند هايدغر فمعنى ذلك أنّ الكائن تحول هو نفسه إلى قيمة في حد ذاتها، ولم يعد يتبنى أيّ قيمة تعلو عليه أو تتجاوزه.
لعل وهم الخصوصية الثقافية هو الذي قاد الحضارات الكبرى إلى إنتاج مفهوم القيم العليا، وهذه القيم تعود إلى "أصل" يعبر عن هوية الأمة أو الشعب. والنظر إلى الخصوصية من زاوية العدمية سوف يعصف، لا محالة، بمفهوم الأصل ذاته. إذ "بمعرفة الأصل، يزداد الأصل تفاهة"، كما يقول نيتشه. فكل فكرة أو قيمة نعتبرها أصل هويتنا، حين نحللها جينيالوجيًّا، يتبين أنّ لها جذورًا سحيقة، بل روافد خارجية وغريبة عنا. وهذا يعني أنّ الهوية غيرية، وأنّ الغرابة تسكننا جميعًا.
ينتقل فاتيمو في الفصل الثاني إلى مناقشة ما سماه بـ"أزمة الإنسية"، بإيراد دعابة تقول: "الله ـ في العالم المعاصر ـ مات، لكن أمور الإنسان ليست على ما يرام". ليست "أمور الإنسان على ما يرام"، لأنّ اتخاذ العلم وليًّا من دون الله "لا يمكن أن يفسح المجال اليوم أمام أية إعادة استحواذ من قبل الإنسان لجوهره المغترب" (43). الاستحواذ هنا يقصد به التملك، أي تملك الإنسان لجوهره، واستعادته من الاغتراب الذي وقع فيه في عصر العلم الذي أمسى تقنية. ويعود الفضل إلى هايدغر مرة أخرى في رسالته عن النزعة الإنسانية التي اعتبر فيها كون هذه النزعة مرادفة للأنطولوجيا اللاهوتية، أي للميتافيزيقا عمومًا بوصفها نظرية في الوجود؛ فالميتافيزيقا هي التي تمنح للإنسان دورًا مركزيًّا في الوجود. وعندما تم اختزالها في مجرد "إرادة القوة" كما هو الحال عند نيتشه، "شارفت الميتافيزيقا على أفولها، وأفلت معها، كما نتثبت اليوم، الإنسية أيضًا" (44). إنّ الإعلان النيتشوي عن موت الإله هو في الآن نفسه إعلان عن موت الإنسية، أو على الأقل إعلان عن أزمتها. لأنّ فقدان الأساس الذي يقوم عليه المركز قد تهاوى تحت "ضربات المطرقة" المتعددة، وبتزحزح المركز عن أساسه بدأت العملية العكسية لتدحرج الإنسان نحو المجهول. فعلى الرغم من الوهم الذي يخلقه الأساس بالأصالة والخصوصية على المستوى الثقافي، إلا أنّ الدور الذي يقوم به من خلال تثبيت "موقع" الإنسان في الكون لهو دور حاسم. إذ "لا يحافظ الإنسان على موقعه، "مركز" الواقع، الذي يلمح إليه مفهوم الإنسية الرائج، إلا بقوة الاستناد إلى أساس يثبته في هذا الدور. فالأطروحة الأغوسطينية القائلة بأنّ "الله حميم لي أكثر مما أنا حميم لذاتي"، لم تكن يومًا تهديدًا حقيقيًّا للإنسية، بل بالعكس، لقد شكلت له دعمًا تاريخيًّا حقيقيًّا" (45). وبالمقابل، عندما انزاح هذا الأساس الحميمي لصالح التقنية، بدت هذه الأخيرة "تتكشف سببًا لمسار عام يسير نحو نزع الإنسانية، وهو مسار يشمل من جهة تعتيم المثل الثقافية الإنسية لمصلحة تأهيل للإنسان، مركّزٍ على العلوم وعلى المهارات الإنتاجية الموجهة عقليًّا؛ ومسار عقلنة بارزة من جهة أخرى" (45ـ46). بيد أنّ هذا المسار العام الذي اتخذته التقنية، ليس مسارًا موازيًا أو مغايرًا أو طارئًا على تاريخ الفكر الغربي؛ بل هو مسار الميتافيزيقا ذاته الذي بلغ أوجه مع عصر سيادة التقنية. ولهذا السبب يدعو هايدغر في غير ما مناسبة إلى ضرورة إعادة التفكير في جوهر التقنية، بوصفه جوهرًا غير ذي طبيعة تقنية. والهدف من كل هذا يرتسم أمامنا على شكل محاولة للخروج من الإنسية ومن الميتافيزيقا، وهذا الخروج "ليس تجاوزًا، إنّه تعافٍ؛ فالذاتية ليست شيئًا نتركه خلفنا كثوب انتهى استخدامه" (59). إنّ الأمر يتطلب نوعًا من "علاج تنحيف الذات"، وذلك في أفق "جعلها قادرة على سماع نداء كائن لم يعد يعطي ذاته في نبرة الأساس الحاسمة" (60).
أما القسم الثاني من الكتاب فهو يقع تحت عنوان "حقيقة الفن"، في حين جاء الفصل الثالث بعنوان "موت الفن أو أفوله". فما المقصود بـ"موت الفن"؟
يجيب فاتيمو: "عندما نتكلم عن موت الفن.. إنّما نتكلم ضمن إطار هذا التحقيق الفعلي المنحرف للروح الهيغلي المطلق" (63). ما "التحقيق الفعلي المنحرف للروح الهيغلي"؟ عبارة غريبة حقًّا، وفهمها يتطلب ربطها بما آلت إليه تجليات الواقع الذي اعتبره هيجل مفهومًا كسائر المفاهيم الأخرى التي أنتجها العقل البشري. لقد تنبأ هيجل فعلاً بتحقق الروح المطلق أو الفكرة عمومًا، من خلال التطابق بين الكائن والوعي. بيد أنّ صيرورة الأحداث أفرزت ما لم يتوقعه هيجل، أي أنّ التحقق جرى على مستوى آخر هو الذي تمثله وسائل الاتصال. لقد تجلت النبوءة الهيجلية من خلال "التطورات الفعلية التي تحققت في المجتمع الصناعي المتقدم، وإن لم يكن في المعنى الدقيق الذي كان عند هيجل؛ إنّما كما علمنا أدورنو باستمرار، بمعنى منحرف بشكل غريب. ألا نستطيع بحق تأويل تعميم سيطرة وسائل الإعلام على أنّه تحقيق منحرف لانتصار الروح المطلق؟" (63).
مع تطور وسائل الاتصال في المجتمع الصناعي، ظهر أنّ الفن بدوره أصبح وسيلة وليس غاية، أي أصبح يوظف في غير مكانه الطبيعي. وكان هربرت ماركيوز أحد الذين انتبهوا إلى هذا الأمر، حيث رأى أنّ الثقافة الاستهلاكية لا تبقي خارج دائرتها أي مكان للإبداع المتحرر. ولذلك لم يعد الفن متحصنًا في قلاعه القديمة، إذ مع مطلع القرن العشرين بدأت تطفو "ظاهرة عامة تتمثل بـ"انفجار" الجمالية خارج الحدود التأسيسية التي وضعها التقليد الفلسفي" (65). وأضحت تلك الظاهرة تعبر عن نفسها بوصفها "أدوات تحريض اجتماعي وسياسي حقيقي"، دفع باتجاه ازدياد حدة "انفجار الجمالية خارج حدودها التقليدية". وهذه الحدود التقليدية للجمالية ليست شيئًا آخر غير "قاعة الحفلات الموسيقية، المسرح، المعرض، المتحف، الكتاب". بدأ هذا "الانفجار" يشي بإلغاء "الأماكن الموكلة تقليديًّا للخبرة الجمالية"، فأمست البدائل ممكنة عبر انكشاف ملامحها شيئًا فشيئًا من خلال "سلسلة عمليات ـ كفن الأرض، وفن الجسد، ومسرح الشارع.." (65). إلغاء "الأماكن الموكلة تقليديًّا للخبرة الجمالية" لا يعني إلغاء الفن كما قد يتبادر إلى الذهن، وإنّما يعني تجريب خبرة للفن بوصفها "حدثًا جماليًّا كاملاً". وهذا التجريب لخبرة الفن خارج مجاله، أفضى إلى تعميم التجرية الفنية وتسطيحها عبر إغراقها في "ثقافة الجموع". إذ "يمكن الحديث عن تجميل شامل للحياة، بحيث أنّ الإعلام ـ الذي يوزع المعلومات والثقافة والترفيه، ودائمًا تحت معايير "جمالية" عامة (جذب شكلي للمنتجات) ـ قد اتخذ في حياة كل واحد وزنًا أكبر بكثير من أي وزن اتخذه في أي حقبة من الماضي" (67).
الفصل الرابع جاء تحت عنوان "انكسار الكلمة الشعرية"، والفصل استعادة لهايدغر وموقفه من اللغة الشعرية في علاقتها بالوجود. إنّ اللغة الشعرية هي التي تقود إلى الكائن، "كما لو أنّ انكسار اللغة الذي يحدث في الشعر يقودنا "إلى الأشياء عينها". إنّ ما يحصل في اللغة الأصلية ـ أو في لغة الشعر، وهو الشيء ذاته إلى حد ما ـ إنّما هو انتظام الشيء في لعبة التربيع: تربيع الأرض والسماء، المائتين والإلهيين، الذي لا يعطى إلا "دويًّا للصمت"" (78). وانكسار الكلمة في الشعر يحاكي انكسار الكلمة في النبوة، والهدف من وراء ذلك هو إظهار خارطة التربيع والعمل على جلائها. لأنّ هذه الخارطة لا تنجلي مفاتيحها من خلال اللغة الطبيعية التي تنبني على العلاقة بين الأشياء والكلمات، بل من خلال المفاتيح التي تنكسر فيها علاقة الدال بالمدلول تمامًا كما يحدث في الحلم. وهذا ما يفسر كون لغة الشعر ولغة الوحي تلتقيان في كونهما عبارة عن لغة حالمة، نتيجة الكثافة الرمزية للدلائل الطافحة في لغة الحلم المشتركة بينهما.
و لعل ما تذكرنا به لغة الحلم هو موضوع الموت، فنحن نعود من عالم آخر لنتبين أنّنا كنا هناك. هل نحتاج إلى من يذكرنا على الدوام بمصائرنا؟ أيّ لغة بمكنتها أن تفعل ذلك عدا لغة الشعر ولغة النبوة؟ ولهذا ما يفتأ هايدغر يذكر ببيت هولدرلين: "ما يبقى يؤسسه الشعراء". و"ما يبقى يؤسسه الشعراء: ليس لأنّه "ذاك الذي يدوم"، بل على العكس لأنّه "ذاك الذي يبقى" أثرًا، ذاكرةً تذكارًا" (91).
الفصل الخامس جاء حاملاً لعنوان "زخرفة تذكار"، وهو فصل يعيدنا مرة أخرى إلى هايدغر في محاضرته "الفن والفضاء". وقد ورد في خاتمة تلك المحاضرة استشهاد بغوته يقول فيه: "ليس بالضرورة دائمًا أن يتخذ الحق جسمًا، يكفي أن يحوم في الضواحي كروح، ويحدث نوعًا من التوافق مثلما تفعل الأجراس حينما يطوف رنينها صديقًا في الجو، حاملاً السلام" (93). وهذه المحاضرة دشنت لتحول كبير في مقاربة هايدغر لأصل العمل الفني، وهو التحول الذي شهد إعادة اكتشاف المكانية. والاكتشاف المقصود قام فيه هايدغر بتحديد العمل الفني، "كتحقيق للحقيقة". وهذا التحديد الجديد للعمل الفني "من حيث هو تحقيق للحقيقة، وتدشين لعوالم تاريخية، وشعر "دهري"؛ يجري بصورة خاصة على ما يبدو وفق نموذج للأعمال الكلاسيكية الكبرى" (95). وتحقيق الحقيقة هذا لا يتم من خلال الملاءمة أو التوافق الكلاسيكي بين الداخل والخارج، أو بين الفكر والواقع؛ "بل من خلال استمرارية الصراع بين "عالم" و"أرض" داخل العمل" (95).
قبل هذا التحول سبق لهايدغر في حديثه عن أصل الفن أن رأى في جميع الفنون حضورًا لجوهر شعري، سواء تعلق الأمر بفعل الإبداع عمومًا أو بالشعر بوصفه فنًّا للكلمة. بيد أنّ تطبيق التحديد الجديد للنزاع بين عالم وأرض، لم يكن واضحًا في الشعر. وكانت "الأمثلة الملموسة الأكثر وضوحًا، مثلاً مأخوذًا من فنون الفضاء: المعبد اليوناني، وقبله لوحة فان غوغ" (97). يظهر النزاع بين عالم وأرض من خلال قابلية الموضعة (عالم) من جهة، وعدم قابلية الموضعة من جهة ثانية (أرض). ولذلك "فالأرض في العمل، كانت تقدم كما هي. وهذا وحده كان يميز، في نهاية الأمر، العمل الفني عن الشيء ـ أداة الحياة اليومية" (97). بمعنى أنّ الأرض كانت تلعب على الدوام دور الاحتياط في العمل الفني، ومخزونًا لعروض مستقبلية. من هنا استنتج هايدغر معنيين للحقيقة انشغل بالتفكير فيهما إلى آخر كتاباته: "أـ الحقيقة التي تستطيع الحدوث لا تملك سمات الحقيقة من حيث هي جلاء موضوعي، بل تملك سمات "انفتاح العالم".. ب ـ بما أنّ الحقيقة صُورت على هذا النحو، فالفن الذي هو تحقيق لها، يتحدد بمفاهيم أقل تفخيمية مما يُعتقد" (101).
الفصل السادس استنسخ عنوان توماس كون "بنية الثورات العلمية" مع تعديل طفيف اقتضاه المقام هنا، وهو: "بنية الثورات الفنية". ولذلك يطرح فاتيمو في البداية سؤالاً عن مدى مشروعية مثل هذا الاستلهام، يقول فيه: "هل يمكن بناء خطاب، بالاستناد إلى صيرورة الفنون، مماثل لذاك الذي طرحه توماس كون"؟ ثم يجيب على الفور: "يبدو أنّ الحديث عن الثورات الفنية أسهل وأصعب في آن من الحديث عن الثورات العلمية" (105). الحديث عن الثورات الفنية أسهل، لأنّ "تحولات النماذج والقواعد في الفن، على المستوى الإنتاجي والتمتعي، لا يبدو أنّها متوجبة القياس بحكم الحقيقة الأساسي أو بحكم الصلاحية فحسب، الذي ساد النشاط العلمي لعصور، وهو اليوم مازال قائمًا إلى حد بعيد" (نفسه). وعدم خضوع التحولات الفنية للقياس، هو ما جنّب المتخصصين في تاريخ الفن الدخول في مناقشات خلافية تتعلق بجدلية التقدم والتراجع، أو التراكم والاستمرار، كما هو حاصل في تاريخ العلم.
و بالمقابل يبدو أنّ الحديث عن الثورات الفنية أصعب، لأنّ مفهوم النموذج أو "البراديغم" في العلم يخضع لعلاقات وتوازنات لا يقتضيها المنطق العلمي الداخلي الصرف، وإنّما تقتضيها مجموعة من السلط الخارجية التي تفرض نموذجًا معينًا بالقسر والإكراه. أمّا في مجال الفن فإنّ "بزوغ نموذج يتطلب أكثر من فرضه من الخارج وبالقوة، إنّه يتطلب في الواقع نظامًا معقدًا من إقناعات، ومشاركات فاعلة، وتأويلات، وإجابات ليست بشكل حصري وأساسي مفاعيل قوة وعنف؛ وإنّما تنطوي على استيعاب من النوع الجمالي أو التأويلي أو البياني" (107).
أما القسم الثالث فقد جاء تحت عنوان "نهاية الحداثة"، ويدخل تحته الفصل السابع بعنوان "التأويل والعدمية". ومتى حضر مفهوم العدمية فذاك يعني حضور نيتشه، أما حضور التأويلية فهو إشارة إلى حضور هايدغر. نحن إذن أمام قراءة مركبة جمع فيها فاتيمو بين فيلسوفين، فكيف تتقاطع الفكرة التأويلية مع العدمية؟
يعرض فاتيمو هذا التقاطع من خلال الوقوف عند مفهوم العدمية عند نيتشه، ثم تأويلها حسب هايدغر. فـ "العدمية هي الحالة التي "يتدحرج فيها الإنسان ـ كما في الثورة الكوبرنيكية ـ من المركز نحو ال X ". ما يعني بالنسبة إلى نيتشه، أنّ العدمية هي الحالة التي يعترف فيها الإنسان صراحة بغياب الأساس من حيث هو مكون لوضعه (ذاك الذي يسميه نيتشه، بعبارة أخرى، موت الله). وتشكل لاتماثلية الكائن والأساس إحدى النقاط الأكثر صراحة في الأنطولوجيا الهايدغرية كلها: ليس الكائن أساسًا، وكل علاقة تأسيس تعطى دائمًا داخل حقبات الكائن مفردة، لكن الحقبات في حد ذاتها يفتحها الكائن، لا يؤسسها. بل يتحدث هايدغر صراحة في مقطع من الكائن والزمن عن ضرورة "ترك الكائن بوصفه أساسًا"، إذا أردنا التقرب من فكر لم يعد متوجهًا ميتافيزيقياًّ إلى الموضوعانية وحسب" (135ـ136).
يتبين من تقاطع الرؤيتين التأويلية والعدمية أنّ الكائن لم يخسر أساسه وحسب، بل تم نسيانه في تاريخ الفكر الغربي أي في تاريخ الميتافيزيقا. ولذلك يطرح هايدغر مسألة "الاستحضار" بوصفها حلاًّ، يسمح باستعراض تاريخ الميتافيزيقا، أي أهم المراحل "التي تعبر عن ذاتها في أحكام الشعراء والمفكرين". وهذا الاستحضار هو بمثابة "قرار استباقي للموت"، لماذا؟ لأنّ استحضار أهم المراحل التي شكلت تاريخ الميتافيزيقا، يفضي إلى ذوبان "حتمية الآفاق التاريخية التي نوجد فيها". وذلك من خلال البحث في جذور هذا التاريخ، الذي يكشف عن وهم الأسس: كلما توغلنا في الأعماق السحيقة للوصول إلى أساس ثابت، كلما ازداد تدحرجنا نحو اللانهاية. من هنا ينبثق الوعي بمعنى الكائن، وهذا المعنى "هو نقيض المفهوم الميتافيزيقي للكائن بوصفه ثباتًا، قوةً، طاقةً؛ إنّه كائن ضعيف، متهافت، ينبسط في التلاشي" (139). ينبثق من هذا الوعي نوع من "الاستذكار" لوضعية الإنسان في الوجود، وضعية بدون هالة أسطورية، تضع الكائن وجهًا لوجه أمام مصيره. إنّه كائن زائل ينتظره الفناء، وعليه أن يمتلك الشجاعة من أجل "القفز في هوة قابلية الموت".
أما الفصل الثامن فقد جاء بعنوان "الحقيقة والبيان في الأنطولوجيا التأويلية"، والفصل يستحضر غادامير من خلال كتابه الشهير "الحقيقة والمنهج" وتوظيفه للتأويلية الهايدغرية في فهم علاقة اللوغوس (العقل) بالفن. فإذا كان العقل في مجال العلوم يخضع لمنهجية خاصة جدًّا، فإنّه في مجال الفن يقترن بنوع من البيان الذي يتخذ من اللغة الجمالية منهجًا. كما أنّ لغة العلم لا يمكن تعميمها على الجمهور، في حين أنّ الفن لا يضع أيّ حواجز بينه وبين الجمهور. وهذا الاختلاف هو الذي يطرح بحدة مسألة الحقيقة، وتباين وظائفها وأدوارها بين المجالين. فالعلاقة في مجال الفن هي علاقة بين الحقيقة والبيان، في مقابل العلم الذي تقوم فيه الحقيقة على علاقة تربطها بالواقع أو بالاستدلال. لتوضيح العلاقة بين الحقيقة والبيان، يقترح علينا فاتيمو الفهم التالي: "نفهم البيان هنا، بالمعنى الأشمل والأعم الذي يقصده غادمير أيضًا، على أنّه فن الإقناع بوساطة الخطابات. ولا شك في أنّ جلاء الإقناع وقوته اللذين بهما يفرض تراث الوعي المشترك ذاته، الجمال، هو جلاء بياني النوع". وفي هذا السياق يستشهد فاتيمو بما كتبه غادمير: "المصور والمحتمل والجلي، ينتمون إلى سلسلة مفاهيم تقر بشرعية خاصة بها، مقابل حقيقة وثبوت ما هو معروف ومبرهن". ثم يعلق قائلاً: "فالحقيقة التأويلية، أي خبرة الحقيقة التي يرجع التأويل إليها ويراها متمثلة في خبرة الفن، هي بيانية بشكل أساسي" (155).
الفصل التاسع جاء بعنوان "التأويل والأنثروبولوجيا"، وفيه يتم استحضار كتاب رورتي "الفلسفة ومرآة الطبيعة" على الخصوص. وفي هذا الكتاب ينتقد رورتي "النموذج التأسيسي للفلسفة الغربية" الذي يسعى للمماثلة بين الفلسفة والإبستيمولوجيا، في حين يبقى التأويل في الطرف المقابل لهذه المماثلة. يوضح فاتيمو هذا التقابل بالطريقة التالية: "تتأسس الإبستيمولوجيا على فرضية أنّ جميع الخطابات تقاس بعضها ببعض وتترجم فيما بينها، وأن تأسيس حقيقتها يكمن تحديدًا في الترجمة إلى لغة أساس، لغة انعكاس الوقائع؛ في حين أنّ التأويل يقر بأنّ لغة موحدة كهذه لا تعطى، بل يجدّ السعي إلى استيعاب لغة الآخر بدل أن يترجمها إلى لغته. فالتأويل يشبه قليلاً التعرف إلى شخص، أكثر مما يشبه متابعة برهنة مبنية منطقية" (172).
يستشهد فاتيمو بما ورد في كتاب رورتي السابق الذكر، قصد المزيد من الإيضاح بخصوص الفرق بين الإبستيمولوجيا والتأويل. يقول فاتيمو في ذلك الاستشهاد: "نكون إبستيمولوجيين هناك حيث نفهم تمامًا ماذا يحصل، لكنّنا نريد قوننته بغية مده وتدعيمه وتعليمه وتأسيسه. ونكون بالضرورة تأويليين هناك حيث لا نفهم ماذا يحصل، لكنّنا نتصف بالصدق كي نقر بذلك" (نفسه). يعود التأويل في جذوره إلى علاقة التفسير بالكتب المقدسة، وإلى محاولة ترجمة لغة الوحي إلى اللغة البشرية. وهذا يعني الالتقاء بين ثقافات مختلفة، لأنّ لغة الكتاب المقدس تختلف عن لغات الشعوب والحضارات التي انتشر فيها البلاغ. وبذلك حصل نوع من الانصهار بين التأويل من جهة، والأنثروبولوجيا الثقافية بوصفها لقاء مع الثقافات الأخرى من جهة أخرى. وبدا أنّ التأويل أخذ ينحل في الأنثروبولوجيا، تحت ذريعة الغيرية الجذرية. بيد أنّ الأنثروبولوجيا بدورها لم تعد تمسك بزمام الغيرية، في ظل عملية تغريب (أو غربنة) شاملة للعالم. وهكذا تصبح "الخبرة التي يمارسها التأويل مع الأنثروبولوجيا.. خبرة مخيبة تنتج نضجاً. فالتأويل يبحث عن الأنثروبولوجيا من حيث هي خطاب للغيرية الجذرية، لكن الأنثروبولوجيا في الواقع لا تؤوَّل (لم تعد تؤوَّل) على أنّها هذا المكان للغيرية، وتظن نفسها على أنّها جانب داخلي لمسار الغربنة والمطابقة العام" (181).
وأخيرًا جاء الفصل العاشر تحت عنوان "العدمية وما بعد الحديث في الفلسفة"، وهذا ما سيعيدنا إلى نيتشه في البداية وفي النهاية. بيد أنّ استعادة نيتشه تستتبع بالضرورة الحديث عن هايدغر، سواء تعلق الأمر بالعدمية أو بما بعد الحديث (ما بعد الحداثة). وما بعد الحداثة في الفلسفة يختلف ـ في نظر فاتيمو ـ عن نظرائها في الأدب والهندسة المعمارية والنقد.. إلخ. والخصوصية التي يكتسيها الحديث عما بعد الحداثة في الفلسفة، لا يمكن إدراكه ـ وفق هذا المنظور ـ سوى من زاوية هايدغرية خالصة. فالمصطلح الذي يستخدمه هايدغر للتعبير عن تلك الخصوصية هو "التعافي"، وهو مصطلح "يشير إلى شيء مشابه للتجاوز، التجاوز أو التخطي، لكنه يتميز عنه لأنّه لا يحتوي على شيء من الإبطال الجدلي، ولا من "الترك خلف الظهر" الذي يميز العلاقة مع ماض لم يعد لديه شيء يقوله لنا. فالفرق بين التعافي والتجاوز هو تحديدًا ما يستطيع أن يساعد على تحديد الـ"ما بعد" في ما بعد الحديث بتعابير فلسفية" (189).
لكن "التعافي" يعود ـ من حيث مضمونه ـ إلى نيتشه، فهو الذي رأى في مسألة الغلو التاريخي الذي سيطر على ذهنية القرن التاسع عشر، مرضًا لا يمكن التعافي منه سوى بالأسطورة والفن. والتعافي من هذا الغلو لن يتم بالنقد، "فمن الحداثة لا يكون الخروج عبر تجاوز نقدي، ما قد يشكل خطوة تبقى كلها داخل الحداثة نفسها. ويتضح هكذا أنّه من الواجب البحث عن طريق مختلف: هذه هي اللحظة التي يمكن تسميتها ولادة ما بعد الحداثة الفلسفية" (193).
خلاصة وتقويم
هذا الكتاب عميق في جوهره، وهو غير موجه لعموم القراء بل للخاصة منهم. لأنّ قراءة الكتاب تتطلب مداخل محددة، والولوج إلى النص يصبح متعذرًا ما لم يهتد القارئ إلى الأبواب المفضية إليه: نيتشه، هايدغر، غادمير..إلخ.
أما بخصوص الترجمة، فالمترجم ـ بحكم التخصص ـ نقل المعنى اللغوي العام. بيد أنّ المعنى الفلسفي يظل أحيانًا منفلتًا من قبضته، لأنّ الأمر يتطلب معرفة دقيقة بالمصطلح الفلسفي. وما لم يتم الإلمام بذلك المصطلح، سيتم السقوط في الارتباك والاشتراك. للوقوف على مثل هذا الخلل المفهومي، يمكن إيراد بعض الأمثلة فقط: اختار المترجم مصطلح التجاوز بدل التعالي مقابلاً للمفهوم الفلسفي "Transcendantal"، والإبطال الجدلي بدل النفي مقابلاً لـ Négation، والكائن والزمن بدل الكينونة والزمن (عنوان كتاب هايدغر)، والفرق والتكرار بدل الاختلاف والتكرار (عنوان كتاب دولوز)، والاستحواذ بدل التملك.. إلخ.
ولذلك يحتاج الكتاب ـ في رأيي ـ إلى ترجمة مزدوجة، يقوم بها متخصصان: أحدهما في اللغة، وثانيهما في الفلسفة.