هـرمينوطيقا الاختلاف
فئة : مقالات
هـرمينوطيقا الاختلاف[1]
حول اليومي والعادي
عمارة الناصر[2]
إنّ الدرس الفلسفي الأهم، الذي ورَّثه فلاسفة الاختلاف (هايدغر، دريدا، دولوز، ليوتار، فوكو، فاتيمو..)، هو أنّ الفعل المعرفي الذي يتضمّن إقرار الحكم وإثبات الكينونة ليس له قاعدة زمنية، ما لم يكن مسكوناً بأوّالية الدفع بالكوجيتو إلى الخروج من دائرة مُطلقِ الذات والإنسان والكلّيانية لمواجهة التناقضات التي تنشأ من الفروق والاختلافات التي تبرز في الأشكال الأنطولوجية التي يستند إليها، وهي الأشكال التي يتغذّى منها تعدّد الآراء في السياسة والدين والأخلاق؛ وهو ما يعني دخول الكوجيتو في مواجهة بين حالته الأنطولوجية التي استأنف بها العقل وجهة التفكير التي لم تنعطف إلا عبر مسار التأويل، وصيرورته التاريخية التي ترتّبت عليها مراجعة وضعيّة الذات نفسها التي ظلّت محافظة على تماسكها بفضل شرط وجودها إلى أن تقاسمت ذاك الشرط مع كينونتها المتكلّمة وكينونتها الفاعلة مُذْ بدأ الانشطار الهايدغري بين الكينونة والكائن.
إن تأويل الاختلاف أو وضع مقولة الاختلاف داخل منظور هرمينوطيقي يعني عدم السماح بتحوّل الاختلاف نفسه إلى مقولة متعالية وجوهرية ولا تاريخية، إذ كل تأويل هو حماية للتفكير من عنف المسار المفرد والخطّي؛ حيث إن هذا التأويل سيقطع رابطة «الانتماء» التي تتحصّن داخلها خطابات فلسفة الاختلاف التي تتبع مسارات من الداخل إلى الخارج في شكل ثنائيات (الهويّة/الاختلاف)، (المطابق/المغاير)، (الوحدة/التعدّد)؛ ولأن ضدّ الاختلاف ليس الهوية بل اللااختلاف فهذا يعني أن الهوية جزءٌ من الاختلاف نفسه كما أن التفكير في اللااختلاف هو التفكير في الاختلاف نحو الداخل، وهذا ما تبرّره عودة الذات إلى صلب الدائرة الهرمينوطيقية بين الاختلاف واللااختلاف في شكل السؤال النقدي: مَن يختلف؟
إن فلسفة الاختلاف هي أثر خطابي لصدمة نيتشه التي تولّد عنها خوفٌ أنطولوجي من ألاّ يتشكّل تاريخٌ للذات خارج الأطر الميتافيزيقية التي تلاعب بها نيتشه وجعلها تحدُّ العقل من الخارج، إذ إن العمل على مضاعفة نيتشه في خطابات فلسفة الاختلاف أدّى إلى ميلادٍ تراجيديٍّ لذات مختلفة، ولكنّها مختلفة نحو الداخل الذي قطع رابطة الهوية، ولكنه لم يقطع رابطة الانتماء التي تجيب عن السؤال السابق: مَن يختلف؟ الجواب: إنه «نحن» مَن يختلف. ومن ثمّة لا يتحرّك الاختلاف إلا داخل هشاشة الوضع الذي تكون فيه الذات فاقدة لمشروعية ما يُشكّل آخرَها المختلف والمغاير. وفي هذه اللحظة الإبستمولوجية بالضبط يمكن لقصدية هوسرل أن تساعدنا على مواجهة الإشكال الآتي: ما الجهوية التأويلية التي يتّخذها الاختلاف إذا ما «نحن» قطعنا عنه رابطة الانتماء؟ ولتحليل هذا الإشكال سنتّخذ مثالين أحدهما ذو طابع نظري يستهدف «اليومياتية» بما هي المكان الذي يتقاطع فيه اليومي مع اللايومي كظاهرة للاختلاف؛ والآخر عملي يستهدف تحليل «مفهوم» «العادي» داخل الثقافة اليومية العربية.
1- كينونة الاختلاف: رؤية هرمينوطيقية
إن التفكير في «هويّة الاختلاف» من خلال السؤال «مَن يختلف؟» لا يعني إعطاء طابع ميتافيزيقي لفلسفة الاختلاف بأيّ ثمن، وإنّما يعني التفكير داخل الاختلاف بما لا يقبل التجاوز أو يتعذّر الخروج منه لمجرّد أنه مقولة ضدّ-اختلافية؛ أي «الذات» لا كجوهر مطلق بل ككينونة لها زمانيتها، فمنذ هيغل «الحقّ لا يُدرك ولا يُعبّر عنه كجوهر بقدر ما يُدرك ويُعبّر عنه كذات»[3]. ومع أن فلسفة الاختلاف تشتغل ضدّ الفهم الهيغلي للذات، إلا أن ذلك لا يُلغي الشرط الأنطولوجي لقيام الاختلاف نفسه في الذات بما هي كينونة حيث «إننا لا نفكّر في الكينونة كما هي عليه إلاّ إذا فكّرنا فيها داخل الاختلاف الذي يميّزها عن الكائن، وإلا إذا فكّرنا في الكائن داخل الاختلاف الذي يميّزه عن الكينونة»[4]، ما يعني أن الذات لا تمثّل وحدة ميتافيزيقية بين الكينونة والكائن بل وحدة أنطولوجية لما يترتب عليه من تفعيل خاصيّتها الزمانية في القول والفعل، أي في قدرتها على الانتقال إلى آخَر، ومع ذلك تبقى محافظة على وضعها الذاتي.
يجب أن نفرّق، ابتداءً، بين الاختلاف من منظور إبستمولوجي والاختلاف من منظور أنطولوجي، فالوحدة الهيغلية لمفهوم الذات هي وحدة ديالكتيكية في نسق المعرفة أكثر من كونها تعبيراً عن تمركز حول هوية مخصوصة، فـ«الجوهر الحيّ لا يكون الكينونة التي هي ذات، في الحقيقة، (...) إلا من حيث إنه حركة مَوضَعة ذاتية، أو وساطة الذات نفسها بتحوّلها إلى آخَر»[5]، فلا تكون الذات كينونة إلا بالمعنى الأنطولوجي، ولا تكون الكينونة ذاتاً إلا بالمعنى الإبستمولوجي، ويلحق بالمعنى الأخير تضمُّنه للكينونة-المغايرة، فلا يُفهم من الاختلاف إذاً نزوعه نحو ضديّة الهوية بما هي تطابق، بل يُفهم من ذلك الكينونة المتولّدة من نفسها والمفهومة في ذاتها والمقولة في عينها، وبهذا المعنى بالضبط نفهم عبارة هايدغر «إن الكينونة تعني دائماً كينونة الكائن والكائن يعني دائماً كائن الكينونة»[6]، التي تشير إلى أن الذات لا يمكنها أن تختلف إلا إبستمولوجيّاً، ولا يمكنها أن تتوحّد في هوية إلا أنطولوجيّاً، حيث إن «الاختلاف «بين» شيئين هو اختلافٌ تجريبي فقط، والتعيينات المقابلة خارجية، في حين أنه بدلاً من كون شيء ما يتميّز عن شيء آخر، فلنتخيّل أن شيئاً ما يتميّز عن شيء هو لا يتميّز عنه، يتميّز البرق مثلاً عن السماء السوداء، لكن يتوجّب عليه أن يجرّها معه كما لو أنه يتميّز عمّا لا يتميّز عنه، ويظهر أن القعر يصعد إلى السطح دون أن يتوقف عن أن يكون قعراً»[7]، بما يعني أن «اصطناع» الاختلاف يُفهم منه ابتكار حالة تعارض غير طبيعية وليس إيجاد قالب قبلي لما يمكن أن ندعوه اختلافاً، فهو ليس ملكة معطاة بذاتها في الوجود، بل هو وظيفة وأداة للمعرفة أكثر من كونه سنداً أنطولوجياً لما نعرفه.
إن الاختلاف، إذاً، ليس مفهوماً إجرائياً يمكن نقله بأمان إلى السياقات التي تمارس من خلاله فعل التعارض ضد الكونية المطلقة والوحدة الميتافيزيقية والحضور المزيّف وضد الهويّاتي، التطابقي والجوهري، ضد العقل الذي يدور حول نفسه في حركة طرد مركزي نحو الذات؛ غير أن هذا التعارض يرتدّ إلى تعارض داخلاني (intériorisé) «بين العينيانية (la Mêmeté) التي ترادف الهوية-عينها (l’identité-même) والذاتيانية (l’ipséité) التي تحيل إلى الهوية-ذاتها (l’identité-ipse)»[8]، فبهذا الفصل بين العينيانية والذاتيانية أمكننا التفكير في الاختلاف داخل «الاختلاف-عينه»، أي إن التعارض، الذي به يكون الاختلاف ويشتغل، يتضمّن على اللاتعارض بالمعنى الذي يتلاشى فيه التمايز بلحاق المتميّز بالمتميّز عنه، حتّى لا يكون ذلك «إلا صراعاً ممسوخاً ضد خصم يتعذّر القبض عليه، حيث يعارض المميّزُ شيئاً لا يمكنه أن يتميّز عنه، ويستمرّ في ملازمة ما ينفصل عنه»[9]. وبذلك فإن الاختلاف يسحب الهوية معه في اتجاه التمايز والتعارض مع شيء يقع خارجاً حتّى إذا ما استقرّ على كينونة بها يُفهم معنى الاختلاف، برزت الهوية أكثر كثافة و«حضوراً».
يمكننا اعتبار المؤلَّف الأساسي لبول ريكور (الذات عينها كآخر) منعطفاً كبيراً في فهم الاختلاف بواسطة آلية «الارتداد» التي تحكم الذات، حيث يلتفّ تأويل الذات على خطاب الاختلاف الذي ازداد قوة في استدعاء نيتشه ما بعد- هايدغر، «فالذات عينها كآخر يُوحي منذ البداية بأن ذاتيانية الذات-عينها تشتمل على الغيرية بشكل حميم، إذ ليس من الممكن التفكير في الواحدة دون التفكير في الأخرى»[10]. فالمغاير ليس خارج الذات، والمختلف مرتدٌّ ضمنياً إلى ما يختلف عنه في دائرة هرمينوطيقية تعيد استثمار الفرق بين الهوية واللااختلاف في «صنع الاختلاف-عينه»، انطلاقاً من أن الاختلاف يمتلك هوية داخلية هي مبدأٌ يتعيّن به الاختلاف كتمييز؛ وبهذا فإن «الاختلاف هو تعيين بما هو تمييز من جانب واحد، وعليه وجب أن نعبّر عن الاختلاف بأننا نصنعه أو أنه يصنع نفسه، مثلما هو الحال في عبارة «صناعة الاختلاف»»[11]. إن هذا التأويل للاختلاف كصناعة يتضمّن على ذات غير متعالية بالمعنى الذي يضعها في صلب تاريخ الهوية- عينها ويكون المغاير والمختلف «جزءاً» من هذا التاريخ ذاته.
يمكننا أن نحدّد محورين أساسين في مَعلم فلسفة الاختلاف: محور عمودي للاختلاف بما هو تعيين يقع فيه المختلف والمتعارض ويتعاينان خارج الذات وهو محور فلسفة الاختلاف بالمعنى المدرسي؛ ومحور أفقي للاختلاف بما هو لا-تعيين يقع فيه المختلف، المتمايز والمتعارض داخل دائرة صنع الاختلاف، حيث «إننا حين نبقى ضمن دائرة الهوية العينيانية، فإن غيرية الآخَر المختلف عن الذات لا تمثّل أي شيء أصيل، إذ يصبح «الآخَر» متضمّناً في قائمة الأضداد لكلمة عينه بالإضافة إلى كلمات النقيض والمتميّز والمختلف والمتنوّع..إلخ»[12]. وبذلك يكون ما فتَحه هايدغر أنطولوجياً منذ نص «الهوية والاختلاف» أغلقه ريكور إبستمولوجياً في نص «الذات-عينها كآخر» من خلال تأويل آلية «صناعة الاختلاف» داخل اللغة بوصفها الذاكرة التي تحفظ ما لا يمكن للذات القفز فوقه معتبرة إياه اختلافاً؛ إذ إن كل الفروق البنيوية الموجودة في اللغة تنمحي تحت تأثير السؤال «مَن يتكلّم؟». وعلى هذا الأساس «مَن يصنع الاختلاف لا يختلف»، فلا يكون المختلف المغاير إلا تأويلاً للذات أو منعطفاً في مسار الوعي بها، وهذا بالشكل الذي يُفسّر عبارة هيغل التي تقول إن «التفكير في الذات ضمن الكينونة المغايرة هو الحقّ»[13]، لأن كينونة الذات لا تثبت إلا في منظور صُنعها للاختلاف؛ أي لإيجاد الكينونة التي بها تكون، إذ لا كينونة لما لا يتعيّن في ذاته ومن أجل ذاته، ومن ثم فإن الكائن هو كائن متعيّن في ذاته ومختلف ومغاير من أجل ذاته.
إن التحليل الأنطولوجي، الذي قدّمه هايدغر للدازاين، يسمح بتعدّد الكينونات بما هي لحظات زمانية يمكث فيها الدازاين لمقابلة العالم، كما يسمح بتعدّد أبعاد الكائن بما هي مسافات يتّخذها الكائن من كينوناته، على قاعدة التمييز بين الكينونة والكائن كشرط لأن يبقى الدازاين في حالة انشغال، إذ «يجب أن نعتبر ظاهرة الانشغال كخاصية أساسية للدازاين»[14]، غير أن حالة الانشغال تلك، وبفضل ممارسة هرمينوطيقية، تضع الكائن على مسافة من الكينونة شرطاً لفهم الكينونة في شكلها الخالص، وهذا هو المعنى المتضمّن داخل الاختلاف بوصفه طريقة في التحليل الأنطولوجي التي يمكن تمديد مجال عملها لتشمل كينونات أخرى: الكينونة في المتوسط (l’être dans la moyenne)، أو الكينونة-مع (l’être-avec)، الكينونة العمومية (l’être public).. غير أن هذه الكينونات خاضعة لسطوة الـ«نحن» التي تحطّم كل فرادة وكل تميّز، ما يعني أن الاختلاف يُصنع من الذات ولا يتشكل من آخَرها، كما أن «صناعة الاختلاف»، بالمعنى الدولوزي، ناتجة عن الخوف من أن تذوب كينونة الدازاين الخاص بنفسه وتنمحي في كينونة الآخَر فتشكّل كينونة عمومية يموت في لا- اختلافها مبدأ الانشغال الذي هو حياة الدازاين الخاصة.
تُميّز فلسفة الاختلاف إذاً بين الاختلاف المحايث الذي يدخل في إطاره التمييز بين الكينونة والكائن، والاختلاف المفارق الذي يدخل في إطاره التمييز بين الهوية والتطابق من جهة والمتعارض والمغاير والمختلف من جهة أخرى. وعليه فإن النظرة الهرمينوطيقية لفلسفة الاختلاف تُعيد توجيهها إلى جهة تفكير مختلفة، وهذا ما سنختبره في عنصرين متولّدين من مقاربة الاختلاف وهما: اليومياتية (بحث مسألة الاختلاف في الكينونة- اليومياتية)، وبحث مفهوم «العادي» في الحياة اليومية العربية بوصفه مؤشّراً إلى انقلاب مفهوم الاختلاف في اليومياتية المخصوصة.
2- الاختلاف اليومياتي: من اليومي إلى اللايومي
يمكننا العودة إلى هايدغر لتحديد ما اليوم؟ (l’aujourd’hui)، الذي يتولّد منه اليومي (le quotidien) واليومياتية (la quotidienneté): «إن مفهوم «اليوم» بالمعنى الأنطولوجي هو: حاضر ما هو كائن من أول وهلة، الـ«نحن»، الكينونة-معاً-هؤلاء-مع-أولئك، «زماننا»»[15]. ويشكّل هذا المعنى الأنطولوجي لمفهوم «اليوم» مفتاحاً أوليّاً لفهم الطابع الاختلافي لليومياتية بالانطلاق من «حاضر ما هو كائن»، أي في الرابطة بين كائن الكينونة وزمانها الخاص بها، حيث في تلك الرابطة بالضبط يُطرح مشكل الاختلاف الذي يواجه التحدّي الأنطولوجي الأساسي في مدى قدرة الكائن على الاختلاف عن زمانه والإفلات من قبضة اليومي بوصفه سيرورة «اليوم» الزمانية التي تجعله داخل كينونة-التكرار، بالمعنى الدولوزي لكلمة تكرار- وهو تحدٍّ فينومينولوجي وهرمينوطيقي للفلسفة كذلك لأن «اليومي لا يُقال، لا يُلاحظ لأنه يعيش دون نظرية أو مسافة»[16]. وهذا ما يجعل اليومي مستعصياً على القبض المنهجي الذي يعني الاستعادة الفينومينولوجية للمبادئ النظرية التي تتشكّل منها الحياة الأوليّة لليومي داخل زمانية الكائن والاسترجاع الهرمينوطيقي للمسافة التي تفصل الكائن عن يوميته، فإذا كان السؤال الفينومينولوجي يردّ الكائن إلى ذاتيته في صيغة سؤال هوسرل عن إمكانية فصل العقل عن الكائن، فإن السؤال الهرمينوطيقي، في هذا السياق، يفتح الكائن على يومه، حاضره، زمانه، بما أن «اليومياتية تقوم بتوصيف الخاصية الزمانية للدازاين»[17]. وبهذا أمكن للمقاربة الهرمينوطيقية قطع رابطة انتماء الكائن إلى يومه لمراقبة المسافة الممكنة بينهما، التي يمكن بفضلها إعادة فهم الاختلاف في اليومياتية بوصفه الحالة الممكنة لتمايز الكائن عن اليومياتية التي ينتمي إليها.
إن اليومياتية تقاوم كل اختلاف ممكن من خلال الالتصاق الأنطولوجي القوي بين اليومي كزمن للكائن واليومياتية كزمن للكينونة، حيث إن «اليوم هو يوم هذا اليوم (l’aujourd’hui est l’aujourd’hui de ce jour)»[18]. فلا تبقى إمكانيةٌ للاختلاف اليومياتي إلا عبر اتّخاذ مسافة (distanciation) من اليومي لضمان ألا يُفلت منّا عندما نراقبه من جهة، ولممارسة الاختلاف في شكل ضد-يومي (anti-quotidien) أو لابتكار اللايومي الذي يختلف عن اليومي ويتميّز عنه، من جهة أخرى؛ ولا يكون هذا إلا عبر وساطة تأويلية، إذ «يبدو أنه لا مفرّ من تأويل اليومياتية كأثر، كصدّ أصلي أو انفلات أمام مخطط الوجود غير المضياف، إننا نُلبس الإنسان لباساً غريباً، والذي مع ذلك يوجَد «واقعانياً دائماً» في الألفة اليومية»[19]. تلك الألفة التي يحتمي خلفها كائن اليومي، ويُخفي دازاينه الخاص تحت الكينونة العمومية لليومياتية، مُذاباً في الـ«نحن»، حيث الكينونة العمومية هي مرقد الدازاين، بتعبير هايدغر الشهير، كما هي مرقد الاختلاف، إذ تجعل اليومياتية الناس غير مختلفين بانمحاء كينوناتهم الخاصة في «الكينونة-مع».
إن الاختلاف الذي يمثّله اللايومي لا يعني تدمير الأشكال الحياتية التي تندرج ضمن حركة اليومياتية، بل يعني تفكيك الروابط الأنطولوجية التي تُخفيها الألفة اليومية، وتمنع من ظهور أيّ اختلاف أو تميّز في ما نكونه بمضاعفة نسيان الكينونة، حيث إن «هذا الذي نكونه ذاته، هذا الذي نكونه في العالم مع الآخرين، يتحدّد من خلال الطريقة التي نأتي للظهور بها مع الآخرين في تباين عنهم»[20]. وهذا يعني أن اليومي ليس إلا مظهراً من بين مظاهر ممكنة للكينونة، وليس خاصية لها، كما أنه ليس شرطاً في بنائها الأنطولوجي مع أنه يمثّل مجراها التاريخاني عندما يُغلّفها بغلاف «الحياة» غير القابل للاختراق بفعل زمانيته، لهذا أمكننا أن «نعتبر اليومي كانفلات أنثروبولوجي أمام التأسيس الأنطولوجي، فتكوين «الإنسان» يتمّ داخل هذا الانفلات نفسه»[21]. وداخل هذا الانفلات أيضاً يتراجع الاختلاف إلى دائرة النسيان تحت وطأة تنميط الحياة اليومية التي تجعل الناس متشابهين (مثال: إكراهات الإعلام، مناهج التعليم...). ولهذا السبب نفهم لماذا «كان للفيلسوف دو سارتو (Michel de Certeau) تعريف تاريخي لليومياتية بوصفها منتوجاً للحداثة»[22]؛ أي إنها وجود غير أصيل، بالمعنى الهايدغري، فهي ابتكار لكينونة عمومية تُغطّي الاختلاف الذي هو خاصية انشغال الكائن بما هو مميّز ومختلف عن الآخرين، غير أن اليومياتية، كمنتوج حداثي، تُذيب كل فرادة خاصة بالكائن في محلول اليومي.
إن تأويل الاختلاف داخل اليومياتية يعني الحفر الأنطولوجي تحت المشروع الأنثروبولوجي لبناء اليومي لمعرفة ما يستند إليه اليومي في الوجود إذا ما قُطعت عنه زمانيته، وكذا إظهار الطُرق التي يسلكها الاختلاف اللايومي دون أن يتيه إبستمولوجياً، فيعود إلى اليومي من جديد، تحت ضغط «اليَومنة (Quotidianisation) بما هي تحويل لجهوية الرأي لـ«علاقتنا بالعالم» بواسطة «تنميط» تلك العلاقة»[23]؛ لأن اللااختلاف في اليومياتية (المعاصرة) يشير إلى أننا «نعيش اليوم»، غير أن تأويل الاختلاف اللايومي يرى أن ذلك العيش هو مجرّد «عادة» وأن «اليوم هو الذي يعيشنا»؛ لذلك، كما يرى هايدغر، فإن «اليوم في أيامنا هذه هو اليومياتية، أن نُمتصَّ وندخل في العالم، أن نتحدث من خلاله، أن نكون منشغلين»[24]، فبفعل قوة الامتصاص والجذب نحو الداخل التي تحوزها اليومياتية يصبح كل اختلاف لايومي اختلافاً-ضد- الحياة؛ إذ لا تعني الحياة هنا سوى الحدود اليومية للكينونة.
إنّ الاختلاف لا يعني ابتكار الآخَر الذي يُبنى عليه التمايز والتغاير بالشكل الذي يوحي بأن حياةً أخرى أصبحت ممكنة بفضل الغيرية كانقذاف للكائن إلى نفسه بواسطة الآخَر، في حين أن الانغلاق اليومياتي للحياة المعاصرة لا يسمح بأيّ ابتكار ممكن لكينونة مغايرة، إذ «إن الحياة، في اليومياتية، هي هنا، بوصفها عالماً يُلاقي، عالمٌ منشغَلٌ به ومعنيٌّ بالانشغال، تنشغلُ الحياة بنفسها، وتقترب من نفسها خطابياً انطلاقاً من العالم، باعتبار أن الانشغال يمتلك في كل مرّة لغته الخاصة»[25]. وهذا يعني أن حالة اللااختلاف التي يفرضها انشغال الحياة بنفسها، في صورة اليومياتية، يتضمّن في داخله الاختلاف منخفض القيمة؛ أي الاختلاف المعاد تشكيله في اللااختلاف عبر وساطة الانشغال بالهوية والتطابق وهي النماذج التي تتضاعف كلّما وُضعت في دائرة ضد-اختلافية بفعل «أوّالية الوساطة الانعكاسية على الوضعية المباشرة للذات الفاعلة»[26]، وهذا يَؤُول إلى السؤال: أين يكون الاختلاف اليومياتي ممكناً؟ وما الطريقة التي نُجلّي بها الاختلاف اليومياتي كظاهرة؟
إن الرهان الأساسي في الإجابة عن هذا السؤال هو الدفع بالحياة خارج دائرة الانشغال بنفسها؛ أي بإيجاد الشكل الذي يتمثّل فيه اللايومي في مواجهة «الانشغال الذي يختفي في عادة اليومي وعموميته، ولكن هذا لا يعني أنه سيتوقف بشكل خالص وبسيط إنه لا يتمظهر، إنه مُغطّى»[27]. فما يُعاني منه الاختلاف اليومياتي هو التغطية واللاتمظهر، وهما تحدّيان هرمينوطيقيان فينومينولوجيان أكثر منهما تحدّيان أخلاقيان كما في صورة الاختلاف التقليدي الذي يبحث في الآخَر عن الاعتراف بينما يتجه البحث، في كشف اللايومي المتمايز والمختلف عن بناء القدرة الخطابية اللازمة لتجاوز اليومياتية بوصفها ميتافيزيقا من الدرجة الثانية، هذا إذا علمنا أنه حتّى «العلوم تجدُ حُدودَها في الممارسة اليومية»[28]، إذ تقوم اليومياتية بامتصاص كل اختلاف لا يومي يمكن أن يُهدّد الحضور الكثيف لليومي الذي تتغذّى منه الحياة في شكلها الزماني الراهن، الذي يتجسّد في الثقافة والسياسة والدين..
إن المهَمَّة الهرمينوطيقية المتجسّدة في توليد الاختلاف اللايومي من الحياة نفسها تعني إرجاع تكوين «الإنسان» الأنثروبولوجي إلى أساسه الأنطولوجي بتتبع مجرى الانشغال اليومياتي بالحياة وصولاً إلى منبع تدفّق الكينونة في فرادتها، وهذا يعني على مستوى الممارسة اليومية «غياب نمذجة الحياة الذي يُعطي إمكانية للحياة في تغيير المعايير، للانتقال من معيار إلى آخر، للعودة إلى معيار قديم»[29]، لأنّ الاختلاف الحقيقي موجود في هذه الإمكانية بالذات، بين اليومي واللايومي، بين ما هو مهيمن على الانشغال اليومياتي للحياة تحت أشكال الألفة والعادة من جهة، والمسافة المسترجعة نفسها من هذا اليومي بقطع رابطة الانتماء وشَلّها إلى حين فهم ما الذي يبقى حيّاً في اليومياتية عندما تنفصل عن الكائن.
3- «الحياة- اليومية» استعارةً:
هل الحياة هي اليومي؟ وإن لم تكن كذلك فماذا تكون وأين؟ إن هذا السؤال يدعونا إلى إعادة التفكير في المنابع الحقيقية للحياة والحياة الاجتماعية خاصةً. ما الذي يصنع اليومي؟ لأن الفهم الوحيد الذي نمتلكه عن الحياة الاجتماعية هو فهمٌ مُعادٌ ترميزه لضرورة العلم، ولكن ليس لضرورة الحياة نفسها؛ لأنه، بحسب ريكور، «إذا لم نتفق على أن للحياة الاجتماعية بنية رمزية، فإنّه لا يكون لنا وسيلة لنفهم كيف نعيش ونصنع أشياء ونمثّل هذه النشاطات في شكل أفكار. إنها الوسيلة التي نفهم بها كيف يمكن للواقع أن يصبح فكرة، وكيف يمكن أن نفهم أنّ الحياة الواقعية يمكن أن تنتج أوهاماً، وإلا فسيكون كل ذلك مجرد أحداث غامضة وغير مفهومة»[30]. غير أن الحياة ما إن تصل إلى الفهم بواسطة تبنينها الرمزي حتّى تفقد «طبيعتها» فيحصل الفرق إذاً بين الحياة في طبيعتها والمنحدرة من منابعها العميقة؛ إذ يمثّل الموتُ، مثلاً، واحداً من تلك المنابع، لأننا لا «نمارس» الموت في الحياة ومع ذلك هو جزء من اللايومي المتدحرج إلى اليومي، والحياة في رمزيتها والمنحدرة من تدفقها اليومي، وهو ما ندعوه مجازاً «الحياة اليومية»، لأن هذه الصيغة تتضمن وجود معنى «الحياة غير اليومية»، أي كمنبع «مختلف» للحياة نفسها.
هل يمكن أن نُغيّر اليومي كما نُغيّر السياسات وبرامج التعليم والعادات والقوانين... وغيرها؟ وهي الإمكانية التي تفتح «الاختلاف» في الحياة اليومية بالبحث عن مصادر جديدة لتمويل البنية التحتية لرمزية الحياة الاجتماعية، غير أن هذا البحث يبدأ بفصل الطابع الرمزي الذي نفهم بواسطته الحياة عن الحياة نفسها، وهو تأويلٌ عميق لما يمكن أن يتحوّل إلى ظاهرة لمجرّد استدعائه داخل النسق العلمي، أي ذاك التأويل الذي يفهم «كيف» تختلف الحياة عن الحياة- اليومية باستعادة المسافة «الطبيعية» التي تفصل بينهما، لأنه إذا كان ليس كل ما نعيشه نفهمه فإنه ليس كل ما نفهمه نعيشه، حيث اليومي يحدّ الفهم نفسه ويجعله يقف عند تخوم الظاهرة بما هي ظاهرة، ما يعني أنّ «الاختلاف» يبدأ في الفهم نفسه بوضع الحياة في أفق أنطولوجي يمكننا من الانفتاح على ما يُغذّي الحياة، ولكنه يبقى متوارياً عن الظواهر الاجتماعية، ومستعصياً على التَبنيُن الرمزي.
إن الحياة هي المجال الذي يسبق التفكير، ولكنه ينتج عنه كذلك، وتستدعي هذه المفارقة إعادة تصورنا لفهم الحياة انطلاقاً من حياة الفهم؛ إذ «للحياة خاصيّة الفهم للوهلة الأولى»[31]، لأن المعيش نفسه يتدفق من ذات الكائن، ومن ثم فإن اليومي هو وحدة هذا التدفق فلا يمكننا أن نفهم إلا انطلاقاً من هذه الوحدة، «فالعيش هو في ذاته شكلٌ تمهيديٌّ للفهم»[32]، غير أن الرهان الفينومينولوجي لفهم الحياة قائم في الإمساك بالوهلة الأولى حيث يمكن تجاوز الدائرة المغلقة بين الفهم بوصفه نتيجة للعيش والعيش بوصفه نتيجة للفهم، في الوقت الذي يقوم اليومي بتغطية هذه الوهلة الأولى التي ينفتح فيها الفهم والعيش معاً.
يمثّل اليومي صناعة معيارية للحياة انطلاقاً من الوضع الذي يتّخذه التفكير نفسه (الفيلسوف مثلاً)، والذي تكون مَهمَّته تفكيك الرابطة الاستعارية بين الحياة واليومي، أي بين العيش الذي يسبق كل فهم والعيش المسبوق بفهم محدد، لأن ما يظهر أولاً لا يُعادل ما يكون مفهوماً أولاً. ولذلك فإن اليومي هو طريقة إنسانية مبتكرة لتقريب الحياة من الفهم ودفع التعارض بينهما، لكنه ليس الطريقة الأفضل بالضرورة فهو ناتج عن حالة تأويلية لوضع كينوني داخل الزمن. ولذلك نعبّر في علم التاريخ عن أحداث كبرى باليوم الذي وقعت فيه فنقول «سقطت غرناطة يوم كذا» و«اندلعت الحرب العالمية الثانية يوم كذا».. فهذه الأيام ليست من المادة نفسها التي تشكّل منها اليومي لأنها لم تكن متوقعة بالأساس، وهذا يعني أنه لا يمكن تأويل الحياة كظاهرة إلا انطلاقاً منها نفسها؛ أي انطلاقاً من طابعها الكليّاني الذي ينعكس في طابع اللغة ذاته وفي الفرق بين ما نعبّر عنه باللغة وما تحيل إليه اللغة ذاتها خصوصاً، فالتعبير باللغة هو الشكل الأكثر تمثيلاً لعيش الحياة كما أنه الشكل المتاح للفهم بوصفه الوساطة الشمولية بين ما نعيشه وما نفكر فيه ونفهمه، وهو ما يُغذّي اليومي بمادته الأولى وهي مادة العمومية (la Publicité)، لكن يوجد دائماً ما لا نستطيع فهمه كما يوجد ما لا نستطيع عيشه في كل مرّة، ومع ذلك هو جزء من هذه العمومية؛ لأنه يمثّل الإسناد الأنطولوجي للحياة، التي بذلك فقط تستمر بنا ومن دوننا.
4- اللا-اختلاف ومفهوم «العادي» في المجتمع العربي:
إن اليومياتية هي مكانٌ لممارسة الاختلاف، إذ فيها تظهر القدرة على التمايز بتجاوز حدود اليومياتية ذاتها، لأنها ليست لازمة من لوازم الحياة أو محايثة للكينونة العمومية، بل هي «ظاهرة خاصة بالحداثة، منتوج مباشر لمجتمع الاستهلاك، إنها تدحرجٌ لليومي أولاً، قطيعة بين اليومي واللايومي»[33]. وبذلك هي ظاهرة تتغذّى من المعطيات الأنثروبولوجية التي يُولّدها مجتمعٌ ما ثم يقوم بصهرها في أفق ثقافي يختفي فيه الاختلاف بوصفه جزءاً من اللايومي، أي أنّه ليس من ثقافة المجتمع التي تُقيّض لذلك قوالبَ خطابية نموذجية تُحدّد الأنماط اللغوية والسلوكية والتمثّلاتية التي تصبح فضاءً اجتماعياً مشتركاً داخل وحدة أساسية لليومياتية.
في حالة المجتمع العربي، يمكننا الحديث عن الاستقلال الرمزي بالبحث عن تشكيل شخصية عربية متميّزة ومختلفة ضمن ثقافة عمومية تصنع «المشترك» و«العام»، ككينونة عمومية، داخل سيرورة «اليومي العربي»، وسنقتطع من «المشترك اليومي العربي» نموذجاً مقولاتياً لثقافة اللااختلاف، وهو مفهوم «العادي» (le Normal) الذي يقترب دلالياً من مصطلح «الاعتيادي» (l’habituel)، أي تلك العادة التي تتحوّل إلى معيار قيمي لمجتمع ما، إذ «بحسب مصطلحات جورج كنغيلهام (George Canguilhem)، فإن البحث عن «الدلالة الأساسية للعادي» يمكن أن يسمح بتوضيح «تحليل فلسفي للحياة»»[34]، ما يجعلنا نطرح السؤال الأنطولوجي الآتي: هل توجد «حياة» عربية؟ لأن استخدام كلمة «عادي» في المجتمع العربي تعني محوَ كل الفروق والاختلافات الممكنة التي تقع تحت طائلة القانون أو الأعراف أو الدين...، بالشكل الذي يجعل من «العادي» القوة الدافعة لليومي بما أنه يمتصّ في داخله كل ما هو «غير عادي» (Anormal). وهكذا يستمر اليومي العربي في مسار لا-اختلافي يقهر كل معيار يمكن أن يضعه المجتمع لنفسه.
لقد أكّد كنغيلهام في كتابه (العادي والمرَضي) أنه «لا توجد حياة دون معايير للحياة»[35]، المعايير في تعدّدها واختلافها، وبسبب هذا نعتبر «العادي» العربي نموذجاً «مَرَضياً» (بمفهوم غير العادي) للحياة، لأنه يَصهر جميع المعايير في قالب واحد، فلا يظهر أيّ اختلاف ممكن فيما يُشكّل ظاهرة اجتماعية غير قابلة للاختراق بفعل قدرتها على التعميم داخل نموذج «العادي» الذي لا يمكن فهمه كمنتوج لسياق سياسي فقط، بل يجب وضعه ضمن سياق اجتماعي بوصفه ناتجاً عن فعل اللااختلاف الذي يمارسه «الاختلاف المزيّف والمشوّه» لتمثّلات اجتماعية تستهدف استهلاك الاختلاف واستنفاذه عبر منظومة من القيم والتصوّرات المضادّة وغير العادية التي تنشأ في إطار الاستفادة من تعميم «العادي المرضي».
إن صناعة «العادي» في الحياة الاجتماعية العربية يمرّ عبر القوة الزمانية لليومي، أي عبر التكرار الذي يُخلّفه اللااختلاف وراءه يوميّاً في «مؤسسة الشارع» التي تتوسّع إلى المؤسسات الاجتماعية الأخرى كالتعليم والإدارة... وغيرها، في تمدّد رمزي عبر الصيغة العمومية للضمير المتكلّم غير المحدّد «نحن»، حيث «نلاحظ أن الضمير اللامحدّد «نحن» يُستعمل غالباً لإنشاء معيار، فصيغة «نحن نفعل هذا» تُعادل، إلى حدّ ما، صيغة «يجب أن نفعل هذا»»[36]، وهو الضمير المتكلم الذي يُوفّر الحماية الرمزية لاستخدام مفهوم «العادي» في اليومي العربي، لأنه يُحوّل ما يترتّب على استخدام الـ«نحن» من أفعال وتصوّرات إلى معايير اجتماعية «عادية»؛ فصيغة «نحن نفعل هذا، فهو إذاً أمرٌ عادي» تُعادل صيغة «يجب أن نفعل هذا لأنه أمرٌ عادي»؛ «فاستخدام الضمير المتكلّم الثالث، حتّى المحدّد الغائب «هو» بدل الضمير المتكلّم الأول «أنا»، كاستخدام الضمير «نحن»، هو في الحقيقة لتقليص مسؤولية الذات الفاعلة وخلق مسافة بين مَن يتكلّم وما يقوله»[37]. ولذلك ينمحي كلّ اختلاف داخل الصيغة العمومية المستخدمة. «هذا أمرٌ عادي» (c’est normal) المنسوب إلى جهة غير محدّدة بما أن هذه العبارة تتضمّن على جهة مستترة بهدف حماية المتكلّم من المساءلة الاجتماعية، إذ إن العبارة الكاملة تقول «إنه أمرٌ عادي بالنسبة للكلّ»، أي للـ«نحن»، كما يتمّ اشتقاق عبارة «من المفروض» التي تشير إليها الكلمة الفرنسية المتداولة (normalement)، التي تعني تأجيل أي اختلاف ممكن بوضعه في حكم الافتراض المستمر.
إن اليومي العربي هو نتيجة «تشويه» رمزي لتمثّل «العادي»، حيث «إن إمكانية التشويه في بنية الحياة الاجتماعية مفتوحة بواسطة الوظيفة الرمزية»[38]، وهي الوظيفة القائمة في إسناد «العادي» إلى اللامحدّد الذي يمحو كل اختلاف ممكن بين «العادي» و«اللاعادي»، ومنه تتحوّل إمكانية تشويه الحياة الاجتماعية عبر تعميم «العادي» فيها إلى القدرة على شرعنة تلك الحياة المشوّهة، أي بجعل السلوكيات الاجتماعية، التي تتعارض مع القوانين والأخلاق والأعراف، سلوكيات عادية و«صائبة» بحسب المبدأ المنطقي الذي يسكن في داخل مفهوم العادي: كلّ ما هو عادي صائب؛ لتتغيّر بذلك البنية المعيارية للمجتمع العربي بما يُحوّل «العادي» إلى معيار موازٍ للقوانين، ويصبح القانون نفسه أمراً «غير عادي» لأنه مصدر الاختلاف.
5- ماذا يعني أن تكون عربياً، اليوم وغداً؟
منذ العمل الكبير الذي قام به الفيلسوف الألماني أسفالد شبنغلر (O.Spengler) (تدهور الحضارة الغربية)، أصبحنا ندرك أن ثقافة مجتمعٍ ما تظهر وتأخذ جوهرها بالاختلاف مورفولوجيّاً مع الثقافات الأخرى، أي عندما تأخذ «شكلاً» محدّداً في التاريخ لا «يُطابق» «شكل» ثقافة مجتمعٍ آخر، ومنه فإن السؤال «ماذا يعني أن تكون عربياً؟» يتضمّن السؤال: ما الشكل الذي تتّخذه الثقافة العربية ويُميّزها عن باقي الثقافات الأخرى؟
يجب أن نُذكّر مجدّداً بأن التشويه الذي قام به مفهوم «العادي» في البنية الاجتماعية العربية أدّى إلى تشويه أعمق وأعمّ في «شكل» الثقافة العربية، ما جعلها غير قابلة للتمايز والاختلاف، وهنا يمكن استدعاء التصوّرات والمخيال الدولي عن الشخصية العربية، وكيف يُنظر إلى مورفولوجيا الثقافة العربية من الخارج، ما يجعلنا نطرح السؤال الاختلافي الصادم: ما الذي يُميّز«نا» «نحن» العرب عن الآخرين؟ فلا تكون الإجابة، في الحقيقة، إلا رسماً للحدود المورفولوجية لشكل الثقافة العربية من خارجها، إذ، بحسب المبدأ الشبنغلري، المقارنة بين الثقافات هي وحدها ما يُعطي معنى لثقافة مجتمعٍ ما ويُحدّد طابعها واتجاهها وحياتها.
إن معنى أن يكون المرء عربياً هو معنى يقع خارج رابطة الانتماء التي تُحدّدها الهوية، العرق، القوانين...، فالمعنى هنا هو الاندراج ضمن ثقافة مخصوصة والتلوّن بتلك «الخصوصية» بما يُؤشّر إلى كينونة العربي بطابع ثقافي مميّز، وهنا يكون الرهان الاختلافي للشخصية العربية في مواجهة السؤال: ماذا يبقى من «العربي» إذا ما قطع مع رابطة الهوية والانتماء؟ ما الذي يُبقيه مختلفاً عندما يتمّ نسيان كل ما يرتبط بأشكال الحصانة الهوياتية؟ ولا يتمّ وضع هذا السؤال في سياق أخلاقي، بل يجب وضعه في سياق منطقي، أي ببحث الماهية الخالصة لكينونة الفرد العربي بتجريده من الأبعاد التي يمكن للتاريخ أن يُقلّص مداها كما يمكنه، على العكس من ذلك، أن يُمدّد تلك الأبعاد لتشمل مساحات أنثروبولوجية لم تكن متوقعة.
إن البحث عن معنى «العروباتية»[39] (l’arabité) لا يعني البحث عن هوية مفقودة ممثلة في السؤال التقليدي: مَن نحن؟ بل يعني البحث عن الاختلاف ممثلاً في السؤال: ما الذي يُشكّل اختلاف العربي عن الآخرين؟ كما أن الاختلاف لا يُفهم منه «المخالفة»، أي التضاد مع قيم وأفكار وآراء الآخر، بل يُفهم منه، على العكس من ذلك تماماً، «ملامسة» ما يُشكّل اختلافاً مع الحياة الداخلية والعميقة للذات. وعليه فإن هذا الاختلاف قد لا يكون تضادّاً وتعارضاً مع الآخر بالضرورة، ما يُسوّغ لنا الحديث عن «أصالة الاختلاف» إذا ما سلّمنا بأن الاختلاف «لا يُصنع» إنه يُوجد بطبيعته عندما يتسرّب «كامل الذات» إلى التفكير فيظهر التباين أنطولوجياً بذاته.
إنّ العروباتية تعني استمرار «الروح العربية» في المستقبل، إذ يمكننا أن نتوقع ما تكون عليه هذه الروح بعد مئة سنة، لأن ما يصمد خلال هذا الزمن هو ما يبقى من معنى عندما تتآكل الكينونة العربية أنطولوجياً بفعل عوامل مستمدّة من حركة اليومي ونموّه، وعندما تتهاوى الهوية وتتصدّع الانتماءات بفعل تصاعد قوى رمزية مهيمنة على الحياة اليومية بما يعني أن كلّ ما يواجه هذه القوى ويحدّ من حركتها كالدين واللغة والعرق.. يصبح تحدّياً وتهديداً لليومي العربي، إذ يمثّل تراجع اللغة الفصحى أمام اللغة العامية مثالاً واضحاً عن ذلك، كما أن منطق التاريخ يقول بأن «الروح العربية» تسير، في الحاضر والمستقبل، في اتجاه التنازل عن الهويات ومصادرها لصالح تعزيز تماهي تلك الروح مع فكرة «المواطنة» بما هي هيكل رمزي فارغ هوياتياً وممتلئ سياسياً وإيديولوجياً.
[1]- مجلة تأويليات العدد2
[2] جامعة وهران - الجزائر.
[3]- Hegel, Phénoménologie de l’esprit, trad. B. Bourgeois, Paris, Vrin, 2006, p. 68
[4]- Heidegger, Identité et différence, trad. A. Préau, in: Questions I-II, Paris, Gallimard, 1968, p. 296
[5]- Hegel, op.cit, p. 69
[6]- Heidegger, op. cit, p. 296
[7]- G. Deleuze, Différence et répétition, Paris, PUF, 1968, p. 43
[8]- P.Ricœur, Soi-même comme un autre, Paris, Seuil, 1990, p. 13
[9]- G. Deleuze, op. cit, p. 43
[10]- P. Ricœur, op.cit, p. 14
[11]- G. Deleuze, op.cit, p. 43
[12]- P. Ricœur, op. cit, p. 13
[13]- Hegel, op. cit, p. 69
[14]- Heidegger, Ontologie (Herméneutique de la factivité), trad. A. Boutot, Paris, Gallimard, 2012, p. 138
[15]- Ibid, p. 53
[16]- H. Parret, Le Sublime du quotidien, éd. Hdès-Benjamins, Paris-Amsterdam-Philadelphia, 1988, p. 20
[17]- Heidegger, Ontologie, op. cit, p. 115
[18]- Ibid., p. 115.(„Das heute ist das heutige Heute“).
[19]- J. Grégori, Le Quotidien en situations: Enquête sur les phénomènes-sociaux, Presse universitaires de Louvain, 2012, p. 16
[20]- Heidegger, Ontologie, op. cit, p. 127
[21]- J. Grégori, op. cit, p. 17
[22]- M. Trebitsch, «Lefèvre et Certeau: critique de la vie quotidienne», in: Michel De Certeau: les chemins d’histoire, par: Christian Delacroix, Alain Boureau, éd. Complexe, Belgique, 2002, p. 144
[23]- J. Grégori, op. cit, p. 17
[24]- Heidegger, Ontologie, op. cit, p. 53
[25]- Ibid., p. 137
[26]- Ricœur, op. cit, p. 11
[27]- Heidegger, Ontologie, op. cit, p. 137
[28]- Ibid, p. 108
[29]- G. Leblanc, Lectures de Canguilhem: le Normal et le Pathologique, éd. ENS éditions, Lyon, 2000, pp. 49-50
[30]- P. Ricœur, L’Idéologie et l’utopie, Seuil, Paris, 1997, p. 25
[31]- Heidegger, Phénoménologie de l’intuition et de l’expression, trad. G. Fagniez, Paris, Gallimard, 2014, p. 193
[32]- Ibidem.
[33]- M. Trebitsch, op. cit, p. 146
[34]- G. Leblanc, op. cit, p. 49
[35]- George Canguilhem, Le Normal et le Pathologique, in G. Leblanc, op.cit, p. 49
[36]- C. Perlman, Olbrechts-Tyteca, Traité de l’argumentation, t.1, PUF, Paris, 1958, p. 217
[37]- Perlman, op.cit, p. 218
[38]- P. Ricœur, L’Idéologie et l’utopie, op. cit, p. 28
[39]- إن المحكّ الكبير لاختبار معنى "العروباتية" (l'arabité) هو التاريخ، أي بعرض الشخصية العربية على مسار زمني يمكن من خلاله إجراء "المقارنات" و"التباينات" التي تتجلّى فيها ملامح الشكل المميّز والمختلف للعربي. وهنا يمكننا ملاحظة الدور الذي تؤديه شبكات التواصل الاجتماعي التي بدأت تتشكل فيها ظاهرة "الوَسْم" (Le marquage) على الشخصية العربية بتحديد بعض خصائصها السلبية والإيجابية التي تجعلها ضمن قالب مميّز، فالوسم هو التاريخ.