هل السّيميائيات الثقافية ضرورية للحياة؟ قراءة في كتاب "السّيميائيات الثقافية" للدكتور عبد الله بريمي
فئة : قراءات في كتب
هل السّيميائيات الثقافية ضرورية للحياة؟[1]
قراءة في كتاب "السّيميائيات الثقافية" للدكتور عبد الله بريمي
بقلم: د. فوزية ضيف الله
صدر للدكتور المغربي عبد الله بريمي كتاب جديد عنوانه الرئيس "السيميائيات الثقافية؛ مفاهيمها وآليات اشتغالها"، مشفوعا بعنوان فرعي تفصيلي (المدخل إلى نظرية يوري لوتمان السيميائية)، عن "دار كنوز المعرفة" بالأردن (2018).
لم يبحث الدكتور بريمي في مبحث السيميائيات ضمن هذا الكتاب متقصيّا الدلالات المفهومية فحسب، كما دأب على ذلك في كتبه السابقة، بل كان سبّاقا في تخصيص الباب الثاني من كتابه إلى وضع ورصد جملة من التطبيقات السيميائية بعد أن انشغل في سياق الباب الأوّل بالنظر في السيميائيات الثقافية من جهة الأسس والمفاهيم والآليات.
السيميائيّات ضرورة أنطولوجيّة:
يعود عبد الله بريمي إلى المناظرة الشهيرة التي جرت عام 1984 بين الفيلسوف بول ريكور والسيميائي ألجيرداس جوليان غريماس حول "الكليات السرديّة". لم يعتبر ريكور السيميائيات مبحثا ضروريا للوجود الإنساني، واقتصر على وصفها بأنّها "مبحث معرفي بسيط وحديث العهد؛ في حين أظهر غريماس موقفا مختلفا مشدّدا على كونية البنيات السيميائيّة، وعلى كونها تنشأ من صميم الطبيعة ومن صميم الذهن البشري".[1]
يسعى عبد الله بريمي إلى الالتزام بمقولة "التفسير الأفضل من أجل فهم أفضل"، فيعود إلى نصوص يوري لوتمان وبوريس أوسبنسكي لتأويلها من جديد (أبحاث سيميائية)، فيتبيّن أنّهما يسندان للسيميائيات "قيمة جوهرية متأصلة في الوعي الإنساني"، غير أنّ الإنسان العاميّ قد يحتاج إلى معرفة علمية تمكّنه من استكشاف ما يحوزه من إمكانيات سيميائية ثاوية في طبيعته. يكتب عبد الله بريمي: "إننا في أمسّ الحاجة للسيميائيات، باعتبارها معرفة علمية وباعتبارها ممارسة تأويلية لفهم طبيعتنا السيميائية في أبعادها الجوهرية، في محاولة منا للإمساك ببعض تلابيب المعنى المنفلت عبر بنيات وآليات سيميائية تنتمي إلينا حتى لو كانت عادة ما تفلت من قبضتنا".[2]
أمّا من حيث موضوعها، فإنّ السيميائيات تهتمّ بالعلامات وأنساقها وصيغ إنتاجها واشتغالها وتلقيها، وهي بذلك قد تسمّى "النظرية العامّة للعلامات"، أو "النظرية العامّة للتمثلات والأنساق الدالّة"، إلى جانب تعلّقها بمباحث دراسات السلوك والظواهر الثقافية.
يتبيّن عبد الله بريمي، أنّ السيميائيات حقل شاسع، وسيرورة معرفية وفاعلية وإدراكية، تتوجّه نحو الوجود الإنساني، بكلّ ما فيه من حسّ وخيال وحدس، تقتفي أثر الإنسان حيث ما كان، وتنطق عنه ولغة معتمدة لغة تكاد تكون أبلغ من كلامه، تحلّل يقظته ومنامه، حلّه وترحاله.
السيميائيات وتحديّات الراهن التكنولوجي:
تشكّل الخيارات التكنولوجية جزءا لا يتجزّأ من الخيارات الثقافية؛ فالإنسان هو الذي أنتج هذه التكنولوجيا تلبية لنداء ثقافي ما، لذلك تبقى السيادة للمبحث السيميائي في إمكانية السيطرة على الطرائق التكنولوجية الراهنة وردّ الاعتبار لعالم المعنى والدلالة.
يبني يوري لوتمان "كونا سيميائيا" لا يكون فيه المعنى مختبئا أو مخفيا داخل العلامة أو النصّ، بل هو الذي ينتج في حوارنا مع العلامات أو مع النصوص الأخرى، لذلك يشدّد بريمي على أنّ "المعنى هو نتيجة للحوار المثمر بين النصّ والقارئ ضمن سياق تاريخيّ محدّد".[3] إنّ "الكون السيميائي" في تعارضه مع "الكون الحيويّ" هو الذي يشكّل شرطا ضروريّا للتحوّلات الثقافية، بل للثقافة أساسا. "فالكون الثقافي" هو النموذج من جهة أسبقيته المنطقية على كلّ سيرورة دلالية، في حين تمثل الثقافة متنا خاضعا للتفسير والتحليل.[4]
هل الثقافة نسق أم نصّ؟
أن تكون الثقافة نسقا سيميائيّا معناه أنّها "فكرة مجرّدة وبناء منهجيّ يُستخدم لوصف إنتاجيّة التفكير الإنساني وفاعليّته"؛ أي إنّها "سيرورة ثقافية مركّبة"، ذلك ما يتفق فيه كلّ من ليفي ستروس، رولان بارث، يوري لوتمان، بياتيغورسكي، فاينير إرين بورتيس، جون غالاتي وإليزابيت فاين. فإن النسقيّة هنا تشمل مجموعة متواترة من النصوص، فإنّ ذلك لا يتعارض مع القول بكون الثقافة نصّا. تجعل السيميائيات من النصّ مركزا لها، ولا يمكن اختزال النصّ في ما هو لفظي، فقد قدّم لوتمان تعريفا شاملا للنصّ، جعله أوسع حتى من العمل الأدبيّ نفسه. كما يتشكّل هذا النصّ/المركز ضمن عملية انتقائية، فانتقاء النصوص هو دلالة على ظهور ثقافة تعكس تنظيما ذاتيا للمجتمع. يحدّد لوتمان معايير الانتقاء كالتالي: "إنّ النصّ هو ذاك الذي يكون محفورا في الحجر أو منقوشا على المعدن بدلا من ذلك الذي كتب على مادّة غير دائمة. وينتج عن هذا التقابل مجموعة من الثنائيات مثل: دائم/مستمرّ في مقابل مؤقّت/قصير الأمد، كما أنّ ما كتب في مخطوط أو على الحرير يتعارض مع ما تمت طباعته في إحدى الصحف وما كتب في ألبوم يختلف مع ما كتب في رسالة وفقا للتقابل بين "ممكن حفظه" مقابل "معرّض للتدمير".[5]
ينظر لوتمان إلى النصّ من جهة أنّه فسيفساء ثقافية متعدّدة الصيغ واللغات، مولّدة لا نهائية للمعاني، فيفضي إلى إنشاء "كون سيميائي" أو "سيرورة سيمائيّة متعاضدة" (سميوزيس) لا تنظر للنصّ على أنّه شيء في ذاته، أو مجرّد علامة لفظيّة، إذ يتجاوز المؤشرات المادية ليكون رمزا سيميائيّا. إنّ تصوّر يوري لوتمان يتقاطع مع تصوّر كلّ من الأمريكي شارل ساندرس بورس وأمبرتو إيكو، خاصّة فيما يتعلّق بمفهوم "التعاضد النصّي".
السيرورة السيميائية، ش. بورس أمام دي سوسير:
تكتسي العلامة عند بورس بعدا رمزيّا غير ماديّ يجعلها قابلة للتشكل وفق أيّة صفة لدي أيّ ذهن أو شخص، وربّما تقدر على خلق "علامات أخرى" تكون أكثر تعاضدا وأكثر موازاة. إذ تحتلّ العلامة محلّ الموضوع الماديّ الواحد، ويبيّن "عماد الماثول" الذي يرفقه الباحث في الصفحة الرابعة والسبعين، كيفية اشتغال العلامة، فيحضر الموضوع "بأيّة صفة وبأيّة طريقة كانت"، ويكون مصدرا تنبثق منه العلامة التي "تحلّ محلّ شيء ما"، وتحضر العلامة بالنسبة إلى شخص ما، هو "المؤوّل". لكن هذا المؤوّل نفسه يصبح "علامة" بالنسبة إلى شخص ما، وتستمرّ الحلقة التأويلية إلى مالا نهاية له.[6]
تدلّ لانهائية السيرورة السيميائيّة على تواصل "العود على البدء"، لكنه عود أعمق في كلّ مرّة، وهو عود حرّ، لكن حريّته تظلّ مشروطة "بقدر ما توهمنا عمليّة التأويل في أنّنا أحرار فيما نقول، فإنّنا في الوقت نفسه نجد أنفسنا مجبرين على تأويل وذكر ما يرد الشيء المؤوّل قوله".[7]
تصبح العلامة عند بورس ثلاثية المبنى، ولا يمكن اختزالها في الدال والمدلول فحسب. أمّا دي سوسير، فإنّه يستبعد فكرة المرجع في تعريفه للعلامة، معتبرا إيّاه معطى غير لسانيّ. أمّا بورس، فلا يتصوّر بناء للعلامة خارج فكرة الامتداد، فهي التي تجعل من الكون السيميائي متكاملا ومتعاضدا تعاضدا رمزيّا.
لا يتصوّر بورس وجودا للعلامة في ذاتها؛ فكلّ ظاهرة تكون قادرة على أن تصبح علامة. بهذا المعنى، ليست السيميائيات "علما بالعلامات"، بل هي "علم السيميوزيس"، لأنّها لا تقف عند المعنى الأوّلي، بل تحيل على إمكانيّة العبور بهذا المعنى إلى عوالم أخرى. فتعيد السيرورة السيميائيّة إنتاج الموضوع نفسه بحثا عن معنى جديد، وتكون في مدّ وجزر بين الإنتاج والتأويل، وفي كلّ رحلة تشدّ النواة الخاصّة بالموضوع إلى العلامة، لتشديد عمليّة الربط وللتقصّي المتجدّد عن العمق. فتنتهي إلى التمرّس بالبحث عن الدلالة والتفنن في جعل التأويل عادتها الأوّلية.[8]
من تعبيرية العلامة إلى تعبيرية النصّ:
يشدّد عبد الله بريمي على أنّ تعبيرية النصّ هي التي تجعل النصّ ممكنا؛ فهي التي تتيح لنا تصنيف النصّ، ومقارنته بغيره من النصوص، والنظر في تقاطعه مع النسق. يشكّل النصّ شبكة معقّدة من الطبقات والعلامات، توضع داخل بعضها البعض. ورغم ذلك، فإنّ للنصّ حدودا يضعها له الإطار، وهذه الحدود التي يتحدّث عنها لوتمان، هي التي تميّزه عن النصوص الأخرى، أو عن "اللاّ نصوص". يخلق النصّ لنفسه عالمه الخاصّ، مكانه وزمانه، وربّما مشاهديه أيضا. ولعلّ الثقافة، هي الأخرى نصّ من النصوص المعقّدة، نصّ متعدّد اللغات والأنساق. للنصّ وظيفتان: وظيفة تواصليّة وأخرى إبداعيّة. لكن النصّ الفنيّ هو الآخر يمكنه أن يكون أيضا وسيلة تواصليّة هامّة. لذلك يكتسب الفنّ ضمن الأنساق السيميائيّة اعتبارا استثنائيّا.
يتشكّل النصّ الثقافي ويتراتب، نصّا داخل نصّ، كما ترتّب الدمى الروسية، دمية داخل دمية، في تداخل نسقيّ مماثل للنسق الأكبر. وتعتبر هذه الفكرة حجر الأساس الذي ارتكزت عليه أطروحة لوتمان في حديثه عن "قانون التماثل الثقافي"، في كتاباته عن التاريخ الثقافي الروسي.[9]
من الكون الحيويّ إلى الكون السيميائي:
ظهر مفهوم الكون السيميائيّ (Sémiosphère) سنة 1984 في مقالة ليوري لوتمان نشرت في مجلّة "دراسات أنساق العلامة"، وضّح فيها تصوّره السيميائيّ المتكامل[10]. وقد أقام لوتمان هذا المفهوم قياسا على مفهومي "الكون الحيوي" و"كون الفكر الإنساني" لدى فلاديمير فيرنادسكي، فقد راسل لوتمان فيرنادسكي يحدّثه عن تأثره بنظريّته القائلة بأنّ "الحياة لا يمكن أن تولد إلاّ من الحياة" ليستخرج منها قناعة أساسيّة مفادها أنّ "أيّ نصّ (في أوسع معانيه) لا يمكن أن يكون إلاّ مسبوقا بنصّ آخر، كما أنّ كلّ فكر لا يمكن أن ينشأ إلاّ عن فكر سابق، وأنّ كلّ ثقافة متطوّرة يلزم أن تكون مسبوقة بأخرى أكثر تطوّرا".[11]
يصف عبد الله بريمي الكون السيميائي بأنّه تمثّل متعدّد الأبعاد لنسق متحرّك، لا ينظر إليه على أنه خلاصة أو تجميع لأنساق سيميائيّة فحسب، بل على أنّه الشرط الأولي الضروريّ لكلّ فعل تواصليّ داخل اللغة. يأتلف كلّ "كون سيميائي" من مركز وهامش؛ أي قوّة جاذبة وأخرى نابذة. تسعى القوّة الجاذبة فيه إلى الحفاظ على المكونات الثقافية، في حين تمارس القوة النابذة التأثير على هذه المكونات لتحويلها إلى مسالك غربية لا علاقة لها بالكون السيميائيّ. لكن رغم الاختلاف بين وظيفتي المركز والهامش، فإنّ الوحدة تظلّ قائمة، وكذلك يستمرّ تواجد مفهوم الحدّ، فهو الذي يمتلك لغات مزدوجة ومتعدّدة، لذلك يكتسب القدرة على تحويل ما يقع خارج المركز إلى الداخل، ويُصيّر ما هو غريب مألوفا لدينا.
يشتغل "الكون السيميائي" وفق ثنائيات "الكوسوموس" و"الكاوس"، المكان والزمان، التفرّد والتملّك، الدينامية والازدواجية. ويمثّل المكان عند لوتمان الاحداثيّة التي تشتغل فيها إدراكية الحواس وخاصّة البصر، فهو الذي يُقرّب الملموسات والمدركات. كما تعتبر سائر أعضاء الجسد الفيزيولوجية مسؤولة في تشكّل أنماط العلاقات التي نقيمها مع الآخر الخارجي، في حين يظلّ الهامش موضعا لتداخل الثقافات.
سيميائيات الحوار وآلية الترجمة الفيزيولوجية
يصبح الفضاء السيميائيّ مكانا يقوم فيه الحوار الفعلي الذي يتجاوز كلّ أشكال الحواجز والاختلافات. إنّ الحوار السيميائي هو سعي إلى تكلّم لغة مشتركة (مثال الأمّ ورضيعها)، وتتكفّل الترجمة هاهنا بدور توليد المعنى، ذلك أنّ الرسالة التي ينبغي تبليغها تكون في الحقيقة نتاجا لعمليّة الترجمة. لذلك، يتحدّث لوتمان عن الترجمة في أوسع معانيها ويجعلها مسؤولة عن تأسيس العلاقة الحوارية بين عناصر الفضاء السيميائيّ، بين اللغات المختلفة، وبين الثقافات المتعدّدة.[12] إنّ الترجمة هي التي تثري السيرورة السيميائيّة؛ فالمعنى ينبثق من الحوار بين نصّ وآخر، بين مترجم وقارئ، بين لغة وأخرى ضمن سياق تاريخيّ محدّد. لذلك لا يرى الباحث الترجمة مجرّد عمليّة لغويّة، بل هي على حدّ تعبيره "سيرورة ثقافية وآلية بنيوية لدينامية التعدّد اللغويّ وفاعليّته من جهة، وآليّة لخلق التواصل بين مكوّنات النسق الثقافي من جهة أخرى. فهي الضّامن لاستمراريّة هذا النسق وآليّة الوعي الأولي بين عناصره المتعدّدة والمختلفة".[13]
ولعلّ أهمّ ما في الحديث عن الترجمة هنا هو العودة إلى ما صاغه أمبرتو إيكو في هذا السياق، إذ تقرّر معه أنّ الترجمة ليست "معادلة" بين قاموسين، بل بين ثقافتين. فالترجمة هي سياق حواري يفترض الاختلاف واللاتماثل، ويشتغل ضمن سيرورة دينامية، ويعيد ترتيب العلاقة بين المركز والهامش.[14]
سيرورة ذاكرة واشتغال تجربة المخيال الثقافي:
بحث لوتمان في الذاكرة من منظور سيميائيّ في بعديها الفردي والجمعيّ، واعتبرها مولّدا قادرا على إعادة انتاج الماضي من جديد، بل إنّها قادرة على تحويل كلّ السيرورات الماضية وتنشيطها في حوار حاضر. تحتاج نصيّة الثقافة إلى الذاكرة الجمعيّة، بل لا يمكن الحديث عن ثقافة النصّ في غياب التذكّر للفضاء السيميائيّ السابق علينا. فالنصوص الموروثة عن الأجداد هي التي تنشّط المخيال الفرديّ. لذلك، اعتبر لوتمان الذاكرة الثقافيّة ذاكرة عابرة للزمن، لا تكرّر الماضي فحسب، بل تُعيد خلقه من جديد. غير أنّ تعريف الثقافة على أنّها ذاكرة تثير لدى صاحب الكتاب جملة من التساؤلات أهمّها: ما هو نسق القواعد السيميائيّة الذي تتحوّل وفقه الحياة الإنسانية إلى ثقافة؟ هل يمكن النظر لهذه القواعد على أنّها برنامج؟
لكلّ ثقافة برنامجها الخاصّ، فهي التي تخلق لنفسها النموذج الذي يمثّلها، يدلّ عليها ويضمن امتدادها في الزمان. وهكذا يسند لوتمان للثقافة مهمّة توليد وإنتاج المعنى ضمن سياق ذاتيّ، بيد أنّ عمليّة استرجاع الماضي تسير جنبا إلى جنب مع عمليّة إبداع وإنشاء النصوص الجديدة، فالذاكرة مثلها مثل الثقافة، تشكّل نسقا بذاتها. ومع ذلك، تحافظ الذاكرة على شروط الانتقاء الضروريّة، فتمارس دور المصفاة، فتحوّل النصوص الغريبة إلى نصوص بناءة وتضمّها إلى نسقها السيميائي الداخلي.
سميائيات الخوف والعنف، إرهاب الصورة:
يعالج عبد الله بريمي في القسم التطبيقي من الكتاب السيميائيات في علاقتها بإرهاب الصورة في المجال الرقمي. تتيح الشبكات الرقمية للمستخدم دوما تعديل شخصيّته، وكذلك خلق شخصيات أخرى افتراضية من صنعه، لذلك قد ينجح إعلام الجماعات الإرهابية في توظيف الصورة المرئية واكتساح المشهد.
تمارس الصورة في الدعايات الإرهابية سيميائية ما، وتوظف للتأثير على المشاهد أو المستخدم للشبكة منظومة من الوسائل المدروسة على نحو مسبق. وهنا يذكر المؤلّف كمثال على ذلك الصور الساخرة المسيئة للرسول التي نشرتها صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية، باسم حريّة التعبير.
يشير عبدالله البريمي إلى خطورة ربط السيميائيات الثقافية بالمؤامرة، فهي تخفي وسيطا مقنّعا يختفي وراء علامات، ولا يتسنى للمقاربة السيميائية فضح هذه المؤامرة. ويستنتج أنّ الخوف والإرهاب لا ينتجان عن حدث واقعيّ مرعب فحسب، بل يصدران كذلك عن تأويلات للصورة، عن تأويل للحدث على أنّه إرهاب. كما يستخلص لوتمان أنّ هذا الخوف لا يصدر دوما عن خطر محدق "ولكنه غالبا، ما يؤدي إليه. إنّ الهدف من الخوف والإرهاب قد تمّ بناؤه اجتماعيا انطلاقا من تسنينات سيميائية حاولت الجماعة أن تتبنّاها لتصنّف وتُنمذج نفسها والعالم معا".[15]
ركّز الباحث دراسته الأخيرة من الكتاب على سيميائيات الاحتجاج، من جهة البحث في خطاباته وبلاغته وقوّته الإقناعيّة؛ فاهتمّ بشبكات التواصل الاجتماعي من جهة كونها فضاء سيميائيا للاحتجاج البصري، كما عرّج على احتجاجات الرّيف، واحتجاجات الحسيمة بالمغرب معتبرا إياهّا نموذجا عن الاحتجاجات المرتبطة بسيميائيات التغيير. إنّ هذه الاحتجاجات تعكس سيميائيّة الصراع بين الهامش والمركز، وتبحث عن لغة مشتركة للحوار ضمن فضاء تتقاطع فيه كلّ الحدود. فالرسائل التي تتداول بين الهامش والمركز، هي رسائل تطلب ترجمة ثمّ يتمّ تحويلها لسياق آخر تنسجم معه. لذلك، يفترض المبدأ الحواريّ دوما حصول التوتّر الدائم حول طرق فهم وترجمة الرسالة؛ أي الرسالة التي تعبّر عن سيميائية الاحتجاج.[16]
إنّ العمل السيميائي يظلّ ملاحقة للعلامات، وتعقب هذه الشباك من الإحالات التي يمكن أن تقع فيها أيّة ظاهرة ثقافيّة. وعلى الرغم من دور السيميائيات، إلاّ أنّ عبد الله بريمي يلحّ على ضرورة دراسة الثقافة بوصفها موضوعا سيميائيا وتواصليّا في الآن نفسه، ويثمّن أطروحة ماكس فيبر القائلة إنّ الإنسان حيوان معلّق في شبكات المعاني التي نسجها بنفسه، لذلك فالثقافة بالنسبة إليه هي هذه الشبكات المعقدة التي تطلب "تحليلا تأويليا يبحث عن دلالة ما".[17]
[1]- عبد الله بريمي، السيميائيات الثقافية، مفاهيمها وآليات اشتغالها، الأردن، كنوز المعرفة، 2018، ص ص.23-24
[2]- المصدر نفسه، ص.27
[3]- المصدر نفسه، ص.38
[4]- المصدر نفسه، ص.39.
[5]- المصدر نفسه، ص.72. انظر:
Yuri M Lotman, 1981. On the language of animated cartoons. In: O’Toole, Lawrence Michael and Shukman, Ann (eds), Film Theory and General Semiotics. (Russian Poetics in Translation 8.) Oxford: Holdan Books (RPT Pub.), p.36
[6]- المصدر نفسه، ص.74
[7]- المصدر نفسه، ص.76
[8]- المصدر نفسه، ص.76
[9]- المصدر نفسه، ص.85
[10]- المصدر نفسه، ص.101. انظر هامش عدد 1
[11]- المصدر نفسه، ص.103
[12]- المصدر نفسه، ص.129
[13]- المصدر نفسه، ص.130
[14]- المصدر نفسه، ص ص.131-132
[15]- المصدر نفسه، ص ص.178-179
[16]- المصدر نفسه، ص.212
[17]- المصدر نفسه، ص.226