هوس الهُوية من تداعيات العجز السياسي
فئة : مقالات
يُولّد التمازج الثقافي حالة من القلق لدى المرء الذي ما يزال يشك في متانة مقومات هويته، وتؤدي وضعية الهجانة، بالمعنى الثقافي، إلى نوع من عدم الاطمئنان إلى الصور الذاتية التي يرنو العربي والمسلم إلى التقدم بها إلى العالم؛ لكن، هل يعثر المرء، على طول الجغرافيا العربية، على مشروع سياسي يواجه هذه الحالة بشجاعة، ويتحمل مسؤولية هذا الوجود المختلط؟
يبدو أن "هوس الهوية" الذي لا تكف الخطابات العربية والإسلامية المعاصرة عن صياغته، يمثل عرضًا من أعراض الفشل السياسي في مجتمعاتنا؛ فهو يعبر عن ذاته من خلال الخوف الدفين على أن نصبح ما لسنا نحن؛ أي أن العربي، أو المسلم يجد نفسه أمام المأزق التالي: فهو مقتنع بأنه يتعين عليه أن يحافظ على مقومات الذات، ولكنه، في نفس الآن، مضطر إلى أن يتغير؛ إلا أنه إذا رغب في المحافظة على ذاته، كما هو، فإنه مرغم على الفقدان، وإذا تغير فإنه يخاطر، أيضاً، بضياع تفاصيل مكوناته. يتعلق الأمر ب "قلق عربي إسلامي"، وهو قلق راجع إلى المحاولات الدائمة والمتجددة للانتقاص من العقل، إن لم نقل لاغتياله، أو ب "نظرة مبتورة" كما يُسميّها داريوش شايغان، تعمل على تمرير آليات الانسداد والتشذر التي تشوش على تمثل الأشياء. وهكذا تعبر هذه الحالة عن تردد بين الذات وذاتها؛ وسواء كان الأمر مجرد قلق أو بتر حقيقي، سؤال حيوي أو ذريعة، فإن جدل الهوية يتحقق، دومًا، في التوتر، ويغتني في/ وبالصراع، وبقدر ما أتبرم من الاعتقادات والتقاليد وأنماط السلوك التي لم أخترها، كلما ارتبطت بالهُنا والآن، بذاكرتي وبمحيطي الثقافي، بالرموز التي تحددني في المكان والزمان، وتفرض الهوية تفاصيلها حين يتدخل المرء في الحاضر ويبدع، حين يتحقق ويتذوَّت.
من هذا المنطلق، تتساوى كل المرجعيات والمتون والتجارب والنماذج أمام مساحة الوعي، لأن الاختيار، في هذه الحالة، لا يتم على قاعدة الانتماء العرقي أو الإثني أو الديني، وإنما استنادًا إلى أسس فكرية وإلى اعتبارات جمالية. وسيكون من الوهم الاعتقاد في أن حسن الإرادة والتسامح والفضول يكفي لكي يتأسس انفتاح ما على المغايرة، لأن قبول الآخر، في اختلافه، بعيد كل البعد عن أن يعبر عن موقف عفوي؛ إنه، في أكثر الأحوال، نتاج مسار صعب يمر عبر الوعي اليقظ بالنزعة المتمركزة حول العرق الثاوية في نظرتنا إلى الآخر.
يغدو التثاقف على هذا صعيد تفاعله مع سؤال الهوية انفتاحًا ورهانًا في الآن نفسه، لأنه يقترح علينا نمطًا من التواصل يتجاوز المسبقات والصور النمطية للثقافات الأصلية؛ وإذا كان التثاقف يفترض فكرة التداخل العلائقي والتبادل بين الثقافات المختلفة، فإن هويتي الثقافية، في تعبيراتها المتعالية الخالصة، تكثيف لتخيّل محض. فالعالم الذي نشهد على ولادته، بفضل الاندفاعة التواصلية العارمة ذات الطبيعة التثاقفية، بالرغم منَّا أحيانًا، لا يمثل القرية التي سبق لمارشال ماكلوهان أن تحدث عنها، لأن حركة الأجساد وهجرة الرموز وضخ الصور يعزز الوعي بالمغايرة. وسواء تعلق الأمر بحوض الأبيض المتوسط أو بالعالم في مجمله، فإن الثقافات غير الغربية، كما تقدم نفسها سياسيًا في الوقت الراهن، تعبر عن ردود أفعال لهويات قلقة إزاء الاجتياح الكاسح للعولمة، أو للمظاهر الجديدة من العنف والإذلال.
يبرز هذا النوع من الاستجابات، في كل مرة، يحاول نمط من التراتب الانتقاصي للثقافات أن يفرض إرادته الاستثنائية للقوة؛ إذ لا شيء يمكن أن يدعي الحياد، بما فيها بعض الخطابات عن التسامح أو التثاقف أو طهارة الهوية، بل وحتى العولمة الجارفة أو الادعاء التواصلي المغري. ذلك أن التثاقف كثيرًا ما يخضع لرهان علاقات القوى. هنا يغدو خطاب الهوية ملتبسًا، بل ومحاصرًا بحسابات لا حصر لها. ففي الوقت الذي تتحرك فيه الآلة الجهنمية للعولمة، بتجلياتها المالية والافتراضية، يواجه العالم، ولاسيما أكثر المناطق هشاشة فيه، ومنها المنطقة العربية، حالات انفجار واهتزاز، وأنماطًا من سوء التفاهم، صعبة التحديد أحيانا، على صعيد أعلى مستويات ما يدعى بالتواصل.
يتقدم التثاقف، في الواقع، باعتباره سؤالاً للفكر واندفاعة حيوية، يمثل رهانًا للعلاقات التذاوتية وتحديًا ثقافيًا. يورط العقلاني في المتخيل ويسمح لتعبيرات المتخيل بالحضور في تدرجات الوعي. لذلك تتعقد مهمة الفكر حين يحاول المرء استثمار الثقافات وأنظمة القيم التي تحركها في سياق المناقشة. وبغض النظر عن ظواهر الاستعمار المختلفة والهجرة والتمازج والاختلاط، فإن التواصل التثاقفي يفترض، أولا وقبل كل شيء، تدخل أفراد أو أشخاص قادرين على تبليغ النظام الرمزي والتخيلي لثقافتهم عبر أجسادهم ولغاتهم وأنماط حضورهم. ويغدو المعيش الفردي، في الفاعلية التثاقفية، حاسمًا في كل تواصل، بل وفي كل "أخلاقية تواصلية"؛ وهكذا إذا كان التثاقف يظهر، في اللحظة الراهنة، بوصفه أفقًا للفكر وانفتاحًا على العالم، فلأن الأبعاد الأخلاقية والجمالية تمثل مطلبًا ملحًا لإعادة التفكير في ما هو إنساني، خارج كل إرادة متغطرسة للقوة أو نزعة إنسانية ساذجة. فنحن نعيش في عالم أصبح فيه التمازج الثقافي واقعًا أكيدًا، يضطر فيه المرء أن يحوز أكثر من أداة مفهومية، وأن يحضر في أكثر من مستوى في الآن نفسه، وأن يمتلك شبكات معرفية متعددة؛ فالتمازج الثقافي هو الاعتراف الفعلي بالآخر فينا، لذلك حين أكون في حالة اطمئنان إلى هويتي حينذاك أقدر على المغامرة بعرضها على التواصل بكل ما يفترض من إمكانية مساءلتها وخلخلتها، وتعديل بعض تفاصيلها.
فالتثاقف، باعتباره رهانًا وانفتاحًا، والهوية بوصفها تحديًا وقلقًا، في تجلياتها التواصلية أو التراجيدية، يمثلان موضوعًا للتساؤل بقدر ما يشكلان فضيحة، ذلك أن التثاقفية يمكن أن تتقدم كأفق خارج كل تراتبية متغطرسة، كما يمكن للهوية أن تستقبل الآخر خارج كل هوس مطمئن؛ والاعتراف بالآخر، باعتباره شبيهًا ومختلفًا، يحفز المرء على التوفيق، بل على التفاوض، بما يستدعيه من تبادل وأخذ ورد ومراعاة توازن العلاقات؛ فالتوفيق والتفاوض بُعدان محددان للمقتضيات التواصلية للنظام الثقافي. للنقد موقعه ولاشك، وللاحتجاج دوره الأكيد، غير أن التثاقفية لا يمكن ترجمتها في واقع بعينها أو إلى معيش محدد إلا بفضل أخلاق حقيقية للتسامح؛ غير أن المشكل الذي يعترضنا في هذا السياق، من طبيعة مزدوجة؛ ذلك أن استقبال الآخر يمكن أن يتم بفضل منطق تواصلي واضح، لكن داخل إطار تعددي- والتعدد يصعب ضبطه مفهوميًا في كثير من الأحيان- ومن جهة أخرى يضعنا مبدأ التوفيق أو التسامح، في موقع معياري محرج، لأنه سيجنبنا مواجهة سؤال التعدد المعقد ويرمي بنا داخل لغة البديهيات وحسن النوايا. وذلك ما لا يستجيب لمطلب الفكر النقدي، لذلك فإن مقاربة تثاقفية نقدية يقظة وحدها، يمكن أن تشكل أفقًا للتفكير في الهوية، في تعبيراتها الجمعية والتواصلية، أو في لحظات انسدادها وتوترها.