هوية الذات في العالم الافتراضي
فئة : مقالات
هوية الذات في العالم الافتراضي
على سبيل البدء:
يشير الواقع إلى كل ما هو ملموس وموجود في العالم المادي، حيث يتضمن الأشياء والأشخاص والأماكن والأحداث وما إلى ذلك؛ فالواقع هو ما ندركه بحواسنا وما له وجود مادي. أما الافتراضي، فيحيل على محاكاة أو تمثيل رقمي للواقع، والذي يمكن الوصول إليه من خلال أجهزة الكمبيوتر، حيث يتم إنشاء هذا العالم باستخدام تقنيات الحوسبة الرسومية والواقع الافتراضي والزمن الحقيقي والتصورات الثلاثية الأبعاد وغيرها من التقنيات، ما يتيح للأشخاص التفاعل مع هذه البيئة الرقمية.
ويُستخدم مصطلح العالم الافتراضي (Virtual Reality) لوصف تقنية تسمح للأفراد بالانغماس في بيئة محاكاة ثلاثية الأبعاد، تُشبه الواقع بشكل كبير، وعادة ما يتم ذلك باستخدام أجهزة خاصة تشمل نظارات (VR Virtual Reality Headsets) وأجهزة تتبع الحركة، بالإضافة إلى برامج وتطبيقات تكنولوجيا المعلومات. وعند ارتداء نظارات (VR) وتشغيل التطبيقات المناسبة، يشعر الأفراد بأنهم داخل عالم افتراضي، حيث يمكنهم التفاعل مع العناصر والأشياء داخل هذا العالم بوسائل مختلفة، مثل استخدام وحدات تحكم أو حركات رأسهم وأيديهم، ويتيح لهم هذا العالم (الافتراضي) تجربة واقعية للألعاب الإلكترونية، كما يمكن استخدامه في مجموعة متنوعة من التطبيقات والصناعات مثل التعليم والتدريب والطب والهندسة والتصميم والترفيه.
ويجدر التنبيه إلى أن الخط الفاصل بين الواقعي والافتراضي قد يصبح غير واضح في بعض الأحيان، خاصة مع تقدم تقنيات الواقع الافتراضي؛ ففي بيئة هذا الواقع، يمكن للمستخدمين أن يشعروا وكأنهم يتفاعلون مع الكائنات الافتراضية بطريقة واقعية للغاية، على الرغم من أن هذه الكائنات ليس لها وجود مادي. الأمر الذي يضعنا أمام ازدواجية تتموقع فيها الذات بين عالمين؛ واقعي وافتراضي. فالهوية الافتراضية قد تؤثر على الذات الحقيقية؛ وذلك من خلال تأثيرها على السلوك والتفكير والشعور بالانتماء. ويمكن أن يؤدي استخدام الهوية الافتراضية المتخفية إلى تشويه الصورة الحقيقية للذات وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية[1].
أما مفهوم الذات، فيشير إلى الإدراك ووعي الفرد الشخصي لنفسه؛ إذ به يحدد هويته وقيمه من خلال معايير نحددها في الآتي:
- الهوية: وهي الطريقة التي يرى بها الشخص نفسه فيما يتعلق بمن هو، من خلال الجنس والعرق والدين، والثقافة.
- الصفات الشخصية: وتشمل كل ما يعتقده الفرد عن نفسه، مثل الذكاء والعطف والشجاعة والكرم، وما إلى ذلك.
- القيم والمعتقدات: والتي تشكل جزءًا مهمًّا للذات مما هو أخلاقي وديني واجتماعي.
- الأدوار الاجتماعية: وهي التي يلعبها الشخص في المجتمع، مثل دور الأب أو الابن أو الزوج أو الصديق، وما إلى ذلك.
- الخبرات الشخصية: وهي التي تمثل دورًا مهما في تشكيل مفهوم الذات، انطلاقا من الأحداث والتجارب التي يمرّ بها الشخص، والتي تؤثر على كيفية رؤيته لنفسه.
انطلاقا مما تقدم، نتساءل هل تحافظ الذات كذات حقيقية على مثل هذه المعايير أثناء انخراطها في العالم الافتراضي؟ وهل تظل محافظة على أصالتها في هذا العالم، أم تتخلى عن أصالتها وتتحول إلى ذات مزيفة؟ ما الغاية من هذا التحول وما آثاره على الفرد والمجتمع؟
1- الذات بين الحقيقة والتخفي
الذات الحقيقية والذات المتخفية مفهومان يرتبطان بطريقة تصور الفرد لنفسه وتفاعله مع العالم من حوله، سواء في العالم الواقعي أو في العالم الافتراضي.
أ- الذات الحقيقية
تعبر الذات الحقيقية عن الشخصية والهوية الحقيقية للفرد في العالم الافتراضي، ويتمثل ذلك في عدم تغيير الفرد لشخصيته أو هويته حتى تناسب ذاته توقعات الآخرين؛ وذلك بالحرص على مشاركة الأفكار والاهتمامات الشخصية والرأي الخاص به بصدق وصراحة، قصد بناء علاقات حقيقية ومستدامة مع الآخرين؛ أي إنه يظل صادقاً مع نفسه ويعبر عن شخصيته وقيمه الحقيقية على الإنترنت؛ إذ يتصرف في العالم الافتراضي بالطريقة نفسها التي يتصرف بها في العالم الحقيقي، صريحاً في مشاعره وآرائه ويتفاعل مع الآخرين بإخلاص واحترام دون المساس بمشاعره أو مشاعر الآخرين.
إن الذات الحقيقية هي النسخة الحقيقية والنزيهة لشخصية الفرد. وبالتالي، فإن الأفراد في العالم الافتراضي، يحافظون على ذواتهم الأصيلية، عندما يتصرفون ويتفاعلون على الإنترنت بنفس الطريقة في العالم الواقعي، يعبرون عن آرائهم ومشاعرهم الحقيقية دون تزييف؛ وذلك بغية الحفاظ على القيم والمعتقدات والهويات التي يتمتعون بها في عالمهم الواقعي، إيماناً منهم أن معايير الثقة والصدق هي أمور مهمة في بناء علاقات صحيحة ومستدامة في العالم الافتراضي.
ب- الذات المتخفية:
هي السلوك الخاطئ المستمر الذي يمارس على شبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ يغير الشخص في الذات المتخفية من حقيقته ويتخلى عن هويته، ويظهر بطريقة تختلف عن شخصيته الحقيقية، لمقصد يقصده أو لغاية تشد انتباه الآخرين؛ إذ يقوم بصناعة شخصية افتراضية أو يُظهر نفسه بشكل مثالي دون الكشف عن الجوانب الحقيقية أو نقاط الضعف في شخصيته الحقيقية؛ وذلك بإخفاء هويته الحقيقية وتقديم صورة مزيفة عنه بتقديم معلومات كاذبة، ما يؤدي إلى بناء علاقات مؤقتة وغير صادقة؛ لأن صاحبها لم يكشف عن ذاته الحقيقية، ويجعل من نفسه غولما[2] بعد تخليه عن ذاته الحقيقية وارتمائه في عالم الزيف والاغتراب حسب تعبير إريك فروم.
والذات المتخفية هي تلك الشخصية التي يتبناها الأفراد على الإنترنت، قصد النصب والاحتيال على بعض الناس، أو محاولة العبث أو التلاعب بالآخرين، أو التنمر والتحرش، أو نشر إشاعات كاذبة، وما إلى ذلك من السلوكيات المنافية للأخلاق والمتعارضة مع القيم الإنسانية النبيلة؛ وذلك باستخدام أسماء مستعارة أو معلومات زائفة على وسائل التواصل الاجتماعي أو المنتديات أو غيرها من المنصات الرقمية، ما يعود بآثار سلبية تتسبب فيها الشخصية المتخفية، حيث تضر بأشخاص آخرين أو مؤسسات، وفي هذا الباب وجب أخذ الحيطة والحذر لحظة التفاعل مع الآخرين في العالم الافتراضي. وبخلاف ذلك، قد تكون للشخص في هذا التخفي غاية أخرى، مثل حماية معلوماته الشخصية والتخلص من بعض الضغوط الواقعية.
2- آثار الذات المتخفية في العالم الافتراضي:
تشير الذات المتخفية كما سبقت الإشارة إلى الشخصية أو الهوية التي يقوم الأفراد بإنشائها وتمثيلها في العالم الافتراضي بطرائق مختلفة يختلفون بها عمّا هم عليه في العالم الواقعي. وقد يكون للذات المتخفية آثار سلبية وأخرى إيجابية في العالم الافتراضي، والتي يمكن عرضها بالشكل التالي:
أ- الآثار السلبية:
- الثقة: عندما يقوم الأفراد بإنشاء شخصيات زائفة في العالم الافتراضي، يصعب عليهم بناء علاقات حقيقية ومستدامة بسبب غياب الثقة التي تضمن الاستمرار في تمتين العلاقات.
- التلاعب والعدوانية: يمكن للأشخاص الذين يختبئون وراء ذوات زائفة، أن يتلاعبوا بالآخرين أو يقوموا بسلوك عدواني أو تحرشي أو احتيالي دون مواجهة العواقب الواقعية.
- الصداقات والعلاقات: يمكن أن يؤدي استخدام الذات المتخفية إلى انهيار الصداقات والعلاقات، عندما يتم الكشف عن هويات حقيقية مختلفة.
ب- الإيجابيات:
- يمكن استخدام الذات المتخفية لحماية الخصوصية ومنع مشاركة المعلومات الشخصية مع الغرباء في العالم الافتراضي.
- يمكن للأشخاص استخدام ذوات زائفة للاستمتاع بتجارب جديدة أو تعلم أشياء أخرى دون الخوف من التقييدات الاجتماعية.
- يمكن للأشخاص استخدام العالم الافتراضي كمكان للهروب من الضغوط والمسؤوليات في الحياة الواقعية.
3- علاقة الذات بالآخر في العالم الافتراضي:
تلعب التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًّا في تشكيل علاقة الذات بالآخر في العالم الافتراضي؛ تعكس تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض ومع البيئة الافتراضية عبر وسائل التكنولوجيا والإنترنت، والتي يمكن للأفراد الاستفادة منها لبناء علاقات جديدة قصد التواصل مع من حولهم، بكل حيطة وحذر لضمان تجربة افتراضية إيجابية وصحية تضمن الاستمرارية بين الذات والآخر.
وفي هذا السياق، يمكن للذات أن تتعامل مع الآخر بعدة طرائق، تأتي كالآتي:
- يمكن للأفراد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والمنتديات على الإنترنت، التفاعل وبناء علاقات افتراضية، تمكنهم من مشاركة أفكارهم وتجاربهم والتفاعل مع محتوى الآخرين.
- تقدم الألعاب عبر الإنترنت فرصة للتفاعل مع لاعبين آخرين من مختلف أنحاء العالم، ويمكن للأفراد بناء صداقات افتراضية والتعاون مع الآخرين في سياق الألعاب الإلكترونية.
- يمكن للأفراد في البيئة الافتراضية، التعلم وتطوير مهاراتهم من خلال دورات الإنترنت والتعلم عن بعد؛ وذلك عبر تواصلهم مع مدرسيهم وزملائهم على الإنترنت.
- مع انتشار العمل عن بعد، يمكن للأفراد التعاون مع زملائهم وزبائنهم من خلال الإنترنت والأدوات الرقمية، وهو ما يؤدي إلى بناء علاقات مهنية افتراضية.
- قد يكون للتواصل عبر الإنترنت تأثير إيجابي على الذات في علاقتها بالآخرين؛ إذ يجب على الأفراد مراقبة استخدامهم للإنترنت وضبط التواصل الافتراضي حتى يكون صحيًا وذا أثر إيجابي على النفس.
- على الرغم من أن العلاقات في العالم الافتراضي قد تكون أقل حضورا من العلاقات الواقعية، إلا أنها ما تزال تسمح بالتعبير عن أحاسيس ومشاعر المتواصلين.
- قد تواجه علاقات الذات بالآخر في العالم الافتراضي تحديات مثل النقاشات المثيرة للجدل، والتنمر عبر الإنترنت، أو التحديات الأمنية والخصوصية.
4- الاغتراب الذاتي في العالم الافتراضي:
قد يكون الاغتراب الذاتي في العالم الافتراضي ضارًّا، إذا أدى إلى تراجع التواصل الاجتماعي والعاطفي في العالم الواقعي، والتفاعل مع الأشياء والأفراد في العالم الرقمي أو الافتراضي، وهو ما يتسبب في مشاكل صحية نفسية مثل الاكتئاب والقلق، وبالتالي يعيش الفرد اغترابا ذاتيا، لأسباب منها:
- يقضي الأفراد وقتًا طويلًا على وسائل التواصل الاجتماعي مثل Facebook وInstagram دون التفاعل مع الأشخاص في الواقع، ما يؤدي إلى انعزال اجتماعي، ثم اغتراب ذاتي.
- الألعاب الإلكترونية: يقضي بعض الأشخاص أوقاتا ممتعة في الألعاب عبر الإنترنت والعوالم الافتراضية، ما يقودهم إلى الوقوع في الإدمان عليها، وهم يتجاهلون التفاعل مع الواقع.
- العزلة الاجتماعية: عندما يقضي الأفراد وقتاً طويلاً في العوالم الافتراضية دون التفاعل الكافي مع الواقع الحقيقي أو الأشخاص الحقيقيين، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الشعور بالعزلة الاجتماعية.
- يستهلك الانخراط المفرط في العوالم الافتراضية والتكنولوجيا الرقمية الوقت الذي يمكن أن يكون مخصصاً لأنشطة أخرى مهمة في الواقع الحقيقي، مما يؤدي إلى الشعور بالانفصال عن الواقع.
لذا، من المهم العثور على التوازن بين العالمين الواقعي والافتراضي، والحفاظ على علاقات اجتماعية صحية في تفاعل إيجابي مع الأشخاص في الحياة اليومية؛ فتجربة الواقع الافتراضي يمكن أن تكون مثيرة وملهمة، ولكن قد تؤدي أيضاً إلى الاغتراب، إذا لم يتم التوازن بين الاستخدام الصحيح للتكنولوجيا والتفاعل مع الواقع الحقيقي، وهذا لا يمكن تحقيقه ما لم يسع الفرد إلى تخلصه من الاعتماد الزائد على التكنولوجيا الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي في حياته. فالفرد مطالب بالاعتدال في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؛ وذلك عبر تحديد وقت معين للعالم الافتراضي، وقضاء وقت كبير خارجه كالتنزه في الطبيعة، وممارسة الرياضة، والقراءة، أو القيام بأي نشاط آخر يتيح للفرد التخلص من الاعتماد الزائد في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية، كما يساعد التواصل الحقيقي مع الأشخاص في العالم الواقعي؛ كالاجتماع مع الأصدقاء والعائلة والمشاركة في الفعاليات الاجتماعية على تعزيز الروابط الاجتماعية التي تقصي الاغتراب الذاتي.
خاتمة:
نخلص مما تقدم إلى أن الذات الحقيقية في العالم الافتراضي هي تلك الذات التي تشير إلى الهوية الافتراضية التي تعكس الذات الأصيلة للفرد، وتتمثل في السلوك والتفكير والشعور بالانتماء. أما الذات المتخفية في العالم الافتراضي، فتشير إلى الهوية الافتراضية التي تختلف عن الذات الحقيقية للفرد، وتتمثل في استخدام هويات افتراضية مزيفة أو غير صحيحة، ويؤدي استخدام الهوية الافتراضية المتخفية إلى تشويه الصورة الحقيقية للذات وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية، بينما يؤدي استخدام الهوية الافتراضية الحقيقية إلى تعزيز الثقة بالنفس والانتماء إلى مجتمعات افتراضية. لذلك، يمكن لكل شخص أن يعتمد على اختياره الشخصي بين تجسيد الذات الحقيقية أو المتخفية في العالم الافتراضي، وما يقرره يمكن أن يؤثر على تجربته الافتراضية وعلاقاته مع الآخرين؛ فالعالم الافتراضي يقدم مجموعة متنوعة من الفرص للأفراد لبناء وتطوير العلاقات مع الآخرين، ولكنها تتضمن أيضاً تحديات واحتمالات للتفاعلات السلبية، ومن المهم دائماً ممارسة الوعي والاحترام والأمان في التفاعلات مع العالم الرقمي، تماماً كما يجب عمل ذلك في العالم الواقعي؛ إذ يجب على الأفراد الحفاظ على التوازن بين ذواتهم في العالم الرقمي وذواتهم الواقعية، وأن يكونوا على دراية بأن العالم الافتراضي لا يمكن أن يحل محل الاحتكام الشخصي والتواصل الواقعي. ومن جهة أخرى، من المهم مراعاة استخدام الذات المتخفية بكل مسؤولية في العالم الافتراضي مع ضرورة التعامل مع الآخرين بكرامة واحترام بغض النظر عن هويتهم.
ويتطلب التحرر من هيمنة العالم الافتراضي القرار الشخصي والانضباط الذاتي، والذي يمكن تحقيقه بتوازن جيّد بين استخدام التكنولوجيا والاستفادة منها، وبين الحفاظ على جودة الحياة في العالم الواقعي. ولا ننسى أن للوعي والتربية والتوجيه دورا بارزا في اتخاذ القرارات المناسبة.
[1]- رقمنة الذات وإشكالية اغتراب الهويات في الفضاء السيبراني، على الرابط. https: //www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/289/9/1/226306
[2]- يعرف الغولم أو الغوليم أو الغولام في التقاليد اليهودية، على أنه مخلوق عن طريق السحر من مادة غير حية وأحياناً من أعضاء جسم إنسان ميت، وفي الأغلب تتم صناعته لخدمة صانعه.
