هل هي معجزة أم معجزات محمد؟


فئة :  مقالات

هل هي معجزة أم معجزات محمد؟

هل هي معجزة أم معجزات محمد؟

في معنى المعجزة

ما هي معجزة محمد؟ الجواب معروف معجزته صلى الله عليه وسلم هي القرآن الكريم. ولكن هناك سؤال أخر أكثر دقة مفاده، هل القرآن معجزته الوحيدة أم إن له معجزات أخرى؟ قبل الخوض في الإجابة عن هذا السؤال، سنقف عند تعريف المعجزة، وقد سميت بهذا الاسم "معجزة"؛ لأن البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها وشروطها خمسة، فإن اختل منها شرط لا تكون معجزة:

أ) أن تكون لما لا يقدر عليها إلا الله سبحانه.

ب) أن تخرق العادة.

ج) أن يستشهد بها مدعي الرسالة على الله عز وجل.

د) أن تقع على وفق دعوى المتحدي بها.

هـ) ألا يأتي أحد بمثلها على وجه المعارضة.[1]

"وَمَعْنَى الإِعْجاز الفَوْتُ والسَّبْقُ، يُقَالُ: أَعْجَزَني فُلَانٌ أَي فَاتَنِي؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الأَعشى: فَذاكَ وَلَمْ يُعْجِزْ مِنَ الموتِ رَبَّه، وَلَكِنْ أَتاه الموتُ لَا يَتَأَبَّقُ"[2] والعَجْزُ أصلُهُ التَّأَخُّرُ عن الشيء، وحصوله عند عَجُزِ الأمرِ[...] وأَعْجَزْتُ فلاناً وعَجَّزْتُهُ وعَاجَزْتُهُ: جعلته عَاجِزاً".[3]

معجزة القرآن ونفسية الرسول

لا شك في أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم معجزة واحدة فقط منحصرة في القرآن الكريم، والحديث هنا للآيات القرآنية، التي حصرت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في ما جاءه من ربه (القرآن الكريم) في وقت كانت المعارضة القرشية، ومعارضة أهل الكتاب تطلب الرسول بآيات محسوسة، ولا تولي بالا للآيات المنزلة أحرفا في القرآن الكريم.

قال تعالى: "فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)" (الانبياء) قال تعالى: "وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)" (الفرقان) قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)" (البقرة).

هذا الطلب الذي طلبه الذين عارضوا الدعوة المحمدية، كان جوابه في القرآن كالتالي:

قال تعالى: "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)" (الأنعام).

قال تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)" (العنكبوت).

قال تعالى: "وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)" (الاسراء).

يؤكد القرآن أن الأمر بيد الله وليس بيد محمد؛ فالآيات كلها من عند الله، ولا دخل للرسول في الإتيان بآية من غيرها، وقد سبق للأولين أن سألوا رسلهم مثل هذه الأسئلة وتمت الاستجابة لها، بالرغم من ذلك بقي المكذبون على موقفهم، من قبيل طلب تنزيل مائدة من السماء من رسول الله عسى عليه السلام قال تعالى: "إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)" (المائدة) قال تعالى: "قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)" (المائدة).

ينقل لنا القرآن حالة نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الإلحاح الشديد من لدن معارضي دعوته، بأن يأتيهم بآية محسوسة[4] قال تعالى: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)" (الكهف) قال تعالى: "طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)" (الشعراء) وهي حالة مركبة جمعت بين حالات متعددة نذكر منها:

الحالة الأول: مجال إيمانه ويقينه بما جاءه من ربه من جهة.

الحالة الثانية: حالة حسرته وحزنه على معارضيه الذين يطلبون منه آيات محسوسة تبرهن على صدق ما جاء به.

الحالة الثالثة: حالة الانتظار لما سيأتيه من ربه، فالرسول منتظر من بين المنتظرين؛ لأن الآيات بيد الله وليست بيد الرسول، قال تعالى: "فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)" (يونس).

الحالة الرابعة: حالة يميل فيها الرسول إلى توقع مجيء آية محسوسة من الله كبرهان قاطع على صدق دعوته، يعفيه من الإلحاح الشديد من معارضيه من المشركين وأهل الكتاب، بأن يأتيهم بآية محسوسة تجعله يحسم الأمر لصالح دعوته، وهذا ما يبدو في قوله تعالى: "وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)" (الأنعام). في لحظة ما من اللحظات سار إعراض جبهة المعارضين أمر كبير، وقد توقع محمد بأنه إعراض لا يطيقه، إلى درجة سار فيها يتمنى نزول آية محسوسة كما طلب منه، وهو تمنّ لا فائدة من ورائه. وقد وجهه القرآن من خلال الآية السالفة الذكر بالقول، "فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ". تمني محمد وميوله نحو توقع وتفضيل نزول آية محسوسة عليه أكدته الآية 12 من سورة هود قال تعالى: "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)" (هود)؛ فالآية هنا تعكس لنا نفسية محمد، وهو يتأرجح بين موقفين؛ موقف القرآن الذي أوحي له به من ربه، ولا حجة عليه إلا القرآن نفسه، وموقف طلب المعارضين بالمجيئ بآية من الآيات المحسوسة، ومن الطبيعي أن تكون نفسية محمد على هذه الحال، فهو لوحده من جهة صاحب دعوة وتبليغ، ومن جهة ثانية واقع المعارضة بمختلف تشكلاتها الدينية والاجتماعية. فمفردة "تَارِكٌ" فيها إشارة الى طبيعة التفاتة انتباه الرسول إلى آيات أخرى بدل آية القرآن للتدليل على صدق وحي القرآن.

الحالة المركبة لنفسية محمد بين أسفه الشديد على قومه المعارضين له "لمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا"، وبين كبر رفض معارضة قومه لدعوته "كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ"، وبين ترك القرآن والالتفات لمطالب المعارضين بمجيئ آية من الآيات المحسوسة "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ"، وبين ضيق صدر محمد نتيجة ما يطلبه قومه منه "وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ". الأمر بالنسبة إلى القرآن لا يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى احتمال أن يقع محمد في حالة من الشك بسبب ضغط المعارضة عليه وإلحاحها الشديد بمجيئ الآيات المحسوسة قال تعالى: "فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)" (يونس) وهذه الآية أكثر واقعية وموضوعية في تصوير نفسية محمد من الداخل بكونه بشر من باقي الناس يسري عليه ما يسري عليهم، ربما أن محمدا عليه السلام نظر إلى مطالب معارضيه أنها مطالب جدية ومشروعة، وقد وجهه القرآن ليسأل الصادقين من الذين يقرؤون الكتاب من قبله (كتاب التوراة والإنجيل)، ولم ينظر إليها من زاوية أن الهدف من ورائها هو فتنته عما جاءه من ربه قال تعالى: "وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ" (المائدة/49).

مع الأسف ليست هناك دراسات حول نفسية الرسول كما صورها القرآن الكريم ومعاناته وارتقائه الروحي، وهو يبلغ رسالات ربه.

تثبيت فؤاد الرسول

لم يترك القرآن محمد لوحده ولهمومة النفسية المركبة بين تحديات الواقع وضغوط مطالب معارضي دعوته، وانتظار ما يأتيه من وحي ربه؛ فالقرآن يشمل تثبيت فؤاد الرسول وقد أكد في أكثر من موضع بأن تكذيب الأنبياء الرسل أمر مسبوق، وهي حالة واجهها الأنبياء والمرسلين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)" (فاطر) قال تعالى: "وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)" (هود) قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)" (الفرقان) وقد كفى الله الرسول من المستهزئين قال تعالى: "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)" (الحجر). بالتأكيد إن معجزة الرسول هي القرآن فقط، وإن لم يسلم معارضو الدعوة المحمدية بذلك، فعليهم قبول تحدي القرآن.

القرآن يتحدى

قال تعالى: "قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)" (الاسراء) قال تعالى: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)" (هود) قال تعالى: "وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)" (يونس).

لقد اشتكى الرسول لربه، فقال تعالى: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)" (الفرقان) ولا شك في أن كل جهاد الرسل جهاد بالقرآن، قال تعالى: "فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)" (الفرقان).

المعجزة في الثقافة الإسلامية

1-   دار نقاش طويل حول موضوع معجزة وطبيعة إعجاز القرآن الكريم، في الثقافة الإسلامية، وقد ذهب الكثير من المعتزلة إلى القول إن إعجاز القرآن ليس بشيء ذاتي فيه، وأنه بصرف الله تفكير الناس عن معارضته، وذهب عموم المسلمين إلى أن القرآن معجز بلغته وأسلوبه وطريقة نظمه وعلومه ومعارفه. وحتى هذه اللحظة، فالقرآن من حيث هو نص وصوت ونظم يجذب مختلف الدراسات والأبحاث حول إعجازه، وتفرده عن غيره.

2-   على الرغم من تأكيد القرآن القاطع بأن معجزة الرسول هي القرآن فقط دون غيره، فقد ألصقت به كثير من المعجزات؛ فالقارئ لمختلف الكتب والروايات الواردة حول معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، سيجد أن الرسول حدثت له معجزات أخرى موازية للقرآن الكريم، وهي كثيرة من بينها استكثار الماء وقد روي في سيرة ابن إسحاق "عن الشعبي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فنزل فأتي بأداة من ماء، فقيل له: يا رسول الله ما معنا ماء غيرها، فسكبها في ركوة، ثم وضع أصبعه في وسط الركوة، غمسها في الماء، فجعل يجيء الناس فيتوضؤون، ثم يقولون صدراً، فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب بعضهم لم يصبه الماء، فقال: اللهم اغفر لأعقابهم"[5] وقد أورد الماوردي في كتابه أعلام النبوة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حصل بالحديبية، وهي جافة قال للناس: «انزلوا»، فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهما فدفعه إلى البراء بن عازب وقال: «اغرز هذا السهم في بعض قلب الحديبية، وهي جافة»، ففعل فجاش الماء «١٤» ونادى الناس بعضهم بعضا من أراد الماء. فقال أبو سفيان قد ظهر بالحديبية قليب فيه ماء، ثم قال لسهيل بن عمرو: قم بنا إلى ما فعل محمد، فأشرفا على القليب والعيون تحت السهم فقالا: ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل قال للناس: خذوا حاجتكم من الماء، ثم قال للبراء: اذهب فرد السهم، فلما فرغوا وارتحلوا أخذ البراء السهم فجف الماء كأنه لم يكن هناك ماء، وهذا نظير ما أعطى موسى من الحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا".[6]

استكثار الماء، أو خروجه من أصابع الرسول وما شابه ذلك، كأنها في استجابة لمطلب كان يطلبه معارضو دعوة محمد منه بقولهم قال تعالى: "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)" (الإسراء). إكثار الماء أو خروجه من أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم، يتوافق مع ما جاء في العهد الجديد في حق عيسى عليه السلا[7]، ولا شك في أن هذا الموضوع يتعارض ويطعن في مصداقية القرآن، معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن الغريب أن يؤكد القرآن في أكثر من موضع كما تقدم، بأن محمد لم يؤت معجزة حسية؛ فمعجزته هي القرآن فقط، فكيف يروى أنه استكثر الماء وانصب من أصابعه؟ ومن الغريب أن يتسع مجال وعدد معجزات الرسول على طول التاريخ الإسلامي.

هناك كتب تطرقت لموضوع المعجزة في الثقافة الإسلامية، بين معجزة القرآن وما نسب الى الرسول من معجزات كثيرة، ونشير هنا بأن جورج طرابيشي كتب حول هذا الموضوع كتابا بعنوان "المعجزة سبات العقل في الإسلام".

 

[1] أبو عبد الله شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن = تفسير القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ - 1964 م ج.1، ص ص. 69-70

[2] جمال الدين ابن منظور الأنصاري (المتوفى: 711هـ) لسان العرب، الناشر: دار صادر – بيروت الطبعة: الثالثة - 1414 هـ ج.5، ص. 370 (بتصرف)

[3] الراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ)، المفردات في غريب القرآن، المحقق: صفوان عدنان الداودي الناشر: دار القلم، الدار الشامية - دمشق بيروت الطبعة: الأولى - 1412 هـ، ص. 547

[4] قال تعالى: "وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)" (الإسراء)

[5] محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء، المدني (ت ١٥١هـ)، سيرة ابن إسحاق (كتاب السير والمغازي)، تحقيق: سهيل زكار الناشر: دار الفكر – بيروت الطبعة: الأولى ١٣٩٨هـ /١٩٧٨م، ص. 282

[6] أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت ٤٥٠هـ) أعلام النبوة، الناشر: دار ومكتبة الهلال – بيروت، الطبعة: الأول - ١٤٠٩ هـ، ص. 106

[7] ورد في إنجيل متى: [13 فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفردا. فسمع الجموع وتبعوه مشاة من المدن. 14 فلما خرج يسوع أبصر جمعا كثيرا فتحنن عليهم وشفى مرضاهم. 15 ولما صار المساء تقدم إليه تلاميذه قائلين: «الموضع خلاء والوقت قد مضى. اصرف الجموع لكي يمضوا الى القرى ويبتاعوا لهم طعاما». 16 فقال لهم يسوع: «لا حاجة لهم أن يمضوا. اعطوهم أنتم ليأكلوا». 17 فقالوا له: «ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان». 18 فقال: «إئتوني بها إلى هنا». 19 فامر الجموع أن يتكئوا على العشب ثم أخذ الأرغفة لخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ والتلاميذ للجموع. 20 فأكل الجميع وشبعوا. ثم رفعوا ما فضل من الكسر: اثنتي عشرة قفة مملوءة. 21 والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأولاد.]