هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الأول: الذات صدىً للخطاب

فئة :  مقالات

هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الأول:  الذات صدىً للخطاب

هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الأول:

الذات صدىً للخطاب

مقدمة:

يبدأ كل خطابٍ وكل حديث، بنوعٍ خاص من الشجاعة! الشجاعة على الادعاء بحديث معين والإدلاء برأي ما... وهذه الشجاعة هي مطلبٌ بسيط، إذا كان القول ابنَ قائله، حرًّا وشفافا يملآ الشخص بانسجام مع نفسه عندما يقول: "أنا أرى، ويبدو لي". بساطة الأمر هنا تأتي من أن المسافة بين القول والقائل مباشرة وصريحة، وقد لا يحتاج أي متكلم إلى تبرير كلامه أو الدفاع عنه، ما دامت الأذواق والآراء لا تناقش، ومادام لا يأثم أحدٌ بما يرى، وكثيراً ما لا يسأل عما يقول... لكن عندما يتعلق الأمر بالنسبة والإسناد، وعندما ينسب القول إلى أكثر من قائل، كأن يقول شخص: لقد قال فلان كذا وكذا من الأفكار. هنا يختلف تعقيد هذه الحالة عن عفوية وبساطة الحالة الأولى. وقد يدعي أحدٌ، فيقول: "لقد قال فلان كذا لكنه يقصد بها كذا (فكرة أخرى أو شيئا آخر)". هنا يجب الاستغراب والتأمل في الشجاعة والجرأة -وأحيانا الوقاحة- في هذا الشخص الذي يعتقد أنه، وهو يسمع حديث أحدٍ يفهمه أحسن منه، أو يفهم ما يقصد بذلك. فتتركب شجاعة هذا الشخص وادعاؤه من مزيج من الوكالة بالحديث نيابةً عن الشخص المسند إليه، وبين نوعٍ من القلم الأحمر الذي يحمله هذا الوسيط ليسدد تعبير صاحب القول، وأحيانا ليصحح تفكيره أيضاً ويختار منها ما قصدَهُ القائلُ فعلاً، وما قاله على سبيل الخطأ أو على سبيل المجاز...ورغم أن شخصا كهذا قد يوصف بالتنطع، إذا فعل مثل هذا بكلام الأحياء أو الحاضرين. فإنه قد يوصف بالناقد المميز، أو المؤول العظيم إذا فعل مثل هذا بكلام الموتى أو الغائبين. وربما كانت هذه هي صنعة أغلب من احترف صناعة الخطاب ولا يختلف فيه ذلك بين خطاب ديني أو فلسفي أو خلافهما... ربما هذا ما قد يقوله كل من يعرف شيئا عن فلسفة ميشيل فوكو، عندما يقرأ عنواناً يؤم بحثاً عن التربية أو الجماليات يدعي أن الذات وليس الخطاب أو السلطة، كانت الهم الأول عند هذا الفيلسوف! وفي الحقيقة، فإنه يجب على الشجعان أن لا يخاف منهم إلا من يمتلك الشجاعة وحدها؛ ذلك أن شجاعة التأويل -على عكس شجاعة الجهر بالرأي أو الذوق- مطالبةٌ بأن تكون مسلحة بما يكفي من القرائن على ما تقدم من قراءة وتأويل، ومطالبةٌ بالتواضع الذي يجعلها لا تدعي إلا بقدرِ ما يمكن أن تدافع عنه، وعلى هذا العنصر الثاني يرتكز هذا البحث.

مدخل: ميشيل فوكو فلسفة يتعذر تصنيفها

لعل فوكو وهو أبرز أعلام الفلسفة الفرنسية المعاصرة، رجل متشعب الأفكار والمواضيع والاهتمامات ولنتعرف على نبذة من حياته الفكرية فيما يلي:

نال ميشيل فوكو شهرة كبيرة من خلال الدروس التي ألقاها في الكوليج دي فرانس، حيث شغل منصب أستاذ كرسي تاريخ الأنساق الفكريَّة. ومن المعروف أنَّ نظام التعليم بالكوليج يخضع لقاعدة خاصَّة؛ إذ يجب على الأستاذ المنتخب في هذه الهيئة أن يدرِّس ستّاً وعشرين ساعة في السنة، يقدّم فيها بحثاً أصيلاً وجديداً. أمَّا حضور هذه الدروس فكان حرَّاً، كما أنَّ المؤسَّسة لا تمنح شهادات علميَّة، وبلغة هذه المؤسَّسة العلميَّة، فقد كان يقال: "إنَّه ليس للأستاذ طلبة، ولكنْ له مستمعون".

أما فلسفة فوكو بصفة عامة، فيمكن القول إن فكر الرجل الفلسفي يمكن إجماله في ثلاث دوائر كبرى:

أولها بالطبع هو الإبستمولوجيا التي يضع معالم نظريته فيها من خلال كتب "نظام الخطاب" و"أركيولوجيا المعرفة" وبالتأكيد "الكلمات والأشياء" مع أنه لا ينبغي الحديث بيقين عن فوكو كإبستيمولوجي مثل باشلار أو توماس كون، بسبب أن فوكو لا يهتم كثير اهتمام بالعلوم، أو لا يهتم بالعلوم فقط، بل يدرس تطور هيكل المعرفة مقصوداً به العلم نعم، إلى جانب الأدب والفلسفة والدين ونظم الحكم والاقتصاد وكل ما يتعلق بهذه الأمور.. وهو ما يعنينا في هذا المقال.

وثانيها: هو نوع من "فلسفة السلطة" دون أن يكون "فلسفةً سياسيةً"، وهذا موضوع كتبه "تاريخ الجنون" و"والمراقبة والمعاقبة" و"ولادة العيادة"؛ ففيها يدور البحث عن تطبيقات السلطة في ما يمكن أن نسميه "هوامش المجتمع"؛ أي في السجون والمستشفيات والمؤسسات التي ستكلف بالتعامل مع المشوشين على النظام الاجتماعي، وهذه الدائرة في فكر الرجل تحمل أسلوبا فلسفيا عميقاً في بحث السلطة وتجلياتها وعلاقاتها مع النظام ومع الخطاب وغيرها من المفاهيم الكبيرة، لكن وكما ذكرنا دون أن يكون هذا البحث فلسفة سياسية خالصة.

وثالثها: وهو الأخير في حياة ميشيل فوكو هو تاريخ الجنسانية، وهو اكتمال العقد الفكري الذي ينتقل فيه البحث إلى الذات؛ وذلك من خلال بحث تاريخي معمق في أشكال تدبير الرغبة الإنسانية -الجنسية منها بالأخص- في عصور ولحظات تاريخية مختلفة وصولاً إلى العصر الحديث، وبطبيعة الموضوع لامسَ فيه أبعاداً أخلاقية متعلقة بالتصورات التي حكمت التعامل مع الذات ونزوعاتها.. وهذا موضوع الرباعية التي حملت تاريخ الجنسانية: "إرادة المعرفة" فَ "استعمال المتع" ثم "الانهمام بالذات" وأخيراً "اعترافات اللحم" الذي تخلف في الظهور حتى 2018.

منهج البحث:

يقوم منهج هذا البحث على دراسة متواضعة منهجياً وشجاعة في نفس الوقت؛ فمن جهة فالاعتماد الأساسي في هذا البحث هو على المصادر الأساسية، لميشيل فوكو كما ستشر إلى ذلك الإحالات والبيوغرافيا، وبالتالي يكون هذا البحث بتواضع معتمدًا على منهج القراءة التأويلية والتحليلية للنصوص المباشرة للمصادر الأساسية للمتن الفوكوي، بالأخص النصوص التي تعني عناية مباشرة بالمواضيع التي نود دراستها، وهذا الانتقاء هو موضوع الميزة الأساسية للبحث؛ أي الشجاعة على تطبيق منهج فوكو على فوكو نفسه: فمعلومٌ أن منهج البحث والفلسفة الفوكوية تعتمد على تسليط الضوء على الهوامش والحواشي المهملة والمضمرة التي تم إقصاؤها تاريخيا وفكريا من الظهور والمعرفة... وأتت فلسفة فوكو على شكل بحث في السلطة وفي بنية المعرفة. بالقياس إلى ذلك، فإن منهج بحثنا سيقوم بنفس الشيء على فوكو نفسه؛ أي سيقوم -أو يدعي القيام- بتسليط الضوء على الهوامش والحواشي في فلسفة فوكو، وهي مواضيع ذات أهمية كبرى فكريا وفلسفيا لم يتعرض لها فوكو بالبحث المباشر أو التناول الصريح، وهي التي سنحاول في هذا البحث إلقاء الضوء عليها، وسنكتفي نظرا لصعوبة هذا البحث الاستقصائي بموضوعي: التربية والأخلاق أو الجانب الجمالي للعيش. وهنا فبحثنا لا يدعي الإحاطة بكل أفكار فوكو عن هذين الموضوعين، وهي أفكار منثورة في كتبه المختلفة، وقد "توزعت دماؤها" بين مشاريعه الثلاثة الأكبر: السلطة والمعرفة والجنسانية. وهذا بحث ضخم لا يمكن الإحاطة به، حيث سنعتبر استكشاف هذه القارة الفكرية(متن فوكو) والتنقيب فيها عن هذين الموضوعين(التربية وجماليات الوجود) والاستئناس بالبحث والقراءة الطويلة النفس، والتدرب على الكتابة الأكاديمية نرى هذه الأمور رهانات، تحقيقها كافٍ للحكم بالرضا عن هذا البحث.

وفي جانب آخر، فإن البحث يأخذ في اعتباره الحجم الذي يأخذه فوكو في الفكر العربي المعاصر. لذلك سنحاول في هذا البحث القيام بامتداد لهذا الحجم الفكري، أولا عبر دراسة مواضيع جديدة في فلسفة الرجل، وثانيا عبر تطبيق منهج فوكو في البحث على سياقنا الثقافي العربي من حين لآخر؛ وذلك على شكل تمثيلات توضح مدى صلاحية هذا المنهج لدراسات أكثر عمقا وتخصصا في الثقافة العربية. لذلك، سنعطي أمثلة على أفكار فوكو من سياق الثقافة العربية والواقع العربي، ونلامس من حين لآخر هذا البعد "المحلي" في دعوة رمزية لتبيئة المنهج الفوكوي في تربة ثقافتنا.

سلطة الخطاب واختفاء الذات:

أولا- مفهوم الخطاب ووضعية الذات:

ما الخطاب؟ إن الخطاب هو الغاية وليست وسيلة الخطيب أو المتكلم؛ فالخطاب هو روح العصر وجوهر ثقافة العصر إنه وحي الحياة في ظرف تاريخي معين. أما الفيلسوف، والفنان او الشاعر فهو مجرد أداة يقول بها الكلام نفسه يبدو من خلاله ويتجلى "إنه صوتٌ بدون اسم كان قد تقدمني منذ مدة" إنه يكفي بالقائل أن يفتح شفتيه ليختفي لأنه لا يكون بعدها إلا لسان الزمن والناطق باسم العقل الذي يسود في تلك اللحظة، وذاك المكان فبدل أن نعتقد أن الخطاب يصدر عن القائل فما هو على الحقيقة إلا "معرضٌ لمسار صدفته .. ونقطة اختفائه الممكن" يتلثم القول بقائله إذن، "يجب أن أقولها حتى تعثر علي، حتى تقولني" ما القائل إلا عرضٌ ومناسبة في مسار الحديث. أما القول، فهو الجوهر الأصيل التي قد لا يحتاج إلى قائل وربما لو قاله هذا المتكلم، أو ذاك لم يتغير شكله كثيراً وظل مضمونه ثابتاً.

يقوم ميشيل فوكو هنا بانزياحٍ عميق في رؤية الأمور، معنى هذه الأطروحة هو أنه لا قيمة للفلاسفة بأعيانهم ديكارت، سقراط، أو كانط أو ابن رشد؛ لأنهم ليسوا إلا ألسنة تكلم بها السياق التاريخي ونظام المعرفة في عصرهم، بل إن أصالة الخطاب تكمن في عدم حاجته إلى متكلم به، وإنما في قبوله لمتطوعين يجتهدون في التعبير عن شكل المعرفة السائد وأحياناً في التعبير عن انعطافة التغيير من نظام سابق إلى نظام المعرفة التي يخلفه ويليه، وأحيانا يقبل هذا النظام متطوعين مختلفين للتعبير عن شكله وفحواه، مثلما كان ديكارت وفرانسيس بيكون يتنافسان على انتقاد شكل المعرفة القديم (ارسطو) وهو يأفل، والتبشير بفجر الحداثة، وهو يطلع. فالمهم ليس هو عبقرية ديكارت أو بيكون، بقدر ما المهم هو بنية المعرفة ونظامها الذي تغير في تلك اللحظة الدقيقة، ولم يكن ليختلف شيءٌ كثير، إذا عبر عن ذلك ديكارت أو غيره، بل إن حظ هذا النوع من الفلاسفة والخطباء يكمن في أن بنية المعرفة قد تقبلتهم كمعبرين عنها عندما قالوا، وكتبوا ما صارتْهُ وأصبحت عليه بذلك يصدق عليهم تعبير فوكو بأنها(المعرفة/الكلمات): "ربما قالتني من قبل، وربما تكون قد حملتني إلى عتبة تاريخي".

الخطاب هو إذن لحظة لقاء تم على وجه الصدفة، بين القائل وما يمثله، وبين القول كبنية موجودة قبلاً كلغة، وموجودة أيضاً كمعاني. يسمي ميشيل فوكو العنصر الأول بالرغبة، وهي كذلك فكل قائل بما أنه إنسان تنم كل أقواله عن رغبةٍ؛ رغبة في القول قبل كل شيء، ورغبة في قول شيء بعينه بعد ذلك، وهي بذلك رغبة مفتوحة في قول مفتوح مسترسل غير مقيد، تستلقي فيه الرغبة وسط الخطاب "كحطام سعيد"؛ لأنها ترتبط بالأمل في انتظارات الآخرين(المستمعين) واستحسانهم. أما العنصر الثاني، فتحدده بنية المعرفة الموجودة سلفاً؛ أي معيار الصحيح والسليم، وميزان الحقيقة فيه، والحقيقة في هذا السياق بالطبع فقط، هي مجرد ما فرضه النظام المعرفي السائدة أي الجماعة العالمة (بلغة الإبستيمولوجيين) وهذا العنصر يسميه فوكو المؤسسة؛ فالمؤسسة تستخدم الرغبة تشجعها على الظهور وعلى إنتاج الخطاب الذي تخضعه لقوانين، وتعد له "مكاناً يشرفه ولكن يجرده من سلاحه"؛ فالمؤسسة تغذي حرارة المنتجة للخطاب لتستثمره في غرضها الخاص الذي هو ترسيخ السلطة والحفاظ عليها.

علاقة السلطة بالخطاب:

لماذا الخطاب مراقب؟ لأنه وسيلة للوصول إلى السلطة، بل إنه في حد ذاته ممارسةٌ للسلطة، بل إن الخطاب هو السلطة نفسها. لذلك، كان لا بد من إخضاعه للمراقبة والانتقاء والتنظيم. فبدل أن يكون الخطاب آلة لتحرير الجنس من نفسه وجعله موضوعاً للمعرفة، وبدل أن يكون وسيلة لتحرير السياسة من أشكال العنف، وتكتسب به الطابع السلمي، بات هو أداة لفرض سلطة الرغبة(الجنس) وسلطة المؤسسة (السياسة) بشكل أقسى وأفضل.

إن الخطاب في ظاهره هو شيء بسيط: شعر أو نثر أو سواه، لكن تأثيره وبنيته يمنحه قوة خاصة، يمنحه سلطةً خفية. فكل حزب سياسي وكل فكرةٍ وكل إيديولوجيا، بل كل دين وكل مذهب وكل فلسفة وكل خطاب يُقال وكل متكلم وصاحب خطاب، إلا وينوي -قاصداً أو غافلاً- الوصول إلى السلطة بذلك الخطاب، عبر استمالة الجمهور وإقناعه بالتضحية لأجل هذا الخطاب وما إن يصل إلى السلطة، حتى يصبح الخطاب نفسهُ سلطةً في حد ذاته. تفرض نفسها على الجميع. فهذا هو مكمن الخطر في الخطاب، الذي دعا إلى مراقبته وتسييجه وانتقاء الملائم منه واستبعاد غير الملائم للسلطة السائدة.

تستخدم السلطة في سياسة الخطاب إجراءات متنوعة ومختلفة يختزلها فوكو في نوعين من الإجراءات:

الإجراءات التي تفرض من خارج الخطاب عليْهِ والإجراءات التي تفرض من داخل الخطاب عليه، أو يفرضها الخطابُ على نفسه، ليجعل نفسه ملائما لبنية المعرفة السائدة وبالتالي يضمن لنفسه الاعتراف به، والسماح له بالوجود والتطور، ويجبنه عواقب الاصطدام أو الانزياح عن خط الإبستيمي التي تكون عادةً هي الأبعاد أو التسفيه والنفي...وقوة هذه البنية تكمن في شموليتها وامتداد سلطانها على كل خطاب، يقول فوكو: "إن إنتاج الخطاب في كل مجتمع هو في نفس الوقت إنتاجٌ مراقبٌ، ومنتقى، ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره." ولنبدأ بالإجراءات الخارجية وهي المنع، القسمة والرفض، ثم الحقيقة والخطأ.

1 - آلةُ المنع: لقد كان من التقليدي بالنسبة إلى أي سلطةٍ أن تمنع كل خطاب تراه مرفوضاً لسبب ما. مع أن هذه السلطة مترسخة في أبسط ملامح البشر البسطاء فهم يتمثلون جيدا أن نوعا ما من الخطاب هو ممنوع في ظرف معين، ويمتنعون عنه تلقائيا، فهم يعرفون جيّداً أنه ليس لديهم الحق في أن قول كل شيء في كل ظرف. في كل مكان وفي كل سياقٍ هناك مواضيع لا يجوز الحديث عنها، وهناك طقوسٌ خاصةٌ بكل ظرف. فهذا الإجراء هو الذي يجعل الضحك ممنوعاً في حضرة الموت مثلا، ويجعل الغناء مستنكراً في قاعة البرلمان، وهكذا... بلْ إن هذه السلطة في المنع قد تشمل الجميع وتفرض عليهم الصمت ماعدا شخص بعينه او أشخاص معينين يمتلكون "حق الامتياز أو الخصوصية الممنوحة للذات المتحدثة" [1] وبالتالي، فإن هذا الإجراء يصنع سياجات تمنح للناس أماكن بيضاء مسموحة وخانات سوداء ممنوعٌ الحديث فيها هذه الخانات التي يحددها فوكو قياساً إلى أيامه، في الجنس والسياسة: أي ساحة الرغبة وساحة السلطة.

"فبدل أن يكون الخطاب محايداً يجرَّدُ فيه الجنس من سلاحه وتكتسب فيه السياسة طابعاً سلميا، باتَ أحد المواقع التي يمارسانِ فيها سلطتهما بشكل أفضل"! [2]

فأشكالُ المنع التي تطال الخطابَ، تفضحُ حساسيته وارتباطَهُ بالرغبة والسلطة، أوليس الخطاب -كما بين ذلك التحليل النفسي- ليس فقط، التعبير عما يظهر الرغبة أو يخفيها، بل وأيضا أنه هو هو موضوعٌ للرغبة. وبنوع من التحليل النفسي للتاريخ؛ فالخطاب ليس ترجمةً وتعبيراً عن الصراع بين الإرادات المختلفة، بل هو ما تم به الصراعُ وعليه؛ لأنه هو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها. فالخطاب إذن ليس هو وجهة نظرٍ في الحرب، بل هو السلاح، وأرض المعركة، وهو الغنيمة التي يدور عليها النزال في الوقت نفسه.

2 - آلة القسمة: يعرف أرسطو الإنسان بأنه حيوانٌ ناطق، يشير هذا الوصف "ناطق" إلى النطق، وأيضا إلى المنطق. وإذا كان المنطق حقلا علميا خاصاً له جهاز مفاهيمي، وقل لا يكون مطلعاً عليه إلا نخبة من الناس، فإن النطق على العكس منه عامٌ في البشر؛ فالإنسان هو حيوان متكلم، بل إن حياة الإنسان بصفة عامة تتكون في أكبر جزء منها بالكلام، والتاريخ المنقول لنا والحضارة والكتب المقدسة وغيرها، الآراء والقصائد والرسائل كلها كلام. قد يفتح هذا العينَ على أهمية علم اللغة في نظام المعرفة بوصفه ثالث ثلاثةٍ هي عمود العلوم الإنسانية عند ميشيل فوكو: البيولوجيا، والاقتصاد، وعلم اللغة، ليكون الإنسان بهذا التصنيف كائناً حيّاً، منتجا، ومتكلماً. لكن ما يهمنا في هذا التحديد هنا، هو تأمل هذا العبء الثقيل على كاهل السلطة الذي يتمثل في منع الناس من الكلام! وهذا الثقل الكبير قد يجعل منع الناس -جميع الناس- من الكلام هو مهمة مستحيلةٌ أو تكاد تكون مستحيلة. لذا، فإن التحكم في منطوق البشر لا يمكن أن يتم بالمنع وحده، بل يستلزم ذلك تكنولوجيا بأكملها في غاية التعقيد والتداخل. والمكون الثاني إلى جانب المنع هو آلة القسمة.

بالإشارة إلى التعارض بين العقل والجنون، إلى القسمة بينهما ففي خانة الحمق هناك الخطاب الذي لا يُتداول، بل يعتبر فارغاً عديم القيمة، حديثا لا يتضمن أي حقيقة أو أهمية، وليس محط ثقة من قبل العدالة. فالسلطة هنا سلطة تقسم الخطاب إلى خطابين خطاب معقول، وخطاب مجنون. فتتعامل مع الأول بالقبول، أما مع الثاني، فبالرفض. فهو لا يصغى إليه بل يعتبر شكلاً من الضجيج لا يثير اهتمام أحد، بل لا يقدم إلا نادرا، ولا تعطاه الكلمة إلا بشكل رمزي بعد تجريده من سلاحه وعرضه على الخشبة في الأعمال المسرحية، حيث "يلعب دور الحقيقة المغطاة بقناع". [3]

مع أن فوكو هنا يشير إلى أن النظرة إلى خطاب الجنون قد احتملت أحيانا وجه النظر إليه كحكيم، وأنه يقول قولا مستمدا من عقل يفوق العقلاء...ويستمد المعارف من عقول مفارقة، وأنه قد يعرف أشياء عن المستقبل. فيما أنه كان منبوذا ولا يسمح له حتى بأداء القداس في الكنيسة. فالنظرة القديمة للمجنون وخطابه كانت بعينين؛ عين ترى فيه شيئا فارغاً من المعنى والحقيقة ضرباً من الهذيان والعته، والأخرى تنظر إلى كلامه كإلهام صادر عن الملأ الأعلى...فالنظرة الأولى تصنفه في مرتبة دونَ العقل. أما الثانية، فتراه في شكل فوق-عقلاني. فحتى إن اختلفت قيمة القولين؛ ففي الحالتين تعمل آلة القسمة، لتصنف الخطاب المعقول الذي يقبل، من الخطاب غير المعقول الذي يرفض بصرف النظر عما إذا كان فوق أو دون العقل.

يؤيدُ هذا التأويلَ، رؤية فوكو لمعاملة الجنون في العصر الحديث؛ فرغم أنه لم يعد يُعتَبرُ خطابا من قبيل الصرع أو الهذيان ولا من صنف النبوات والإلهام، فإنه ينظر إلى الجنون والاضطراب العقلي أو النفسي كمرض أو تشوه قياساً إلى السوي عقلياً ونفسياً، ومعنى هذا "أن القسمة لم يمح بل إنها ما تزال تؤدي دورها بكيفية أخرى حسب خطوط مختلفة". [3]

3 - التمييز بين الحقيقة والخطأ: في الخطابات المنتشرة، فرغم أن الظاهر في الحقيقة أنها قيمة ثابتة ودائمة، إلا أن القليل من التأمل في تاريخ الأديان والعلوم والفلسفات يثبت عكس هذا النظر، فلطالما كانت الحقيقة قابلةً للتعديل ومتقبلة للتأخير والإضافات، بل إنها كانت تنتقل بل كانت "في حالة تنقل مستمر؛ تحملها منظومة كاملة من المؤسسات، حيث تفرضها وتقودها؛ [ولا تفعل ذلك] بدون إرغام ولا بغير قسطٍ ولو ضئيلٍ [وناعم] من العنف" [4]

وهذه القسمة بين الحقيقة والخطأ هو تقسيمٌ غير اعتباطي، وغير بريء. تقسيمٌ قابلٌ للتعديل بواسطة المؤسسات التي تفرضه وترسخه باستعمال عنفها الخاص؛ فهذه المؤسسات باستعمال إرادة الحقيقة قسمت بين الخطابات الصحيحة التي صادقت عليها، والخاطئة التي رفضتها، وهذه القسمة تشكلت تاريخياً، وحددت الخطاب الذي يلتزم بالشروط، فهو الذي يصبح سلطةً ويسودُ ويفرض الخضوع له على جميع المشاركين؛ لأنه لم يكن خطاباً يعرف المستقبل فقط، بل ويرسمه عندما يمتطي مساهمة الناس وجهودهم وبالتالي يلتحم مع مصيرهم.

وهذه القسمة حدثت وأعيد إجراؤها باستمرار في التاريخ، فلقد حددت الحقيقةُ مثلا مع هزيود، وسار عليها الشعراء والخطباء الإغريق في القرن السادس عشر، وكانت ميزته حينها هو أنه الخطاب الذي يطبق العدالة على مستوى القول، ويعطي لكل نصيبهُ. لكن ذلك لم يمنع من أن يحل يوم سينتقل فيه نظام المعرفة إلى شكل آخر، فمع أفلاطون انتقلت الحقيقة من طقس القول الناجح والصائب، من فعل النطق إلى المنطوق نفسه، وهكذا أقيم فصلٌ وانتقال من الخطاب القيم والمرغوب إلى الخطاب الحقيقي؛ لأن الخطاب بعد السوفسطائيين لم يعد مرتبطاً بالسلطة بمعناها الكلاسيكي المباشر.

وضع الحقيقة داخل الخطاب:

وهكذا لا وجودَ لحقيقة يتيمة مستقلة عن السياق، بل الحقيقة هي فقط ما تمليه إرادة الحقيقة التي تتخذ طابعاً مؤسسياً يتمثل في نظام التربية مثلا، ومنظومة الكتب وسلاسل النشر والطبع والخزانات وصولا إلى المجتمعات العلمية، هذا من جانب الجهة المادية الخارجية التي تحمل المعرفة وتنشرها. فضلاً عن التوجيهات التي يفرضها في العمق أسلوب المعرفة في مجتمعٍ ما، والكيفية التي تقيَّمُ بها المعرفة وتوزع فيهِ وتقسم به إلى فروع وتتمايز هذه الفروع فيما بينها يتذكر فوكو هنا حكمة إغريقية "إن الرياضيات تكون من مهام المدن الديمقراطية؛ لأنها تعلم علاقات المساواة، لكن الهندسة يجب أن تعلم وحدها في الأوليغارشيات؛ لأنها تبرهن على النسب ضمن عدم التساوي." [5]

يمكن الآن التأكد من تكامل بنية الإجراءات التي تحكم الخطاب من الخارج، والتي تتألف من تظافر آلة المنع، وآلة القسمة، وإرادة الحقيقة. مع أن هذه المنظومة الثالثة كانت أقلهم هشاشةً وأكثرهم قوة وصلابة وتدخلت في تأسيس المنظومتين السابقتين؛ لأن إرادة الحقيقة قد جعلت نفسها بواسطة سلسلة من العلوم في القرن التاسع عشر تعطي لآلة المنع والقسمة مبرراتهما كخطابين قانونيين أو أخلاقيين، من العلوم النفسية والطبية والاجتماعية وخلافها؛ ذلك أن التشريع هو نفسه استمد خطوط عمله من السوسيولوجيا والطب وعلم النفس، وكأن "القانون نفسه لم يعد الترخيص به في مجتمعنا إلا بواسطة خطاب حقيقة." [6]

وهكذا، فهذه المنظومات الثلاثة أصبحت أدوات فعالة يمكن أن تخضع الخطاب من الخارج لمطالب السلطة؛ فالمنع يقسم بين ضروبِ الخطاب الممنوعة بالمقابل من نظيرتها المسموحة. والقسمة تميز بين ضروبٍ مقبولةٍ وأخرى تقال، ولكن تجابه بالرفض. فيما إرادة الحقيقة تميز بين قسم من الخطابِ صحيحٍ يبنى عليه، وآخر خاطئ يتم تخطيه. وبهذه الأبعاد الثلاثة يمكن للسلطة -بشكل خارجي عن الخطاب- أن تهمش أشكال الخطاب التي تتعارض معها وتعتبرها ممنوعةً أو مرفوضةً أو خاطئة. وتسمع للأشكال التي تتوافق معها بالظهور والنمو، بوصفها مسموحةً ومقبولةً-معقولةً وأخيراً حقيقيةً وصحيحة.

في الحقيقة، فإن مسألة الحقيقة، تحتاج اهتماما أكبر ضمن هذا السياق؛ لقد رأى أفلاطون أن العالم يرفل في الخطأ ويغوص في "أشباه الحقائق" وصور الحقيقة المزورة.. أما الحقيقة، فلا تنتمي إلى العالم، بل إنها وافدة وغريبةٌ عنه، مثلما الشمس لا تنتمي إلى الأرض حتى وإن ألقت بأشعتها عليها. لذلك، كان السعي وراء الحقيقة منذ أفلاطون هو التخلص من الحواس والتدرب على الموت والاستعداد للخلاص من الجسد...على هذا الدرب يسير ديكارت أيضاً، عندما يعتبر الخطأ قرينة الحواس التي كما تخدع مرة قد تخدع كل مرة، لا سيما وأن هناك افتراضاً بأنه يوجد دائما شيطانٌ ماكر يتربص بالعقل ليصيبه بالتيه عن الحقيقة، بالعودة إلى فوكو، فإنه يجب الافتراض بأن هذا الشيطان لم يكن أبداً بعيداً عن السلطة. وبالتالي فتوسل السلطة بالحقيقة ادعاء يجب أن يكون موضعَ شكٍ باستمرارٍ.

بوصفه ذروة العقلانية، ضمن هيغل فلسفته بأن الحقيقة موجودةٌ دائما، وأن الكذب قليلٌ في العالم؛ ذلك أن كل صورة حتى وإن اتهمت بالافتقار إلى الحقيقة، فإنها حسب هيغل حبْلى بحقيقة مؤقتة وغير مكتملة لا تكف عن النمو وتغيير جلدها، فحتى إذا رآها الناظرُ تغيراً وتناقضاً من شكل إلى شكلٍ، فإن الأمر لا يعدو أن يكون ظهوراً تدريجيا في سعي دؤوب لاكتمال الحقيقة السامية التي هي واحدةٌ في جميع تمظهراتها ويمثلها الروح المطلق.

ولا يحتاج الأمر إلى خلاف بالنسبة إلى نيتشه يمكن الجزم بكلمة واحدة: أنه لا توجد حقيقةٌ على الإطلاق، فيما عدا تأويلات تختلف قوتها وهشاشتها...ليسود على السطح التأويل الأقوى الذي غالبا ما يرتبط بالولادة أو بالتبني مع العنصر الأقوى الذي يسود في التاريخ والجغرافيا. وعلى هذا المنوال، يسير فوكو عندما يعتبر أن التاريخ ليس هو تاريخ الحقيقة بقدر ما هو تاريخ إرادة الحقيقة أو تصارع إراداتِ حقيقة. يتعلق الامر بتقسيم بين ظاهر الخطاب الذي هو الحقيقة، وبين محركه الباطني الذي هو إرادة الحقيقة. ف"الخطاب الذي تحرره ضرورة شكله من الرغبة والسلطة، لا يمكن أن يتعرف على إرادة الحقيقة التي تخترقه". [5]

إنه لا توجد إلا حقيقة واحدةٌ، وهي أنه: لا توجدُ حقيقةٌ على الإطلاق، بل توجد إرادة الحقيقة التي هي جُماعُ آليات هائلة قامت بإبعاد ومنع ورفض وتخطيء كل من أراد تطويق هذه التي تسمى حقيقةً، وكل من أراد مساءلتها أو حاول تبرير ما جعلته ممنوعاً أو ما صنفته حُمقاً. هؤلاء الذين فضحوا هذه الإرادة وعروها من الحقيقة التي تتقنع بها وتستعمها كسياج لقطع الطريق عن المخالفين والمختلفين؛ وأفضل مثال على هؤلاء هو نيتشه نفسه. خصوصاً وأن هذه السلطة المعرفية لا توجد خارج الخطاب فقط، بل وتقبَعُ فيه أيضاً لتحافظ على انضباطه لها مستخدمة في ذلك -إلى جانب الاجراءات الخارجية التي سبق ذكرها- مجموعة أخرى الإجراءات تتصل بصلب المعرفة ومادة الخطاب هي التي يسميها فوكو إجراءات من داخل الخطاب نفسه:

● التعليق: في كل حقلٍ معرفي لا تتساوى الخطابات داخلهُ، وإنما يوجد داخل كل حقل خطاب أساسي ورئيس، تتفرعُ منه الخطابات الأخرى كتعليقات متواصلة ومستمرة ومتراكمة على نفس الخطاب الرئيس الأول، فهناك محكيات كبرى؛ نصوص مقدسة أو روايات جامعة يتم سردها وتكرارها وتلوينها. ومنها تتفرع خطابات أخرى أقل أهمية وأكثر تفصيلاً تضفى عليها طقوس ويرجى منها باستمرارٍ العودة إلى تلك المرويات الأساسية لإعادة قراءتها، وإعادة التعليق عليها على اعتقاد أن "فيها شيئاً هو أشبه بسرٍّ أو ثروة." [7] وهذه الخطابات الرئيسة هي التي تبقى وتدوم مدة أطول وتكون أشد ما يكون تعالقاً مع نظام المعرفة وشكل السلطة. فيمكن أن تختلف التعاليق على نفس الخطاب المؤسس، وتتنافس هذه التعاليق أو تتصارع فيما بينها، لكن دون أن تختلف مع الخطاب الأساسي، وإلا فإنها تحكم على نفسها بالمنع، والإقصاء والنفي والاندثار.

فمثلا في الثقافة الإسلامية؛ الخطاب الذي يؤسس الثقافة بأكملها هو القرآن كخطاب لغوي يحمل مثلا عقيدة محددة، ثم تنمو على مر العصور تفسيراتٌ للقرآن، وتعليقات على هذه التفسيرات، وسير، وعلوم بأكملها، تتنوع وتتعدد وتتشكل منها مذاهب فقهية ومدارس وفرق تتعدد تفسيراتها وتختلف فيما بينها اختلافا جدليا يولد معارف أخرى...لكن عندما يتعارض أحد هذه التفسيرات أو التعليقات مع الخطاب الرئيس، فإنه يخرج مباشرةً من نظام المعرفة ويحكم على نفسه تلقائياً بالزوال؛ لأنه لا يمكن أن تسمح بنية المعرفة بخطاباتٍ خارج أو ضد الخطاب الرئيس المؤسس لهذه المعرفة من أصلها. ويمكن القياس على نفس الأمر بالنسبة إلى الكتاب المقدس في الغرب، وقياس الاثنين كخطاب ديني إلى الخطاب القانوني، أو الأدبي مثل الأوديسا مع الشعر اليوناني، أو المعلقات في الشعر العربي. أو حتى في الفلسفة نفسها، حيث نميز في تاريخ الفلسفة بين خطاب مؤسس وخطابات مفصلة للخطاب الأول المؤسس، حتى إن خطاب فوكو مثلا يمكن بشكل ما اعتباره تفصيلا لفلسفة نيتشه، جنبا إلى كل من ديريدا أو دولوز.. كمؤلفين استلهموا روح خطاب مؤلف سابق عليهم وواصلوا مشروعه الفلسفي.

● المؤلف: "في الخطاب العلمي، كان الإسنادُ إلى مؤلفٍ في العصر الوسيط ضرورياً؛ لأنه كان مؤشراً على الحقيقة" [8] ذلك أن كل قولٍ كان يظهر وكأنه يستمد قيمته من صاحبه ومن سير حياته ومصداقيته في حقل معين، فشخص العالمِ يمثل سُلطةً علميةً لا يمكن ردُّ قولها -على الأقل من قبل من يقل عليه في المستوى العلمي-. إلا أنه منذ القرن السابع عشر تضاءلت أهمية المؤلف خصوصا في المجال العلمي حيث لم يعد اسم أرسطو أو غاليلي يفرض صحة نظرية معينة. على العكس من ذلك، فالخطاب الأدبي أصبح أشد ارتباطاً بشخص المؤلف قياساً إلى ما كان عليه الأمر في العصر الوسيط، حيث تم تداول الخطابات الكوميدية والتراجيدية والأشعار بصرف النظر وفي جهل تام لمؤلفيها، مما يصعب فهمها أو على الأقل يحرمُ النقاد من بضاعتهم التقليدية في تأويل الخطاب ونسبه إلى حياة المؤلف الشخصية وتجاربه التي يفسرون من خلالها لماذا كتب هذا المؤلف بهذا الشكل وليس بغيره؟ ولماذا اختار هذا الحقل المعرفي دون سواه.

● الحقل المعرفي: يقصد فوكو بالفرع المعرفي نفس المعنى المفهوم منه بصفة عامة؛ أي "مجال [نوعيٌّ] من الموضوعات، ومجموعةٌ من المناهج، ومتنٌ من القضايا..، شبكة من التعريفات والتقنيات والأدوات.. تشكل إلى حد ما منظومةً" فهذه الخطابات يطلب منها الالتزام بالقواعد والتقنيات الخاصة بالمجال. فقط ولا يطلب منها الحقيقة دائما أو الصواب...فالفرع المعرفي ليس هو مجموع الحقائق المتراكمة بخصوص شيء ما، بل هو فقط مجموع النتائج المتناسقة فيما بينها؛ أي المنسجمة مع قواعد هذا الفرع العلمي ومبادئه، وإلا فكل علم مكون من أخطاء مثلما هو مكونٌ من حقائق. وهذه الأخطاء لا تعتبر مرفوضة أو غريبةً بل أخطاء ذات وظائف إيجابية؛ لأنها عنصر مساهمٌ في تطور العلم واستقرار بنية المعرفة.

وكل خطاب يرفض أن ينخرط ويندرج ضمن الفرع العلمي ويستعمل لغته ومنهجه، فإنه يصبح خطابا منبوذاً وتائهاً. يضرب ميشيل فوكو لذلك مثلاً بالخطابات التي أنتجت في القرن التاسع عشر بخصوص قضايا طبية، دون أن تستعمل المعجم التقني للطب فتم تصنيفها خارج الطب واعتبرت استيهاماتٍ فردية أو تصويرات شعبية...وعندما لم يجب الباحثون في اللغات البدائية أفقاً نظرياً يؤطر بحثهم، فإن أعمالهم واقعةً في الوهم الخرافي والبشاعة اللسانية. وهكذا، فإن الخطابات التي تفشل في أن تدخل في كنف أي فرع معرفي يكون مصيرها أن تصبح "خطابات ممسوخة" أو "مسخ معرفة". وآنذاك لن ينفع هذا الخطاب حتى الحقيقة التي يتوصل بها؛ لأن نظام المعرفة المتمثل هنا في فروعها، يستقبل الأخطاء التي ترتكب وفق مبادئه، وينفي ويطرد الحقائق التي يُتَوَصَّلُ إليها في غنى عنها، حتى إن: الخطأ داخل النظام المعرفي أفضل من الحقيقة خارجَهُ. وعلى هذا، يمثل فوكو بمثاليْن من حقل البيولوجيا: لقد قام ميندل Mendel بوضع نظرية صحيحةٍ في علم الوراثة، وهذي نظرية مثبتة الآن بالمعاينة والتجريب، حيث تنتقل الصفات بالوراثة من جيل الآباء إلى جيل الأبناء، فرغم أن ميندل قدم معرفة حقيقيةً وصحيحة، إلا أنه ولما وضع موضوعا جديدا في البيولوجيا، وقاربها بطريقة مختلفة، قد أصبح بذلك خارج "الحقيقي الخاص بالخطاب البيولوجي لعصره." ص18؛ أي خارج بنية المعرفة وخارج الفرع المعرفي المعروف بشكله ونظمه آنذاك. وبعد أن كان ميندل "مسخاً عمليا" لن يصبح ميندل معترفاً به وبنظريته إلا بعد أن يتغير نظام الفرع العلمي كاملاً، ليصبح قابلاً لاحتواء مثل نظريته. وبالمقابل من ميندل؛ كان شليدن SCHLIDEN معترفا به كعالم بيولوجي وبنظريته التي تنفي وجود عمليات جنسية نباتية، رغم أن هذه النظرية كانت خطأً علميا. مع ذلك تم الاعتراف به لا لشيءٍ سوى لأنه كان متناغماً مع قواعد الخطاب البيولوجي لعصره.

يبين فوكو من خلال هذين المثالين كيف أن الخطاب لا يكون حقيقيا، إلا عندما يكون مستجيباً وملتزماً لقواعد "شرطة فكرية" يلتزم بالقواعد التي تضعها له ويتناغم مع سياقها.

نشر الخطاب واستعماله:

قد أمكن الآن تبين كيف أن المعرفة السائدة، تشكل سلطةً، تتحكم في إنتاج الخطاب؛ لتحدده وفق خط معين، يحدث في كل حقل بعينه ليخدم استراتيجية عامة وكبرى تشكل نظام المعرفة والتفكير لفترة تاريخية معينة. ويستخدم نظامُ المعرفة السائد ترسانةً من الإجراءات التي تتحكم في الشكل الذي يكون به إنتاجُ الخطاب، الا أن هذه لعبة السلطة هذه لا تتوقف عند إنتاج الخطاب، بل تمتد إلى تنظيم استخدامه -في سياقات القول والحياة الفكرية وفي المجتمع- وفق إجراءات أخرى:

● جمعية الخطاب: يمثل هذا الإجراء امتداداً لإجراء المنع الذي سلف ذكره، حيث إن السلطة لا تمنع حق الخطاب عن أغلب الناس إلا لتكلف به عددا محددا منهم، بما يخدم هذا النظام من المعرفة بعدما يتم تأهيله لذلك منذ البداية. وظاهرٌ كذلك أن المواضيع ليست سواءً في درجة المنع وضيق الفئة المكلفة بالخطاب، فهناك مجالاتٌ محروسةٌ ومطوقة ولا يحق الحديث فيه إلا لفئة ضيقة تستجيب لمطالب عالية، في حين أن هناك مواضيع ومجالات "مفتوحةٌ تقريبا أمام كل الرياح" [9] ومن الواضح أن هذه المواضيع لا تشكل أي خطر على السلطة والمعرفة.

يضرب ميشيل فوكو هنا مثالاً عن أحد الحكام اليابانيين الذي -وفي محاولة لامتلاك أسباب قوة الأوروبيين- جلب معلمين للرياضيات والهندسة، واحتفظ بهم في قصره وبالفعل فقد تعلم منهم ما أراد، إلا أن ذلك لم ينعكس في شيء على حالة اليابان بسبب احتكاره لهذه المعرفة وحرصه عليها. ويشير ذلك إلى أن درجة نشر الحضارة واكتساب القوة في أمة ما لا تتم، بقوة بخطاب فعال قادر على تنظيم الجهود والموارد لبلوغ الأهداف، بل تعتمد على قوة هذه الجمعية التي تحمل الخطاب، وعلى انفتاحها أمام المتعلمين وسعيها لنشر العلم وتبادل الخبرة ومشاركة المعرفة.. يتساءل فوكو من خلال هذه الواقعة "هل يلزم أن نعتبر هذه الحكاية تعبيرا عن أحد الأساطير الأوروبية؟ بدل المعرفة المحتكرة والسرية في الاستبداد الشرقي، تقدم أوروبا المثال المعاكس: التواصل الشمولي للمعرفة، والتبادل اللامحدود للخطابات." [9]

● المذهب: يُشترط في كل معرفةٍ وخطاب لكي ينتشر، أن يتأسس على شكل مذهب؛ أي "الاعتراف بنفس الحقائق وقبول قاعدة معينة. مرنة إلى حد ما"ص23 مع إضافة بسيطة، وهي أن المذهب على عكس الفرع المعرفي لا يهمُّ فقط المنطوق أو الخطاب، بل يحكم أيضا الذات المتكلمة أي الذات التي تنتج الخطاب، فيتم تبجيلها "كعلامةٍ أو كتجلٍّ للخطاب نفسه وكرمزٍ لانتماء معين"[10] فالمذهب يحدد الأفراد ببعض الأنماط المعينة من التعبير، ويحرم عليهم نتيجة لهذا التعبير أشكال الخطاب الأخرى المختلفة. فالمذهب يحقق إخضاعاً متبادلاً: يخضع الذوات للخطاب التي تقوله، ويخضع الخطاب للذوات أو المجموعة القائلة؛ أي رموز وأعضاء المذهب. فالمذهب إذن هو آلية سلطوية بامتياز، فالسلطة السياسية مثلاً تصنف جميع الفاعلين السياسيين كمذاهب (ماركسيين/يمينيين/ ليبراليين ..) كذلك السلطة الدينية وخطابها يصنف جميع الناس كمذاهب (كاثوليك/بروتستانت/أرثوذكس..) وحتى الخطاب الفلسفي وسلطته تصنف الأفكار والفلاسفة إلى مذاهب (مثاليين/واقعيين/ابيقوريين/عقلانيين..) فالسلطة والخطاب يستعملان المذهب كآلية للتحكم في جميع أشكال الخطاب عبر تصنيفها وقبول بعضها ورفض بعض، أو تكثيف بعضها وتخفيف الآخر حسب البنية المعرفية المتحكمة.

● التربية: ولعلها العنصر الأبرز في تنظيم انتشار الخطاب واستعماله. إنها تملٌّكٌ اجتماعيٌّ للخطابات؛ وذلك بسبب أنها "الأداة التي يمكن بفضلها لكل فردٍ أن ينخرط بشكل مشروعٍ في الخطاب. فالتربية ومن خلال ما تسمح به وما تمنعه وشكل توزيعها وكثافة محتويات معينة فيها، أو خفة وجود محتويات أخرى تتبع الخطوط المتعلقة بالتباينات الاجتماعية أي بشكل السلطة وشكل الخطاب الذي يستحبه هذه السلطة وترغب فيه، حتى إن كل "منظومةٍ تربوية عبارةٌ عن طريقةٍ سياسية للإبقاء على تملك الخطابات أو لتعديل هذا التملك. بجانب ما تملكه هذه الخطابات من معارف وسُلَط".[11]

فهذه الآلات الثلاث: طقوس الكلام وجمعيات الخطاب، والمجموعات المذهبية، والتملكات الاجتماعية. لا يجوز الفصل بينهم إلا نظرياً. أما في الواقع، فهذه الأدوات تتظافر وتتقاطع، يعزز بعضها بعضاً ويغذي أحدها الآخر لتشكل صرحاً من توزيع الذوات (الموارد البشرية) على أنماط الخطاب، وتؤمن تمليك أجزاء من الخطاب لذوات معينة، تقمع الخطابات التي تطل برأسها، وتحافظ على سيادة الخطاب وتماسكه بتلك الإجراءات التي تتوحد في غاية واحدة، ألا وهي: إخضاع الخطاب.

من التاريخ إلى الأركيولوجيا:

يرى فوكو بأن "الفكر هو واقعةٌ تاريخية، حتى وإن كانت له أبعاد أخرى" [12] لذلك، فإن البحث في الخطاب والفكر ينبغي أن يكون بالطبع بحثاً تاريخياً تنقيبياً في التربة التي نبت فيها، ولنأخذ مثالا على ذلك، وصف فوكو لمنهجه في تأليف كتبه الثلاثة الأخيرة "سلسلة الجنسانية" يقول: "ليكن مفهوما أني لا أنجز تاريخا للعادات والتصرفات ولا تاريخا اجتماعيا للممارسة الجنسية، بل أنجز تاريخا للكيفية التي صارت اللذة والرغبات والتصرفات الجنسية بمقتضاها إشكالية متأملا فيها ومفكرا فيها .. ففي كتاب "المراقبة والعقاب" لم يكن إنجاز تاريخ للسجن، باعتباره مؤسسة، هو ما أرغب فيه [..] بل تساءلت كيف كان لفكر العقاب تاريخ ما ! وما أحاول إنجازه الآن هو تاريخ للعلاقات التي يقيمها الفكر مع الحقيقة." [12]

الخطاب الذي يعتمد على مادته روح التاريخ، وسير الزمن، وتعاقب الحضارات. هو ما يجب البحث عنه وفيه، وهذه المهمة هي التي يعتبر فوكو أن المنهج التاريخي قد قصَر عن القيامِ بها، وأعطى عن هذا العنصر نظرة ظلت في كل حالٍ غير كافية. قياساً إلى خطورة الخطاب، وتشتته، وتراكمه، ومخاتلته وتشعب علاقاته وتأثيراته؛ هفوة المؤرخين بالنسبة إلى فوكو هو كونهم يعتقدون خطأً "أن العالم يصوب نحونا وجهاً يمكن قراءته" [13] في حين أنه لا يفعل ذلك أبداً، بل يستمر في توجيه وجوه مقنعةٍ بقناعات تستحبها السلطة والخطاب السائد، لذلك فإن نزع هذا القناع يحتاج إلى قوة إرغام، إرغام الموضوع التاريخي على الاعتراف بمضمونه الحقيقي وأسباب نزوله، بذلك يصبح الخطاب الذي نقوم به (خطاب البحث الأركيولوجي/الحفري) كعِتقٍ نمارسه على الأشياء لتحريرها من صورتها التي تتصور بها نفسها إلى صورة أخرى أكثر ماديةً تفضح الخطاب "انطلاقا من ظهوره وانتظامه، نحو شروط إمكانه الخارجية؛ أي ما يتيح الفرصة لظهور السلسلة العرضية لهذه الأحداث وما يرسم لها حدودها." [14] وهكذا يرسم فوكو معالم منهجه الأركيولوجي من خلال معارضة ونقد المنهج التاريخي من خلال أربعة مبادئ:

1- مبدأ القلب: أي قلب كل الصور المعهودة عن الأحداث والشخصيات والنظم التاريخية على غرار مسح الطاولة عند ديكارت، فيتقرر أولا إزالة الأحكام المسبقة عن شخصية تاريخية معينة بأنها محررة، أو شريرة، أو طاغية.. أو عن عصر معين بأنه ذهبيٌّ، أو عصر فاضل، او عصر مظلم.. في حين يجب الحفر تحت هذه الأحكام وعدم "قبول الامتلاء الضمني لعالم من الخطابات المتلاحقة"[15] مادام العالم ليس عالم أدوار إيجابية، وسعي للخير، بقدر ما هو عالمٌ يحدده الصراع بين الرغبات والقوى، لا التظافر بين قيم الخير والوئام..

2- مبدأ عدم الاتصال: أي رفض الانساق التي تعمم الحالات المدروسة وتلغي الفروق بينها، فمثلاً القول إن الأنظمة الفاشية انهزمت في الحرب العالمية الثانية؛ يحمل في طياته تهميش اليابان؛ لأنها كانت نظاما ملكياً وليس فاشياً، في حين أن الاتحاد السوفياتي الذي انتصر أيضا كان فاشياً، فمحاولة التعميم تهمش الخطابات وأشكال الأنظمة الأخرى التي تعبر في النهاية عن وجهة نظر غربيةٍ للحرب. في المقابل، يدعو فوكو إلى تصور الأمور كما هي؛ أي: غير متصلة. وأن كل خطاب نحاول تعميمه، يقبع وراءه خطابا أو خطابات أخرى صامتة ومقموعة، وهذه الخطابات هي التي يجب إعادة الكلمة إليها. عبر تصور العالم كفوضى خطابات تتشابك وتتقاطع وتقترب وتتنافر فيما بينها..

3- مبدأ الخصوصية: ويفرض هذا المبدأ أن لا نذيب الخطاب في لعبة دلالات مسبقة، فلا يجب على البحث أن يتبع الدلالة في الموضوع، بلغة شوبنهاور يجب البحث عن الإرادة، وعدم الاهتمام بالتمثل الذي يتكون عن الحدث، فلا يجب مثلا اعتبار الثورة الفرنسية 1789 محاكاة للثورة الإنجليزية 1688، أو اعتبار الحزب الشيوعي الصيني مثلاً استمراراً للثورة البلشفية، في الوقت الذي خصوصية النظام الصيني تُرِي أنه أقرب إلى تعاليم كونفوشيوس منه إلى تعاليم ماركس، وأقرب إلى الإمبراطور منه إلى الزعيم الحزبي، بل إن الزعماء السوفيات أنفسهم كانوا أقرب إلى أساليب الحكم القيصري الروسي، منهم وفاءً للبيان الشيوعي. وهذا يؤكد أن البحث الأركيولوجي يجب أن يستند إلى الحفر تحت الخطاب دائما كما تبين ذلك القاعدة الرابعة.

4- مبدأ الخارجية: يرتكز هذا المبدأ على قاعدة بسيطة هي أنه، كما يجب على البحث أن لا يصدق تمثله عن الموضوع (مبدأ الخصوصية) فكذلك، لا يجب أن يصدق شهادة هذا الموضوع عن نفسه، بل يجب بدل انطلاق البحث في الخطاب، عن نواته وفكرته العميقة، أن يتجه البحث إلى تأثيراته وعوامل ظهوره وأسباب نزوله واستنباته الأرضية.

 

قائمة المصادر والمراجع:

[1] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمَّد سبيلا، بيروت دار التنوير 1984. ص 5

[2] المرجع نفسه، ص6

[3] نفسه، ص7

[4] نفسه، ص 8

[5] نفسه، ص 10

[6] نفسه، ص11

[7] نفسه، ص12

[8] نفسه، ص15

[9] نفسه، ص20

[10] نفسه، ص 23

[11] نفسه، ص24

[12] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الاختلاف، طبعة 2006، ص103

[13] ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، التنوير للنشر، ص 29

[14] نفسه، ص30

[15] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الاختلاف، طبعة 2006، ص101