هل الربيع العربي يفكر؟
فئة : مقالات
هل الربيع العربي يفكر؟[1]
دخل ما يُسمّى "الربيع العربي" عامه الثالث، وما تزال الآراء تترنحّ بين مؤيد له وبين معارض، لأنّه لم يُعط ثماره الثورية بعد. يتساءل البعض إن كان اسم الربيع العربي لائقاً أصلاً، نظراً للظلمة والدموية التي تميز كثيراً من انتفاضاته؛ من تونس (قبل الاهتداء إلى التوافق على الدستور الجديد مع بدايات 2014) إلى مصر وليبيا وسوريا، أو تثاقل التغيير كما في الأردن والمغرب، أو انعدامه في الجزائر ومعظم بلدان الجزيرة العربية. فأيّ ربيع هذا؟ يجب ألا ننسى أن ما تـأتي به الثورات بداية ليس كلّ التغيير، بل روح التغيير التي تفعل فعلها مع مرور الوقت ومع تضافر عدد من الظروف الداخلية والخارجية. إنّ هذه الروح هي التي تحقق الثورة على أرض الواقع عبر تغيير الفكر السياسي والثقافي والاقتصادي والعسكري للمجتمعات الثائرة. إنّ الثورة الأمريكية لم تحقق أهدافها إلا بعد مرور عقود من الزمن: ألم تنفجر الحرب الأهلية وبعدها بعقود أخرى حركة تحرر السود والدفاع عن المساواة؟ ألم تتعثر الثورة الفرنسية لعقود طويلة قبل أن تقف على رجليها قوية؟ ألم تنفجر دموية الثوار التي تعرف بالاستبداد/تيرور مثلاً، وتلتها عودة الملكية بدل الجمهورية؟ ألم تدخل بلاد الحرية والمساواة في استعمار العالم بعد أفكارها الثورية التحررية؟ إنّ الثورتين استغرقتا عقوداً من الزمن لإيقاف العنف والفوضى، حوالي قرنين من الزمن قبل أن تحققا التغيير الذي نرى نتائجه الآن. إنّ العالم ليس مجبراً على أن يمرّ بنفس مراحل الثورة والتغيير، بل يجب عليه النظر والاهتداء إلى أقصر السبل وأفضلها لذلك. على العالم العربي أن ينفتح على العالم الآسيوي بحضاراته القديمة العريقة وحاضرها الحر والفاعل عالمياً، من أجل استنباط التحديث من الداخل.
لكلّ مجتمع ثورته التي تنفجر عندما يُتمادى في سرقة ثروته. ولأنّ الثورة تعبير عن غضب، فقد يبدو أنّها تحس ولا تفكر، تنفعل قبل أن تفعل، وهذا صحيح نسبياً فقط. وفي المقابل، لا يمكن القول إنّها تفكر بامتياز، لأنّه لو كان الأمر كذلك لما اتجهت الثورة البلشفية إلى نهايتها اللااشتراكية، ولما دخلت سوريا في حرب داخلية تلعب أوراقها في الخارج. إنّ الثورة تفكر في التغيير بفتح الباب على كلّ التوجهات السياسية والفكرية المختلفة من أجل أن توضح صورة تفكيرها. لو كانت تفكر وواثقة من تفكيرها الذي يجمع عليه غالبية الناس لما خرجت إلى الشارع طلباً للتغيير. هذا المقال محاولة لفهم الربيع العربي عن طريق استحضار التحديات الكبرى التي تواجهه داخلياً وخارجياً.
إنّ الربيع العربي يعيش تلك المرحلة الأولى من الثورة من أجل التغيير، مرحلة تميزها صعوبات داخلية وخارجية. إذا كان الربيع العربي ثورة، فإنّ ملامحها ستظهر مستقبلاً. ما يزال العالم العربي يستنهض ذاته وقواه منذ حوالي قرنين من الزمن بشكل سلمي، والقصد هنا هو النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر. وجدت النهضة الحالية نفسها مجبرة على استنهاض الشعوب العربية للخروج إلى الشارع سنة 2011 كما لو أنّها كانت تحمل شعار "أنا أثور، إذن نحن موجودون". إذا ما سمحنا لأنفسنا باستعمال وتغيير مقولة الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو "أنا أثور، إذن أنا موجود". لاحظ ثورة الأنا من أجل الجماعة: "أنا" من أجل "نحن".
الأزمة في العالم العربي المعاصر هي أزمة فلسفية وجودية بالأساس. لهذا السبب يمكن قراءة الربيع العربي كثورة، أو كنهضة أو قومة بتعبير أكثر قرباً من القاموس العربي. إنّ الربيع العربي يفكر، والتفكير ليس فعلاً قصيراً أو حركة محدودة في الزمان والمكان. التفكير سلسلة نهضات وتساؤلات وخيبات كذلك، ممتدة في الزمان والمكان. وهذا يستغرق وقتاً، ولذلك نعتبر أنّ النهضة العربية التي بدأت منذ قرنين لم تنته بعد، أي لم تثمر بعد، لأنّ تفكيرها ما يزال ممتداً إلى حاضرنا، وسيمتد إلى المستقبل أيضاً. إنّ الربيع العربي ما يزال يفكر في سبل الخروج من أزمته، وهذا يحسب له وليس عليه، رغم خيباته وسقطاته. إنّه فكر مقاوم، لأنّه غني، ولو كان عكس ذلك لاجتُثّ منذ مدة. والمطّلع على التاريخ الفكري للمنطقة أعلم وأفهم بما يراد هنا.
إذا ما نظرنا إليه تاريخياً منذ استيقاظ العالم العربي على أصوات مدافع نابوليون عند غزوه لمصر، يمكننا اعتبار الربيع العربي لحظة حاسمة من ناحية النقاش الفكري الذي تعرفه المنطقة حول كيفية التحديث وولوج العالم المعاصر بثقة، بفكر غني مساهم وليس مجرد مقلد وتابع. يقول المفكر الراحل قسطنطين زريق: "ويل لأمّة لا تقلق"؛ أي لا مستقبل لأمّة لا تفكر في واقعها وكيف تعيشه في أحسن صورة ممكنة، دون أن تدفن التراث الذي أدخلها يوماً إلى التاريخ. الربيع العربي هو الوجه المعاصر لهويّة قديمة ولشخص شيخ اسمه "العربي". إنّ العربي في حالة متاهة فكرية كبرى لأنّ المسألة مسألة وجودية، لذلك تراه يراجع تراثه ويتشبث به، وفي الوقت نفسه ينقده ويعيد قراءته ويفتحه على حضارات العالم المتعولم، جاعلاً قيمتي الحرية والمساواة دليله في إعادة تركيب وقراءة تراثه. وهاتان القيمتان كانتا عبر التاريخ سبباً في استنهاض الشعوب وفي نهوض حضارات. إنّ الديانات نفسها تستعمل هذه القيم عند خروجها للوجود والتاريخ، والشيء نفسه يقال عن الفلسفات الملهمة والإيديولوجيات المؤثرة عموماً. والربيع العربي ليس استثناءً في هذه الدورة التاريخية.
إنّ أزمة الربيع العربي هي أزمة حضارة برزت وساهمت في الحضارة العالمية منذ ظهور الإسلام كعنصر رئيس من مكونات هويتها. لأنّ الحضارات تنهض وتزول، فليست الحضارة العربية الإسلامية استثناء. لم ينهض الفرس ليعيدوا مجدهم كما عاشوه سابقاً. ولم يفعل الشيء نفسه كلّ من الإغريق والرومان والعثمانيين مثلاً، ولن يفعلوا. ما وقع هو أنّ هذه الحضارات الكبرى تنهض من جديد إذا ما توفرت لها الشروط لذلك في جغرافيات مختلفة وبأفكار مختلفة عمّا كانت عليها الحضارة في الأصل. تبعاً لذلك، نرى أنّ إيران امتلكت ما به تحاول إعادة الرجوع، انطلاقاً من تاريخها كحضارة فارسية بنكهة دينية شيعية وقومية، والغرب امتلك إرث الإغريق والرومان وتراث الدين المسيحي-اليهودي أساساً، وتركيا امتلكت إرث الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، كما امتلكت روسيا إرث الاتحاد السوفياتي، الذي عاد إليه الدين بعد محاولة طمسه زمن الاتحاد. الدورة التاريخية نفسها يمكن إسقاطها على العالم العربي. إنّ "العربي" لن ينهض، على الأقل في المستقبل القريب، كي يرى نفسه كما كان في أوج ازدهاره الحضاري الماضي. إنّ هذه الصورة الحضارية الكبرى هي نفسها ما يكبل العالم العربي الإسلامي من النهوض، لأنّها تحبس أفق تفكيره في وقت تغيرت فيه طرق التفكير وتسيير العالم كما فرضها الغرب خصوصاً. إنّ نظارات ازدهار القرون الوسطى لا تصلح لزماننا، لأنّ للتاريخ خطّاً يسير عليه ـ ولا أقول هنا فلنرم التراث. كلا، كما أنّ الصورة المزدهرة لماضينا نفسها قد شوّهها الغرب وأصبحت تبدو للعالم همجية ومتخلفة، صورة يتغذى بها جمع غير يسير من المثقفين العرب الذين يرون في الحداثة الغربية نهاية التاريخ. لأنّ العربي ما يزال يفكر في المسار الفكري الذي سيدخل به العالم كمساهم مبدع وحر، فإنّه يمكن اعتبار ثورات الربيع العربي المأزوم مرحلة ثالثة أو نهضة ثالثة بعد النهضة الأولى التي نؤرّخ لها بمجيء الإسلام وازدهارها في العصور الذهبية، العصر العباسي الأول خصوصاً، والنهضة الثانية التي طبعت النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين. أمّا النهضة الثالثة، فهي امتداد للثانية، ويمكن التـأريخ لبداياتها بسنة 1967ـ سنة الهزيمة السياسية/العسكرية كما سنشير إليه فيما يأتي.
إنّ التحديات التي تواجه النهضة الحالية كبيرة جداً، يمكن إيجاز ملامحها في ثلاث نقاط، اثنتان خارجية وواحدة داخلية، وكلها متشابكة غير منفصلة عن بعضها بعضاً. أولاً، أنّ النهضة في العالم العربي فعل جبري، فاعله خارجي. إنّ هناك عاملاً خارجياً هو الذي يجبر العالم العربي على التفكير في النهوض والتغيير. إذا كانت النهضة الأولى قد قادها رسول عربي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فكانت بذلك نهضة من الداخل، من العرب أنفسهم، فإنّ النهضة التي يعملون من أجلها حالياً مدفوعة من الخارج. رغم عدم اتباع الرسول الكريم "محمد" بداية فإنّ العرب بصفة عامة انتصروا له بعدما زرع فيهم نموذجاً للوجود والنظام لم يعهدوه من قبل. أمّا العرب حالياً فإنهم لا يرون أنّ الحداثة من صنعهم أو حصيلة فكرهم أو فكر يحترمهم ولا ينتقص من فكرهم وتراثهم. إنّها منتوج من صنع الآخر الذي استعمرهم، وما يزال يستعمرهم ويدنس مقدساتهم، لذلك فهم يرفضون هذا المنتوج وصاحبه الغرب لأنّه ليس منهم، بل هو خارج مجالهم الفكري والديني والسياسي وحتى الجغرافي. لذلك، فالدفاع هو سبيل المواجهة في هذه الحالة. (والعالم العربي الذي أقصد هو المجال اللغوي والثقافي الإسلامي، وليس العرقي).
ثانياً، برز الرسول الكريم في القرن السابع الميلادي كقائد سياسي محنك في وقت كانت فيه الإمبراطوريتان العظميان ـ الفرس والروم/ البيزنطيون- تعيشان آخر أيامهما بعدما أنهكتهما الحروب والعداوة حوالي أربعة قرون. كانت الظروف الدولية إذن، مواتية لقوة أخرى للصعود، وهو ما قام به العرب المسلمون، والمسلمون غير العرب من فرس وبربر وأتراك وغيرهم. أمّا الآن، فإنّ النهضة العربية تواجهها إمبرياليات ودول عظمى غرباً وشرقاً، ممّا يجعل النهوض صعباً جدّاً. ما يصعّب الأمر أكثر هو أنّ هذه القوى العظمى ـ والغرب بالخصوص- تعيق هذه النهضة، بل وكما تمّت الإشارة من قبل، تشوّه صورة العربي في التاريخ وتصوره لتاريخه، فتجعل التاريخ الأوروبي الحديث كأنّه كان دائماً حديثاً والتاريخ العربي كأنّه كان دائماً ديكتاتورياً ومتخلفاً. إنّها سرقة للتاريخ بكل بساطة. إنّ أغلب المشاكل السياسية الكبرى في العالم العربي المعاصر زرعتها القوى الإمبريالية، وما النزاعات حول الحدود الجغرافية والحروب الأهلية والطائفية إلا أمثلة. إنّ العالم العربي يستنشق كلّ يوم رائحة الإمبريالية، ويحاول كل يوم بناء دولة حديثة على شاكلة الدولة الأوروبية ليجد نفسه محاطاً بعراقيل من هذه الدولة نفسها التي لا تريد له التحرر. إنّ مظاهر الاستعمار ما تزال قائمة. إنّ الحالة الراهنة في سوريا المدمّرة والتي تتجاذبها القوى الإمبريالية الكبرى تذكّرني بآخر فقرة في كتاب: "أين يكمن الخطأ"؟ (2002 ? What Went Wrong) للمؤرخ الأمريكي المعروف بيرنارد لويس. في آخر هذا الكتاب يحذّر الكاتب العالم العربي الإسلامي من السقوط مجدداً في الاستعمار إذا لم يراجع ذاته وتفكيره وسياساته، وقال: إنّ هذا الاستعمار قد يكون من أوروبا أو روسيا أو من قوة صاعدة من الشرق.
ثالثاً، إنّ العاملين الخارجيين أعلاه لا يبرّآن العرب أنفسهم ممّا هم فيه. صحيح أنّ النهضة والإصلاح على مهل لم يتم ولم تتح له الفرصة. وحقيقة إنّ الاشتغال على مهل لم يكن يوماً شرطاً حاضراً في قيام الحضارات. لم تنهض أمّة أو حضارة أو دين أو إيديولوجيا معينة من لا شيء وعلى مهل، بل هناك دائماً عوامل داخلية وخارجية تساعد على ذلك وأخرى تعرقل ذلك. إنّ مواجهة التحديات هي التي تغذي الأمل وتستنهض الأمم والشعوب وليس انتظار ساعة الهدوء التي قد لا تأتي أبداً. إنّ التاريخ إزعاج وانزعاج. والعالم العربي منذ نهضة القرن التاسع عشر لم يقرر بعد: هل يختار الحداثة التي تجعل العقل وحده سيّد الإنسان والفيصل في الأمور؟ أو هل يختار العقل والنقل معاً، أي العقل دون أن يقتل الإله و يترك الوحي الذي يعطي معنى لحياته خارج نطاق تفكيره؟ إنّه الاختيار الصعب الذي لم يحسم بعد. إنّ العرب يمسكون بالعصا من الوسط: يريدون الحداثة ويريدون إعادة إحياء الوحي كما عاشه السلف منذ خمسة عشر قرناً، وهو أمر ليس سهلاً على الإطلاق، ليس لأنّ حداثة أخلاقية مبدعة غير ممكنة، بل لأنّ الحداثة غيّرت من نمط تفكير الإنسان، ممّا يستوجب إعادة فهم الوحي والشريعة حسب ما جادت به الحداثة من جديد. إنّ الحداثة الغربية تغيّب الغيب، بل تزدريه لأنّ الوحي في تاريخها غير تاريخه عند العرب. لذلك يتمّ خلط التواريخ لجعل الحداثة الغربية الحل الوحيد والأوحد، وكأنّ كل العالم عاش التاريخ الأوروبي نفسه. الحداثة الغربية تركّز على حقوق الإنسان في هذا العالم. أمّا الوحي أو الدين بشكل عام، فهو يركّز على واجبات الإنسان من أجل العالم الأخروي الدائم. وهنا المحك للإنسان العربي الذي يريد العالمين معاً. ولكي لا نطرح السؤال على النمط الأوروبي، نقول إنّ الاثنين ممكنان بشرط إعادة التفكير في طرق قراءة التراث، واختيار الأصلح لهذه الظرفية التاريخية. إذا كانت مناهج البحث والتفكير في التراث متعددة، وجميل الاغتناء بها فكرياً، فإنّ السياسة لا تقبل التعدد الفكري النظري والتجريدي كما تقبله الفلسفة، ولو أنّهما متداخلان ويؤثران في بعضهما بعضاً. لذلك لا بدّ من اختيار منهج فكري قادر على توضيح المنهج السياسي المطلوب الآن. للعرب المسلمين أن يختاروا سياسياً بين مدرسة الغزالي ومدرسة ابن رشد، أو بين مدرسة طه عبد الرحمن ومدرسة محمد عابد الجابري، على سبيل المثال.
هذا الوهن في القطع مع أي نموذج فكري أصلح للحظة الراهنة يعكس نفسه في الواقع كوهن سياسي لا رؤية له. إنّ هذا يفسر كذلك انتفاء الرؤية لدى العامة من الناس التي تتبع السياسيين وخطاباتهم، فتراها؛ أي العامة، تصوّت من أجل العلمانيين أحياناً، ومن أجل الإسلاميين أحياناً أخرى خلال فاصل قصير من الزمن: مثال ذلك ثورة مصر في 25 يناير 2011 والثورة المضادة في 30 يونيو 2013، والشيء نفسه يقال عن تونس قبل توافقها في فبراير 2014 على الدستور. إنّ الجانب الأسود من الحداثة ـ من استعمار وهيمنة - والجانب الأسود للعلمانيين القوميين العرب ـ حزب البعث في سوريا والعراق- ساهما في تصوير الحداثة في أبشع صورها في العقل الجمعي العربي، وخاصة إذا كانت هذه الحداثة مقرونة بازدراء الدين الذي له مكانة خاصة في سيكولوجية الإنسان العربي. أرى أنّ "العربي" قد يتجاوز مسألة تطبيق حدود الشريعة ويتسامح مع شعائر العبادة كما تدلّ على ذلك الأبحاث السوسيولوجية المختلفة، لكنه لا يبدو مستعداً أبداً في التسامح مع إقصاء الدين، وخاصة في معناه الروحي والأخلاقي من الفضاء العام والخاص. إنّ المجال العربي كان عبر التاريخ مجالاً للأديان وخاصة الأديان السماوية، ولذلك فالإنسان العربي القديم والمعاصر على الأقل لا يرى معنى للحياة بدون دين، إن لم يكن كثيره فبعضه.
لأنّ النهضة العربية الأولى كانت مدفوعة بالقيم الدينية، لذلك يبدو أنّ أية نهضة مستقبلية لا بدّ لها من الدين كرفيق ومغذ لها. فقد تستحيل النهضة إذا ما قطعت خيوط الاتصال الإبستيمولوجي/ المعرفي مع التراث الذي يغذي مجالها الأنطولوجي/ الوجودي. إذا كانت الأسئلة الوجودية هي التي حرّكت النهضة العربية الأولى، فإنّ هويتها ستبقى عبر التاريخ مرتبطة بهذا النموذج الوجودي الذي ينتج معرفة في مدار هذا الوجود. إنّ أسئلة النهضة الثانية والثالثة الحالية لم تقطع مع هذا السؤال الجوهري، كما سبق ذكره. بتعبير آخر، كيف يمكن التغيير من أجل التحديث دون القطع مع الغيب/الوحي؟ وهل القطع المعرفي يعني بالضرورة القطع الأنطولوجي، كما تمّ في أوروبا مثلاً، أم أنّ الإبداع لحل السؤال هو الجواب؟ أليس درس الهند واليابان في الديمقراطية والتحديث، جنباً إلى جنب مع التراث والدين، درساً يجب الانفتاح عليه؟ تجدر الإشارة إلى أنّ الجامعات الغربية وسياسة الغرب والإنسان الغربي يحترم الشرق الأقصى أكثر من الشرق الأوسط الإسلامي، لأنّ الأول نهض وأصبح يفرض ذاته المستقلة مستعملاً مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان نفسها التي يستعملها الغرب. مثال بسيط من الحياة اليومية: تترجم السينما الغربية وتبثّ أفلاماً يابانية وهندية وكورية وصينية على شاشاتها للإنسان الغربي من أجل المتعة والانفتاح كذلك. أمّا الإنسان العربي/المسلم، فهو على الشاشة الغربية فقط كمتطرف، وعند الحديث عن الطائفية والعنف والهجرة. أمّا ترجمة الأفلام والمسلسلات العربية وبثها إلى الإنسان الغربي فهو من غير الممكن، حالياً على الأقل، لأنّ الجميل في العالم العربي ليس بواقع لدى أصحاب الأرض أنفسهم. عندما نرى الجميل بيننا سيراه غيرنا كذلك.
إنّ النقاش الدائر بين العلمانيين والليبراليين العرب والإسلاميين ـ وأنا أستعمل هذه التقسيمات هنا دون الخوض في محتوياتها وجزئياتهاـ هو حول السؤال كما صيغ أعلاه، لأنّ النهضة العربية الأولى كانت إسلامية أساساً فإنّ الإسلاميين حالياً يرون أنّ الدولة الحديثة يجب عليها ألا تتضارب مع الدين. إنهم يقرؤون الحداثة في التاريخ والإسلام وهو إسقاط خاطئ. إنّ الدولة الحديثة لا تريد سلطة أخرى تنافسها، والدين سلطة كذلك وهو بذلك منافس للدولة. أمّا المساواة بين الخلافة وبين الدولة الحديثة، فهو كذلك إسقاط خاطئ ينسى أنّ الخلافة ممتدة جغرافياً ولا مركزية على العموم، أمّا الدولة الحديثة فقوتها في مركزيتها. حتى النماذج الفيدرالية مركزية فكرياً، وإن لم تكن كذلك إدارياً. الإسقاط نفسه يتمّ حول حقوق المرأة والمواطنة. إنّ إسقاط الحاضر على الماضي أمر غير صائب. أمّا الإسلاميون المتشددون، فإنهم يرفضون الدولة الحديثة بإطلاق، لأنّها من صنع الغرب الكافر، حسب تعبيرهم. إنّ منظومة العلاقات الدولية وعلاقة الدولة الوطنية بمواطنيها قد تغيّرت جذرياً مع الحداثة، وهو ما لم تفهمه جيداً أغلب الحركات الإسلامية، باستثناء الأحزاب والحركات الحاكمة في تركيا وإندونيسيا بعد عقود من الزمن من السقطات. ربما يكون حزب حركة النهضة في تونس قد وعى الأمر تدريجياً، ولذلك انسحب من قيادة الحكومة مع بدايات سنة 2014 لأنّ العلمانيين والسلفيين صعّبوا من عملهم، وكذلك لأنّهم بدؤوا يعون أنّهم في حاجة إلى فهم أكثر لدواليب الدولة الحديثة. أمّا العلمانيون العرب فإنّ المتشددين منهم يرتكبون الخطأ نفسه في قراءة التاريخ الإسلامي الذي يرتكبه الإسلاميون ولكن عبر بوابة أخرى: إنّهم يقرؤون التراث الإسلامي بنظارات أوروبية فيسقطون الصراع الكنسي مع العلم والسياسة على التراث الإسلامي فقط، لأنّهم يرون أنّ الإسلاميين يلحون على أنّ بعض ملامح الشريعة المتعلقة بالمرأة والإرث مثلاً يجب عدم المساس بها في مدونات الأحوال الشخصية. إذا كان الإسلاميون قد قزموا الإسلام في أمور مخصوصة كهذه فإنّ العلمانيين استعملوا ذلك لصالحهم، إمّا عن جهالة أو عن وعي ودهاء. إنّ الادعاءين إقصائيان ومقلدان؛ إمّا لتراث يجب إعادة قراءته من جديد، وإمّا لتاريخ خارج المجال العربي.
وخارج هذين التوجهين هناك سلطة أوليغارشية تستعمل الاثنين، وتعلن أنّ السلام بدونها لا يتم. إنّ الدولة في العالم العربي لاهي إسلامية ولا هي علمانية ليبرالية. إنّها شبه دولة حديثة، تستعمل الدين وتقلم أظافر كلّ من ينافسها على ترويضه والكلام باسمه، وتتحدث باسم حقوق الإنسان والمساواة والحرية دون أن تكون بحق دولة حديثة تحتكم للقانون والمحاسبة. إذا كان العلمانيون والقوميون العرب قد ضيّعوا فرصة عقود من الزمن في الحكم من أجل الدمقرطة والتحديث، فإنّ لوم الإسلاميين على فشلهم منذ مجيئهم للسلطة مع أحداث الربيع العربي ليس عادلاً، وهذا لا يعني براءتهم، فقد كان عليهم مراجعة أفكارهم منذ عقود من الزمن قضوها، إمّا في المعارضة، وإمّا في السجون أو في المنفى. أمّا الغرب، فإنّه لم يساعد العالم العربي في التوجه نحو ديمقراطية حقيقية، وليس في مصلحته ذلك. إنّه يتحرك حسب مصالحه هو لا مصالح غيره. إذن فالجميع أخطأ، ولا مكان للحديث عن البراءة والنقاء السياسي.
في خضم هذه المعارك التي تغيب فيها الرؤية وتغلب عليها المصالح، تجد الشعوب العربية نفسها وحيدة تصارع الاستعمار من أجل الحرية والبقاء، وتصارع العولمة من أجل الدفاع عن هويتها، وتصارع الإسلاميين المتشددين لكي تحافظ على صورة جميلة للقيم الدينية، وتصارع سلطة "شبه الدولة الحديثة" من أجل الظفر ببعض الخدمات الاجتماعية شبه المنعدمة من سلطة تراقب كل شيء ولا تلتزم إلا بالنذر القليل من واجباتها. في خضم هذا الكم من الضغط تجد الشعوب العربية نفسها في حمى الدين وقيمه: فيه تجد ما لم توفره الحداثة الغربية والعلمانية الديكتاتورية والإسلاميّة المتشددة، ومن خلاله تختار هذا وتترك هذا من الدين ومن الحداثة حسب ما تقتضيه ضروراتهم واختياراتهم واجتهاداتهم. إنّ هذا الخلط أنتج ارتباكاً في الأفكار وتشويشاً في الرؤية لم يستقم بعد. حاصل القول هو أنّ الشعوب العربية لا ترى مشكلاً في الدين أو معه، ولكن مع من يحاول التشدد فيه أو ازدراءه. إنّ الدين إذن عنصر حاضر بقوة في العقل والمتخيل العربي. لذلك، فإنّه لا يمكن تجاوز مكونه في السياسة، وخاصة في هذه المرحلة التاريخية العصيبة من الاختيارات التي لم تتم بعد، والمحفوفة بالمدّ والجزر السياسي.
ما يحكم حراك الشباب العربي بالخصوص، رغم توجهاتهم الإيديولوجية والدينية والفلسفية المختلفة، هو قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، سواء كان في الحكم الإسلاميون أو العلمانيون أو السلطة الأوليغاركية التي تستعمل كل المفاهيم والإيديولوجيات للبقاء. يشير الكاتب الإيراني-الأمريكي حميد دباشي في كُتيبه ''الربيع العربي: نهاية زمن ما بعد الاستعمار'' (2012 The Arab Spring: the End of Postcolonialism) إلى أنّ قيم الحرية والمساواة لم تعد محصورة في الجغرافيا التي خرجت منها فلسفة الحداثة. لقد أصبحت قيماً عالمية تتبناها مجتمعات العالم النامي من أجل النهوض والاستقلال، والربيع العربي مثال ذلك. وليس وحده في هذا الرأي، كما ستتم الإشارة إليه لاحقاً.
إنّ المخاض الذي يمر به الربيع العربي تاريخي، ولن يتم الحسم في اختياراته إلا بعد خيبات واجتهادات مختلفة أثناء المشي على طريق التغيير. إنّ التحالفات المختلفة مع الخارج، كل بلد عربي على حدة، واتساع الهوة الاقتصادية بين الأقطار العربية، واختلاف المكونات الطائفية واللسانية والتاريخية لكل قطر عربي، وارتفاع نسبة الأميّة، زيادة على غياب سلطة دينية مركزية، كلها عوامل كبرى يجب أخذها بعين الاعتبار عند التفكير بمستقبل الربيع العربي والمدة الزمنية التي قد يأخذها لكي يُتم مخاضه التاريخي هذا، لأنّ الظروف الداخلية والخارجية غير مساعدة على إنجاح هذا المخاض، فليس أمام كل الأطياف داخل المجال العربي، على اختلاف المرجعيات، إلا العمل أولاً من أجل تيسير المخاض قدر الإمكان، وإلا فإنّ الحروب الأهلية والطائفية والاستعمار الجديد قد يأخذ من "العربي" المزيد، فيجهض حراكه ويؤجله إلى أجل بعيد.
من أجل ربيع مزهر على المدى القريب والمتوسط ـ واعتبار جيلين اثنين كحد أدنى لميلاد عالم عربي ديمقراطي ومستنير - لا بدّ من بناء مجتمع المساواة والحرية على أساس عقد اجتماعي أصيل ومنفتح على الجميع، يكون مرجعه الشعب بكل أطيافه. وفي التاريخ العربي الإسلامي مفاهيم ونماذج تاريخية واقعية يمكن الاستفادة منها على ضوء مستجدات التاريخ الإنساني العالمي. ففي التضامن والتسامح والتراحم والتآخي والمروءة مفاهيم غنية يمكن دائماً تطعيمها بالجديد.
يُسمى الإصلاحيون الأوائل للنهضة العربية الإسلامية [الثانية] بـ"روّاد النهضة" أو "رواد التجديد". كان همّهم الأول هو الاستقلال من الاستعمار والدفاع عن التراث والهوية، رغم محاولات محمد عبده مثلاً الخطو أكثر مما كان مثقفو عصره و أناسه ليقبلوا به. إنّ نهضة ذاك الجيل نهضة سياسية أكثر منها ثقافية، إنْ جاز هذا التقسيم التبسيطي. بعد الاستقلال سيظهر أنّ حركة النهضة لم تنقذ العقل العربي الإسلامي، بل استنهضته فقط. كان عليه أن يهزم سياسياً في حرب 1967 كي ينهض جيل من المفكرين والفلاسفة يمارسون النقد ويعيدون قراءة التراث والحداثة وإنتاج مشاريع فكرية كبرى. لقد أنتج جيل الهزيمة جيلاً من الفلاسفة الكبار الذين لا يتنكرون للتراث، بل يدرسونه بعمق وانفتاح. إنّه جيل المفكرين والفلاسفة المعاصرين الذين يملؤون مكتباتنا وعقولنا الشابة بأفكار كبرى نحس ـ نحن الشباب العربي- بأنّها منا وإلينا، وفي الوقت نفسه عالمية وقادرة على أن تساهم في الفكر الإنساني. لقد أنتجت في العقود الخمسة الماضية ما يغذي العقل العربي ويضيء طريقه للأمام، ولا داعي لذكر الأسماء، لأنّ المتتبّع يعرفها. بإمكان الشاب العربي المسلم وغير المسلم أن يهتدي إلى الأفكار الكبرى، أفكار أنتجتها أقلام قريبة منه في اللغة والفكر والدين، أفكار أعادت له الثقة في الثقافة والتراث والدين، إن كان يريدها فما عليه إلا أن يرفع من مستواه الفكري ليتقبل النقد الذي يوجه لتراثه أولاً، وإلا فإنّه لن يفهمه، فيبقى بذلك حبيس التراث وليس حُرّاً به.
إنني أرى أنّ الإسقاطات التي مارسها على التراث الماركسيون والعلمانيون المتشددون والإسلاميون المتزمتون يمكن تجاوزها من التراث نفسه، ولكن بعيون فلاسفتنا المعاصرين. لنا ما يغذينا الآن. للربيع العربي الانفتاح على فكر معاصريه المجددين. سيجدون فيهم سنداً لدفاعهم عن حقوق الإنسان وعن الديمقراطية والحرية والمساواة، وذلك كله من الداخل. من أجل تحقيق ذلك، يجب مواجهة العقم السياسي والفكري الذي يدير المدارس والجامعات العربية إجمالاً. إذا كنت قد طرحت مسألة السؤال الإبستيمولوجي والتحدي الذي يواجه العرب في اختيار مسارهم الفكري أولاً، فإنني الآن أقول إنّ الإصلاحيين المعاصرين جعلوا الأمر أكثر وضوحاً ومعاصرة لنا. لقد أنتجوا فكراً يساعد على بناء عقد أو عقود اجتماعية من الداخل، بلغات وأفكار أنتجوها من خلال نقد التراث والحداثة الغربية معاً. إنّ على شباب الربيع العربي الانفتاح على هذا الفكر أكثر فأكثر من أجل تسهيل عملية المخاض. إنّ هذا التحدي هو ما سيسمح لنا جميعاً بالحكم على جيل الربيع العربي مستقبلاً: هل هو جيل النهوض فعلاً أم جيل الإجهاض، إجهاض فرصة النهوض، جيل الهزيمة؟ بعد خمسين عاماً من الآن يمكننا محاكمة هذا الجيل الشاب من العالم العربي.
[1]ـ نشرت النسخة الأولى للمقال باللغة الإنجليزية في مجلة ريست لحوار الحضارات بروما بعنوان: " ?Does the Arab Spring Think" يوم الثلاثاء 25 فبراير 2014 على الرابط التالي: http://www.resetdoc.org/story/00000022352.
تتضمن النسخة العربية أمثلة إضافية لم تشر إليها النسخة الإنجليزية. كما أنّ المقال نشر قبل ظهور ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام ـ داعش ـ مع بدايات شهر يناير 2014 وإعلانها الخلافة على جميع المسلمين يوم 29 يونيو 2014، ولا يغير هذا المستجد من محتوى المقال ومساره، بل يغير في مسار المنطقة ومستقبلها الغامض. يمكن فقط القول إنّ داعش تعتبر من أقوى لحظات نسف محاولات التغيير في المجال العربي منذ بدايات مظاهرات الربيع العربي، فداعش تمثل عمق الأزمة الفكرية والثقافية في المنطقة من جهة، وتمثل تدخل السلطة الاستبدادية من المنطقة ذاتها والسلطة الاستعمارية الجديدة من خارج المنطقة.