هل أختارُ الإسلام دينًا
فئة : مقالات
لو أنني كإنسان وُلدتُ في بيئة مختلفة عن تلك التي نشأت فيها، فهل كنتُ لأعتنق الدين الذي أنا عليه اليوم؟ هل أتمنى أن يحدث ذلك لي، وأن أولد في مكان غير هذا؟ ما أرجوه كثيرًا، ولا يتحققُ من رجائي إلاّ القليل.
لكني سأجيبُ على الصيغة الأساسية للفرضية أعلاه... لستُ أدري حقيقةً إن وُلدتُ في بيئة مختلفة عن هذه البيئة، إذا ما كنتُ سأعتنق الإسلام أو المسيحية أو البوذية أو غيرها من الأفكار الدينية أو اللادينية. ولا أستطيعُ أن أفترض مثلاً، أنه من الممكن أن أكون ملحدًا أو طبائعيًا، إذ تختلف البيئات في الأرض الواحدة والوطن الواحد باختلاف أنماط التفكير.
أذكر أن محمود الذي يعمل مهندسًا في إحدى البلاد التي يمكنك أن ترى فيها كمبوند (compound) للأجانب، يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، ولا ترى فيها نمطين من أنماط التدين والمعتقد! له صديق مصري مسلم، لا يزال يعمل معه إلى الآن؛ لكنه ناقمٌ، منذ زمن، على كل الأوضاع الجارية في بلدنا مصر بكافة مؤسساتها. تحدث مع محمود ذات يوم عن أمنيته، بأنه كان يودّ أن يُولد خارج هذه البلاد العربية كلها... دار الحديث بينهما إلى أن وصل إلى جزءٍ من الصيغة الافتراضية التي نجيب عليها هنا:
من الممكن ألا تكون مسلمًا، إن ولدت خارج البلدان الإسلامية! فأجابه، بأنه ليست لديه مشكلة في ذلك! ربما هو صريحٌ مع نفسه ويحدد خطاها، لكن محمود بعد أكثر من سنة، يخبرني أن صديقه يهوى الاستماع إلى أهل التيار السلفي، وإن كان لا يزال عاشقًا لصور النساء العاريات! كثيرٌ من المسلمين لو سألتهم عن ذلك، لأجابوا: الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة؛ فلا يمكن القبول عنده بهذه الصيغة الافتراضية، وإن تماشى مع الفرض؛ فالجواب بكل قطع ويقين أنه سيختار الإسلام دينًا، وليس هناك على وجه الأرض من دين أو فكرة تغنيه عنه. حسنًا! لكنه هنا يردد كلامًا من قبيل التمجيد والثناء على نعمة ورثها وورث معها يقين أهلها، ولم يبلغه يقينه ما هو فيه، إلا ندرة كابدت لكي تصل!
لا ينكرُ أحدٌ أن للوالدين والبيئة تأثيرًا كبيرًا في حياة الكثيرين منّا، ونادرًا ما يحدث في بيئاتنا تنمية الاستقلال عند الولد أو الفتاة؛ هذا إن كان ثمة استقلال بالأساس، فهو/هي طوال الوقت مجرد تابع لما يردده الآباء لفترة طويلة من العمر، يترسّخ فيها الكثير من المعتقدات التي لا يحيد عنها الولد، وإن بدا ظاهريا ناقمًا على العادات والأفكار؛ فما أن تحكه بظفرك أو يحدث حدث ما، إلا وتظهر لك القشرة الخارجية مهما كانت كثيفة أو تصنّعت في صقلها أصوله ومعتقداته. في حديث شهير عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يشير إلى شيء من هذه الفكرة، حيث يقول : ( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ؛ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ)؛ ربما ينكر البعضُ الآن أن هذا الحديث يعبّر عن ثقافتنا العربية على اختلاف أديانها، إلاّ أن ما يُشار إليه فيه حادثٌ وواقع معاش نشهده ونحياه!
أعودُ إليّ الآن، وأكتفي بالسير حول ظلال ما قيل و يُقال... إن كان ووُلدتُ خارج هذه البيئة، قطعًا سيختلف تفكيري عما أنا فيه الآن، سواء كنت الآن أفهم قليلاً أو كثيرًا؛ فالضيق من المكان (الجامد) يؤثّر في الأخلاق والأفكار، وينعكس على تصرفات الشخص كما الواسع، وكذلك التعليم، والتربية، والأصدقاء، والإعلام، ورجال الفكر والعلم، ورجال الدين، وأهل الأنس والحظ والفرفشة؛ كل شيء يختلف عما هنا، ولكل لون مذاق وإن توحّدت الآلة في جميع البيئات.
لو أنني كنت خارج أرض (التديّنات العربية) لما اخترتُ لونًا من أيٍّ منها، كيفما كانت صورته، وأيّمّا كان عدد معتنقيه، ومهما جمّل فيه مُجمّل، كبيرًا كان أو صغيرًا، مشهورًا كان أو مغمورا، لن أختار تدينًا يقومُ أهله بتوظيفه، من أجل كسب دنيوي عبر أجساد العباد، وهم ينادون، ليلا نهارا، بأن هذا الدين يقول: الدنيا قنطرة وسبيل إلى الآخرة، وليست هي المقصودة، بل ربّها!
لن أختار تديّنًا يجعل من الشخص مدافعًا عن قوى الشرّ، لمجرد أن كبيرًا من أهل هذا الدين عقد صفقة مع رئيس مملكة الشياطين... ففعلُ الكبير قطعًا له حِكمٌ، ومن ورائه غايات لا يدركها الصغار؛ فمهما شاب شعر رؤوسهم يظلون صغارًا عن إدراك كُنه الحِكم! ولا بد أن أجتهد في التعليل والتأويل أو التأمين (آمين)، وتُقام الندوات وتُعقد المؤتمراتُ، ويزعجُ الإعلامُ كافة خلق الله بكل اللغات، من أجل تبرير فعل الكبير، الذي لا يملك من الحكمة فتيلا أو قطميرًا !
لو كنت خارج هذا المكان، لضحكتُ من فعل الصغير والكبير، ولعلي أردد عبر ترجمة مصرية (فاستخفّ قومه فأطاعوه، وهو منهم فهم يستاهلوه).. لن أقول تبًّا لأحدهما، فتبًّا تعبّر عن انفعال وتحيّز يؤمن قائلها بالمخاصمة والدفاع، مهما تحلّق بدائرة الانفتاح وبشّر بالأنوار؛ ولن أكون مثلهم!
لن أختار تديّنًا يكمم الأفواه، ويخرس الإنسان من أجل كلمة ربّ يدعيها بأفعال لا تقنع الصبية أو من رُفع عنهم الحرج والتكليف. هل لمن يتحدث باسم هذه الأرباب، من سبب أو وسيلة يُطلعنا عليها، حتى نتأكد من أسرار ربّه التي يسرّ بها إليه، في غيبة عن كل البشر؟! أية تصورات ساذجة وأي تخريف هذا الذي ما يزال منتشرًا حتى الآن في بيئاتنا ... لا يمكن أن أختار هذه الصور.
لن ولا يمكن أن أختار الإسلام السنّي، الذي أشهده مخاصمًا لغيره من كافة فرق الإسلام الأخرى، كذلك فرق الإسلام الشيعة والإسماعيلية والإباضية وما تفرّخ عنها؛ فكل واحد من هؤلاء يزندق غيره ويكفّره ويلقيه وما يفعل في الجحيم؛ لن أختار المسيحية التي تعم المواطنين هنا أو ما يخالفها؛ فكلهم كأهل الفرق المسلمين، يكفّرون بعضهم البعض ويهرطقونهم، وكل واحد عند نفسه على صواب، وعنده من اليقين ما يكفي لإدخال جمل في خرم إبرة !
ولأن الأماني ليست ممكنة، فسأعود إلى الواقع الذي أنا فيه وبه راضٍ؛ فأنا مسلمٌ، أختار من كل الفرق الإسلامية ما يميل إليه قلبي، ومن الأفكار ما يقنع به عقلي، وأميل إلى الإسلام بنكهته الصوفية أكثر من غيره من النكهات، فمعه أشهد الإنسان يحيا ويتجدد، مهما استتر هذا التجدد بثياب باليات، أو صور مأخوذة عن الغير، أو تشويهات لحقت به، كما تشّوهت غيره من صور التديّنات..
يكفي عندي، أن هذا التدين الصوفي أنتج شخصًا كرابعة... الحلاج... جلال الدين الرومي ...
الحكاياتُ مجرد قشّ يحتوى على هذا القمح ... والمعنى هو القمح المطلوب !
* خالد محمد عبده باحث مصري