هل تتحول العربية إلى لغة طقوسية؟


فئة :  مقالات

هل تتحول العربية إلى لغة طقوسية؟

قلتُ لطالبتي في الجامعة الأمريكية بدبي التي تُعِدّ فيلماً وثائقياً عن العربية بعنوان "لغتي هُويتي" إنّ عليك أن تحرصي على نطق الهاء مضمومة، وإلا وقعتِ في الهَوية التي تعني الهاوية، معلّلاً هذا الحرص بـ "عقدة" تطاردني كلما سمعت أو شاهدت أو قرأت ما يخدش جلال العربية وجمالها... وهو كثير ومنذر بخطر حقيقي.

وقد تنازع الباحثون وعلماء اللغة حول مصير العربية التي تُعَدُّ، وَفق منظمة اليونسكو، إحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، ويتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة، ويتوزع متحدثوها في المنطقة المعروفة باسم الوطن العربي، بالإضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة كالأحواز وتركيا وتشاد ومالي السنغال وإرتيريا.

ومن فرط حماسة اليونسكو، أنها تذكر وتذكّر بأنّ العربية لغة القرآن الكريم، وبها تتم العبادات، وهي أيضاً لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، كما كتبت بها الكثير من أهم الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى"، وهي إحدى اللغات الرسمية الست في منظمة الأمم المتحدة.

بيْد أن ذلك كله، على أهميته، لا يعفي الباحثين من السؤال عن مصير اللغة العربية في أزمنة العولمة، والهوية الثقافية، وزحف اللغة الإنجليزية التي تسيطر على شبكة الإنترنت، وغيابها عن حقول العلوم والتكنولوجيا وإدارة المال والأعمال، وسواها.

وقد طرح هذه الأسئلة وعمّق البحثَ فيها أستاذُ نحو اللغة وعلّامتها اللساني التربوي الدكتور نهاد الموسى في كتابه "اللغة العربية وسؤال المصير" الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي.

الموسى يورد آراء فريقين متقابلين فيما خصّ مصير اللغة العربية؛ الأول يعتصم بأنّ اللغة العربية "محفوظة حفظ الذكر الحكيم بإطلاق، وأنّ لها فرادة بين اللغات كافة بما هي وعاء تراث ممتد على الزمان دون انقطاع على مدى سبعة عشر قرناً"، فضلاً عن كونها "لسان التواصل بالضرورة وبالفعل في فضاء المكان العربي من الخليج إلى المحيط...".

وأما الفريق الثاني، فيذهب مذهباً مغايراً، إذ "يرى أنّ اللغة العربية تتآكل، وأنها ستنحسر بعد بضعة عقود إلى دائرة التعبّد؛ فالحفظ إنما يتوجّه إلى الذكر الحكيم فحسب، وإما أنها لسان التراث فتلك مزية يقتصر الاحتفاء بها على دوائر محدودة من الناس وأهل الاختصاص، كما أنّ علاقتها بالهوية متغيرة، وهي تتراجع الآن في ظل تنامي النزعات الجهوية، وتغليب اللهجات المحكية في فضاء الخطاب الفضائي".

ويستعرض الموسى "نبوءات متباينة" حول السؤال العريض المتعلق بظاهرة "موت اللغات"، إذ يشير إلى أنّ "عدد لغات العالم اليوم زهاء ستة آلاف وثمانمائة، وأنّ خمسين إلى تسعين في المئة من هذه اللغات ستختفي مع نهاية القرن الحادي والعشرين".

ومن أجل إخراج العربية من الكتلة الحرجة، يقترح الموسى إقناع الجيل بأنّ "انسحابه من العربية إلى الانجليزية أو الفرنسية يشبه أن يكون منفى اختيارياً لا يلبث أن يضيق به، وأن يتعظ بتجربة مبدع هو الأديب الجزائري كاتب ياسين، ومفكر كونيّ هو إدوارد سعيد".

ولئن كان الدكتور نهاد الموسى، وهو أحد ألمع فقهاء العربية المعاصرين، متمزّقاً بين التفاؤل والتشاؤم، حتى ليقع في مظنّة "التشاؤل"، فإنّ أستاذ علم الاجتماع المفكر التونسي الدكتورالطاهر لبيب، يحذّر من انقراض اللغة العربية وموتها، معتبراً أنها "تحتضر ويزعجون احتضارها بضجيج الاحتفاء بها".

لبيب في محاضرته التي ألقاها في عمّان بعنوان "هل لعرب اليوم لغة" ونظمتها مؤسسة عبدالحميد شومان، قال: "يجب أن ننظر إلى موت اللغة العربية كاحتمال حقيقي وارد؛ فاللغة التي لا يتكلمها أهلها تموت"، مشيراً إلى أنّ آلاف اللغات انقرضت بسبب ذلك.

وأشار إلى أنّ الإحصاءات العالمية تدل على أنّ هناك 6 آلاف لغة في العالم، تكشف تقديرات المتخصصين أنّ نصفها سينقرض قبل نهاية القرن الحالي، موضحاً أنّ اللغة تموت عندما تتقلص قاعدتها الديموغرافية، مستدركاً بأنه ليس فقيهاً لغوياً، وأنّ كل ما أفعله هو محاولة الاقتراب قدر المستطاع مما يمكن تسميته "سوسيولسانيات" أو علم اجتماع اللغة.

ووصف هذه الإحصاءات بأنها سطحية ومضللة ولا تدل على شيء، لأنها لا تقول لنا "أية لغة يتكلمها الـ450 مليوناً، هل هي الفصحى أم الخليط أم المحكية، وأين يتكلمونها ومناسباتها"، لافتاً إلى أنّ من أبرز ما يفنّد هذه الأقاويل هو حضور لغة الإنترنت بقوة لدى الناشئة العربية، والتي دخلت التنميط، واستبدلتها بحروف لاتينية أحياناً وأرقام أحياناً أخرى، علاوة على أخطاء لغوية ليس أقلها التي نشاهدها في اللوحات بالشوارع العربية.

وأشار إلى المشكلات التي تواجه اللغة العربية، والتي لا تنبع من ذات اللغة، وإنما من أهلها، ومنها المصطلحات، والتعريب، علاوة على أنّ مصيرها خاضع لما تعيشه الدول العربية من تراجع وتردّ على مختلف الصعد، لافتاً إلى أنّ اللغة العبرية التي ماتت في فترة زمنية قديمة عادت بقرار سياسي.

العربية بقيت في الوجدانيات والأدب والثقافة العامة، يقول لبيب، فيما حضرت اللغات الأخرى في العلوم والتكنولوجيا ومظاهر التطور والعصرنة، علاوة على التباعد في استعمالها في بعض الأقطار العربية، حيث هناك بلدان عربية لا تتكلم العربية، ليس الصومال وجيبوتي فحسب، بل غيرها، حيث تجد أنّ من الضروري أن تعرف الإنجليزية باللكنة الهندية.

وتراود المفكر التونسي فرضيتان حول اللغة العربية الآن، إحداهما تقول إنّ الإعلام سيوسّع استعماله للغة العربية الفصحى، فيما الثانية تقول بأن هذا الخليط سيستمر، وفي ظل الأخيرة، ستنقرض اللغة اجتماعياً كلغة مجتمع، وتبقى لغة مقدس ودين كما آلت إليه اللغة اللاتينية.

وبين تساؤل الموسى، وحدّة لبيب وقطعيته، لا بد من مقاربة الأسباب التي يمكن في ضوئها إعلان موت اللغة، أية لغة، وهو ما كان عاينه اللساني البريطاني ديفيد كريستال في كتابه "موت اللغة" (The Death of Language) الصادر عن مطبعة جامعة كمبرج، ويعدّد هذا الكتاب تسعة شروط لموت اللغة. وجميع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربية في وضعها الراهن، كما أفاد موقع "فولتير نت" وفي مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب، وحلولها محلّ لغته التي هي من مقوِّمات الأُمّة. وهذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه ابن خلدون في "المقدِّمة" بقوله: إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده ... إن الأمّة إذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء."

وإذا كان ثمة خطر يهدّد العربية، ويتوقع لمصيرها سيناريوهات متشائمة، فإنه يتصل بمستوى اللغة العربية الفصيحة التي هي لغة الكتابة والتأليف والتعليم والإعلام والحديث الرسمي الذي يقتضي مراعاة أصول النحو والصرف والإعراب، لأن هذا المستوى هو الذي يعاني من الأزمة، بينما المستوى الآخر من اللغة، أي المحكي منها فربما يبقى محافظاً على حالته، على ما يداخله من لهجات محلية وأخرى عامية دارجة لا تصلح في مجموعها كلغة للتواصل والتعاطي اليومي في الشارع والعمل والأسواق. ولعل المشرقي الذي يزور المغرب العربي يعاني من هذه المعضلة شرّ معاناة.

لعنة الازدواجية اللغوية التي تعني وجود مستويَين للغة الواحدة كانت مركز اهتمام اللغوي الأمريكي تشارلز فرغيسون الذي ذكر في بحث نشر عام 1959 أنّ الازدواجية ظاهرة موجودة في جميع اللغات الكبرى. فالإنجليزية في بريطانيا، مثلاً، لها لهجات متعددة في ويلز واستكلندة وإيرلندة الشمالية وحتى لهجة الكوكني في لندن، إضافة إلى لهجات الإنجليزية خارج بريطانيا كاللهجة الكندية والأمريكية والاسترالية والنيوزلندية والجنوب أفريقية إلخ. وكذلك الحال بالنسبة إلى اللغات الفرنسية والألمانية والإسبانية وغيرهما.

ولكنّ اللغويين لا يتوقعون أن تحلّ لهجات اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية محلّ هذه اللغات في حين يتوقعون أن تحلّ، في المستقبل القريب، اللهجاتُ المصرية والعراقية والمغربية إلخ. محلَ اللغة العربية الفصيحة التي ستنقرض كما انقرضت اللغة اللاتينية في أوروبا واستُعيض عنها بلهجاتها الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية إلخ. التي صارت لغات مستقلّة.

وثمة من يسأل عن الفرق بين الازدواجية في اللغة العربية والازدواجية في بقية اللغات العالمية، إذ يبين الباحثون، وفق "فولتير نت" أن الفرق هو في الكم وليس في الكيف، بمعنى أن الفارق بين اللهجات الإنجليزية وبين اللغة الإنجليزية الفصيحة، مثلاً، هو فارق ضئيل جداً لا يحول دون الفهم، على حين أنّ الفارق بين اللغة العربية الفصحى ولهجاتها فارق كبير جداً. فالدول الغربية اتبعت ـ وتتبع دائماً ـ سياسات لغوية تفرض استخدام اللغة الفصيحة المشتركة في التعليم والإعلام والإدارة والتجارة وجميع مجالات الحياة، فيعتاد المواطنون على سماعها وقراءتها فيتمكنون منها وتقترب لغتهم الدارجة من اللغة الفصيحة. وفي فرنسا، مثلاً، يوجد قانون يعاقب مَن يُخطئ باللغة الفرنسية في الإذاعة أو التلفزة أو المدرسة، لأنه يُفسد لغة الأطفال وغيرهم.

وكيلا يبقى الكلام ملتصقاً بعقدة الغرب، فإننا نشاطر الأستاذ بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية في كوريا الجنوبية الدكتور يوسف عبد الفتاح، المعرفة حول دراسة عن كيفية اعتماد اللغة الكورية أساساً للتنمية البشرية، إذ يشير إلى أنّ التعليم، في مختلف مراحله ومتنوّع تخصّصاته، يتم باللغة الكورية الفصيحة، مع العلم أنّ اللغة الكورية كانت قد مُنعت في المدارس الكورية وحلّت محلها اليابانية أثناء الاحتلال الياباني لكوريا الذي انتهى في الحرب العالمية الثانية. وتوجد في كوريا حالياً أكثر من 110 قنوات تلفزيونية كلّها خاصة إلا قناة حكومية واحدة، وجميعها تبثّ باللغة الكورية الفصحى السليمة، طبقاً للسياسة اللغوية للدولة وتحت مراقبتها.

لقد مرّ أكثر من 85 عاماً على صرخة الشاعر المصري حافظ إبراهيم الذي دعا إلى إنقاذ العربية مما حاق بها. وما كان ما ابتليت به اللغة، آنذاك، مدعاة للأسى والتحذير والمبالغة. فلو أنّ حافظاً بين ظهرانينا اليوم، فماذا عساه يقول، بعد أن أضحى المتحدث بعربية سليمة لا عجمة فيها كما لو أنه "في أمة تداركها الله غريبٌ كصالح في ثمودِ"؟!