هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الثاني: الاهتمام بالذات، حياتنا كعمل فني
فئة : مقالات
هم الذات في فلسفة ميشيل فوكو ـ الجزء الثاني:
الاهتمام بالذات، حياتنا كعمل فني
1- هل توجد فلسفة الأخلاق عند فوكو؟
من الواضح، أن متن ميشيل فوكو لا يضم أي فرع مستقل كفلسفةِ أخلاق خاصة، ومع ذلك فالمشروع الثالث من فلسفة فوكو: تاريخ الجنسانية، وهو اكتمال العقد الفكري الذي ينتقل فيه البحث إلى الذات؛ وذلك من خلال بحث تاريخي معمق في أشكال تدبير الرغبة الإنسانية -الجنسية منها بالأخص- في عصور ولحظات تاريخية مختلفة وصولاً إلى العصر الحديث، وبطبيعة الموضوع لامسَ فيه أبعاداً أخلاقية متعلقة بالتصورات التي حكمت التعامل مع الذات ونزوعاتها...وهذا موضوع الرباعية التي حملت تاريخ الجنسانية: "إرادة المعرفة" فَـ "استعمال المتع" ثم "الانهمام بالذات" وأخيراً "اعترافات اللحم". وهذه الدائرة ستكون ثغرتنا الأكثر سنوحاً للحديث عن تصور فوكوي للأخلاق، مع الارتباط باستمرارٍ برهانات الفيلسوف في الدوائر السابقة، ما دامت السلطة هي التي ستفرض على الذوات في المجتمع نظاما معيناً في التعامل مع رغباتها باستعمال خطابٍ معين كما سنتطرق إلى ذلك في هذه الصفحات.
وقبل أن نتطرق إلى فلسفة فوكو في طورها الثالث، لننصت إلى رأي فوكو نفسه وتقييمه هذه المرحلة، فهو يصف حيرته وتساؤله طيلة المراحل الفكرية السابقة، مسألة وجود فكرة لديه، دون أن تبلغ هذه الفكرة درجة من الوضوح تمكنه من التعبير عنها. هذا الوضوح الذي لن يتم إلا في المرحلة الثالثة، يقول فوكو: "قد حلمت يوماً ما سيأتي أعرف فيه مسبقا ما أريد قوله، حيث لا يبقى على سوى التفوه به" [15] فمشروع الذات إذن كان هو المشروع الأساسي بالنسبة إلى فوكو في كل من كتبه السابقة، حيث كان مشروع الخطاب/المعرفة والسلطة بحثا عن كيفية تعامل الذات مع كل منهما، وهكذا ففيلسوفنا كان يبحث في السلطة والمعرفة، بينما تدور في رأسه فكرة مختلفة هي فكرة الذات، وها هو يقول عن نشره لكتابي إرادة المعرفة والاهتمام بالذات: "لقد تخيلت أنني بلغت السن الذي لا يبقى على المرء سوى أن ينشر ما بداخل رأسه"؛ لأن الفترات السابقة كانت تدخل في باب "أن العمل يعني أن يشرع الإنسان في التفكير بشيء آخر غير ما كان يفكر فيه من قبل" [15]
يلاحظ في المشاريع الثلاثة معاً، أنها لم تلتزم بأي حقل من حقول الفلسفة المعروفة بشكل كامل أو دقيق؛ فالمشروع الأول في الخطاب والمعرفة يحمل طابعا إبستمولوجياً دون أن يكون إبستمولوجيا خالصا، والمشروع الثاني المتعلق بالسلطة يدرس السلطة، ويقترب من السياسة ويبتعد، دون أن يمكن اعتباره فلسفةً سياسية، المشروع الثالث يناقش الأخلاق دون أن يمكن اعتباره فلسفةَ أخلاق. وربما، فإن هذه المرونة في هذا الفكر قد يجعل من السهولة بالنسبة إلينا تصنيفه خارج الفلسفة، كما يفضل ذلك هو نفسه {من المعروف أنَّ فوكو نفسه قد نفى في أكثر من حوار أو مقال أن يكون فيلسوفاً} ولكننا بالطبع سنعتبره فيلسوفاً رغما عنه، مع نَسْبِ رشاقته الفكرية إلى نوع من المرونة ساد الفلسفة المعاصرة كلها مزج فلاسفته بين الخروج عن الفروع التقليدية للفلسفة، وبين إنكار اتصافهم بلقب فيلسوف وهذا شمل بعض أعلام هذا الجيل مثل حنا آرنت. وأيا يكن من أمر، فإن الفلسفة ستقبل كل من يقترب منها بنوع من الباب المفتوح ما دامت هي أشبه بالطريق منها بالمنزل، وأقرب إلى النهر منها البركة. بمقارنة بسيطة بين نظم الفكر التي تقبل الاختلاف وتوسع الإطار ليضم حتى من لا يعترفون بأنفسهم كفلاسفة ومنهم مؤرخون أو سياسيون ومحللون نفسيون .. مع نظم الفكر التي تضيق وتنفي بالتكفير والطرد، حتى تغلق روافدها وتتحول إلى بركةٍ آسنة، في حين أن النوع الأول يظل جارياً يمتلئ بكل ما يتدفق فيه من روافد ويستقبل كل من القى بنفسه فيه من راغبين في السباحة أو في الغرق.
2- الإطار الفلسفي الفوكوي لنظرية الأخلاق:
لنقل إن فلسفة مشيل فوكو على مفهوم الخطاب؛ ونعني به مجموع النصوص اللغوية، التي تقال شفويا أو مكتوبةً، بخصوص كل موضوع كان، بشرط أن يكون متماسكاً داخلياً فيما بين أجزائه، ليعبر عن تأويلٍ للقضية التي يتناولُها، بالمعنى الذي يكون به النص الديني خطاباً، والنظرية العلمية خطابا، والقصيدة الشعرية خطاباً والنص الفلسفي والأدب والرواية والنص القانوني خطابات كلها. وهذا الخطاب لا يكون عفوياً أبدا أو بريئا أو معزولاً عن سياق نشأته؛ أي عن نظام المعرفة والأخلاق والسياسة ونمط الحياة في عصر وأفق محدد؛ أي إن نظام المعرفة يتأسس في إطار معين في التاريخ والجغرافيا، ويلِد ويدعم إنتاج الخطابات التي تعبر عنه، وتترجمه وتفصل معانيه الكبرى في كل مجال بعينه. وهذا ما يجعل هذا النظام يشكل سلطةً تفرض نفسها على الناس في حياتهم وأعمالهم وفي أخلاقهم وأفكارهم وهكذا..
وإذا سألنا عن مصدر هذه البنية؟ أو لماذا تحكم في ظرف معين هذه البنية وليست تلك؟ كان الجوابُ إن العالم سياسةً وتصورات واقتصاداً هو ميدان صراعٍ مفتوح أمام كل الراغبين والقادرين على المنافسة والصراع، والأمر نفسه ينطبق على المعرفة، حيث تتصارع التأويلات والأفكار ويتوطد انتشار وانتصار الفكرة الأقوى والتأويل الأكثر دعماً ليهيمن وتتحول الأفكار الأضعف إلى مقاومة على هامش الحياة الاجتماعية والفكرية، في انتظار أن تغير طرائقها و"تقنياتها"، وتحاول العودة مرةً أخرى في ثوب جديد.
بهذا المعنى، فإن الأخلاق التي تكون موجودة في عصر معين ثم تمحي من الحياة، هي في الحقيقة لا تزول أبدا ولا تموت، بل تتوارى فقط وتصمت وتخضع للفكرة والتصور الأخلاقي السائد. وعندما تتغير القواعد وتضعف البنية والنظام القائم أو يباد تعاود التصورات المعارضة له الظهور لتشارك في نظام جديد، فتصورات معينةٌ عن الحياة الجنسية مثل الشذوذ مثلاً كانت سائدة ومنتشرة في عصور معينة، ثم انهزمت وتوارت وراء الأفق طيلة قرون وحقب، لتعاود الظهور في العصر الحديث، وتكتسب قوة لدرجة أنه قد يكون "الأشخاص المعارضون صراحةً للشذوذ الجنسي" يتعرضون لنفس النوع من النبذ والنفي الذي تعرض له الأشخاص الموافقون أو الممارسون له في حقبة أخرى، أو في نظام أخلاق مختلف في نفس الحقبة الزمنية. مع أنه ولما كان الصراع هنا لا يستعمل سيوفا ولا سهاماً، ولا يشمل تصفية جسدية؛ لأن أطراف النزال ليسوا أشخاصا أو فئات أو أمما، وإنما الصراع بالأساس هو صراع خطابات فيما بينها وصراع أنظمة أفكار-أخلاق. لذلك، من الطبيعي أن تكون والحالُ هذه، ساحة المعركة هي الأشخاص أنفسهم ! وهذا ما يضع الذات في مآزق اختيارات بين الخطابات، وبين ذاتها نفسها؛ أي دوافعها وآمالها في حد ذاتها...هنا يصبح الحديث ممكناً عن مشكلة أخلاقية أمام الذات التي هي موعودةٌ بالخضوع على أي حال، إما لأحد الخطابات المتنافسة أو لرغباتها الذاتية التي هي أيضا عبارةٌ عن خطاب، وعبارة عن سلطة.
3- الذات بين الخطاب والسلطة:
يفرض الخطاب إذن قواعده على الذات، ويلزمها بالامتثال لفرائضه ومطالبه، مادامَ مرتبطاً بخطاباتٍ أخرى ومرتبطاً بجهاز، بل أجهزة تمتلك القوة السلطة لتفرض تصورها للحقيقة، وبالتالي تصورها للاحقيقة، لتميز بين الصحيح والخطأ، وبين المشروع والممنوع، وبين السوي والشاذ. وبين لعبة الحقيقة التي نتبينها مع فوكو في دائرة بحثه الأولى في الخطاب ونظم المعرفة، ولعبة السلطة كما فضحتها اهتمامات المرحلة الثانية، تبقى الذات حائرة رهن الخضوع لمعايير الخطاب وسلطته. ولهذا جاء الشوط الثالث من فلسفة الرجل، تلبية لهذا المطلب الذي خلفته نتائج البحثين الأولين؛ فإذا كان البحث الثاني مثلا على كيف يتم ضبط المخالفين للنظام، أو بعبارة فوكو: "كيف يتم حكم المجانين؟" [16] فإن الموضوع الثالث سيدور حول سؤال: "كيف نحكم أنفسنا بأنفسنا؟" وهذا عموما موضوع البحث الثالث، حيث يعطي فيه ميشيل فوكو ويقدم من مراحل وحقب تاريخية؛ نماذج عن تجربة الذات وملاعبتها لآيات الخطاب وبنود السلطة، ومحاولاتها الصعبة من أجل الموازنة بين الإنسان وجسده، وبين ذاته التي تسمع صوت الخطاب وترى وجه القيود، وبين رغبته العمياء عن كل حاجز، الصماء عن كل رادع ومانع، نكمل مع فوكو رقصَة الانتقال بين خيوط الحقيقة والقوة، وهو يبسُط رقصة الذات بين الخضوع والمقاومة، معيداً الفلسفة سيرَتَها الأولى: فناً للحياةِ وسياسة للذات.
4- الفلسفة كفن للعيش:
يشبه فوكو الفلسفة في العصور القديمة أنها كانت جماع حكمة وفن، بين النظر والعمل وتصورات وتوجيهات، فالتفلسف كان أشبه باعتناق الدين، منها بتعلم العلم. لم تكن الفلسفة نظريةً، بل منهج عمل وأسلوبَ حياة وحتى عندما تكون نظريةً؛ فلا تكون كذلك إلا لتحسين الفهم، من أحل تحسين التصرف. ويضرب لذلك مثلاً بالأبيقورية والرواقية والفيتاغورية التي لم تكن على أي حال مجرد تيارات فلسفية وفكرية، بل عاشت ونظمت نفسها كطوائف دينية لها رؤية للحياة والكون والإنسان، ولها طقوسٌ وشعائر في العيش.
يميز فوكو أثناء ذلك، بين الفلسفة كونها شكلاً من التفكير يسعى لوصول الذات إلى الحقيقة، عبر هذا التفكير. وبين الروحانية كممارسة وتجربة لا يروم بلوغ الحقيقة عبر التفكير، بل عبر تحول الذات نفسها كما يتحول الحجر إلى تمثال بالنحت، فالفلسفة في العصر اليوناني كانت أقرب إلى المعنى الثاني، منها إلى الأول. حتى صاغت نفسها بالتنظير والتجربة تمريناً دائماً على الاهتمام بالذات كشكل من الروحانية الفلسفية.
لا يفوت هنا مدح الترجمة "الانهمام بالذات" مقارنة مع "الاهتمام بالذات"؛ لأن المصدر الأول يعود إلى الفعل الخماسي "انفعل" حين يكون الفاعل هو نفسه المفعول، كالقول انسحب أي سحب نفسه بنفسه، أو انهزم أمام العدو إذا هزم نفسه بنفسه، أو كان مسؤولاً عن هزيمته/اندفع/انبهر/انتحر .. فيما الفعل الخماسي "افتعل" يشير إلى الفصل بين الفعل والفاعل كالقول: اقتنع إذا أقنعه آخرٌ، أو احترم شخصاً آخر وهكذا. حتى إن عبارة سقراط: "اعرف نفسك بنفسك" تجوز في عبارة أخرى: "انعرف"، ولو أن التبسيط ضرورةٌ لا سيما والفلسفة يُشْتَكَى من عسر لغتها... وسنعود لهذه العبارة التي سيكون لها مع فوكو شأنٌ أيضا في هذا البحث.
5 -بين الإيتيقا اليونانية والأخلاق المسيحية:
لم يكن الفكر اليوناني ونظام المعرفة والعيش فيه، يتأفف من الأفروديسات أو اللذائذ التي كانت مستحبة في العصر اليوناني، فيما تم تحريم وتجريم وشيطنةُ هذه المتع في العصر المسيحي؛ يقول فوكو عن هذه المرحلة: "لقد كان لهم فن العيش الذي يلعب فيه اقتصاد اللذة دورا كبيرا جدا. وفي فن العيش هذا سرعان ما أصبح المفهوم الذي يجب ممارسة تحكم تام في الذات، المشكل الرئيس. وكون التأويل المسيحي للذات تأسيسا جديداً لهذا الفن." [17]
وعلى الرغم من أن العصر اليوناني نفسه شهد أشكالاً من التقوية والزهد والتعفف، لكنه كان ناجماً عن منطق خاص غير المنطق المسيحي. مثلا أحد الأوفياء في العصر اليوناني، وهو الملك نيكوكليس كان يتباهى ويفتخر بأن ليس له أي علاقات أخرى مع النساء عدا زوجته، يبرر ذلك بأنه ملكٌ، وأن الملك يجب أن يحكم نفسه أو لا وبطريقة تضمن له المجد، وإلا كيف لمن لا يتحكم في نفسه أن يحكم دولة وشعبا؟ وهكذا فمنطقه الأخلاقي ينجم عن "رؤية جمالية لحياته، حيث ترتبط السلطة السياسية والمجد والخلود، ويتعزز التفوق السياسي للملك بالتفوق الأخلاقي لديه.." [18] لا عن قانونٍ أخلاقي صارم مفروض. وحتى عندما يفرض الرواقيون "حمية أخلاقية"، فمنطقها هو أهمية أن يحترم الإنسان نفسه، في وجوده المعقول بتحمل الحرمان لتقوية الصرامة أو المناعة الجنسية في التفكير الأخلاقي، وعلى أي حال، فجوهر الفرق يكمن في أن هذه الوصفة الرواقية لا تأخذ شكل تقييد للمدونة التي تعرف الأفعال المحظورة، فلا مجال للبحث عن أخلاق مصاغة بشكل صارم، على شكل "قانون أخلاقي" بلغة كانط، بل إن الأمر يقدم محض إشارات حول أنماط التقدير العادي وحول مواقف يفترض بها أن تكون مقبولة. دون أن يتعرض من لا يقوم به لأحكام نفسية أو أخلاقية ...ولكنها كانت موضوعة فقط على شكل تقوية للعلاقة مع الذات. فكان الأسلوب والنظام الأخلاقي في هذا الفكر مشكلة اختيارٍ شخصي يهم نخبة محدودةً ترغب في أن تكون نموذجا جماليا للآخرين، والدافع لهذا الاختيار هو الرغبة في حياة جميلة وترك ذكرى حياة جميلة للآخرين أي: "أن يترك الإنسان وراءه أثراً لسمعة أو علامة سمعةٍ ما، أن يكون على الحياة أن تصير عملاً فنياً." [19]
بتأويل ميشيل فوكو للفرق بين هذين النوعين من معاملة الذات؛ يستعين بمقارنة بين ثلاثة أشكال من العلاقة مع الذات من خلال نوع المجتمع الذي يفرض بنية قيمه وشكل علاقاته:
المجتمع العسكري الأرستقراطي: حيث يطلب من الفرد إثبات ذاته في قيمته الخاصة، من خلال تفرده ومهارته وتفوقه على الآخرين، دون أن يمنح أهمية كبرى لحياته الخاصة أو علاقته مع ذاته.
المجتمع البورجوازي: حيث تكون لحياة الفرد الشخصية أهمية كبرى، يجب أن تكون حياته محمية بعناية ومنظمة، وتشكل مركز ثقل واحد يقيم الشخص من خلال تصرفاته، ومع ذلك تكون فيها الفردانية ضعيفةً وعلاقات الذات بذاتها جافة ومحدودة...لأنها ما تزال مرتبطةً بأحكام وتصنيفات اجتماعية،
في حين، إن الحركة الزهدية المسيحية قامت بتقدم قوي لعلاقة الذات بذاتها؛ لأن عملية الزهد كانت تتم في إطار خلوة وغالباً ما تمت في دير؛ أي في مكان منعزل، إلا أن مؤسسة الرهبانية فرغت هذه العلاقة من ذاتها؛ لأنها انبنت على احتقار الحياة الخاصة... وأيضا -في نظري- لأنها لم تكن علاقة ذات بذاتها، بل كانت علاقة مع الله؛ أي علاقة مع قوة لها معاييرها وأحكامها حتى وإن كانت افتراضية.
على أي حال، فإن هذه العلاقة مع الذات كانت صعبة الميلاد، بل ولا تزال نظراً للضغط والثقل الذي تفرضه الثقافة والمجتمع؛ أي الخطاب والسلطة. ولذلك، تتميز هذه العلاقة "بظاهرة ذات مدى تاريخي طويل، لكنها عرفت في هذا الوقت [القرن الأول الروماني-قبل المسيحية] أوجها. إنها تطور ما يمكن أن نسميه بثقافة الذات تمت فيها تقوية وتقييم علاقات الذات بالذات" [20] إلا أن هذه الفترة كانت قصيرة جدا كقرنين في عمر الإمبراطورية الرومانية -وهي بعدُ وثنية- لأنها كانت متبوعة بعصرٍ من التحجر المسيحي الذي فرض أشكالا فظيعة على العلاقة مع الذات، واخترقها في أدق تفاصيلها، ليعذبها بشكل أليم تكفيراً عن خطيئة متوهمة. فما حصل في المسيحية يقول فوكو، هو "قلبٌ للثقافة الكلاسيكية عن الذات، وقد تم ذلك عندما حلت فكرةُ ذاتٍ يجب التخلي عنها -لأن الإنسان في تشبثه بذاته يعارض مشيئة الله- محل ذات يجب بناؤها وخلقها كعملٍ فني" [21]
لقد كانت الأخلاق المسيحية قاسيةً، سواء من ناحية مؤسسية كما مع نظام الكنيسة الكاثوليكية، حيث إن الاعتراف لم يعد مطلوباً فقط أن يعترف المؤمن فقط بذنوبه، وما اقترف بل أيضا وحتى بما لم يقترفه، فبعد. مجلس ترينت 1957 أصبح يجب على المؤمن أن يعترف حتى بالأمور التي خطرت بباله وفكر فيها. أما في قرون سابقة من العصر المسيحي، فقد بلغت الكنيسة أشواطاً أكثر فداحة وصلت حد اتهام المؤمن بما يرى في أحلامه! واعتبرت الفضيلة أنها لا تُدْرَك إلا بزوال الأحلام التي تترجم الشهوات المنحطة والدنيئة. "إن الناس الذين لهم ما يكفي من القوة أثناء اليقظة لمحاربة أهوائهم ومقاومتها، لكن الذين أثناء الليل يتحررون من القانون ويفقدون الإحساس بالخجل حينئذ يستيقظ فيهم ما هو فيهم فاسقٌ ولاأخلاقي" يستعرض ميشيل فوكو بسخريةٍ حوادث لمؤمنين اعترفوا للكنيسة بأحلامهم قصد تفسيرها، فقامت الكنيسة باكتشاف سوء طويتهم "فالذي يحلم بأنه يمسك مرآة وثوب امرأة، يفضح رغبته في نيل امرأة لا تحل له، والخادم الذي يرى في الحلم سقوط سقف المنزل يفضح خبثه في تمني موت سيده"، [22] وهكذا، فماذا بقي من الذات التي كانت تحاسب حتى على ما يدور في خلدها وتفكر فيه؟ لتفهم من ذلك أن آلة السلطة امتدت إلى مساحاتٍ خطيرة ودقيقة وصلت حتى علاقة الفكر باللحم في خيالات اليقظة وأطياف الكرى.
"إن المسيحية تتهم عموماً، بأنها عوضت نمطا حياتياً متسامحاً، بشكل كاف بنمط حياتي تقشفي يتميز بسلسلة من التخيلات والتحريمات والممنوعات" [23] فرضت المسيحية إذن، في بداية عصر تمكنها -وقد كانت بعدُ ديانة العبيد المقهورين في الإمبراطورية الرومانية- مقولات أخلاقية بالغة القسوة والشظف؛ فحذرت من المتع، وبالغت في نسب الأضرار للإقبال عليها، لتفرض انضباطاً، بقسوة تشهد عليها نصوص سينيكا أو مارك أو ريل...بينما الإيتيقا اليونانية تقدم وصفات، واجتهادات على شكل تجارب، ورؤى على شكل مناطق (ج منطق) متعددة ومختلفة، هي برمتها أشبه ما يكون بنوافل رسوم لشكل الحياة، رسومٌ ممكنة اقتراحات ودعوات.. فإن الأخلاق المسيحية أحادية لها منطق واحد صارم وتفرض نفسها بقوة وقسوة على شكل "خطاطة سلوك" [24] ويقصد فوكو بهذه الخطاطة، نموذجا محدداً للتصرف وفق قواعد محددة، ويضرب لذلك مثلا بالقواعد التي عززتها المسيحية لشكل النموذج الزواجي الثنائي الوفي والأمين.. فيما تمت محاربة العناصر التي لا تلتزم بهذه القواعد ووصمُها وتصنيفها في صُوَر "صورة العربيد" "صورة الفاسد" "صورة الخائن" ..
ما يثير الانتباه أيضا في الفرق بين الفكرين اليوناني والمسيحي، هو أن الفكر الديني المسيحي الأخلاقي اكتسى صورة هوسٍ بالجنس، بينما الإغريق لم تثر الحياة الجنسية اهتمامهم بقدر ما أثارَ عنايتهم مسائل أخرى كالغذاء مثلاً، فيما كان اهتمامهم بالجنس مجرد اهتمام فضولي فقط. أما في العصر المسيحي، فتم إيلاء كل الأهمية للجنس، رغم أن المسيحية أولت اهتماما للعناية بالنظام الغذائي في مؤسسة الرهبنة، وتم هناك توازن بين الغذاء والجنس في الاهتمام المسيحي بالذات، "لكن بعد القرن السابع عشر استحوذ الجنس على كل الاهتمام حتى استعمل فوانسوا دوسال الغذاء كتعبير مجازي عن الجنس." [25]
6- بين الجنسانية والأخلاق:
بعد تتبع هذه المسيرة مع ميشيل فوكو، لا بد من طرح سؤال مع فوكو وعلى فوكو: لماذا كان دائما السلوك الجنسي؛ والنشاطات والمتع التي ترتبط به موضوعَ هم أخلاقي؟ لماذا لم تحتل هذه المكانة أمورا أخرى كالعادات الغذائية؟ أو الواجبات المدنية؟ الجواب الذي يتبادر إلى الذهن هو: لأنها محظورات أساسية، وينبغي خرقها بوصفها خطيئةً جسيمة! وهو جواب مستبعد مادامت الأخلاق عادة لا تعنى بالمجالات التي فيها منع أو فرض .. "واذا كان ذلك كذلك، فلماذا إذن وكيف تشكل النشاط الجنسي كميدان أخلاقي؟" [26] في الحقيقة، فهذا النشاط الجنسي يبدو على ضوء الثقافة الرومانية واليونانية الوثنيتين، ذا أهمية خاصة، وحيوية، كـ "فنون للحياة" أي كممارسات رزينة، إرادية، وعقلانية -الى حد ما- لا يحدد الناس بها قواعد التصرف، بل يحاولون بواسطتها -كما رأينا في تعريف الروحانية- تغيير أنفسهم، وكينونتهم الفريدة؛ أي يحولوا حيواتهم من أعمار، إلى تجارب، ومن كائنات حية إلى كائنات تعيش؛ أي من حيوانات إلى بشر.. ثم إلى إنسان. وهذا كله يتوقف على ثقافة الذات، أو تكنولوجيا الذات؛ أي الفنون والوسائل -المطورة محلياً في كل ذات- التي تساعد الإنسان على جعل حياته عملاً فنياً يحمل قيمة جمالية معينة، ويستجيب لمقاييس أسلوب وذوق.
الظاهر أن ميشيل فوكو يأسى، على فقدان هذه التكنولوجيا وهذه الفنون في العناية بالذات وعيش الحياة.. لأهميتها واستقلالها بسبب ارتباطها بالمسيحية، في ممارسة سلطة رعوية ونقاق طهروي...عندما أصبحت الحياة محض نفيٍ للروح وتكفيرا عن خطيئة، وأصبحت الذات تتمسح على أعتاب الكاهن -الذي يحمله نيتشه مسؤولية انحطاط الأخلاق- لتعترف له وتقبل خطابه وسلطته وحقيقته، لقد انتهى الكاهن، وحل محله مؤسسات ووسطاء ذات طابع تربوي، طبي أو سيكولوجي. لكن مع ذلك يبقى الأمل معقوداً على الذات والحياة ما دامتا كذلك. لاستعادة التاريخ الطويل لجماليات الحياة وتقنيات الذات في العناية بذاتها.
7- بين المعرفة والعناية بالذات:
إذا كان الاهتمام بالذات في العصر القديم يونانية ومسيحيه قد أصر دائما على أن بلوغ الحقيقة، لا يمكن أن يتاح الا إذا أجرت الذات تغييراً ذاتيا على نفسها؛ أي اشتغالاً أخلاقيا ونفسيا يجعلها قابلة لمعرفة الحقيقة. وهذا التغيير في الذات هو عملٌ جمالي قبل كل شيء. فإن ديكارت قد أنهى كل هذا التصور بقوله: "لبلوغ الحقيقة يكفي أن تكون أي ذات قادرةً على رؤية ما هو بديهي" [27] بهذه الكلمة تحل البداهة محل الزهد -علاقة مع الذات ومع الآخرين ومع العالم- فلم يعد مهما زهد الذات أو تهذيبها لنفسها لتدخل في تماس مع الحقيقة، إنما يكفي أن تفتح الذات عينها لترى الحقيقة البديهية حتى تقودها إلى الحقائق الأخرى دون أن تضطر الذات إلى التساؤل عن أخلاقها أو درجة جمال هذه الأخلاق. وكان السلوك الأخلاقي ثمنا جادَ به ديكارت ليصل إلى حقيقة عقلية، وهي بما هي كذلك محصورة في العقلاء دون من يوصفون بالجنون، محصورة بالعقل والمعرفة ومستغنية عن الجمال أو الفضيلة. لقد أسس ديكارت ذات المعرفة التي تفكر وتبحث، وتصل إلى الحقيقة غير مكترثة بشكلها الأثيري داخليا أو خارجيا.. وقد فتح هذا نقاشا في عصر الأنوار عن العلاقة بين ذات المعرفة وذات الأخلاق، وعن ملازمة إحداهم للأخرى، فهل معرفة ما هو أخلاقي يجعل من يعرف ذلك أخلاقيا؟ وكان جواب كانط على هذا هو إيجاد ذات إنسانية كونية بوصفها ذاتا للمعرفة، وبما أنها ذاتٌ تتطلب موقفا أخلاقيا يقول كانط: "يجب أن اتعرف على نفسي كذات كونية؛ أي أن أبني ذاتي في كل افعالي باعتباري ذاتا كونيةً عبر الامتثال للقواعد الأخلاقية العقل-العملية الكونية، وهكذا يعيد كانط -حسب فوكو- إدخال الأسئلة القديمة من جديد؛ أي أسئلة بناء الذات والاهتمام بها والعلاقة معها أسئلة عن العودة إلى ممارسة الزهد والحاجة إلى تدريب النفس على الامتثال للعقل العملي، الذي يضمن التصرف بمقتضى الخير.. وهكذا يمكن القول إن كانط عدَل الميْل الذي أتاحه ديكارت بفصله بين العقلانية والأخلاق، وأعاد (كانط) تصوير الذات لا كذات معطاة وجاهزة، بل أيضاً كذات مبنية بالتحرر من نداء "النفس العزيزة" إلى نداء العقل العملي؛ أي مبنية في علاقتها بنفسها كذات. لا تخلو من بعد جمالي أيضاً، عندما يشبه كانط القانون الأخلاقي بقبة السماء المرصعة بالنجوم، وأنهما معاً يثيران نفسه بالمهابة والإعجاب.
وهكذا، فإن الفلسفة الحديثة كانت مترددة بين المعرفة، وبين الذات، بل الفلسفة كلها كانت مطبوعة بهذا التردد، بالعودة إلى عبارة سقراط: "اعرف نفسك بنفسك" يبين فوكو -بنوع من الشجاعة أيضاً- كيف أن هذه العبارة المنسوبة إلى سقراط كانت منقوشةً على رخام جدران معبد دلفي، وتحمل معنى لا علاقة لها بالمعنى الذي حملته في تاريخ الفلسفة؛ إذ تشير إلى التواضع، بدعوة الناسك إلى معرفة نفسه وتذكر قدره في حضرة الآلهة. فهذا المعنى بعيدٌ عن المعنى المقصود في المعرفة كنظام عقلي وخطاب يؤول الحقيقة... بل إن المعنى الأدق والمقصود بعبارة سقراط هو "اهتم بنفسك" يقول فوكو: "لقد أثار سقراط الانتباه، منذ ذلك العهد إلى أن هذا الفن ينبغي أن يخضع قبل كل شيء، للانشغال بالذات، فيذكر في محاورة ألقبيادس أنه ينبغي للمرء أن يعتني بذاته لكي يكون مواطنا صالحاً، وأظن أن هذا الانشغال بالذات أخذ يستقل إلى أن صار غاية في حد ذاته، وقد كان سينيكا يستعجل شيخوخته ليستقيل من تكاليف عبوديته، ويتمكن أخيراً من الاهتمام بذاته." [28] فالاهتمام بالنفس والعلاقة مع الذات هو ما يبرر ويؤطر "معرفة النفس" التي ليست إلا وسيلةً لا غاية. وبهذا التأويل، يمكن التأمل بسخرية في مسار الفلسفة التي سارت دربها كاملاً وراء إشارةٍ خاطئة، ما ظنتها دعوة للمعرفة كانت تنبيهاً على أن على الذات أن تتحمل مسؤولية سياسة نفسها بنفسها، لتصنع لعبة التوازن بين الاستسلام الذاتي للهوى والرغبة، وبين التطويع الخارجي وأساليب القولبة التي تقوم بها السلطة، وبين هذا وذاك يلوح ويظهر إلحاح الحاجة إلى الأخلاق كمشروع مبتكر يتعامل المرء من خلاله مع الحياة كفن؛ ليصبح العيش ممارسة ذوقيةً جمالية وهو ما يدعونا مرة أخرى إلى الإياب إلى أرباب هذا الفن وسادته: الإغريق.
8- النموذج اليوناني: تربية جمالية
ما يلاحظ في كل هذا هو أن أخلاق اليونان كانت تهتم بسلوكياتهم الأخلاقية وعلاقتهم مع ذواتهم ومع الآخرين، أكثر من اهتمامهم بالمشاكل والقضايا الدينية. فلم يدخل في اعتبارهم أسئلة الموت، والآلهة أو ترتبط لديهم بالأخلاق مباشرةً. أما المسيحية فكانت الأخلاق فيها مرتبطةً بنظام مؤسساتي وقمعي واجتماعي اتسم بالإجبار والإرغام، وتمثل صرخة أوغسطين: "أرغموهم على الدخول". لا نجد أي أثر لمثل هذا الأمر عند الإغريق الذين كان غرضهم الكبير إنتاج نوعٍ من الاخلاق بمثابة "علم جمال الوجود". [29]
هذا مع أن فوكو لا يبشر بالأخلاق الإغريقية كحل أو تعويض عن الأخلاق المسيحية أو الحالية؛ "لم تكن حياة الإغريق مطلقة الكمال، ولم يكن العالم القديم عصراً ذهبياً" فليس عصر الإغريق طبعا عصرا ذهبياً ولا وجود أصلا لعصر ذهبي أو فضي.. فالحياة كلها محض صراع لا فرق فيه بين فضل وغيره.
مَن كــان يَطلبُ مِن أيّامِهِ عَجبًا فـلي ثمانونَ عامًــا لا أرى عَجبا
الناسُ كـالناسِ والأيامُ واحدةٌ.. والدّهرُ كالدّهرِ والدنيا لِـمَن غَلَبا.
وإنما الإشارة إلى الأخلاق الإغريقية هي مجرد علامة على الطريق، أو نموذج لشكلٍ من أشكال ما ينبغي احتذاؤه والاقتداء به أي الاهتمام بالذات؛ ذلك أن النموذج اليوناني نفسه يحتوي خطاباتٍ تحريمية وتحذيرية من الجنس؛ فالخطاب الطبي مع أبقراط اعتبر العملية الجنسية متضمنة لخطر ما لدرجة أنه حدد القيام بها في فصول من السنة دون غيرها وفي أو قات محددة دون سواها. "...ومع ذلك، فإنها لا تزال تبدو اقتراحاً مضادًّا مغرياً في مواجهة تحليل المسيحيين المستمر لذواتهم" [30] فنحن نبقي مع اليونان إذا؛ أمام تجربة أخلاقية استتبعت تأكيداً شديداً على اللذة واستعمالها. وهذا ما حرمت منه الثقافة المسيحية الناس، ثم الثقافة المسيحية-العلمانية مع كانط، ولم يتغير بعد ذلك إلا أن الطبيب والمحلل النفسي، أصبح يجلس مكان القس والراهب ليطهر "مرضى الروح" الخارجين عن النسق، بل إن هذا الاهتمام بالحقبة اليونانية لا يفيد فقط من ناحية استلهام التجربة التاريخية والإنسانية في العناية بالذات، بل يعين أيضاً على "عمل أشكلةٍ دائمة" فليس بحث فوكو هنا عن حل أو مخرج، بل هو بحث عن مشكلة تم تغييبها وتهميشها من البحث الفلسفي تاريخيا...فهدف الفكر حسب ميشيل فوكو ليس السعي وراء إصلاح المؤسسات والقوانين، بل مجرد "إعادة تناول الطريقة التي يؤشكل الناس بها سلوكهم" [30] وهذه العملية في إعادة الطرح الإشكالي للأمور ليست تأجيلا للإصلاح أو مشاغلةً عنه، بل هي إشعال للإصلاح وتأجيجٌ له، فالواقع صلبٌ جدًّا، وأشكلته هو زعزعته بكيفية فكرية تبشر بأشياء أخرى تليه...وهذه العملية كلها يجب أن تتم بواقعية وبرود وليس بحرارة أو تفاؤل ما دمنا نعلم أنه لا مكان لحل نهائي أو حقيقة قادمة، أو خلاص منتظر على العكس من ذلك يخبرنا فوكو: "إن تفاؤل الفكر، هو أن يعرف بألا وجودَ لعصرٍ ذهبي" [30]
9- حياتُنَا كعملٍ فني:
وفي سياق هذا الإعجاب بالأخلاق الإغريقية، يعرج فوكو على مسألة الفن متسائلا عن "لم لم تعد له علاقةٌ بغير الأشياء؟ وأين علاقة الفن بالأفراد وبالحياة؟" يعيب فوكو على الفن الحديث طابعه التخصصي واحتكار الفنانين له، "أفلا يمكن أن تكون حياة كل فردٍ عملاً فنيا؟ وإلا فلماذا تكون الشجرة أو البيت موضوعات فنية في حين أن حياتنا أجدر بذلك وأولى به." [31]
يرفض فوكو فكرة سارتر عن الذات بكونها نظرية، وموضوع أصالة مطابقة لنفسها، في حين أنها سيل متدفق. لذلك، فإن العلاقة مع الذات يجب وصفها بحسب تعددات الأشكال، حيث أصالة الذات شكل واحد فقط. لذلك، فان هذه العلاقة هي ممارسة تمتلك نماذج وتستبدلها وكأنها عملية بناء وهدم وترميم، يقول فوكو: "إن ممارسة الذات ميدان معقد ومتنوع" أقرب ما يكون هذا القول إلى قول نيتشه: "يجب أن يعطي الإنسان لحياته، أسلوباً: كلفته تمرنٌ صبور وعملٌ دؤوب" [32]
وهذا العمل الدؤوب المطلوب من كل ذات القيام به، يشابه العمل الدؤوب الذي قام به فوكو في مشاريعه الثلاثة حفراً عن مفهوم الذات في علاقتها بالحقيقة في الرف الإبستمولوجي، وفي علاقتها بأحد الوان السلطة، وأخيراً بأنطولوجيا تاريخية لعلاقة الذات بالأخلاق، وهي أقرب إلى تاريخٍ ما للأخلاق، دون أن تكون نظرية أخلاقية في الواجب؛ فيبقى الواجب الوحيد الذي تضعه هو الاهتمام بالذات، والدعوة إلى أن هذه العلاقة مع الذات يجب تأسيسها، لكن تأسيسها ليس على العقل كما ذهب إلى ذلك كانط، بل على العواطف فكل ما يمكن الوصول إليه من أخلاق بالنسبة إلى فوكو لن يكون إلا شكلاً من أشكال تدبير الرغبة، في إطار العلاقة مع الذات.
وهذا يرتكز بشكل أساسي على الغائية الأخلاقية؛ أي سؤال: "ما نوع الوجود الذي نريد أن نكون عليه، ونحن نتصرف تصرفا أخلاقيا؟" قد يكون الجواب المسيحي هو أن نكون خالدين أو أطهاراً، أو أسيادا لأنفسنا بلغة رواقية، أو جديرين بالسعادة بالنسبة إلى كانط. أما بالنسبة إلى فوكو، فإن الجواب إننا نريد عيش حياة جميلة بأسلوب فني هو جواب كافٍ لتحديد أي أخلاق يجب اقتفاؤها. فالجوهر الخلفي للحياة، وللعلاقة مع الذات حسب ميشيل فوكو هو أحد ثلاثة: إما "قانون إلهي أو حي به في نص من النصوص، أو قانون طبيعي يظل هو نفسه في كل حالة وبالنسبة إلى كل كائن حي، أو هو مبدأ جمالي للوجود." [33] فالأول ميدانه الدين، وهو خلاصة التجربة المسيحية، والثاني مبدؤه العلم، وهو الأقرب إلى عصرنا هذا ذو الطبيعة العلمية الطبية-السيكولوجية. أما الثالث بميدانه السمعة والذكر، والأسلوب الفني في العيش وهذا عماد الفلسفة بحسبانها فنا للعيش كما كانت عند الإغريق، والأغلب أن هذا الجوهر الخلقي الجمالي هو الأحظى لدى فلسفة ميشيل فوكو.
خاتمة:
انتبه فوكو إلى الدور الذي قام به ديكارت في سياق خطاب الفلسفة الحديثة، في اتخاذ قرار تعيين الولوج إلى الحقيقة على أنها لا تحتاج إلا المعرفة، والمعرفة وحدها. فلم يعد مطلوباً أن ننظر إلى أنفسنا أو نجري على ذاتنا أي تغيير، ودخل الإنسان في اللحظة الحديثة عصر الهوس بالحقيقة بأقصى وأقسى مما كان عليه الأمر في العصور السابقة؛ و"منذ اللحظة التي لم تعد فيها كينونة الذات في موضع سؤال، بسبب إلحاح الولوج إلى الحقيقة" دخل الإنسان عصراً آخر من تاريخ العلاقة بين الذاتية والحقيقة، عصراً سلبت هذه الحقيقة لبه وسرقت نفسه، إلى الحد الذي نسِي فيه ذاته (آرنت) ونسي وجوده (هايدغر)، حتى سار يطلب حقيقة نفسه عندما أصبح الإنسان موضوعاً للمعرفة، وحدث له مثل نرسيس الذي بشدة نظره إلى لوحة وجهه في الماء نسي نفسه ثم مات (موت الإنسان). هكذا، فالحقيقة التي طالما سعى الإنسان في طلبها "وكما سوف تكون منذ الآن، فإنها لم تعد قادرةً على إنقاذ الذات".
قائمة المصادر - الفصل الثاني:
[16] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الإختلاف، طبعة 2006، ص 105
[17] نفسه، ص73
[18] نفسه، ص 81
[19] نفسه، ص 74
[20] ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية: استعمال المتع، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق 2004، ص18
[21] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشووات الإختلاف، طبعة 2006، ص81
[22] ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية: الإنشغال بالذات، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق 2004، ص14
[23] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الإختلاف، طبعة 2006، ص87
[24] ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية: استعمال المتع، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق 2004، ص 17
[25] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الإختلاف، طبعة 2006، ص64
[26] ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية: استعمال المتع، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق 2004، ص11
[27] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الإختلاف، طبعة 2006، ص97
[28] نفسه، ص 74
[29] نفسه، ص 64
[30] نفسه، ص68
[31] ميشال فوكو، هم الحقيقة، ترجمة مصطفى المسناوي، منشورات الإختلاف، طبعة 2006، ص 76
[32] نفسه، ص77
[33] نفسه، ص80