هل أزف عصر الإصلاح الديني في العالم العربي؟


فئة :  أبحاث عامة

هل أزف عصر الإصلاح الديني في العالم العربي؟

كل الدلائل تشير إلى أن العالم العربي والإسلامي كله، لا يمكن أن يبقى على حاله إلى أبد الآبدين. عاجلا أو آجلا، سوف يتغير، سوف يتحلحل، سوف يخرج من حالة الجمود والعطالة التاريخية التي سقط فيها منذ الدخول في عصر الانحطاط قبل ألف سنة تقريبا. لا ريب في أنه حصلت محاولات للإصلاح منذ القرن التاسع عشر، وحتى اليوم. ولكنها أجهضت بدليل أن الموجة الأصولية تلتها وأكاد أقول: غمرتها وغطت عليها. أقصد بالموجة الأصولية هنا، ظهور حركة الإخوان المسلمين عام 1928 وتراجعها عن مواقف الإمام محمد عبده الإصلاحية، وتبنيها لمواقف تلميذه رشيد رضا الانغلاقية. وأقصد أيضا انتشار السلفية بشكل هائل، حتى في بلدان ما كانت تعرف معنى السلفية، وكل ذلك بفضل قوة البترودولار. وأقصد بها أيضا انتصار الثورة الخمينية الشيعية التي هي سلفية أيضا، ولم تجدد شيئا يذكر على المستوى اللاهوتي. بهذا المعنى، فالإسلام كله سنيا كان أم شيعيا غطس في السلفية والعودة إلى الوراء. فهل يمكن أن تستمر الموجة الأصولية إلى ما لا نهاية؟ أم أنها ككل موجة، سوف تشهد حالة صعود، فوصول إلى القمة، فانحدار؟ والسؤال المطروح هو التالي: هل ابتدأ عصر الانحدار أم أنها لا تزال في القمة؟

أعتقد شخصيا أن لحظة الانحدار اقتربت أو ابتدأت، وسوف تسرّع منها تجربة الحكم لإخواننا الأصوليين والأخطاء التي سيرتكبونها لا محالة.

ضمن هذا الجو، تقع على كاهل المثقفين كأفراد أو كمؤسسات فكرية مسؤولية تشخيص الوضع القائم وإيجاد الحلول. تقع على كاهلهم مسؤولية مواكبة المتغيرات المتسارعة التي تحصل في العالم العربي منذ سنتين على الأقل. وهذا ما تحاول أن تفعله مؤسسة مؤمنون بلا حدود التي عقدت مؤخرا ندوة ممتعة وغنية بالمداخلات والمناقشات في مراكش. وقد كان لي شرف حضورها والمشاركة فيها. وتميزت بالحرية والمناقشات الخلافية، وهذا دليل صحة وعافية؛ فنحن لا نجتمع لكي نوقع على بياض كما تفعل الأحزاب الستالينية، وإنما لكي يدلي كل باحث بدلوه بين الدلاء كما يقال. والحقيقة تنبثق من خلال الحوار التواصلي العقلاني الديمقراطي كما يقول الفيلسوف هابرماس. لا أحد يمتلك الحقيقة بشكل مسبق، وإنما تتمخض عنها تفاعلات وجهات النظر المختلفة. أيا يكن من أمر، فإن بيانات هذه المؤسسة الوليدة تشير إلى أنها ستسلك خط الإصلاح الديني، بل التنوير الفلسفي أيضا. وهذا شيء يبشر بالخير، شيء واعد بالمستقبل.

كلمة عن الإصلاح الديني في أوروبا

إذا ما نظرنا إلى التجربة الأوروبية، وجدنا أن الإصلاح الديني سبق التنوير الفلسفي بقرن على الأقل أو حتى قرنين؛ فمارتن لوثر ظهر في القرن السادس عشر، وزعماء التنوير الفلسفي من أمثال فولتير وروسو وكانط وسواهم ظهروا في القرن الثامن عشر. لوثر نظف المسيحية من الشوائب والأخطاء والمفاسد بما فيها جشع رجال الدين وانحرافهم عن السراط المستقيم. وقد تجلى ذلك بشكل فاقع من خلال متاجرتهم بالإيمان وبيع صكوك الغفران للشعب البسيط الجاهل. فإذا كان الإيمان الذي هو قدس الأقداس قد أصبح سلعة تباع وتشترى بالمال فما بالك بما تبقى؟ هذا يعني أن الفساد عم المجتمع كله، فإذا ما فسد الدين، أو فسد فهم الدين، فسد كل شيء. ضد هذا الوضع الفاسد للمسيحية الأوروبية ثار مارتن لوثر وانتفض انتفاضة عارمة سجلتها كتب التاريخ بأحرف من نور. وطهر المسيحية من شوائبها وتراكماتها وأسس دينا جديدا تقريبا، هو: البروتستانتية. ولهذا السبب يعتبره الألمان أعظم شخصية في تاريخهم كله. ثم انتشرت أفكاره الإصلاحية في كل أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم. وهذا أكبر دليل على أن المسيحية كانت عطشى للتغيير، وتنتظر قائدها المنقذ الذي يشعل الشرارة الأولى. فكان أن ظهر لوثر هذا، حيث لا يتوقع أحد ظهوره، لأن المسيحية في الشمال الألماني كانت الأقل فسادا.

لكن لوثر الذي أصلح المسيحية وعالجها من أمراضها الداخلية، ظل مسيحيا ولم يخرج على المنظور الديني للوجود. أما فلاسفة التنوير الذين جاؤوا بعده بمائتي سنة، فقد خرجوا على الدين المسيحي عن طريق تحقيق خطوة إضافية بالقياس إليه. لماذا؟ لأن الدين كان قد وقع مرة أخرى في غياهب الفساد والظلام، وأصبح قمعيا من جديد. ثم بشكل أخص لأن الصراع المذهبي الذي جرى بين المذهب الذي أسسه لوثر (أي المذهب البروتستانتي) والمذهب الكاثوليكي البابوي الروماني دمر أوروبا تقريبا. لقد أدى إلى حصول مجازر مرعبة ذهبت بمئات الألوف، بل وحتى بالملايين في شتى أنحاء أوروبا. ولهذا السبب فلم تعد دعوات الإصلاح الديني كافية. لم يعد كافيا الدعوة إلى إصلاح الدين. وإنما أصبح ملحا وعاجلا نقد العقيدة الدينية ذاتها. لهذا السبب خرج فلاسفة التنوير على المسيحية كلها بعد أن نقدوا عقائدها نقدا جذريا راديكاليا لا هوادة فيه. فإذا كانت هذه العقائد تؤدي إلى كل هذه المجازر والمذابح والحروب الأهلية، فهذا يعني أنه يوجد خطأ أو خلل في العقيدة المقدسة ذاتها. هذا الشيء لم يتجرأ عليه لوثر في عصره على الرغم من صدقه وراديكاليته الثورية التغييرية. لماذا؟ لأن الخروج على الدين في عصره كان من رابع المستحيلات. كان يمثل اللا مفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه آنذاك. كان يلزم أن يمر قرنان وتنتشر الأفكار الحديثة وتتطور التقنيات الصناعية، ويثق الإنسان الأوروبي بنفسه وبقدراته لكي يتجرأ على الخروج من الدين كسياج طائفي مغلق على ذاته. ولهذا السبب يقول بعضهم بأن فلسفة كانط ما هي إلا علمنة للإصلاح اللوثري؛ بمعنى أنها تشكل قفزة جديدة في اتجاه التحرر من أغلال الدين وعقائد القرون الوسطى المسيحية. لهذا السبب ألف كانط كتابه الشهير: لدين ضمن حدود العقل فقط. بمعنى أن الدين أصبح يخضع للعقل وليس العقل للدين، أو قل بأنه يحق للعقل البشري أن يغربل العقائد الدينية غربلة صارمة فما توافق منها مع العقل والعلم أبقيناه، وما تناقض معهما تخلينا عنه.

العرب على أبواب الحيرة الكبرى

أصبح واضحا لكل ذي عينين أن العرب والمسلمين جميعا، لا يمكن أن يظلوا متعلقين بتراثهم بشكل عاطفي محض. عاجلا أو آجلا، سوف تفرض العقلانية نفسها عليهم كما فرضت ذاتها على الشعوب المتقدمة. عاجلا أو آجلا، سوف يجدون أنفسهم مدعوين للتخلي عن الفهم المتزمت لتراثهم، وتبني الفهم المستنير المتصالح مع العصر، والسبب هو أن الفهم القديم المنغلق أصبح عالة علينا ويسبب لنا مشكلة مع العالم أجمع. وبالتالي، فنحن على أبواب حيرة كبرى أو طفرة كبرى لا نعرف كيف ستحصل بالضبط. كل ما نعرفه هو أن شيئا ما سيحصل قريبا، وأن الأمور لن تبقى على حالها. لقد انتهى عهد الأيديولوجيا العربية الرثة التي حكمتنا طيلة العقود الماضية، سواء على الهيئة القومجية الشوفينية أو الهيئة الأصولية الكارهة للآخرين أو المكفرة لهم. وبالتالي، فقد حان أوان التغيير الجذري على مستوى الفكر العربي الإسلامي ذاته. السياسة تأتي لاحقا. التغيير الفكري يسبق التغيير السياسي ويمهد له الطريق. نقول ذلك على الرغم من أن التغيير السياسي جار على قدم وساق حاليا، وسوف يطيح بأنظمة الاستبداد والحزب الواحد في كل مكان. هذا ما حصل في تونس ومصر وليبيا وما سيحصل في سوريا قريبا. ولكن ينبغي أن يرافق هذه المتغيرات السياسية الضخمة فكر على مستواها. فالتغيير السياسي بدون تغيير فكري قد يعود بنا إلى الوراء، بدلا من أن يتقدم بنا إلى الأمام. من هنا التخبط والتعثر الذي نلاحظه في كل تجارب دول الربيع العربي. الربيع السياسي ينقصه ربيع فكري كما نرى وبشكل موجع.

لإيضاح كل ذلك، سوف نطرح هذا السؤال: هل ينبغي علينا نحن العرب أن نقوم بالإصلاح الديني أم بالتنوير الفلسفي؟ أعتقد شخصيا أنه ينبغي القيام بهما معا دفعة واحدة. لماذا؟ لأن جماهير الشعب متدينة في غالبيتها، ولا تستطيع فهم التنوير الفلسفي. ولكنها تستطيع فهم الإصلاح الديني إذا ما شرح لها بشكل تبسيطي معقول. أما التنوير الفلسفي، فسيظل محصورا بالنخب العربية المثقفة والمتعلمة جدا، حتى يكون الشعب قد تثقف وتعلم أيضا. وهكذا نكون قد أشبعنا حاجيات كلتا الشريحتين الكبيرتين للمجتمع العربي: أي الشريحة الشعبية، والشريحة النخبوية. وهذه الأخيرة لا ينبغي الاستهانة بها. صحيح، أنها لا تزال أقلية من حيث العدد، ولكنها في حالة تزايد مطرد بفضل انتشار التعليم الحديث والجامعات، ثم بالأخص بفضل ظهور الثورة المعلوماتية. فالمعرفة أصبحت تحت تصرف الجميع بفضل الأنترنيت والحاسوب الإلكتروني الذي يقدم لك المعلومات عن أي موضوع تشاء، وفي كل لغات العالم. وهذه ثورة هائلة لا تقل خطورة عن اختراع المطبعة في عصر لوثر. ومعلوم أنه لولا المطبعة التي نشرت أفكار الإصلاح الديني على أوسع نطاق لما نجح هذا الإصلاح وترسخ. لهذا السبب قال بعضهم: لولا غوتنبرغ لما كان لوثر!

أعتقد شخصيا أن المشايخ الذين يصولون ويجولون على شاشات الفضائيات، ويحتكرون فهم الدين ويسيطرون على الجماهير الشعبية المؤمنة المتدينة قد بلغوا ذروة التفاقم في الآونة الأخيرة. ولكن احتكارهم للدين أو بالأحرى لفهم الدين لن يدوم إلى الأبد. وذلك لعدة أسباب: أولها أن المصلحين من داخل الدين أصبحوا يتصدون لهم. نذكر من بينهم شقيق حسن البنا بالذات: الدكتور جمال البنا؛ فهو يحارب رجال الدين وأطروحات الإخوان المسلمين، بالرغم من أن أخاه هو مؤسس الإخوان المسلمين! وهذه هي إحدى عجائب المفارقات: فالبيت الذي أنجب زعيم أكبر حركة تزمت وإكراه ديني في هذا العصر هو ذاته هو الذي أنجب أكبر مصلح ديني أو قل أحد كبار المصلحين (لا ينبغي أن ننسى المصلح التونسي الكبير محمد الطالبي، فهو لا يقل أهمية عن جمال البنا، إن لم يزد لأن ثقافته الحداثية أوسع). هذه هي إحدى حكم الله تعالى وعبره التي تتعالى على الأفهام. ولكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن جمال البنا خارج على الإسلام لأنه ضد الاخوان! كل ما في الأمر هو أنه يبلور تفسيرا للإسلام غير تفسير المتزمتين الحرفيين أو الحشويين. والواقع أن مفهومه للإسلام أقرب إلى جوهر القر آن وصحيح الدين من مفهوم الإخوان المسلمين والسلفيين عموما. وأكاد أقول بأنه هو المسلم الحقيقي، لأنه أخذ من الإسلام جوهره وطرح قشوره. أخذ مقاصده العميقة وتخلى عن الشكليات الفارغة التي يتعلق بها المسلمون عادة خصوصا بعد الدخول في عصر الانحطاط. يحلو لي أحيانا أن أقارن الأستاذ جمال البنا في الإسلام بلوثر في المسيحية. بهذا المعنى، فإن إصلاح الإسلام تحقق على يد هذا العالم الجليل. أما التنوير الفلسفي الراديكالي للإسلام، فقد تحقق على يد محمد أركون. وهذا يعني أن أركون خطا الى الأمام خطوة إضافية قياسا إلى جمال البنا. وهذا ليس مستغربا، لأن الثقافة الحداثية التي كان يتمتع بها أركون لم يكن البنا يتمتع بها. البنا، حتى، وهو يجدد، يبقى داخل إطار المرجعية الإسلامية حصرا. أما أركون، فقد جدد الإسلام من داخله وخارجه على حد سواء، ولم يبق منغلقا داخله كما يفعل البنا. وهذا ما لم يتجرأ عليه أحد حتى الآن. مرجعية أركون ليست فقط اسلامية، وإنما هي مرجعية الفكر الحديث كله: أي الفكر العلمي والفكر الفلسفي والفكر التاريخي وتاريخ الأديان المقارنة...إلخ، وبالتالي فإذا كان جمال البنا هو لوثر الإسلام، فإن أركون هو كانط الإسلام! ومشروع أركون أصلا يذكرك بمشروع كانط. فالفيلسوف الألماني التنويري الكبير ألف واحدا من أعظم الكتب في تاريخ الفلسفة هو: "نقد العقل الخالص". وأما أركون، فقد ألف على هديه وهدي الفكر الحديث كله كتاب: "نقد العقل الإسلامي"، إذا أردنا أن ندرك الفرق بين إصلاح الإسلام/ وتنوير الإسلام، فلنقارن بين أعمال جمال البنا وأعمال محمد أركون، وهي في رأيي متكاملة وليست متناقضة. وبما أني كنت قد تحدثت عن أركون في عدة مداخلات سابقة، فسوف أكتفي هنا بالتوقف قليلا عند مشروع الأستاذ جمال البنا.

جمال البنا واصلاح الاسلام

صدم الأستاذ جمال البنا طبقة رجال الدين، لأنه أتى بأفكار جديدة غير معهودة ولا امتثالية. ولذلك هاجموه بعنف، ولم يشفع له أن أخاه هو حسن البنا بالذات. من بين الأفكار الاصلاحية للأستاذ البنا نذكر ما يلي: الحجاب ليس فرضا على المرأة، بل وليس قرآنيا على عكس ما نتوهم. انظر كتابه: "المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء". فالقرآن الكريم لا يتحدث إلا عن تغطية فتحة الصدر، وليس الوجه ولا الشعر. يضاف إلى ذلك أن الحجاب وجد تاريخيا قبل الإسلام بألفي سنة؛ فكيف يمكن أن يكون إسلاميا فاذا كان الحجاب ليس قرآنيا ولا إسلاميا، فما بالك بالنقاب الذي يغطي الوجه والجسم كله ما عدا فتحة العينين؟

ثانيا: لا يجوز للرجل تطليق امرأته بشكل منفرد أو أحادي الجانب؛ فكونه تزوج منها بالتراضي، فإن الطلاق ينبغي أن يكون أيضا بالمعروف؛ بمعنى أن رأي المرأة ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار لا أن يتم الأمر بشكل تعسفي من طرف واحد: اذهبي فأنت طالق!

ثالثا: حد الردة ليس شرعيا في رأي الأستاذ البنا، وهو يخالف بذلك إجماع الفقهاء المعاصرين كلهم تقريبا. لماذا ليس شرعيا؟ لأن الكثيرين ارتدوا عن الإسلام في عهد الرسول، فلم يعاقبهم ولم يستتبهم. وذلك انطلاقا من الآية الكريمة: لا إكراه في الدين. وعلى أي حال فحد الردة ليس قرآنيا ولا تجد له أي ورود في القرآن. ولذلك، فإن البنا يرفضه. فقط هناك حديث يقول: من بدل دينه فاقتلوه. ولكن القرآن أعلى من الحديث وأهم. نقول ذلك، وبخاصة إذا كان الحديث مشبوها أو مشكوكا فيه. وهنا تتجلى "لوثرية" جمال البنا إذا جاز التعبير؛ فإسلامه قرآني بالدرجة الأولى، مثلما أن مسيحية لوثر هي إنجيلية. فمارتن لوثر كان يرفض أيضا التراث الكنسي ويشتبه بكلام فقهاء المسيحية: أي الحشو وحشو الحشو والتراكمات التي تفصل بينه، وبين الكتاب المقدس كالحجاب الحاجز. وجمال البنا يفعل الشيء ذاته عندما يعود الى المصدر الأساسي والمنبع الأولي للإسلام؛ أي القرآن بالذات.

رابعا: من الآراء الإصلاحية الجريئة للأستاذ البنا، نذكر موقفه من الأديان الأخرى؛ فهو لا يكفر أتباعها أبدا، وإنما يعتبرهم مؤمنين. إنه يعتقد بوجود عدة طرق تؤدي إلى الله. صحيح أن الإيمان سيكون أفضل لو مر من خلال القرآن والرسول، ولكن لا غضاضة على الإيمان من خلال أديان الكتاب؛ فهو أيضا مقبول عند الله إذا كان صادقا ومرفقا بالعمل الصالح. وهذا موقف قرآني أيضا لأن القرآن الكريم يقول: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"(البقرة. 62). وهذا يعني أن إسلام الأستاذ البنا أقرب إلى جوهر الإسلام ونص القرآن الكريم من إسلام التكفيريين العتاة.

وموقفه الانفتاحي هذا من الأديان الأخرى وبالأخص المسيحية، يذكرنا بموقف الفاتيكان الثاني من الإسلام. لقد رد لهم التحية بمثلها أو بأحسن منها، عندما اعترفوا بالإسلام في ختام ذلك المجمع التجديدي والتحريري الكبير. فهم أيضا قالوا بأنهم يحترمون الإسلام وإيمان المسلمين، لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر... إلخ، وقطعوا بذلك مع موقفهم التكفيري والعدائي ضدنا، وهو موقف استمر ألفي سنة تقريبا.

خامسا: من المواقف الإصلاحية الجريئة والرائعة لهذا العالم الكبير نذكر تفسيره للجهاد؛ فهو يعتبر أن الجهاد الحق في هذا العصر هو جهاد التنمية؛ أي محاربة التخلف والجهل والأمية وانتشال جماهيرنا الشعبية من حمأة الفقر المذقع والتهميش الاجتماعي. وقد لخص كل ذلك بهذا الشعار المدهش جدا في جرأته: الجهاد اليوم ليس أن نموت في سبيل الله، وإنما أن نحيا في سبيله!

سادسا: من مواقفه الإصلاحية الرائعة، قوله بأن الشريعة ليست الحدود. الشريعة في حقيقتها وجوهرها هي العدل، حيثما يكون العدل فتم شرع الله!

ما أجمل هذا الكلام وما أقواه! إنه ينزل على القلب بردا وسلاما ويقلب كل تلك الصورة المشوهة المشكلة عن الإسلام من خلال تطبيق الحدود البدنية المرعبة على يد طالبان وسواها. ومعلوم أنهم بسبب فقرهم الفكري المذقع، فإنهم يختزلون الإسلام إلى مجرد الجلد والرجم وقطع يد السارق الخ. . ومعلوم أن هذه الممارسات الخاطئة شوهت صورة الإسلام في شتى أنحاء العالم شرقا ومغربا. وبالتالي، فلو استمع المسلمون إلى كلام هذا المصلح الكبير لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من ترد وانحطاط وازدراء العالم كله لنا.

أخيرا، ينبغي التنويه بالتفسير الذي يقدمه جمال البنا عن أسباب الانحطاط العربي الإسلامي؛ فهو أيضا مبتكر ويستحق الإعجاب. يقول رحمه الله ما فحواه: نحن نعيش نوعا من الردة بالقياس إلى ما كانت عليه مصر والعالم العربي في الأربعينيات من القرن الماضي؛ ففي تلك المرحلة الليبرالية الحرة كان يمكن لمفكر كإسماعيل أدهم أن ينشر كتابا بعنوان: "لماذا أنا ملحد"؟ دون أن يتصدى له أحد بالمصادرة أو المحاكمة أو التفريق بينه، وبين زوجته كما فعلوا مع نصر حامد أبي زيد. . فقط رد عليه مؤلف آخر بكتاب عنوانه: "لماذا أنا مسلم"؟ وانتهى الأمر. وهذه هي المناقشة الحرة الديمقراطية، هذا هو السجال الحضاري الذي يؤدي إلى سقوط الباطل وانتصار الحق وتوضح الأشياء والإشكاليات.

وحول سبب هذه الردة الفكرية التي نعيشها حاليا، يقول جمال البنا: "إن سببها هو تحول رجال الدين إلى أوصياء على الدين. فما أن يموت الأنبياء، حتى يسعى القيمون على المؤسسات الدينية إلى الوصاية على الدين والمتدينين. ولهذا لم تتخلص أوروبا من تلك الردة الفكرية إلا بعد انتفاضتها على المؤسسة الدينية وظهور عصر النهضة".

نلاحظ هنا أن المصلح الديني الكبير، يضع يده على الجرح بكل دقة؛ فالعلة تكمن فعلا في طبقة رجال الدين التي تحولت إلى كهنوت أخطبوطي، في حين أنه لا كهنوت في الإسلام. ويمكن أن نضيف إلى كلامه ظهور عصر التنوير بعد عصر النهضة، فهو الذي خلص الشعوب الأوروبية من براثن رجال الدين والكنيسة واليسوعيين... إل. .

"أما نحن، يضيف البنا، فقد أغلقنا باب الاجتهاد منذ القرن الرابع أو الخامس الهجري. وهكذا أعطى المسلمون العقل إجازة مفتوحة مدتها ألف عام، حيث شل فيها العقل الإسلامي شللا. والنتيجة كما ترى الآن". .

لاحظ هذا التعبير الرائع: أعطينا العقل إجازة مفتوحة مدتها ألف عام! لهذا السبب ينبغي على "مؤسسة مؤمنون بلا حدود" أن تغلق هذه العطلة المفتوحة، وأن تعيد للعقل اعتباره في كلا العالمين العربي والإسلامي.

ثم يضيف جمال البنا هذا الكلام المهم: "ان حرية الفكر هي بالنسبة للمجتمع كالهواء بالنسبة للإنسان : فإذا امتنع الهواء عن الإنسان اختنق. وإذا امتنعت حرية الفكر عن المجتمع اختنق أيضا. ومرجعيتنا في ذلك وثيقتان عظيمتان مع الفارق اتفقتا على هذا هما القرآن الكريم وإعلان حقوق الانسان والمواطن. يقول الله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". ويقول أيضا: "لا اكراه في الدين". ويقول: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" . ويقول أيضا: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة". وبالتالي، فلا ينبغي الحجر على الفكر أو الوصاية عليه.

ثم يختتم الأستاذ البنا كلامه قائلا ومشخصا الوضع بشكل أدق فأدق:

"نحن نعيش في عصر محاكم تفتيش يضع قضاتها العمائم على رؤوسهم، فيصادرون الفكر ويرهبون المفكرين. ولهذا السبب، فإن المسافة بيننا وبين الدول المتقدمة تتسع بدلا من أن تضيق، وهي الآن تبلغ مائتي سنة، ولكنها مرشحة للتوسع أكثر فأكثر. والحق يقع على الشيوخ القائمين على المؤسسات الدينية الذين من مصلحتهم بقاؤها في وضعها الساكن الراهن. لماذا؟ لأنها تؤمن لهم النفوذ والمكاسب المالية والمعنوية والأدبية". (للمزيد من الاطلاع انظر على الانترنيت تلك المقابلة المطولة والمهمة التي أجراها معه اميل أمين بعنوان: حوار ما قبل الرحيل مع المفكر جمال البنا)

هكذا، نلاحظ أن تشخيصه واضح جدا لا لبس فيه ولا غموض. إن الحق يقع على طبقة رجال الدين المسيطرة على العقول: أقصد عقول عامة الشعب. انظر الفضائيات والشيوخ التلفزيونيين! وبالتالي فالمعركة القادمة، معركة التحرير الفكري في أرض العرب والإسلام، ستقع بين المثقفين الليبراليين ورجال الدين القروسطيين هؤلاء. ينبغي أن نخلص الشعب الأمي الجاهل من براثنهم كما خلص فلاسفة التنوير الأوروبي شعوبهم من براثن الكنيسة والإكليروس المسيحي. على هذا النحو يحصل الإصلاح والتنوير المنشود.

مؤسسة مؤمنون بلا حدود: من الإصلاح الديني الى التنوير الفلسفي

سوف أقول كلمة أخيرة ومختصرة عن هذه المؤسسة الجديدة التي تتنطح لإصلاح الإسلام. أقول ذلك وبخاصة أنها ستعقد مؤتمرها التدشيني الكبير بعد عشرة أيام فقط (25-26 ماي) في مدينة "المحمدية" الجميلة اسما وهيئة، شكلا ومضمونا. وذلك بحضور مائتي شخصية من كبار المثقفين العرب والمسلمين التجديديين، وهو حدث يستحق التنويه.

يبدو من رسالة هذه المؤسسة وبياناتها، أنها عقدت العزم على تجديد الفكر العربي الإسلامي ومواكبة المتغيرات الضخمة الجارية حاليا. وأعتقد شخصيا أنها لن تنجح في مهمتها إذا ما اكتفت بعطاءات المثقفين العرب فقط، حتى ولو كانوا مجددين ومجتهدين. ينبغي أن تضيف إليهم عطاءات المستشرقين الكبار من جهة، وفتوحات الفكر العالمي من جهة أخرى. ينبغي أن نخرج من تلك المجادلة الإيديولوجية العقيمة حول الاستشراق ونفرق بين الاستشراق الأكاديمي العالي المستوى/ والاستشراق السطحي المسيس. لا ينبغي أن نخلط كل شيء بكل شيء، أو أن "نرمي الطفل مع الغسيل الوسخ" كما يقول المثل الفرنسي. لماذا ألح على هذا الاستشراق الكبير؟ لأنه هو الذي طبق المنهجية التاريخية النقدية على التراث الاسلامي لأول مرة، مثلما طبقها علماء أوروبا الآخرون على التراث المسيحي، وأتت بنتائج باهرة ومفيدة جدا. هذا لا يعني أننا سنأخذ أبحاثهم وكأنها كلام معصوم، وإنما يعني أنه ينبغي الاطلاع عليها ومناقشتها، لأنها تخصنا وتخص تراثنا بالدرجة الأولى. هل يعقل أن نظل جاهلين بما فعله جوزيف فان ايس مثلا عن كيفية تشكل الفكر الديني في بدايات الإسلام الأولي هل يعقل أن تظل الأبحاث الاستشراقية المدعوة بالدراسات القرآنية مجهولة من قبلنا؟ نقول ذلك، ونحن نعلم أنها شهدت تطورا هائلا في العقود الأخيرة. وكانت نقطة الانطلاق الأولى هي المدرسة الفيلولوجية الألمانية وأبحاث نولدكه الرائدة عن "تاريخ القرآن". ولكن ظهرت بعده وعلى أثره أبحاث مستجدة عديدة لمستشرقين كبار وينبغي أن نعرفها أو نتعرف عليها. نفس الشيء يقال عن أبحاث البروفيسور وائل حلاق الأستاذ في جامعة كولومبيا بنيويورك عن كيفية تشكل الشريعة والفقه الاسلامي. وقس على ذلك كثير. ينبغي أن نعرف التمييز بين الرؤيا التبجيلية للتراث/ والرؤيا التاريخية التي يقدمها لنا الاستشراق الأكاديمي. باختصار ينبغي أن ننتقل من مرحلة القصور العقلي إلى مرحلة النضج وسن الرشد كما يقول كانط في تعريفه للتنوير. لا يمكن أن نظل متعلقين بتراثنا بطريقة طفولية، عاطفية، إلى الأبد. لقد أصبحنا مدعاة للسخرية والاستهزاء. لا ريب في أننا سنظل نحبه ونعتز به. ولكننا سنضيف إلى هذا التعلق العاطفي المشروع التعرف عليه بطريقة موضوعية عقلانية استكشافية تليق به وبعظمته التاريخية. إذا استطاعت "مؤسسة مؤمنون بلا حدود" أن تعرّف بكل هذا الإنتاج المعرفي الاستشراقي الضخم عن طريق الترجمة أو التلخيص والعرض النقدي، فستكون قد أدت خدمة كبيرة للقاريء العربي.

هناك شيء آخر مهم، يمكن أن تفعله غير الاستشراق: ألا وهو تعريف القارئ بالنظريات العلمية والفتوحات الفلسفية والدينية التي تعاقبت على أوروبا منذ القرن السادس عشر، وحتى اليوم. ينبغي أن ننقل إلى اللغة العربية كل الفتوحات المعرفية التي توصلت إليها البشرية. فهذه هي الطريقة الوحيدة لتقليص الهوة السحيقة بين الفكر العربي/ والفكر العالمي. يضاف إلى ذلك أن عملية النقل هذه إذا ما نجحت، فسوف تنقذ اللغة العربية من خطر التهميش الذي يتهددها. سوف يساعدها على أن تعود لغة علم وفلسفة تماما، كما كانت عليه إبان العصر الذهبي، حيث كانت لغة الحضارة الأولى على المستوى العالمي تماما كالإنكليزية اليوم. وبالتالي، فهناك أشياء كثيرة يمكن لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود" أن تفعلها عن طريق تجييش طاقات الباحثين العرب في المشرق والمغرب على حد سواء. لن ينجح الإصلاح الديني ولا التنوير الفلسفي، إذا لم ننجز هذه الطفرة المعرفية الكبرى. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن أن نتجاوز الحيرة الكبرى التي نتخبط فيها حاليا.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا