نيقولاي برديائيف عندما يصبح الوجود هو الحرية


فئة :  مقالات

نيقولاي برديائيف عندما يصبح الوجود هو الحرية

نيقولاي برديائيف*

عندما يصبح الوجود هو الحرية

«الإنسان كائن يحيا في أبعاد متعددة»

نيقولاي برديائيف، من كتاب الحلم والواقع، ص13

برديائيف فيلسوف العزلة والحرية

تمنح الحروب والكوارث التي يمر بها العالم إحساساً بمسؤولية الفيلسوف ورسالته الكونية، وهذا الإحساس العميق هو ما يؤرق الفيلسوف في البحث عن معنى أصيل يربط الإنسان بعالم مجرد. عادة ً ما تشير بعض الدوافع الأولية في حياة الإنسان إلى البحث عن المعنى، والبحث عمّا هو أبدي؛ فالعواطف التي تمسك بالعالم وتمزقه في الوقت نفسه هي عواطف تجعل العالم جديراً بالتجربة والمعرفة.

حتى لو لم يكن هناك معنى، فإن مجرد البحث عن معنى كفيل بأن يجعل الحياة ذات هدف ودلالة. ومن هنا يرى الكاتب والفيلسوف الوجودي الروسي نيقولاي برديائيف أن الإنسان الذي يصل إلى اعتقاد يتعلق بمعنى الحياة، معناه أنه وصل إلى حالة من الوجود مشحونة بذلك المعنى.

فالمحن والعذابات والعواصف التي تجتاح الوجود الإنساني تضع البشر في مواجهة سر الحياة اللامعقول؛ والعالم الذي يشكل مصدر عذاب للإنسان، عالم يصنع هلاكه بنفسه، لكنه مع ذلك يضيء دائماً، ويضفي المعنى على الفجيعة.

الاغتراب الأصيل وبداية التفلسف

شهد برديائيف اللحظات المصيرية التي عانتها أوروبا في الحرب العالمية عام 1940، من انهيارات وأحزان ودماء مُراقة، وشهد على هذا العالم وقسوته التي حوّلت الإنسان إلى دمية محطمة تحت وطأة ضرورات لا ترحم، فكان الإنسان مسحوقاً ومشلول الإرادة، حيث وجد برديائيف نفسه مدفوعاً إلى تأمل الموت كحدث له دلالته الأساسية في الوجود والوعي الإنساني، حتى حياة برديائيف نفسها لم تكن خاضعة للحكمة والتعقل، وكان يدرك طبيعتها اللامعقولة التي لا يمكن التنبؤ بها، عانى برديائيف في حياته من الفزع والقلق الوجودي، وفترات نشوة مفرطة تلتها فترات من الكآبة والشعور بالضيق، لكن السؤال الذي ظل يراود برديائيف هو سؤال نابع من تأمله الباطني في الإنسان والأشياء، ألا يمكن أن يمتلك الإنسان واقعاً أصيلاً، ألا يمكن لطبيعة الأشياء نفسها أن تعلو على العالم المنكوب؟

إن تجربة الشر والعذاب تدفع الإنسان إلى أن يعلو على هذا العالم، وأن يكتسب معرفة جديدة، يقول برديائيف: «إن كل معرفة هي مؤلمة، وبزوغ الوعي يعني نهاية حالة البراءة والسذاجة الأولية عند الإنسان»[1].

وهذا ما سنلاحظه في حياته التي شهدت تحولات فلسفية ومعرفية؛ فبالرغم من انتمائه لطبقة برجوازية من الأعيان الروس، إلا أنه اعتنق الاشتراكية والأفكار الماركسية في فترة من حياته، وبهذا الصدد يذكر في كتابه «الحلم والواقع» الذي كان بمثابة سيرة فكرية وذاتية، أن الدافع الثوري قد انبثق عنده نتيجة عجز فطري عن الخضوع لنظام العالم والانصياع لمطالبه، ولهذا الدافع دلالة شخصية في الدرجة الأولى؛ إذ نرى برديائف معنياً بثورة الشخص الإنساني، لا بثورة الشعب أو الجماهير، فالثورة الحقيقية موضوعها الذات الإنسانية، والثورة الشخصية وحدها من تستحق لقب ثورة[2].

لم يكن الوضع أحسن حالاً بعد تحول برديائيف إلى النزعة الذاتية المؤمنة، وانضمامه الصريح إلى حركة التجديد والإصلاح في الكنيسة الروسية. كان برديائيف يشعر باختناق روحي في التجمعات التي تختصر الإنسان إلى موضوع أو فكرة، وينسحب هذا أيضاً إلى الدين الذي تجرد من عالمه الروحي المستقل، وتحول إلى ظاهرة اجتماعية تخضع للابتذال وحكم المعايير السائدة. بدأت الغربة تعلن نفسها بوضوح في أعماقه، وعانى كثيراً من عدم اندماجه في أي حشد منظم ومبرمج، كان الاغتراب هو البداية الحقيقية للعزلة عنده لاكتشاف ما تحويه الشخصية من حرية ومن فعل روحي خلّاق، وهذا الفعل الروحي ليس مجرد عوالم باطنية وشطحات صوفية، وإنما يجب أن تحقق هذه الروح نشاطها في المجتمع والتاريخ والإنسان.

الحرية والتمرد

يرى برديائيف أن الحرية سابقة لكل وجود، والحرية هي التي تنشأ من الاختيار ومن النشاط الروحي الخلّاق الذي يتجه إلى الوجود بأكمله، ولا ينكفئ على الذات، وكل حقيقة يجب أن تكون صادرة عن الحرية، والحرية هي أن يكون الإنسان واقعاً في قلب المأساة، وأن يتقبل الألم بروح شجاعة؛ فأغلب الناس يتنازلون عن الحرية، لتخفيف أعبائهم، والهروب من آلامهم، كما يقول دوستويفسكي.

ومن هنا يرى برديائيف إن كل حشد منظم أو في سبيله إلى التنظيم هو معادٍ للحرية، وميال إلى إنكار الشخصية الإنسانية[3].

فالحرية تستمد وجودها من الأبدي واللامتناهي، هي الروح التي لا يحددها شيء سوى الإنسان من داخل نفسه، وأن يكون هو نفسه، والوجود هو الحرية معتقلة ومجمدة، وهذا ما يقودنا إلى مفهوم جدلي للحرية يتجلى في مصير الإنسان والعالم.

أما التمرد، فيرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرية؛ فكل تمرد ينطوي على ميل شديد للحرية، ويشير برديائيف أن المرء لا يمكن أن يتمرد دون الرجوع إلى قيمة نهائية يحكم بها على ما اعتزم معارضته، وباسم هذه القيمة يتمرد.

كان برديائيف متمرداً حقيقياً، وربما فوضوياً إلى حد كبير كما نعته بعض الفلاسفة والسياسيين، لكن هذا التمرد لم يسمح لبرديائيف بالانخراط في الإرهاب الثوري، بل كان تمرده على العالم ونظامه المذل، وهذا التمرد ليس ارتداداً إلى العالم، ولا خضوعاً لمطالبه، وإنما تمرد الروح والشخصية على العنصر الجماعي.

فبرديائيف لم يرَ في نفسه متمرداً على الله؛ فالإنسان لا يتقبل الفكرة العميقة عن الله دون أن يحمل على عاتقه أحزان البشر وآلامهم.

إن التمرد قبل كل شيء هو احتجاج ضد لا معقولية العالم، وضد وجود يتسم بالنقص أو الحرمان.

إذن، فمنبع التمرد على الله ينشأ من عدم قدرة الإنسان على الاعتراف بأفكار الناس عن الله وعقيدتهم به.

حتى العقيدة الوحشية عن آلام الأبدية، وعن عذاب السعير والجحيم، ليست سوى أفكار بشرية وإسقاطات للغرائز العنيفة في مجال الدين[4].

الروح والفلسفة الوجودية

تُعد فلسفة برديائيف من الطراز الوجودي؛ إذ تتقاطع الكثير من مفاهيمه عن الإنسان الفرد، مع مفاهيم المذهب الوجودي وأقطابه الممثلة في كيركيغورد وهايدغر، وسارتر، لكننا نلاحظ هيمنة كيركيغوردية على كثير من أفكاره إن جردناها من النزعة الثيوصوفية والتأملية.

على الرغم من ذلك، فإن برديائيف لا يعتبر نفسه فيلسوفاً وجودياً، بل يرى في القديس أوغسطين وباسكال وكيركيغورد ونيتشه ممثلين حقيقيين للفلسفة الوجودية، أكثر مما يمثلها سارتر وهايدغر وياسبرس، الذين اختصروا الإنسان إلى أداة موضوعية أو ذات مجردة في مقولاتهم عن الوجودية.

فبرديائيف وجودي؛ لأنه يؤمن بالفرد، وبتجليات الكلي في العيني للشخص العارف والموجود، وهو يرى أن حياة الإنسان تمزقها التناقضات التي يجب أن تواجه وتبقى في توترها، لذا فالفلسفة كما يقول: «هي الكشف عن الطبيعة الأصلية للذات نفسها، وهي تجربة روحية تنبثق من الحياة المتكاملة للروح»[5].

العزلة والقلق

يُعرّف برديائيف القلق بأنه سر يشير إلى العالم الأعلى، ويرتبط بالتفاهة وانعدام الأمان في هذا العالم، والقلق هو شوق إلى عالم آخر، وهو هوة سحيقة بين اللاوجود وبين المتعالي، وهذا هو القلق الأصيل الذي يحمل في طياته شوقاً إلى الأبدية. وقد ينشأ هذا القلق في أقصى حالات البهجة والسرور عند الإنسان. وهناك قلق الليل الساكن الذي يتحول إلى جزع، ويصفه برديائيف بأنه قلق يمتاز بعمق وعلو، ولا تستطيع أي لغة إنسانية أن تنقله أو تعبّر عنه.

إن الحياة في أبعادها الزمنية تنطوي على عنصر من القلق، فنحن عندما نواجه المستقبل لا يحركنا الأمل وحده، بل القلق أيضاً؛ لأن المستقبل قد يحمل الموت بين طياته في نهاية الأمر. وهذا القلق الزماني قد لا ينشأ من الضعف، بل من فائض القوى غير المتحققة، ومن الشكوك وعدم التأكد في إمكانية تحقيقه، وهذا هو القلق الزائف أو غير الناضج كما يسميه برديائيف[6].

القلق الأصيل والإبداع

إن ما يُعرف بالحياة هو تجسيد لِما هو مبتذل، وهو الذي يسيطر على هموم الناس والوجود اليومي، ولكن المتعالي حاضر في الحياة الإنسانية ويفعل فعله في الوجود الإنساني، ويتبدى في الأحلام والرؤى وأفكار الذاكرة.

ينشأ القلق في غسق الحياة وضبابها، ثم لا يلبث أن يدفع الإنسان نحو المتعالي، والنشاط الإبداعي هو حركة الروح نحو هذا المتعالي الذي تكتسب فيه جميع الأشياء عمقاً ومعنى، وتساعد الإنسان في التحرر من ضغط المؤثرات الخارجية[7].

إن الفن والحب والتجربة الدينية العميقة هي قيم تعلو فوق عالم التفاهة والابتذال، لكنها تحيا في القلق وتضرب عميقاً في مأساة الحياة وسرها الذي تصوغه العوامل الإلهية، وهنا تكشف الروح عن حريتها وفعلها الخلّاق في القفز من الزمان المتناهي والغوص عميقاً في الأبدية.

سيمياء العالم الباطني.. والروح الخالقة

لم يحظَ نيقولاي برديائيف بالمكانة التي حظي بها أقطاب الفلسفة الوجودية؛ كهايدغر، وسارتر، وكيركيغورد، ولم تسلط الأضواء على أفكاره العميقة بطريقة كافية؛ ربما بسبب ضبابية عدد من مفاهيمه التي تتجه إلى أن تكون شفرات ورموز لفك المجاهيل المستعصية في النفس البشرية، لكن قراءة برديائيف وفهمه تتطلب من المتأمل قراءة حدسية ذاتية ضمن التصور الإنساني لرؤية العالم، وعلاقة هذا العالم بوجداننا وأعماقنا الخفية.

فالأنا والشخصية عند برديائيف هما عالم قائم بذاته، عالم يخلق المعنى ويصل بمصير الإنسان إلى حدوده القصوى، ومن هنا يؤكد على ذاتية الفيلسوف وتجربته الخاصة؛ فالفلسفة يجب أن تحمل شخصية الفيلسوف الذي أبدعها، وفي اختياره لنمط أو لآخر من أنماط الفلسفة، لكن الفلسفة الحقيقية تكمن وراءها رغبة مضنية لتحقيق المعنى في عالم يعتريه التفكك والتحلل.

لذا، يعمل الفيلسوف على تحرير الإنسان من نزعة وجوده الذي يتسم بالنقص، وأن يعكس صورة الوجود الأعلى الكامنة فيه. ومن هذا المنطلق، يرى برديائيف أن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية طالما أن معرفتها بالوجود مستمدة من الإنسان[8]؛ إذ يؤكد على العالم الداخلي عند الفرد وعلى وجود طبقات مستترة خلف عالم الظواهر والأشكال، ويرى أن الاستبصار والرؤى يمنحان الفيلسوف الكشف والإبداع، فحتى الفلسفات التي صنفت على أنها موضوعية أو علمية لم تخلُ من نشوة عاطفية أو نزعة صوفية.

إن العالم الموضوعي عند برديائيف يعبّر عن درجة معينة من الحقيقة، وعلى حالة من الوجود، ويكون نتيجة لنشاط الذات الخالقة.

أما العنصر الفعّال الذي يكشف عن المعنى في ميدان العلم الطبيعي، والعلم الروحي، فهو الحدس الذي يُعد ماهية النشاط الخلّاق في أعماق المعرفة، وهو انبثاق المعنى من مناطق الوجود المظلمة.

المعرفة الباطنة والذات العارفة

قامت نظرية المعرفة على عنصر التناقض الصارخ بين الذات الإنسانية والعالم، هذا التضاد القائم بين الذات والموضوع هو من أعطى لنظرية المعرفة صيرورتها الدائمة، لكن المعرفة عند برديائيف ترفض أن يكون الإنسان من معطيات العالم الخارجي، فالإنسان كما يقول: «هو الروح المحققة لنفسها في الطبيعة، وهو التعبير المباشر عن صدمة الروح لطبيعة الإنسان الجسدية»[9]. لذلك، يجب أن تكون الذات والوجود شيئاً واحداً، والإنسان يعجز عن فهم الحياة فهماً عقلياً موضوعياً؛ لأن الموضوع لا يمكن أن يكون له معنى إلا بما تضفيه عليه الذات الروحية، فكل معنى لا يُكشف إلا داخل الأنا، ولا يقاس إلا بمقياس الأنا؛ فالمعرفة عند برديائيف تصهر الذات والموضوع في نظام الروح الخالقة والكاشفة عن المعاني، أما المعرفة فهي حدسية وذات صفة علائقية بين الأنا والذوات الأخرى، وبين الأنا والأشياء في العالم الخارجي، كما أن الإحالات الموضوعية المقتصرة على تفسير الظواهر العلمية لا تنفصل عن الاتصال الروحي للذات العارفة، لكن المعرفة يجب أن تعلو على الإحالات الموضوعية، وأن تستبطن أغوار الوجود؛ فالمعرفة باطنة قبل كل شيء ولا يمكنها أن تخضع لتفسيرات العقل والمنطق، ولا يمكنها أن تكون اجتماعية أيضاً، لكن كيف يمكن للإنسان أن يحقق التواصل مع الوجود الباطني؟

يشير برديائيف إلى شبكة أسرار لا يمكن التماسها إلا بالنهج الغنوصي، وما توفره لنا المخيلة من رموز واستعارات، فحسب برديائيف هناك في أعماق الوجود منطقة لا يمكن أن تصلها المعرفة، ولكن يمكن أن تنيرها، والمعرفة لا تعكس أو تصور، بل وظيفتها أن تبدع وأن تكون خالقة[10].

ويرى أن أي لون من ألوان الوجود فيه أعماق شاسعة ولا تنفذ إليه الذات إلا بالعلو، ومن ثم يسمي هذه الذات بالذات العارفة.

إن الذات العارفة صفتها وجودية بالدرجة الأساس، وذاتيتها المتطرفة ليست زائفة أو مضادة للحقيقة، بل ربما تصل إلى الحد الأقصى من الحقيقة، والذات العارفة هي نشاط خلّاق يعمل على إقامة العلاقة بين المعرفة كأداة للمجتمع الموضوعي، وبين المعرفة كوسيلة لتحقيق الاتصال الروحي الوجودي.

لا ينكر برديائيف نظريات العلم ولا العالم الموضوعي القائم على القوانين العقلية والاستنتاجات المنطقية، لكنه أراد أن تكون هناك معرفة شاملة لكل المعارف العقلية والإدراكية والروحية، حيث تصبح تلك المعرفة موحدة تستطيع أن تنقل الإنسان خارج التقسيم الزماني والمكاني وإلى بُعد آخر من وجودنا المادي والمحسوس.

الأنا والعزلة

يُعّرف برديائيف الأنا «بأنها بدائية ولا يمكن أن تستند إلى شيء أو تحيل إلى شيء، وهذه البدائية عند الأنا ضاربة جذورها في الوجود، والوعي كامن فيها مثل اللاوعي تماماً»[11].

والأنا هي الوحدة القائمة بماهيتها، رغم العالم المتغير، وهي القادرة على الاحتفاظ بذاتيتها، رغم الألم المرتبط بالوعي الذاتي، والأنا تتهددها العزلة والشقاء بسبب قوانين العالم الموضوعي، وخضوعها للتغييرات الجزئية داخل الزمن، وتنبع المعاناة من الأنا عندما تدرك وجودها المادي والفاني.

الأنا عالم قائم بحد ذاته، وهي فريدة ومميزة، وتعتبر حياة الإنسان تعبيراً عن الأنا في علاقته التي تفترض وجود الآخرين، والعالم ووجود الله.

لا يدرك الإنسان أصالته وتفرده، إلا عندما يكون وحيداً؛ فالوحدة في العزلة تكشف عن كل ما هو جوهري وأصيل في الإنسان، والعزلة هنا ليست تلك القطيعة المتطرفة عن الإنسانية، لكن العزلة بوصفها ظاهرة اجتماعية، والتي تنشأ نتيجة الضغط الذي يفرضه العالم الخارجي على الشخصية لتحويلها إلى موضوع. فتصبح العزلة ملاذاً للاتصال الروحي الوجداني بين الإنسان وذاته، أو بينه وبين الحيوانات أو حتى مع مظاهر الطبيعة كالجبال والأنهار والغابات، والتي يستطيع الإنسان أن يقيم معها ذلك الرابط الروحي، وأن يحبها ويناجيها في سره.

كذلك الحال مع الله الذي يتجلى في الأشياء وفي العالم الباطني عند الإنسان، بهذا تتحول المواضيع إلى ذوات واعية، ما يفضي بالمتأمل إلى رؤية الكائنات والوجود برمته بوصفه أنا وأنت، وليس مجرد أشياء ومواضيع.

إن المعرفة الباطنية التي تخلقها العزلة؛ تجعل الإنسان يحفر في طبقات لوجود لينير ظلمته، وتهيئ له القدرة على معايشة الانفعالات العارمة؛ فالحياة التي تضفي على الفرد شعوراً بالأبدية؛ تمنحه نبوءة العظماء والقديسين؛ لأن ذاته العارفة قد بلغت حريتها القصوى وتاخمت حدود الأبدية في الزمان.

المجتمع والاتصال الروحي

إن الإنسان الذي تنضج في أعماقه الحياة الروحية يتوق إلى الخروج من عزلته، ليدخل في اتصال روحي مع أنا أخرى، والأنا الأصيلة تكشف عن نفسها في عزلتها، فتبحث عن انعكاس صورتها في مرآة الذوات الأخرى التي تشبهها.

ليس من السهل على الإنسان الذي عانى في عزلته، أن يجد ذواتاً تشاركه المخيلة والعاطفة الروحية؛ فالمجتمع مازالت تسيطر عليه النظم العقلانية والمادية، ولكي تتحقق الشخصية يجب أن تكتسب الحرية، وأن تتخلص من كل قيد خارجي، كالدولة، والدين والأيديولوجيا، هنا يدخل الإنسان في حالة من الحذر كي لا يصطدم بآلات اجتماعية تحيا وجوداً ميكانيكياً لا يخلو من التفاهة والصراع المبتذل، عندها يشعر ذلك الذي شيد عالمه الروحي في عزلته بأنه في عزلة تبعث على الحزن والاكتئاب الشديد، فينشأ الاغتراب بينه وبين الآخرين، ويتعمق انفصاله أكثر عن المجتمع.

يفرق برديائيف بين المشاركة الاجتماعية التي يعتبرها شيئاً واقعياً ويكون اتصالها بالعالم العقلاني الموضوعي، وبين الاتصال الروحي الذي يتم عبر الرموز والمخيلة، وأولى علامات هذا الاتصال يكون عن طريق الإدراك الحدسي للعالم الروحي لأنا أخرى، وهو ما يعادل الاتصال الروحي بها.

إن بعض الملامح التي نراها في بعض الأشخاص والتعبير الذي نلمحه في أعينهم، هو بمثابة كشف روحي لأعماقهم. ونستطيع أن نستمد معرفتنا وإدراكنا لحياة شخص من الذي يحاول أن يخفيه عن نفسه لا بالذي يبوح به، وقد يكون الحب إحدى الطرائق الوجدانية التعاطفية التي تنشأ عن طريق الإدراك لحياة الآخر الروحية[12].

عندما يكون الحب ناتجاً من الاتصال الروحي، فإنه يصبح أقوى من سلطان الموت، والانتصار على الموت يعني الاعتراف بسره وانجلاء كل خوف منه؛ فالحب كما يرى برديائيف هو حلول مملكة الله في الجسد، والانتقال إلى بعد آخر من الوجود يتميز عن العالم ويعلو عليه[13].

الزمان والحاضر الأبدي

يصبح الوجود برمته زمانياً عندما نعاني ونقلق، وعلى هيئة الزمان نعاني مصيرنا؛ فالفلسفة الوجودية تفسر الزمان على أنه مشكلة المصير الإنساني.

يوجد الزمان لأن هناك فعلاً خالقاً وحركة دائمة في العبور من العدم إلى الوجود، فالتغيير هو الذي يجلب الزمان وليس العكس.

أما الزمان في العالم الموضوعي، فهو مصدر البؤس عند الإنسان؛ لأنه مرتبط بالموت والتحلل والفناء، لكن الذاكرة وحدها من تستطيع أن تدرك سر الزمان، وأن تثبت تناقضاته في اللحظة التي يصبح فيها نوعاً من الأبدية الممزقة، وهذه الأبدية تملك حاضرها المستمر في الذاكرة، فهناك حاضر الماضي، وحاضر الحاضر، وحاضر المستقبل.

إن عوالم الإنسان الداخلية تتحكم فيها غرائز الإبداع، والحرية المقترنة بالنشاط الروحي؛ فأفعال الروح هي من تولد الزمان، والماضي الذي يعيش في ذاكرة الحاضر ماضٍ مختلف تماماً، وليس مجرد بعث للماضي، إنما هو تجديد خلّاق وتحويل مبدع تم إدخاله في حاضرنا، لأنه تسامى فوق زمانيته وتجاوزها، فالماضي الذي لم يوجد في الذاكرة، كأنه لم يحدث أصلاً ولم يُخلق في حياتنا، لذا لا يمكننا التعامل معه؛ لأنه يكتسب صفة العدم أو اللاوجود.

هناك لحظات امتلاء ومعنى تنيرها الذاكرة لأجزاء من حياة الإنسان المنعزلة، وتساعده أن يحيا رؤاه الداخلية، وأن يسمو فوق آلامه[14].

إن الروح بنشاطها الخلّاق تستطيع أن تعلو على الزمان، وأن تجعل الأبدية حاضرة فيه، من خلال قوة اللحظة الراهنة؛ فلا شيء سوى هذا الحاضر الأبدي الذي يربطنا بنقاط الزمان الثلاث، واللحظة الراهنة هي شعاع الأبدية الذي ينجلي أمام الذات، وينكشف من ظلمة الوجود وأعماقه السحيقة.

[1] - نيقولاي برديائيف، الحلم والواقع، مصدر سابق، ص293

[2] - المصدر نفسه، ص116-117-143 (بتصرف).

[3] - نيقولاي برديائيف، الحلم والواقع، مصدر سابق، ص62

[4] - المصدر نفسه، ص62-65-66 (بتصرف).

[5] - المصدر نفسه، ص98

[6] - المصدر نفسه، ص 52-53-54 (بتصرف).

[7] - المصدر نفسه، ص ص54-55 (بتصرف).

[8] - نيقولاي برديائيف، العزلة والمجتمع، مصدر سابق، ص40

[9] - نيقولاي برديائيف، العزلة والمجتمع، مصدر سابق، ص148

[10] - المصدر نفسه، ص ص 64-65

[11] - المصدر نفسه، ص ص89-90

[12] - نيقولاي برديائف، العزلة والمجتمع، ص 105-106

[13] - المصدر نفسه، ص 177-179 (بتصرف).

[14] - المصدر نفسه (بتصرف)، الصفحات: 121، 123، 126، 131، 133، 137، 138 ھ. تتمحور أفكار كامو حول نقطتين مركزيتين وهما: العبث أو اللاجدوى ويتخذ كامو من أسطورة سيزيف الإغريقية رمزاً للإنسان الذي يحيا حياة بلا جدوى ويشقى فيها بلا أي طائل أو معنى، ما دام الإنسان محكوما بالعدم والموت في نهاية المطاف. أما النقطة الثانية وهي التمرد، ويمثل التمرد القيمة الأسمى التي تعطي معنى لحياة اللاجدوى عن طريق الرفض والاحتجاج ودراما الصراع التي تعلو فوق العدم وعبثية الوجود. كان كامو رياضياً بارعاً فقد مارس السباحة وكرة القدم، ومما ينقل عنه أنه قال: «كل ما أعرفه من أخلاق أدين به لكرة القدم». حصل كامو على جائزة نوبل عام 1957، وتوفي إثر حادث سيارة مؤسف عام 1960