هشاشة المُتعالي، أو صورة الله في أذهان المسلمين
فئة : مقالات
لقد كشفت حادثة اغتيال الكاتب الأردني "ناهض حتّر" عن مُشكل لاهوتي كبير، يُعاني منه المُسلم معاناةً كبيرة؛ تحديداً فيما تعلّق بصورة الله المتموضعة في ذهنه. فمن جهة يجهد المسلم، لكي يُنزّه الله عن أيّ تشبيه يمكن أن يطاله بفعل صورة بشرية، فالذهن البشري عاجز أيما عجز - بحسب المسلم - عن مَوْضعَة الله في قالب، من أيّ نوعٍ كان، بما في ذلك القالب اللغوي، فهو دائم التسلّح بالآية القرآنية: {... ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (سورة الشورى/ الآية 11)، تحديداً الجزء الأول منها: {...ليس كمثله شيء...}!.
ومن جهة ثانية، تمّ قتل "ناهض حتّر" بناءً على صورة كاريكاتيرية صورّت إله بعض الجماعات الإسلامية، وهو يطل عليهم من نافذة ويسألهم عمّا يطلبونه في الجنة. هذا التجسيد لصورة الإله، سَيُعتبر - من قبل من المسلمين - تطاولاً على الذات الإلهية، وتجسيداً لها (في حين أنه لا يفتأ يُردّد الآية القرآنية سالفة الذكر) مما استدعى تدخلّ مسلم مُتحمّس وغيور على الذات الإلهية، فعمل على ذبح ناهض حتّر، أمام قصر العدل في العاصمة الأردنية عمّان.
في الحالة الأولى، يُمارس المسلم نوعاً من الطوبى الذهنية، لناحية اعتقاده بأنه يُنزّه الله عن أي تشبيه بشري له. وفي الحالة الثانية، يكتشف المسلم - بوعي أو بدون وعي - أن الإله الذي يؤمن به، ويعبده ويؤدّي فروض التذلّل له ليل نهار، هو إله قابل ليس للتشبيه اللغوي فحسب، بل للتجسيد الكاريكاتيري أيضاً، بما يضع تلك الطوبى المثالية في حرج معرفي كبير، لناحية انتصار صورة الله المُجسدّة على صورة الله الطوباوية، حيث يقع الإحراج العقدي الأول على المُسلم، وليس على من قُتل بسبب نشره لتلك الصورة المُجسدّة للذات الإلهية. فالأولى بالمُحاسبة هو المُتديّن الذي يفترض إلهاً مُفارقاً لكلّ ما هو زماني وأرضي، ثم بضربةٍ واحدة، يتهافت هذا الادعاء، ويصير الله - على أرض الواقع، وتفتّقه أساساً عن تصوّر مبدئي - محض رسم كاريكاتيري؛ أي أنّ صورته الفاعلة في أذهان المسلمين هي صورة تجسيدية، تشبيهية، وخاضعة لتصوّرات البشر أكثر منها صورة تجريدية، تستعصي على التأطير الذهني.
اللغة المُخادعة وواقعية الذهن الإنساني
ثمة جنوح إنساني على الإطلاق ناحية التشبيه والتجسيد، لما هو متعالٍ ومُفارق للزمكانية البشرية؛ فالإنسان ميّال بطبعه إلى تمثّل المتعالي وفقاً لتصوّراته هو عن هذا المُتعالي. ولقد حظيت الثقافات الإنسانية بنماذج لآلهة يأكلون ويشربون، أو في العموم يخضعون لأنماط التفكير البشري الخاصة بتلك الثقافات، فكما ثمة حيوانات طوطمية لدى بعض القبائل القديمة، واعتبار تلك الحيوانات بمثابة آلهة معصومة، وإنْ دبّت على الأرض وتحرّكت على التُراب. كذلك ثمة تماثيل للبوذا، تجسّده وهو يتأمّل ويجلس كما يجلس البشر. كذلك ثمة حكايات أدبية يونانية ورومانية وسومرية...إلخ، تجعل من الآلهة بمثابة كائنات تُشبه البشر، لكنها تتفوّق عليها في عدّة أمور، مثل المعرفة والقوة.
وقد حدث تطوّر لفكرة الإله في الذهن البشري، وشيئاً فشيئاً، تنامت هذه الفكرة العتيدة، وبدأت تنفصل عن سياقات الإحداثية البشرية، إلى حدّ أن "يهوى"، أو الإله اليهودي، سيكون بمثابة نقطة فارقة في التاريخ اللاهوتي الإنساني، على اعتبار أنَّ آلهةً كثيرة تجمّعت في جِراب واحد، وانبثقت على هيئة إله واحد، يتحكّم بنواميس العالَم لوحده. وستعتبر الديانة اليهودية - بصفتها انبثاقاً عن الجذر الإبراهيمي الذي دعا إلى وحدانية الله - تأسيساً للإله الواحد، على حساب الآلهة المُتعدّدة؛ إلا أنّ ظهور "يهوى" في المتن التوراتي وصراعه مع النبي يعقوب[1]، جعل من هذا التعالي الميتافيزيقي، يخضع لشرطٍ إنساني، يرفض إلا أن يُجسّد ما هو مُتعالٍ، أو على الأقل يبحث عن صورة عقلية، يجعل منها نموذجاً لما يمكن أن يكون مُفارقاً لشرطه الزمكاني. وهذا ما سينطبق أيضاً على الديانة المسيحية في تصوّراتها للإله، فعقيدة التثليث، ستجعل من العسير جعل الإله مُفارقاً للشرط الزمكاني، فالإله من لحم ودمّ، وإنْ كان جذره الأصلي موجود في مَلَكوت السماء.
مع الديانة الإسلامية، سيختلف الوضع قليلاً، على اعتبار أن التمظهر الأكبر لله في العالَم، بموجب الدين الإسلامي، تجلّى في نصّ لغوي اصطلحَ على تسميته بالنص القرآني. فالإحداثية الأكبر لمقاربة الله، من وجهة نظر إسلامية، هي مقاربة لغوية بالدرجة الأولى. ولربما هذا ما انتبه إليه "أبي حامد الغزالي" في الجزء الأول من كتابه (إحياء علوم الدين)، ساعة قدّم تعريفاً طويلاً لله، نزّهّه عن كل تشبيه بشري، ولربما أتت هذه الأطروحة كخلاصةٍ لجدلٍ كلامي إسلامي، كان قد خاض طويلاً في هذه المسألة المُؤرّقة. لكن المفارقة أن هذا التعريف يبقى محض سياق لغوي، يسعى من ضمن ما يسعى إليه إلى مَوْضْعَة الله في سياق ما، ففي نهاية المطاف اللغة اجتراح بشري، وعليه فالله - والحالة هذه - محض صرح لغوي، خاضع لشرط إنساني أكثر من خضوعه لشرطٍ إلهي مُفارِق. حتى في حال استناده على الآية القرآنية: {لَيْسَ كَمثله شيء وهو السميع البصير...}، ليس الأكثر استخدامية فحسب، بل والأكثر حِجاجية في السجالات التي تسعى إلى تنزيه الله تنزيهاً مُطْلَقاً عن أي تشبيه يمكن أن يطاله من بني البشر. فالآية تنطوي على لَبْس مبدئي هَهُنا، فمن جهة تنفي أن يكون الله على شاكلة أي شيء يمكن أن يخطر ببال البشر، ومن جهة ثانية يجعل منه كائناً يسمع ويُبصر. فهو إذن، يستعصي من ناحية على الإمساك حتى التجريدي، وإن تموضع في قالب لغوي، ومن ناحية ثانية ثمة إغراء بالتشبيه، فالسمع والبصر من حواس الإنسان، ولا يستطيع المرء أن يتخيّل كائناً يسمع ويبصر دون أن يُجسّم أو يُجسّد، حتى وإن رسخ في رأسه الجزء الأول من الآية القرآنية السابقة: {ليس كمثله شيء...} أو مقولةً مثل: "بلا كيف"!. فالأذن التي يسمع بها والعين التي يُبصر بها، حتى وإن جُرّدتا إلى آخر حدود التجريد الأفلاطوني، فلا شكّ أنه سيفكّر ساعة استحضارهما، بأذنه التي يسمع بها وعينه التي يبصر بها.
إذن، اللغة مُخاتلة، ويمكن لنقطة واحدة على حرف واحد في كلمة واحدة، أن تُحيل (حبلاً صغيراً) إلى (جبل كبير). وبما أن النصّ القرآني نص لغوي بالأساس، فثمة خضوع لمقتضيات اللغة التي تموضع بها هذا النص. فالإنسان ساعة يقرأ آية مثل {قُلْ هُوَ اللهُ أحد * الله الصَمَد * لَمْ يَلِد وَلَمْ يُولَد * وَلَم يَكُنْ له كُفْوا أحد} (سورة الإخلاص)، فإنه يسعى جاهداً إلى تخليق صورة ذهنية لهذا السياق اللغوي، ويقيناً سيستقي جزءاً من تصوّراته من خبرته وتجاربه في هذا العالَم، لذا لا يمكن الحديث عن تنزيه مُطْلَق، على اعتبار تجريدية الإنسان بشكل كامل، بل هو إحداثية واقعية بالدرجة الأولى، ورؤاه للمتعالي تخضع - بطريقة أو بأخرى - لهذه الواقعية، وإنْ سعى في مراحل متقدمة من سيرته المعرفية إلى التذهين والتجريد والترميز. ولربما هذا ما انتبه إليه المُفكّر "محمد أبو القاسم حاج حمد" في كتابه (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)، ساعة فرّق بين التجربة اليهودية الحسّية، ممثلة بالنبي موسى، وتجربة الوعي المحمدي، كما جاء بها الدين الإسلامي وتجسّدت في شخص النبي محمد. مع مراعاة مقتضيات التطوّر العقلي البشري الذي وصل إلى حالة من التجريد، بما يقتضي انتصار تجربة الوعي المحمدي والدين الإسلامي من ثمّ، على التجربة الحسية اليهودية.
وساعة يقرأ - عطفاً على ما أسلفت - آية مثل: {الله لا إله إلا هو الحي القيّوم لا تأخذه سِنة ولا نوم...} (سورة البقرة/ الآية 255) فإنه سيعمل جاهداً - مهما حاول الإفلات من الواقع، والنزوح ناحية التجريد - على إبراز خبرته الحياتية في تخليق صورة عن الله، فهو سيُفكّر بإلهٍ لا تغمض له عين ولا ينام، وهو يستحضر حالته نائماً ومغمضاً لعينيه، وما إلى ذلك من صور مشابهة.
لكنها، تبقى علامة فارقة في التاريخ الإنساني، أن يرتقي المرء بآليات تفكيره إلى مساحات تجريدية، لا سيما ما تعلّق منها بقيمه العليا، التي لا يستطيع أن يقبض عليها بيديه، بل يبقى مجالها ذهنياً خالصاً، حتى وإن تمظهرت في نسق عيني ما، بعد لأيّ وجهدٍ كبيرين ومضنيين. وفي الحالة الإسلامية ستكون علامة بارزة الارتقاء بمستوى اللغة - حتى ونحنُ نعرف ما يمكن أن تُسبّبه من مراوغة وخداع - التي تُقارب المُتعالي، لكي يُصار إلى إخراجه من حالة الاحتراب التي يمكن للناس أن يقتلوا بعضهم بعضاً بسببها، إلى حالة من التحبّب، تعمل على فتق الشوق بين الإنسان الفاني والقيمة المُتعالية، وعدم رتقه أبداً، بما يمنح الإنسان - أيّ إنسان - نوعاً من الأمل الميتافيزيقي، لا سيما ساعة يُواجَه بخيار الموت.
القتل باسم الله وأنماط التفكير القَبْلي
لكن مسألة الانفتاح على مقاربات جديدة لله في الثقافة الإسلامية، سَتُقابل بالرفض قد يصل إلى حدّ القتل، نظراً لتموضع صورة جاهزة وناجزة عن الله في الذهن الجمعي الإسلامي. وقد كنت قد تحدثت في مقالتي (الخوف من الله، الخوف على الله: الله بين صورتين سيكولوجتين)[2] عن صورة الله السيكولوجية في ذهن المسلم، والعلاقة النفسية التي تربطه بهذا الإله، بما يجعل من استحضار صورة مُجسّدة ومُجسّمة له أمراً لا مفر منه، لذا سنجد أن القاتل الذي قتل الكاتب الأردني "ناضر حتّر" قد أقدم على فعلته تلك، نظراً للعلاقة السيكولوجية التي تربطه بالله، بما يجعله يتبادل الدور معه أثناء أدائه لطقوس العبادة والامتثال لأوامره، فهو لا يرى في الله إلا ما أنتجه العقل الفقهي، الذي أنتجَ إلهاً مُخيفاً لمسلمٍ خائف، وتجاوزه عن صورة الله الأنطولوجي، التي يمكن أن تتمثّل الله من داخل النص القرآني تحديداً، بصفته (إلهاً مُسْتَخْلِفاً) (لإنسانٍ مُسْتخْلَف)، بما يفتح العلاقة بينهما على مساحات جديدة، من شأنها التأسيس لتنظيرات جديدة لما هو مُتعال وما هو زماني، بعيداً عن إكراهات قَبْلية، أنتجت صورة لله وعمّمتها بالتالي، ثم أكرهت الناس عليها، إلى درجة جعلت من هذا المُتعالي هشَّاً مرتين:
مرة يوم أخضعته لنمطٍ أحادي من التفكير الديني، بما حدّد زاوية الرؤية له مُسبقاً، فأية رؤية جديدة له، ينبغي لها التأسيس على ما أُسِّسَ سابقاً. حتى في حال مقاربة بعض النصوص القرآنية، ففهمها مرهون - تحت وطأة التهديد - بما أقرّه ذلك النمط الأحادي، وجعل منه ميزاناً تُوزّن عليه بقية المقاربات اللاحقة.
ومرة ثانية، يوم نقلته من طور المعرفي إلى طور السيكولوجي، فهو مُتعال خاضع لأنماط من الاندفاعات النفسية لا إلى أنماط من التأسيس المعرفي، فالجدل (وهو ما يتجلّى قتلاً في كثير من الأحيان) حول هذا المتعالي، يخضع لما هو قارّ كمُسلّمة سيكولوجية في نفس الملسم، لا كمنظومة معرفية قابلة لاستيعاب كل وجهات النظر، حتى تلك الصادمة ليقينيات البعض ومُسلّماتهم التي وصلت بالتوارث النفسي الجمعي، لا بالبناء المعرفي الفردي. وتلك المقدرة التي ينطوي عليها المُتعالي، أوسع من أن تضيق في عقول البعض، ويُكره البقية على هاته الصور الضيقة، تحت تهديد السلاح، فالعلاقة بين الفاني والمتعالي لا تحدّها حدود من جهة، نظراً لتعدّدها على عقول البشر جميعاً، حتى لو بقوا في امتداد إلى ما لا نهاية، ومن جهة ثانية لا تُمْهَر العلاقة بينهما بالإكراهات الذهنية والدماء المسفوحة، وإلا لتحوّلت إلى علاقة استعبادية بين سيد وعبد، لا إلى علاقة استخلافية بين إله وإنسان.
وعليه، فالقتل باسم الله يتم وفقاً لأنماط قَبْلية من التفكير الديني، ويتحكّم فيه إلى حدّ كبير مفهومنا عن الله؛ فالله المتموضع في أذهان المسلمين، جاهز وناجز تماماً، مع ما يقتضيه هذا التجهيز والإنجاز من تعبئة سيكولوجية كاملة، تدفع المسلم إلى ارتكاب حماقات باسم الله، تضرّ معرفياً أكثر مما تنفع، رغم إيمان هذا المسلم بأنه قد حقّق رضا الله، إثر ارتكابه لهكذا حماقات، فالصورة المُجسّدة في ذهنه عن الله يعتقدها مُنزّهة من ناحية، رغم تهافتها كما أشرت أعلاه؛ لذا - من ناحية ثانية - على الناس قبول هذا التنزيه المُخادِع كما هو، أو بالأحرى كما هي قارّ عند المسلم، بعيداً عن أيّ نقاش يمكن أن يطاله بالنقد والتفكيك، بما يُفضي إلى مقاربات جديدة لهذه الصورة. وأولى بنا، ونحن نواجه مجزرة بحقّ المُتعالي، أن نسحب السكاكين من يدّ المتهوّرين، حتى لا نجرح علاقتنا مع بعضنا بعضاً، فنُدمّر اجتماعنا الإنساني، ولا نجرح - أيضاً - علاقتنا مع الله، فنُدمّر أملنا الميتافيزيقي. وأولى بنا ونحنُ نشرع في سحب هذه السكاكين، أن نُبدع مفهوماً جديداً عن الله - غير الذي وصلنا، ونتقاتل عليه ليل نهار - مفهوماً معرفياً عنه، يسعى من ضمن ما يسعى إليه إلى عدم إخضاع هذا المعنى المُتعالي لرؤية أحادية، قد تدمّر كل ما سواها من رؤى.
[1] الكتاب المقدّس، العهد القديم، سفر التكوين، يعقوب يصارع مع الله.
[2] المقالة منشورة بتاريخ 5/ يناير/ 2016، على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.