هل مات المثقّف العربيّ؟
فئة : مقالات
هل مات المثقّف العربيّ؟
"لم يحدث أن قامت ثورة كبرى في التّاريخ الحديث دون مثقّفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركة مناهضة كبرى للثّورة دون مثقّفين" (إدوارد سعيد)
فرضت الأحداث المتسارعة الّتي شهدها العالم العربي في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين عودة النّظر إلى المثقّف ودوره، بوصفه صانعاً للتغييرات الحاصلة منظّراً لها، أو مقيّماً، ناقداً ومحلّلاً أسبابها والعوامل الّتي صنعتها، أو مفكّكاً للخطابات الجديدة الّتي أفرزتها، وباحثاً عن سبل نجاحها. ولا يمكن، ونحن نتحدّث عمّا عصف بالعالم العربيّ من تحوّلات، أن نغفل الأدوار الّتي لعبتها ثلّة من المثقّفين في تهيئة "البيئة الذّهنيّة" وتفخيخها بما سيكون في زمن لاحق امتلاء حقيقيّاً بضرورة التّغيير السّياسيّ والاجتماعيّ، ويمكن أن نستدلّ على هذا بما أنتجه المثقّفون المعادون للسّلطة منذ عقود من موسيقى ملتزمة، وروايات وقصص وأشعار وأفلام ومقالات تفضح الحاكم العربيّ وتعرّي تسلّطه وتندّد بالجزمة العسكريّة الرّابضة على عنق المجتمع، وتشهّر بالقمع السّياسيّ والظّلم والدكتاتوريّة وتسلّط الحزب الواحد، والفساد والنّهب والاستغلال وغيرها من الظّواهر السلبيّة الّتي كبّلت العالم العربي عقوداً طويلة تحت عناوين زائفة من قبيل "مصلحة الوطن" و"الأمن" و"السّلم الاجتماعيّ"...
ولم تكتف هذه الخطابات بالتّشهير المجرّد، بل راحت تنادي بالحريّة والدّيمقراطيّة والتّعدّد والعدل والكرامة الإنسانيّة، وهي تقريباً الشّعارات نفسها الّتي رفعت في الحراك العربيّ الّذي اندلع في 17 ديسمبر 2010 في سيدي بوزيد التّونسيّة، وما زال صداها حيّاً إلى حدّ الآن في الشّارع العربيّ.
تتنزّل هذه المقالة في خانة الاهتمام بالمثقّف بحثاً عن مفهومه، وعن صلته بالواقع في الفضاء العربيّ الرّاهن، واستشرافاً لمنزلته وموقعه في ظلّ عالم عربيّ مفتوح على كلّ الاحتمالات.
كان إدوارد سعيد واحداً من أبرز المفكٍّرين المعاصرين اهتماماً بمفهوم المثقّف، خصوصاً في كتابه الذي أصدره في منتصف تسعينيات القرن الماضي "المثقّف والسّلطة"، الّذي ناقش فيه أبرز مفهومين للمثقّف في القرن العشرين من وجهة نظره: مفهوم جوليان بندا Julien BENDA ومفهوم أنطونيو غرامشي Antonio GRAMSCI للمثقّف، ليحدّد فيما بعد أربعة عناصر تحدّد ملامح المثقّف وتشكّل مفهومه من وجهة نظره: أوّلها الموهبة؛ أي القدرة على التّفكير والتّأمّل وعمق الملاحظة ودقّتها، والنّظرة الثّاقبة الواعية إلى الواقع والمستقبل، حتّى يكون صاحب رسالة – العنصر الثّاني – قد تتضمّن وجهة نظر أو موقفاً أو فلسفة أو رأياً.
أمّا العنصر الثّالث، فيتمثّل في المتلقّي المفترض أي المجتمع. يقول: "المثقّف فرد يتمتّع بموهبة خاصّة تمكّنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما، وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع".[1]
غير أنّ العناصر الثّلاثة السّابقة تستوجب في نظر سعيد عنصراً رابعاً مهمّاً هو القدرة على الحياد إزاء السّلطة مهما كان نوعها: اجتماعيّة أم سياسيّة أم اقتصادية، ذلك أنّ الدّور المنوط بالمثقّف لا يمكنه "أداؤه إلاّ إذا أحسّ بأنّه شخص عليه أن يقوم علناً بطرح أسئلة محرجة، وأن يواجه ما يجري مجرى الصّواب أو يتّخذ شكل الجمود المذهبيّ، (لا أن ينشئ هذا أو ذاك)، وأن يكون فرداً يصعب على الحكومات أو الشّركات أن تستقطبه، وأن يكون مبرّر وجوده نفسه هو تمثيل الأشخاص والقضايا الّتي عادة ما يكون مصيرها النّسيان أو التّجاهل أو الإخفاء"[2].
والمثقّف، في ظلّ هذا الحياد التّام محكوم بما يسميّه إدوارد سعيد "المبادئ العامّة العالميّة" بما أنّ "جميع أفراد البشر من حقّهم أن يتوقّعوا معايير ومستويات سلوك لائقة مناسبة من حيث تحقيق الحرّيّة والعدل من السّلطات الدّنيويّة أو الأمم، وأنّ أيّ انتهاك لهذه المستويات والمعايير السّلوكيّة، عن عمد أو دون قصد، لا يمكن السّكوت عليه، بل لا بدّ من إشهاره ومحاربته بشجاعة"[3].
وبتنزيل هذا المفهوم في واقعنا العربي الراهن بعد الحراك الّذي شهده في السّنوات الستّ المنقضية نتبيّن الموقف الّذي يعيشه المثقّف العربيّ الحالم بالحرّيّة والدّيمقراطيّة النّاظر إلى المستقبل بعيون تملؤها إرادة التّغيير، ذلك أنّ مجرى الأحداث وتسارعها قد فرض عليه أحد موقعين: إمّا الارتماء في أحضان السّلطة الجديدة مشاركاً وصاحب كرسيّ للحكم أو للمناصرة والتّأييد؛ أو البقاء في مقعد متأخٍّر هامشيّ لأنّ دوره تراجع تاركاً المجال لفاعلين آخرين مؤثّرين في الواقع الرّاهن على رأسهم الإعلام وخبراؤه ومحلّلوه وأكثرهم ممّن يتنقّلون بين المنابر الإعلاميّة عارضين أفكارهم للبيع متناغمين بالضّرورة مع ما تسوّقه من أفكار خاضعين لقانون العرض والطّلب.
ولعلّ مسارات الأحداث الّتي صعدت بالإسلام السّياسيّ إلى سدّة الحكم (في مصر وتونس مثلا) غداة الحراك الّذي شهدته البلدان العربيّة قد أعادت طرح إشكاليّات قديمة كانت في خانة الحسم، فإذا بها تطفو إلى السّطح مواضيعَ للنّقاش من جديد من قبيل الهويّة وفصل الدّين عن الدّولة وحقوق المرأة وغيرها من ناحية، كما استطاع النّظام القديم ممثّلاً في شخصيّاته وسياسيّيه العودة إلى المشهد بوصفه المتحكّم في رأس المال وله من الخبرة السّياسيّة ما يمكّنه من استرداد النّفوذ الرّمزي عبر وسائل الإعلام، وإعادة التشكّل في أحزاب ومنظّمات مثّلت الخصم المتكافئ الّذي بإمكانه التّفوّق على الإسلاميّين خصوصاً في الحالة التّونسيّة. أمّا في الحالة المصريّة، فقد وجد الجيش - وهو مصدر السّلطة بداية من خمسينيات القرن العشرين - طريق العودة إلى الحكم.
وفي الحالتين يجد المثقّف نفسه بين أحد الاحتمالين المذكورين: إمّا أن ينخرط في السّلطة شريكا ضدّ الإسلام السّياسيّ، أو أن يكتفي بالتّأييد والصّمت عملاً بقاعدة "عدو عدوّي هو صديقي"، أي أن يختار أفضل الأسوأين؛ أو أن يرفض الاختيارين ويواصل رفع شعاراته، وهو في هذه الحالة أقرب إلى العدم منه إلى الوجود، ذلك أنّ شبكة الأنترنيت ومواقع التّواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية المختلفة قد فرضت على المتلقّي واقعاً متسارعاً جدّاً يُفرز في اللّحظة آلاف التحاليل والأخبار والمستجدّات، يتقبّلها متلقّ خرج من دائرة الرّوتين المفروضة على السّياسيّ بحكم القمع والاستبداد، خرج متعطّشاً فوجد نفسه في واقع متغيّر متسارع ووجد في ما تقدّمه وسائل الإعلام المختلفة ما يشبع نهمه إلى المعلومة الآنية من وجبات إخباريّة سريعة، وتحاليل كثيرة على سطحيتها في الغالب الأعم. واتّسعت بذلك دائرة المثقّف واختلفت أصنافه إلى أن شملت عناصر لا ينطبق عليها مفهوم المثقّف الّذي بينّا أعلاه، بل إنّ المتلقّي لم يعد يميّز المثقّف من غيره لأنّه فقد معايير التّقييم الحقيقيّة، وفقد، من هول اللّحظة، القدرة على تمييز المحايد ممّن يخدم جهة بعينها، بل إنّ ذلك، في أغلب الأحيان لم يعد يعنيه. وفي ظلّ هذا الواقع خفت صوت المثقّف الحقيقي، لا لأنّه كفّ عن الصّراخ بمبادئه، وإنّما لأنّ مدّ الأصوات وغلبة الغوغاء أصمّت عنه الآذان.
ثمّ إنّ المثقّف بحكم صفته تلك محتاج في كلّ نواحي فكره إلى التّريّث والتّأمّل والتّفكير وترك مسافة بينه وبين الأحداث من حيث الزّمن أو من حيث العاطفة، ذلك أنّ على عاتقه تقليب الأحداث أمام العقل حتّى يصدر مواقف وآراء يمكن الاطمئنان إليها. إنّه "شخص يخاطر بكيانه كلّه باتّخاذ موقفه الحسّاس، وهو موقف الإصرار على رفض "الصّيغ السّهلة"، والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التّأكيدات المهذّبة القائمة على المصالحات اللّبقة والاتّفاق مع كلّ ما يقوله وما يفعله أصحاب السّلطة وذوو الأفكار التّقليديّة"[4]. وهذا ما لا يفكّر فيه "المثقّفون الجدد" من محلّلي القنوات التّلفزيّة أو الجرائد أو مواقع التّواصل، ولا ما يحتاجه المتلقّي العاديّ النّهم إلى خبر يعقبه مباشرة تحليل أو تفسير مرتجل يلبّي ظمأه وإن كان تافهاً سطحياً.
ومن ناحية أخرى، رأينا في ظلّ تسارع الأحداث ازدهاراً كبيراً لظاهرة "المثقّف المقاول" على حدّ عبارة الأستاذ الطّاهر لبيب، وهو مثقّف يقدّم معلومات وأفكاراً حسب طلب الجهات المانحة لمكافأة الخدمة سلطة سياسيّة كانت أم سلطة ماليّة أم اجتماعيّة، وصرنا نرى ظاهرة "المثقّف ضدّ المثقّف" بغزارة تتكرّر هنا وهناك، وهي ضدّية للذّات بنفي إثباتٍ واحد في مكانين أو زمنين مختلفين، أو ضديّة للآخر الّذي كان في زمن قريب رفيقاً إيديولوجياً.
إنّ راهن المثقّف العربيّ لمعقّد إلى أبعد حدّ، ولكن هل يعني هذا موتَ المثقّف؟ لا يمكن بأيّ حال أن نكون عدميّين ذلك أنّه "لم يحدث أن قامت ثورة كبرى في التّاريخ الحديث دون مثقّفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركة مناهضة كبرى للثّورة دون مثقّفين"[5]. والوعي بهذا المعطى يزيد المثقّف الحقيقيّ إصراراً على إيجاد مكان له في دائرة التّأثير والتّغيير عبر تجديد وسائله في إنتاج أفكاره وضرورة العمل على نشرها عبر الوسائط المتعدّدة واستغلال كلّ فرص التّعبير عن آرائه، والاتصال بالشّارع وتحسّس نبضه لتوجيهه نحو غاياته السّامية، والزّمن كفيل بأن يُذهب فوضى الأفكار التافهة وحمّى التّحاليل والمتسبّبين فيها من مثقفين سماسرة ومقاولين، حينها ستخفت الضّوضاء وسيُسمع صوت المثقّف الحقيقي الّذي يمتهن الحياة لا الموت.
[1] إدوارد سعيد، المثقّف والسّلطة، ترجمة: محمّد عناني، رؤية للنّشر والتّوزيع، 2006، ص. 43
[2] م. ن، ص ص. 43-44
[3] م. ن، ص. 44
[4] م. ن، ص. 58-59
[5] م. ن، ص 42-43