هل حقّاً تجرّدنا من الثيولوجيا؟
فئة : ترجمات
هل حقّاً تجرّدنا من الثيولوجيا؟
كارل شميث، هانس بلومنبرغ وعلمنة الأزمنة الحديثة*[1]
ميريام روفو دالون
ترجمة: توفيق فائزي**
يكاد يقع الإجماع على الرأي الذي يضع انتصار «العلمنة» (Sécularisation) في قلب العهود الحديثة. تبدو دلالة هذا اللفظ بسيطة وبدهيّة للجميع، كما ينبه هانس بلومنبورغ على ذلك منذ السطور الأولى من كتابه (شرعية الأزمنة الحديثة). ستكون العلمنة هي «تلك الصيرورة الطويلة الأمد، خلالها ينتج اضمحلال الروابط الدينية في الحياة الخاصة والحياة العامة اليومية، والمواقف المتصلّبة ذات الطبيعة المتعالية، ورجاء حياة أخرى، والممارسات الطقوسية، والصيغ الجامدة». بهذا ستكون الأزمنة الحديثة فترة «علمانية» (Sécularité) خالصة، وبالتبع ستكون الدولة الحديثة «دولة زمنية Séculier»[2]. لكن تكشَّفت هذه البداهة البادية عن كونها إشكالية؛ لأنها تُخفي اشتباهات رهيبة. على سبيل المثال: هل ترادف «العلمانية» «العلمنة»؟ ما الذي يشير إليه بدقة اضمحلال الروابط الدينية؟ وماذا عن طبيعة «الديني» الذي نعلن انسحابه؟ هل يتعلق الأمر بالممارسات الدينية، أو بوظيفة الدين الاجتماعية، أو بالحقيقة الدينية باعتبارها بعداً من أبعاد الإنساني، باعتبارها هذه «القدرة الملغزة على أن تتحدّد الذات في العلاقة بخارجٍ عنها»[3]؟ هل تُفهم العلمنة، وقد وُصفت بأنها أفول لتعالٍ ما، بأنها فقدانٌ، أو تشير إلى تحوّل جذري وجوهري لعدد من المضامين؟
ندرك بالتنبيه على هذه الأمور المظنونة ضرورة توضيح وضعية هذا التصوّر المفهومية، وبالتبع جعل مشروع الحداثة في مواجهة ما نقول عادةً إنه نواتها المُؤسِّسة؛ أي «نظرية العلمنة». تتحكم القضية «ب هي علمنة أ»، في الواقع، في تأويل الحداثة وفق بلاغة متواطئة (univoque)، لكن تأخذ أشكالاً مختلفة. سيستوي القول إن أخلاق العمل الحديثة علمنة للرهبنة، وإن فكرة التقدّم ترجمة للرجاء الأخروي، أو إن المفهومية السياسية ورثت من المفهومية الثيولوجية: «كلّ مفاهيم نظرية الدولة الحديثة ذات المكانة هي مفاهيم ثيولوجية معلمنة»[4]، كما ينص على ذلك كارل شميث (Carl Schmitt).
والحال أن بلومنبرغ يعدّ قضية شميث هذه بالتحديد «أشد الصور تعبيراً عن نظرية العلمنة، ليس بسبب التنبيه على الوقائع التي تتضمّنها، ولكن أيضاً بسبب الآثار التي تنتجها»[5]. صحيح أن فائدة الحوار المتميزة بين بلومنبرغ وشميث راجعة إلى كونه حواراً مفتوحاً، ووجهاً لوجه، وليس كـ «الحوار بين متغيبين» كما قيل بشأن كارل شميث وليو شتراوس (Leo Strauss)، لكنه يرتبط أكثر بطبيعة الرهانات؛ إذ لا يتعلق الأمر فحسب بإقرار وراثة المفهومية السياسية الحديثة المفهوميةَ الثيولوجية، أو العكس؛ وأيّ دور أدّته الثانية في تكوين الدولة الحديثة من الناحية التاريخية. يتوقف الأمر بشكل أوسع على «آثارها»، بعبارة أخرى، بالوضع والقيمة الممنوحين للحداثة، وبمعقولية التاريخ (وبالخصوص بالعلاقة بين المتصل والمنقطع)، وبطبيعة «الشرعية»، وباختصار إذاً، بالمواجهة بين «الثيولوجيا السياسية» و«الفلسفة السياسية». بإمكان هذا المظهر الأخير، الذي ليس غريباً عن الحوار بين شتراوس وشميث، أن يضيء لنا أيضاً سبب السحر الذي أحدثه شميث على «راديكالية» السياسة الراهنة. يدور الحوار، في النهاية، حول معنيي «العلمانية» و«العلمنة»، وصلاحيتهما باعتبارهما مقولتين تأويليتين للحداثة. والرهان حاسم بالنسبة إلى الزعيمين كليهما.
احتفظنا من شميث بمقطعه الشهير الوارد في (الثيولوجيا السياسية) المعبّر بهذه الألفاظ عن نظرية العلمنة: «كل مفاهيم نظرية الدولة الحديثة ذات المكانة مفاهيم ثيولوجية معلمنة. وليس الأمر صادقاً فقط على تطورها التاريخي، لأنها نُقلت من الثيولوجيا إلى نظرية الدولة، -الذي به صار الله القدير المشرع القدير، على سبيل المثال- ولكن أيضاً على بنيتها النسقية التي تعدّ معرفتها ضرورية لتحليل سوسيولوجي لهذه المفاهيم. لدلالة حالة الاستثناء بالنسبة للفقه ما لدلالة المعجزة بالنسبة للثيولوجيا».[6]
يجعل شميث في هذا النص من «العلمنة» -التي أُولت بأنها انتقال للمضمون، ونقل للثيولوجيا إلى النظرية الحديثة للدولة- مبدأ معقولية السياسي الحديث؛ إذ لا يتكوّن السياسي الحديث إلا من مضامين ثيولوجية صارت زمنية؛ بهذا صار الله القدير المشرّع القدير. أو الفكرة القائلة إن مصدر السلطة هو الشعب صدرت من الاعتقاد في المصدر الإلهي للسيادة، إذا تعلّق الأمر بالديمقراطية. إذاً، للدولة الحديثة أصلٌ ديني، فلقد صدرت عن الثيولوجيا القروسطية، وهذا الصدور يشير إلى تشكلها التاريخي -المفهومي. وهناك أمرٌ آخر: يحيل الجزء الثاني من العبارة الثانية أيضاً، وهو الذي يحذف عادةً حينما نحيل على عبارة شميث، إلى «بنية نسقية»، إلى تقارب في البنية، أو إلى مماثلة بنيوية أيضاً؛ مماثلة لا تمثّل تقييداً لأطروحته كما يبدو -وهي النصّ على تماثل في البنية بين المفاهيم الثيولوجية والأوضاع القانونية- بل، على العكس، توسيعاً خفياً في اتجاه فلسفة تاريخية حقّة[7]. في الواقع، يفترض ما يسميه شميث «سوسيولوجيا المفاهيم القانونية» مفهومية راديكالية على حدّ تعبيره؛ أي منطقاً يبلغ الميتافيزيقي والثيولوجي. في الواقع، للصورة «الميتافزيقية، التي يهبها عصر محدّد للعالم، نفس بنية ما يبدو له أنه البديهي نفسه، إذا تعلق الأمر بالتنظيم السياسي»[8]. إذا كان الأمر هكذا، فليس السبب تناسب فضفاض مفترض من شميث بين واقع تاريخي ـ سياسي وبين الذهنيات التي تزامنه[9]؛ بل السبب هو حركة الحداثة نفسها؛ حركة تتجلى في تتابع «مجالات مهيمنة» ينتظم كل عصر حول إحداها. نحن الآن في نهاية صيرورة شهدت عبور الثقافات التاريخية من مركز الجذب، الذي كان الثيولوجيا، إلى الميتافيزيقا في القرن السابع عشر، ثمّ إلى الأخلاق الإنسانية، فالاقتصاد. لكن، لا معنى لهذا الانتقال، الذي يحرّك مسار الإنسانية الأوروبية خارج مبدأ سياسي هو معيار الصديق/العدو. ونستطيع تبعاً لهذا المعيار -وللاعتراف به كثيراً أو قليلاً، أو تشويهه، أو «تحييده» قليلاً أو كثيراًـ تقويم حركة الحداثة العامة. تنزع هذه الحركة، في الواقع، لفائدة انتقالاتها المتتابعة (من الثيولوجيا إلى ميتافيزيقا العصر الكلاسيكي ثم إلى الأخلاق الإنسانية فالاقتصاد) نحو تحييد متنامٍ للثقافة والعقل[10]. يرصد شميث انعطافاً حاسماً، من جانب، في الانتقال من الثيولوجيا المسيحية إلى العقلانية العلمية؛ لكونه بالأساس ثيولوجي سياسياً، ومن جانب آخر في إنهاء الخطيئة باعتبارها أساساً لتصور متشائم عن الإنسان يسمح وحده بنظرية سياسية متناسبة. في الواقع، «كل النظريات السياسية الأصيلة تفترض إنساناً فاسداً؛ أي إنساناً خطيراً وقوياً، إشكالياً بشكل كامل»[11]. وكشأن التمييز بين الصديق والعدو، «ينتهي الركن الإيماني الثيولوجي الأساسي الناصِّ على خطيئة العالم والإنسان الخطّاء إلى جعل الناس أصنافاً، ورسم المسافات، وجعل التفاؤلية اللامبالية، التي تختص بها التصورات الشائعة، أمراً مستحيلاً»[12].
نرى إذن، انطلاقاً من الثيمة التي بسطها شميث، أن ما هو موضوع سؤال ليس دور «العلمنة» في تكوين الدولة الحديثة فحسب، لكن بشكل أوسع، نظرية للتاريخ ذاته، يعمل توجّه سياسي حاسم عمله فيها؛ تؤدي إمكانية التمييز الفعالة بين الصديق والعدو إلى نقد التحييد الليبرالي للقرار السياسي. ليس تحييد الثقافة والعقل المُشار إليه هنا، في الواقع، نتيجةً لصيرورة كانت مرحلتها الفاصلة إنهاء الثيولوجيا السياسية فحسب؛ بل هو غاية الحداثة السياسية، التي هي الليبرالية. ونفهم، وفق هذه الشروط، السبب الذي جعل بلومنبرغ يرى أنّ القضية الشميثية الأسلوب الأقوى لنظرية العلمنة؛ بسبب ما افتتحته من نتائج.
والشأن في هذا الحوار حول «العلمنة» وخاصيتها العملية، إذاً، هو تأويل الحداثة. من هنا ضرورة العودة، في البداية، إلى الشُّبه؛ أي اشتباه مفهوم العلمنة، وإلى صورة العقلانية المُقترحة من لدن بلومنبرغ بوصفها خيطاً موجِّهاً بديلاً. سنحاول، منطلقين من هذا، استخلاص رهانات المواجهة بين أطاريح شميث وأطاريح بلومنبرغ ومقتضياتها الراهنة.
1. صعوبات مقولة العلمنة: وضعيتها المفهومية
لقد صار موضعاً عامّاً مقاربةُ الأزمنة الحديثة انطلاقاً من مقولة «العلمنة»، مثلما أشرنا إلى ذلك آنفاً. تجعل تأويلات عديدة من الحداثة نتاجاً لاستمرارية مقنعة. اقتصرت الحداثة على نقل عدد من المضامين الثيولوجية إلى المجال الدنيوي -وهذا ما تختصّ به- وهي تطالب بقطيعة جذرية مع ما سبقها. لقد أرادت أن تكون قطيعة، ولكن في الواقع لم تعمل سوى على أن ترث عصوراً سابقة. نستطيع أن نورد لإسناد هذا التأويل قراءة نيتشه (كل علم للغايات مستمدّ من علم للإلهيات) وقراءة كارل لوفيث (Karl Löwith)، الذي يُعلن عن «نظرية العلمنة» انطلاقاً من تأويل فكرة التقدّم (التقدم ترجمةً للرجاء الأخروي)، وقراءة فويغلين (Voegelin)، الذي يرى في الحداثة دواماً وتكراراً للمسألة الغنوصية، وأخيراً قراءة كارل شميث، الذي جعل من المفهومية السياسية الحديثة وريثة المفهومية الثيولوجية. دون أن ننسى، قريباً منا، الفرضية التي وضعها جاك دريدا عن عولمة ليست سوى «ترويم للعالم» (mondialatinisation) (وذلك من أجل أن يفسّر أثر المسيحية الرومانية التي هيمنت الآن على كلّ لغة القانون والسياسة، وحتى تأويل ما يُسمّى «عودة الدين»[13]). يعني إعمال «نظرية العلمنة» في الحداثة، إذاً، اعتبارها نتاج سلسلة من التكرارات والتمويهات ومن الاستمراريات المقنعة؛ إنها تتنكّر لأسلافها مدعيةً أنها أساساًـ ذاتياً وقطيعةً.
لكن، لا ينبغي أن يخفي الاحتماء بمقولة العلمنة عدداً من الصعوبات المتعلقة بوضعها المفهومي. تُفهم «العلمنة» بدلالتين في الواقع، بعيداً عن أن يكون لها دلالة متواطئة:
1. إنها تشير، أوّلاً، إلى أفول الدين، وفقدانه التأثير الاجتماعي، وانزوائه في المجال الخاص، وبالتبع تمكُّن مجالات الحياة الاجتماعية المختلفة من الاستقلال الذاتي: ما يسميه ماكس فيبر (Max Weber) «رفع السحر» عن العالم. ولا يحمل هذا الأمر أيّ إيحاء سيئ ما دام الأمر يتعلق عند ماكس فيبر، بشكل دقيق، بوصف الصيرورة التي تتخلّص وفقها الطبيعة والتاريخ من قوى السحر والدين وإغراءاتهما، في الوقت الذي تنشأ عقلانية أداتية أكثر وأكثر امتداداً. من هنا السؤال الأساسي: هل للدين القدرة على صنع التاريخ؟
2. لكن نفهم أيضاً من العلمنة نقل الصور والمضامين والتمثلات من المجال الديني أو الثيولوجي نحو المجال الدنيوي. العلمنة، وفق هذه الدلالة الثانية، هي «جعل الأشياء تنتمي إلى العالم» (mondanisation)، وهذا النقل هو الذي يشير إليه بلومنبرغ بـ«نظرية العلمنة»؛ علمنة ل أ. تُختزل الحداثة، في معظم تجلّياتها، إذاً، في حاضنتها الدينية المخفيّة. هي صيرورة إخفاءـ ذاتي وصيروة للإنكار في الآن نفسه؛ هي ليست ما تدَّعي كونه، إنّها ما تدّعي إخفاءه وما تخفيه عن نفسها؛ إنها لا تحمل أصلها إلا باعتباره «بعداً لمعنى متوارٍ».
يتشبّث بلومنبرغ بنقد هذا التأويل، ونقد اشتباه مفهوم العلمنة بالتحديد في شرعية الأزمنة الحديثة. يوضّح الفصل الأوّل المعنون: «الوضعية المفهومية للعلمنة»، عبر شواهد، أن صورة العلمنة تراهن بدايةً على تأويل في الأساس مزيل لشرعية الحداثة (هذا أقل ما يمكن أن يُقال). ما دامت تجحد الأصالة والتأسيس العقلي اللذين تطالب بهما. تعدّ العلمنة، في نظر بلومنبرغ، بهذا، مقولة تأويلية مزيلة للشرعية: مقولة «للاشرعية التاريخية». لكن هناك ما هو أعظم: إذا أخذنا في الاعتبار أن جميع أبعاد الحداثة، أو معظمها، أُخضعت لنظرية العلمنة، سواء تعلق الأمر بأخلاقيات العمل الحديثة باعتبارها علمنةً للرهبنةً، أم بالثورة باعتبارها علمنة للرجاء الأخروي، أم بسلطة الدولة باعتبارها علمنة لقدرة الله المطلقة، فسنجد مقولة تأويلية مُوحِّدة في الجنس (homogénéisant) يجب مساءلة افتراضاتها. تُعدّ هذه الافتراضات، في نظر بلومنبرغ، افتراضات فكر جوهراني للتاريخ يضع دائماً علاقة متواطئة بين المبدأ والغاية، بين الأصل والمصدر والمقصد أو الهدف؛ يُنظر إلى التاريخ، باعتباره «استحالة جوهرٍ»[14]. ليس الوضع المتأخّر لصيرورةٍ ما ممكناً ومفهوماً إلا بشرط افتراض وضعها السابق. تفترض مقولة «العلمنة» نواة جوهرية غير ملموسة وراء تشكلاتها الظاهرة: «يُفسَّر مضمونٌ خاصٌّ ومحدد بآخر يسبقه؛ بحيث إن تحوّل أحدهما إلى الآخر ليس تكاثفاً أو تخلخلاً، لكن اغتراباً للدلالة والوظيفة الأصليتين»[15]. والنواة الجوهرية المعنيَّة هي النواة الثيولوجية في نهاية المطاف. العلمنة مقولة تأويلية لا تكتفي بوصف الحداثة وصفاً يزيل عنها شرعيتها -باختزال مطلبها في التأسيس- الذاتي، لكنها تُراهن بشكل دقيق على فلسفة للتاريخ جوهرانية استمرارية، تعمل فكرة الاشتقاق عملها فيها؛ فلسفة هي في الحقيقة ثيولوجيا للتاريخ.
يقترح بلومنبرغ استبدال تأويلٍ أكثر دقّة ومحكمٍ نسجُهُ بهذه الصورة الموحِّدة في الجنس؛ تأويلٍ يسمح، في نظره، بأخذ فكرة عن الجدّة والقطيعة والانقطاع والاستمرارية في الوقت نفسه؛ استمرارية وحدها تجعلها في المتناول؛ لكن هذه الاستمرارية ليست «جوهرانية». إن كان يجب أن نمنح مفهوم «العلمنة» قيمة ومكانة كشفية، فيجب أن نؤوّله بطريقة أخرى بعدم اعتباره نقلاً للمضامين، وبالتسليم بأن «مضامين متباينة قد تقوم بوظائف متماثلة في بعض المواضع من نسق تأويل العالم والإنسان». إن كان «للعلمنة» معنى، فليس إذاً باعتبارها «طفرة» لمضامين ثيولوجية أصيلة صارت زمنية باغترابها، لكن لأنّها تعيد استعمال «وضعيات أجوبة أصبحت فارغة» في نسق تساؤل لم تعد الأجوبة تشتغل فيه. يقترح بلومنبرغ، إذاً، أن تتحدد الاستمرارية، إن كان هنالك من استمرارية، من خلال ثيمة (Une thématique) عن «رهن أسئلة» (L’hypothèque de questions) مُغالى فيه إذا قورن بالأجوبة، وليس من خلال هذه الحاضنة الثيولوجية، التي هي «الجوهر» في العمق، ممّا يضطر إلى إعادة استعمال وضعيات صارت فارغة. ليست «الأسئلة العظمى» نفسها التي تستمرّ في تاريخ الإنسانية (لو كان هناك «مخزون»، أو جسم باقٍ من الأسئلة العظمى، سيعود بنا الأمر إلى فكرة وجود قِوام Substrat دائماً متطابق)، لكن الاستمرارية تشهد على نفسها عبر إشكالية «فرط الأسئلة»، التي هي قبل كلّ شيء «إشكالية العتبات التاريخية»[16]. إن كان هناك من «هوية»، فليست هوية مضامين، بل «وظائف». في بعض اللحظات، التي يمكن وصفها بالمتأزمة، يواجه الوعي مشكلات لا يستطيع حلّها (عكس أطروحة ماركس: لا تضع الإنسانية إلا الأسئلة التي تستطيع حلّها)، ويعيد استعمال وضعيات وظيفياً؛ وضعيات تُركت فارغة من أجوبة لم تعد عملية. بعبارة أخرى، غيَّر بلومنبرغ وجهة التأويل المعهودة بعبارات الإرث الخفي والاستمرارية المقنعة؛ لأن القدرة التفسيرية للأجوبة التي صارت غير مُرضية وغير عملية أُنهكت، فبإمكان أمر ما آخر جديد أن يَقدُم.
الصورة المقترحة هنا مركبة، ويجب تفادي عدد من الأفخاخ والتأويلات السيّئة لفهمها. بدايةً، لا يدَّعي بلومنبرغ، طبعاً، أن الحداثة مبدأ مطلق، وضعٌ خرج من العدم (ex nihilo). على العكس من ذلك، إن كانت الحداثة تحاول أن تتأسّس على العقل، إن كانت تتأكّد باعتبارها تأسيساًـ ذاتيّاً للمعرفة، فلأنها كان يجب أن تواجه الأزمة المتولّدة من الاسمية في نهاية العصر الوسيط؛ بهذا هيأت القدرة المطلقة (potentia absoluta) لإله قدير، بإمكان إرادته إعدام العالم، أو رعايته وحفظه، فرضيةَ الجني الماكر (Malin Génie) الديكارتية.
«يظهر (الجني الماكر) كما لو أنه مبالغة مختارة بشكل حرٍّ لمستلزمات «توجب» على الفكر أن يجد أساسه الجديد في نفسه». حَوَّلت طريقة ديكارت، في الواقع، «أزمة يقين» نهاية العصر الوسيط إلى «تجربة يقين»؛ ليست الأهمية التي صار الإنسان يحملها لنفسه، الاهتمام بالذات، نقلاً لمضمون -كما لو أن الإنسان صار «إلهاً صغيراً» - لكن يشهد لإعادة استعمال وظيفي لسؤال في سياق أزمة.
بسبب أن «الإطلاقية الثيولوجية» أثارت أزمة عظيمة في نظامي المعرفة والثقافة، أُكرهت الحداثة بهذا أن تأخذ «على عاتقها إثبات ـ الذات»: «انتهى (العصر الوسيط) حينما لم يستطع إيهام الإنسان داخل نظامه الروحي أن الخلق «عناية»، وحينما فرض عليه، من هنا بالذات، حِمل إثبات الذات»[17]. يشهد جعل الإنسان مستقلاً، إذاً، تجربةً خاصّةً للعقل مع نفسه. وقوة هذه التجربة في علاقة شديدة «بعَوَز وعي أرهقته الأسئلة العظمى والأماني العظيمة طلباً، وأُحبط»[18]. مرةً أخرى، إنها بالذات إشكالية فرط الأسئلة التي اتضح أنّها مؤسّسة، وتضمن استمرارية دينامية تسمح بإدراك القطائع. وتسمح هذه الاستمرارية بالتحديد بآثار البعد (Effets de distance) التي لا تسمح بها الاستمرارية الجوهرانية.
علينا أن نسجّل بعد ذلك تمييزاً أساسيّاَ على المستوى الإبستمولوجي، وفق فرضية بلومنبرغ، بين شرعية الأزمنة الحديثة باعتبارها مقولةً تاريخية؛ أي العقلانية باعتبارها «إثباتاً للذات»، وبين «تأهيلهاـ الذاتي». يستنبط بلومنبرغ بهذا أن إرادة الحداثة تدافع عن نفسها ضد الفوضى التي ولّدتها أزمة الإسمية (Nominalisme)، ويرى أن مطالبة العقل بأن يضع نفسه أساساً، وبأن يجعل تأسيس ذاته تأسيساً ذا سيادة، هي مطالبة ثابتة. يجب أن نفهم إذاً أنّ عقلانية العصر الحديث «إثبات- للذات». لكن هذا لا يجر بالضرورة «تأهيلهاـ الذاتي»: لن ندّعي أن الحداثة نجحت بالفعل في مشروع تأسيسها الذاتي، وأن أنظمتها التصورية موافقة للعقل. ليس المشكل في أن نعرف، مثلاً، هل مطالبة الفلسفة بالمبدئية المطلقة للحداثة صائبة أم لا. يبقى أن نأخذ في الحسبان المطالبة ذاتها كما هي، باعتبارها أمراً خاصّاً بالحداثة. على المؤوّل أن يضع نفسه في مستوى هذا الفرض (Exigence) الجذري للقطيعة والتجديد، لا ليستنتج منه تحقّقه الفعلي (ما سيكون خلطاً بين الإثبات- الذاتي والتأهيل- الذاتي، بين ثبات الفعل المؤسّس ووهم إنجازه) ولكن للقَبول بالأصالة، وبخصوصية مثل هذه الوضعية: هنا تكمن شرعية الأزمنة الحديثة نفسها. ينصّ بلومنبرغ على ذلك: وحده «العهد الحديث فهم ذاته باعتباره عهداً، وخلق بذلك العهود الأخرى. يكمن المشكل في طموح الأزمنة الحديثة لتحقيق قطيعة جذريّة مع التراث، وفي عدم التناسب بين هذا الطموح وواقع التاريخ الذي يستحيل أن يبدأ من الصفر»[19]. وبتقرير «عدم التناسب» بين المشروع وتحقّقه الفعلي، يُرفع الاعتراض، الذي بالإمكان أن يُعترض به عليه، والمتمثل في استسلامه لوهم الحجية- الذاتية، وفي أن يتبنّى بلاغة الحداثة دون أن يتحرّز منها، ويتنكّر لميراثها. لكنّه يقطع، في الوقت نفسه، مع افتراض كامن في «العلمنة»، وقد فُهمت على أنّها نقل لمضامين: الحنين إلى الأصول، والأسف على أصل مستتر ومخفي، لآمالنا ورجائنا الدنيوي؛ ذلك أن «نظرية العلمنة» تستجيب لطموح لاعقلاني قصد إيجاد بُعد معنى مفقود وراء التنكرات جميعها، بالإضافة إلى ما يصحب ذلك من قلق هو أعظم؛ حيث إن إشكالية التأسيس- الذاتي تجعلنا نواجه بالتحديد، نحن المحدثين، مشكلة فراغ التأسيس.
إلا أن الوعي لن يجد أبداً في صورة مكتملة ما كان عليه أن يتخلّى عنه، إن اتبعنا الصورة التأويلية المقترحة من بلومنبرغ. وتشهد التجربة «المحبطة» التي يحدثها الوعي الحديث، في الوقت نفسه، على أن الحداثة هي بغير رجعة، إن أخذناها بعين الجد، إن لم نعدّها تكراراً مقنعاً[20]. إذاً ليس الإثبات- الذاتي والتأهيل- الذاتي متلازمين، لكن يبقى أن ظهور الأزمنة الحديثة يتلازم مع تنصيبها- الذاتي باعتبارها أمراً جديداً. «لم توجد «الأزمنة الحديثة» قبل اللحظة التي أعلنت فيها أنها كذلك»[21]. الحداثة هي قبل كلّ شيء إنشاء. ونستطيع هنا بسط توضيح نموذجي بخصوص الثورة الفرنسية وبلاغة الحدث المؤسّس؛ لا يُلزِم تمجيدُ البدايات التي حمل بها الخطاب الثوري المؤوّلَ على تبنّي وهم الأصل هذا. لكن تتجلّى الطريقة الأكثر خصوبةً في أن نعامل وهمَ الأصلِ هذا كأنّه أصلٌ، وليس في مجرّد إنكار راديكالية القطيعة الثورية بدعوى أنها مرتبطة بوهم التأسيس الذاتي. لن نعود بذلك إلى أسطورة البداية، التي ليست بداية إلا أنها تُعاش كذلك -في هذه الحالة سنخلط بين الإثبات- الذاتي والتأهيل- الذاتي- لكن نعدّها مصدراً لقلب الأنظمة الرمزية، ولمعقولية جديدة؛ باختصار للقابلية على منح الحاضر وجهاً جديداً[22]. بعبارة أخرى، لا قراءة «استمرارية» على شاكلة توكفيل (Tocqueville)، ولا قَبولاً لقطيعة تتأسس فحسب على معتقد الفاعلين، يسمح بتفسير الخاصية الإنشائية للثورات الحديثة. ونستطيع، هنا، المقابلة بين قراءتين: قراءة ماركس في (18 برومير لويس نابليون بونابارت) وقراءة حنه آرنت (Hannah Arendt) ضمن كتابها (في الثورة).
تُلعب الثورة بالنسبة إلى ماركس باستعمال ألبسة رومانية، وتغطية التاريخ بالأسطورة، هو التنكر الذي يسمح بالفعل ويبرّره: «في الوقت الذي يبدو أن الناس يُحدثون الثورة في أنفسهم وفي الأشياء... يستحضرون بقلق أرواح الماضي». بعبارة أخرى، يجهل الثوار الحاضر الذي عليهم أن يُتمّموه، لكن جهلهم هو بالتحديد الشرط نفسه لإتمامه.
لا تجعل حنه آرنت من «نموذجية» الماضي القديم علامةً على مكر الذاكرة؛ لأنّ ما تتخصّص به الثورات السياسية الحديثة بالتحديد هو كشف القدرة الإنسانية على التجديد، ولأن تأسيس الحرية هو فكرة الثورات الحديثة المركزية. تكشف بلاغة هذه الثورات، بعيداً عن الوهم أو الوهم- الذاتي، عن تجربة جديدة بشكل مطلق: تجربة الحرية (المألوفة لدى القدماء ولكن غُطّيت وشُوِّهت في العصر الوسيط المسيحي وبدايات العصر الحديث)، تجربة تصادف «امتحان ملكة الإنسان في بدء شيء جديد»[23].
صحيح أن طريقة بلومنبرغ ليست مجرّدة من الصعوبات بسبب الدقّة نفسها، ابتداءً من الانزلاق الممكن دائماً من الإثبات- الذاتي إلى التأهيل- الذاتي، والفرق بين نظامي القول هذين يمكن أن يتكشّف عن أنه واهٍ. لكن، بقدر سعي هذه الطريقة إلى أن تكون كشفية لا دوغمائية، إلا إنها تبحث عن «بدايات» وليس عن «أصل». بهذا المعنى تمنح، على الأقلّ، ثباتاً لفكرة البداية، وتفتح على إمكانية بعث ثيمة الفعل.
مهما يكن، تُحدث أطروحة بلومنبرغ نقلة: بنقد فكرة «العلمنة» باعتبارها «مقولة اللاشرعية»، وبمساءلة المقام المفهومي الذي مُنح لها بقوة، وبالتأكيد على غموضه تتخلّص من نكرانين: نكران الجدة والقطيعة، ونكران التراث. وبأخذنا بعين الجد مقتضى الاستقلال- الذاتي، الذي يصاحب خطاب الحداثة، تُحدث (الأطروحة) تجذيراً (radicalisation)؛ فهي تجعل من العلمانية أو الانتماء إلى العالم (mondanité) مشروعها الأكثر تميّزاً؛ ذلك أنه يجب الأخذ في الاعتبار صفة المطالبة الراديكالية الخاصة بالحداثة، والتحدي والرفض اللذين لا تنفكّ عنهما، ممّا يستتبع أن العلمانية ليست العلمنة[24]. وفيما يخص التمييز بين الإثبات- الذاتي والتأهيل- الذاتي، فهو [التمييز] يوجد في قلب النقاش مع كارل شميث؛ لأنه يقرّر في شأن مفهوم الشرعية بالتحديد.
2. بين شميث وبلومنبرغ: سؤال الشرعية
كانت «نظرية العلمنة»، التي أعلنت سنة (1949) من كارل لوفيث، نصب عيني بلومنبرغ حينما نشر عام (1966) (شرعية الأزمنة الحديثة)؛ فقد صدرت فكرة التقدم الحديثة عن الأخرويات المسيحية، ومنه يمكن أن نسلّم، بصفة عامة، أن جميع أبعاد الوعي التاريخي للأزمنة الحديثة آتية من تاريخ الخلاص المسيحي. لكنّه يستهدف أيضاً أطروحة كارل شميث التي شرحناها آنفاً: «كلّ مفاهيم نظرية الدولة الحديثة ذات المكانة مفاهيم ثيولوجية معلمنة»[25]. وبالمقابل، في نهاية الجزء الثاني من (الثيولوجيا السياسية)، يرد كارل شميث، ضمن أمور أخرى، على بلومنبرغ في الكلمة الختامية المعنونة: «الوضع الحالي للمشكلة؛ شرعية الأزمنة الحديثة»[26].
لماذا يعدّ بلومنبرغ إطلاقية شميث الثيولوجية الشكلَ الأكثر تأكيداً لنظرية العلمنة، ليس فحسب بسبب مضمونه، لكن بسبب الآثار التي يحدثها؟ لهذا أسباب كثيرة:
يُحدث شميث، بادئ ذي بدء، نقلاً من الله القدير إلى المشرّع القدير. ولا يتعلّق الأمر فقط، باعترافه هو، باسترجاع «حرفي» للثيولوجيا؛ لأن هذا النقل يعمل عمله في تفاصيل الحجاج القانوني- السياسي[27]. للسياسي الحديث (بعبارة أخرى الدولة) أصل ثيولوجي. تذهب قضية مثل هذه أبعد من الاعتراف بالإرث الثيولوجي للسياسي الحديث، أو حتى بحاضنة ثيولوجية للدولة الحديثة. في الواقع، هذه القضية في صلة بأطروحة أساسية ليست سوى مطابقة السيادة للفصل. إن كان «لدلالة حالة الاستثناء بالنسبة للفقه ما لدلالة المعجزة بالنسبة للثيولوجيا». وإن كان «صاحب السيادة من يفصل في حالة الاستثناء»[28]، فذلك بسبب الامتياز الميتافيزيقي الممنوح للفصل باعتباره بدءاً مطلقاً: يحيل الفصل في الواقع إلى القدرة المطلقة لإله إرادته تتجاوز أيّ إحالة إلى العقل. هذه هي الكلمة الأخيرة لإطلاقية شميث الثيولوجية.
أخيراً، دفعت قراءة الحداثة بلغة «العلمنة»، والاتجاه نحو «التحييد» و«التجرد من السياسي»، شميث إلى اختيارٍ «سياسي» بالمعنى الواسع للكلمة: فكرة السياسي الأصيلة وماهيته، وبالتبع ماهية الدولة «الأصيلة»، هي القدرة على التمييز بين الصديق والعدو، والاضطلاع بالقرار العدواني الراديكالي. ولأن الثيولوجي، عند شميث، حاسم في نهاية المطاف، فالقول الفصل في التمييز الصديق/العدو لا يندرج ضمن مجال السياسة (ويجب التنبيه، في هذا الصدد، إلى أن السياسي لا يرسم عند شميث مجالاً «موضوعياً»)؛ بل ضمن «المعتقد الثيولوجي الأساسي الذي يؤكّد «خطيئة العالم». منذ أن بدأت الإنسانية، في القرن السابع عشر، في البحث عن مجال محايد، بالعبور من الثيولوجيا المسيحية التقليدية إلى نظام علمي طبيعي، كانت تودّ أن تتجنّب التعارضات الثيولوجية الأساسية: الله أو الشيطان، وألقت الله خارج العالم: «وضع الله نفسه خارج العالم من منظور فلسفة ربوبية (deiste) القرن (18) وصار هيئةً محايدة في علاقته بصراعات الحياة الواقعية وتعارضاتها، وصار مفهوماً وكفّ عن أن يكون موجوداً»[29]. هكذا انتهت الحداثة إلى الاعتراض على المعجزة بحكم استلزامها قطيعة مع القوانين الطبيعية، واستثناءً مرتبطاً بالتدخل الإلهي.
انتبه بلومنبرغ إلى أن هذه الازدواجية الأساسية ممّا تختصّ به أطروحة شميث: «يظهر أن وراء القضية، التي مفادها أن المفاهيم الحاضرة بقوّة في علم السياسة الحديث قد تكون مفاهيم ثيولوجية معلمنة، تصنيفاً ثنائياً للوضعيات أكثر من اكتشاف تاريخي»[30].
تؤدّي مكونات الحوار بين شميث وبلومنبرغ، في الواقع، إلى رهان أخير: ماذا عن مفهوم الشرعية؟ دافع بلومنبرغ عن نفسه[31] ضد تهمة شميث، التي مفادها أنه لم يعالج «شرعية» الأزمنة الحديثة، لكن «مشروعيتها». في نظر شميث، في الواقع، لا وجود إلا لشرعية (Légitimité) آتية من عمق الأزمنة، هذا هو «موافقة الحقّ». واستند بلومنبرغ في نظره إلى مشروعية (Légalité) (مجرد موافقة القانون) اكتفت بوصف وضعيةٍ استناداً إلى معيار. يرد بلومنبرغ بأن شرعية الأزمنة الحديثة، كما يفهمها، هي ذاتها مقولة تاريخية تتضمّن التمييز بين العقلانية باعتبارها مطالبة -إثبات الذات- وبين تأهيلها- الذاتي. وبهذا الصدد، لماذا لا تتجسّد شرعية عصرٍ في الانقطاع عن تاريخه؟
نرى، إذن، انطلاقاً من فكرة «العلمنة»، أن تصورين متعارضين للشرعية يتواجهان: يشير كارل شميث باعتباره ثيولوجيّاً سياسياً إلى أصلٍ، وإلى «حجية» تريد أن تكون مؤسّسة في التتابع الزمني (diachronie). الشرعية لفظ مؤسّس في النظام الدياكروني الذي تصدر منه «حرمة الأنظمة التي انحدرت من عمق الأزمنة»[32]. إذا كان الأمر هكذا، فلن تكون الحداثة إلا مجرّدة من الشرعية في ادعائها الجدّة والانقطاع، ومن خلال ذلك الادعاء: لم يعدَّها شميث نكراناً لموروثها فحسب؛ بل أكثر، ترى نفسها غير معترف بها، إذا أخذنا في الاعتبار خلفياتها الثيولوجية- السياسية، وقد عُزلت باعتبارها صيرورة لتحييد السياسي. نحن أمام إشكالية الأصل؛ بل حتى الأصل الذي يُخجل منه: تخجل الحداثة من أصولها.
يسلّم بلومنبرغ، من جهته، بأنّ الإثبات- الذاتي العقلاني للحداثة هو شرعيتها، ما يؤدّي لا إلى الخلط بين الإثبات الذاتي والتأهيل- الذاتي، كما نبّهنا إلى ذلك آنفاً، بالقضاء على كلّ أثر للبُعد، لكن بالتسليم بخصوصية الحداثة باعتبارها مشروعاً، وأكثر من ذلك: باعتبارها مشروعاً مسكوناً بأزمة إضفاء الشرعية. لا أحد في الواقع ينفي أن الحداثة بالتحديد لا تنفكّ عن أزمة الحجية[33]. نستطيع الدفاع حتى عن اختصاص الحداثة بصيرورة مستمرّة لإضفاء شرعية هي في أزمة دائماً. لو أنّنا ننتمي إلى مجتمع ينزع إلى نسف قواعد شرعيته الخاصّة، فذلك بالتحديد لأن طرق إضفاء شرعيتها -التجرّد من الماضي والتراث- لا تترك مكاناً إلا لمطالب يكمن فيها التناقض؛ أي إنها متعارضة فيما بينها كما يلاحظ شارلز تايلور (Charles Taylor). هل يجب قبول المعادلة بتأسيس «أنطولوجيا نقدية» للحداثة، كما عمل على ذلك ميشيل فوكو، أو بالرجوع الدائم إلى هذه الوضعية المحبطة ذاتياً، تلك التي تتمثّل في أن لا نرى في الحداثة سوى العود الأبدي للأمر نفسه؟
للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا
________________________________________________________
[1]- مجلة ألباب العدد13
[2]* Myriam Revault d’Allones, Sommes-nous vraiment “Déthéologisés”? Carl Schmitt, Hans Blumenberg et la sécularisation des Temps Modernes, Les Etudes philosophiques, No. 1, Carl Schmitt (Janvier 2004), pp. 25-37.
** باحث ومترجم من المغرب..
- La légitimité des Temps modernes, trad. Franç, Gallimard, 1999, p. 13.
الإحالات على هذا الكتاب يرمز لها بـ LTM
[3] ـ العبارة لمارسيل غوشي Marcel Gauchet في: Un monde désenchanté ? Débat avec Marcel Gauchet, P. Collin et O. Mongin (dir.), Le Cerf, p.73.
[4]- Théologie politique, trad. franç. Gallimard, 1988, p. 46
الإحالات على هذا الكتاب يرمز لها بــ TP I بالنسبة إلى نص (1922)، أو TP II بالنسبة إلى نص (1970).
[5]- Hans Meier, Carl Schmitt, Léo Strauss et la notion de politique, trad. franç. Julliand, 1990
[6] - TP I, p. 46
[7] - ما ينبّه إليه كيرفغون (J.-F. Kervégan) حينما يؤكّد أن ثيولوجيا شميث السياسية تتجاوز، بشكل واسع، فكر الدولة الحديثة التاريخي، لكن تستلزم «فلسفة للتاريخ» حقّة، Hegel, Carl Schmitt. Le politique entre spéculation et positivité, PUF, 1992. CF وبشكل خاص الصفحات 105-100 من هذا الكتاب الذي يحلّل مقتضيات «سوسيولوجيا المفاهيم القانونية» كما فهمها شميث. لا يتعلّق الأمر إلا بتشكيل «ثيولوجيا سياسية عامة» تقوم مقام نظرية في التاريخ.
[8] - P. 55.
[9] - يعترض شميث على تأويل «روحاني» يُتبِع التحولات السياسية إلى تحولات «تصورات العالم»، وعلى تأويل «مادي» يُتبِع الإيديولوجيات إلى العلاقات الاقتصادية.
[10] ـ تمّ تفسير هذه الحركة بشكل كامل في: L’Ere des neutralisations et des politisations, in La notion de politique, trad. franç., Calmann-Lévy, 1972.
[11] - La notion de politique, op. cit. , p. 117.
[12] - Ibid, p. 110-111.
[13] - “Le siècle et le pardon”, in Le monde des débats, novembre 1999
[14] - LTM, op. cit., p. 12
[15] - Ibid. , p. 19
[16] - Ibid, p. 74
[17]- Ibid., p. 149
[18]- Ibid., p. 98
[19] - Ibid., p. 126
[20] - انظر مقال مايكل فوسيل Michael Foessel, «La nouveauté en histoire. Hans Blumenberg et la sécularisation», Esprit, Juillet 2000, p. 43-50. يقارن مايكل فوسيل بدقة فكرة وعي «تتوسّله» الأسئلة العظمى والآمال العظيمة ثم «أُحبط» مع تجربة الوعي في فينومنولوجيا الروح لهيغل: يؤدي التخلّي عن اليقين الذاتي بالوعي إلى أن يضع دلالة جديدة، حيث لا جدل عند بلومنبرغ يسمح للوعي بـ «العثور ثانيةً في صورة كاملة على ما كان عليه أن يتخلّى عنه».
[21] - LTM, p. 531.
[22] - أسمح لنفسي بالإحالة على كتابي D’une mort à l’autre. Précipices de la révolution, Paris, Le Seuil, 1989. بسطت هذه الفرضية التي يتضح أنها جزء من صورة التأويل المقترحة من بلومنبرغ.
[23] ـ نحيل على الفصل الأول «معنى الثورة» ضمن: في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، مراجعة رامز بورسلان، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008. ننبّه بالخصوص إلى العبارة الآتية: «إن المفهوم الحديث للثورة المرتبط ارتباطاً لا انفصام له بالفكرة التي تقول إن مسار التاريخ بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تروَ سابقاً، ولم تُعرف قط، هي على وشكّ أن تظهر، هو مفهوم لم يكن معروفاً قبل اندلاع الثورتين العظيمتين في نهاية القرن الثامن عشر» ص 38
[24] ـ يتجه مارسيل غوشي (Marcel Gauchet) الوجهة نفسها في البداية حينما يكتب «اقترحت الكلام عن "الخروج من الدين" لأصف حركة الحداثة، وهذا بالتحديد لغاية تفادي عبارة العلمنة...الخروج من الدين هو في العمق استحالة الدين إلى شيء آخر غير الدين، السبب الذي جعلني أعترض على مقولتي العلمنة Laïcisation et sécularisation، يحدث أمر أكثر عمقاً من مجرّد استقلال العالم عن الديني، إعادة تشكيل العالم الإنساني عبر استيعاب جديد، وصهر وتحويل وتهييئ جديد لما اتخذَ في ذلك العالم وَجْه الغيرية الدينية لآلاف السنين. أنفي قدرتها على التفسير والفهم ولا أنفي قدرتها على الوصف. يبدو لي أنها تغفل عن أصالة عالمنا، ولكن أقبل أنها تصف السطح بشكل مناسب. إن لها استعمالها على هذا المستوى؛ إنها لا تحلّ المشكلة، هذا كل شيء» (La religion dans la démocratie. Parcours de la laïcité, Gallimard, 1998 ; Poche, 2001)
[25] ـ نقده مبسوط في الطبعة الثانية عام 1974
[26] - P. 167
[27] - TP I, p. 48.
[28]- TP I, p. 15.
[29] - L’ère des neutralisations et des dépolitisations, op. cit., p. 145.
[30]- LTM, op. cit., p. 102.
[31] - Ibid., p 106
[32] - LTM., p. 106.
[33] ـ هذه بالخصوص الوضعية التي تدافع عنها حنه آرنت في Qu’est ce que l’autorité?, in La crise de la culture