وجوه وأمكنة
فئة : حوارات
وجوه وأمكنة...[1]
في إخراجات مشهديَّة ليلى العلوي[2]
من إنجاز: الدكتور فريد الزاهي
ترجمة: سعيد بن الهاني
"الوجه حاضر في رفضه أن يكون محتوى"
إيمانويل ليفيناس، الكليَّة واللانهائي، ص 211
مقدّمة:
توفيت المصوّرة الفوتوغرافيَّة المغربيَّة ليلى العلوي إثر جروح أصيبت بها جرَّاء الهجوم الذي شنَّته جماعة إرهابيَّة، وتبنَّاه تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، يوم الاثنين 18 يناير (كانون الثاني) 2016، في "واغادوغو" Ouagadougou. وقع الهجوم، بينما ليلى العلوي موجودة في باحة مقهى كابتشينو Capuccino، وهي اللحظة التي استهدف فيها الهجوم فندق "سبلونديد" Splendid. رصاصات طائشة أنهت حياة فنانة قديرة، لم تنجح معها العمليَّة الجراحيَّة التي أجريت لها في إحدى عيادات العاصمة لإنقاذها، فكانت السكتة القلبيَّة. وجودها في واغادوغو مرتبط بمهمَّة أوكلتها لها منظمة العفو الدوليَّة لحقوق الإنسان "أمنيستي"، لإنجاز روبورتاج ببوركينا فاسو.
شيّعت جنازتها في مراكش في موكب جنائزي إلى مثواها الأخير بمقبرة الإمام السهيلي، حيث ووريت الثرى. هل كانت تستحقّ شيئاً آخر غير الحياة التي كانت تحبُّها؟
فنانة موهوبة درست علم الاجتماع والتصوير الفوتوغرافي في نيويورك، ممَّا سينعكس على أسلوبها الذي سيتَّخذ بصمة خاصَّة به.
قال عنها الناقد فريد الزَّاهي في عموده الفني بجريدة العربي الجديد: "تحوّل الألم والمعاناة إلى أنفة وسمو وجمال وجلال؛ ذلك هو السّحر الذي كانت تطبعه ليلى العلوي على كائناتها، تتملّكها وتضفي عليها روعة، تجعل تلك الوجوه والكيانات رموزاً لشيء يتجاوزها". إنجازاتها الجماليَّة كبيرة، جعلت فنانين كباراً يبكون بحرقة على فقدها. قال عنها الطاهر بنجلون: "...لا موهبتها ولا ذكاؤها ولا حساسيتها ولا جمالها كانت حماية لها. ليلى العلوي الفنانة المولعة بفنّها، التي كانت تعرف كيف تكشف عن الواقع خلف المظهر، وكيف تبرز روعة جسد خلف حجاب الأحكام المسبقة، وكيف تمنح الحياة للنظر بآلامها ولحظات سحرها. كانت ضحيَّة للشَّراسة المتوحّشة، في لحظة لم يكن ليتوقّعها أحد". جريدة العربي الجديد 25 يناير (كانون الثاني) 2016. لقد منحتنا بعينيها بهاء قلَّ نظيره.
الدكتور فريد الزَّاهي كاتب ومترجم مغربي وناقد فنّي. أغنى المكتبة العربيَّة بعدَّة مؤلّفات نقديَّة باللّغتين العربيَّة والفرنسيَّة، لا يحبُّ أن ينعت بالنّاقد، لأنَّها أصبحت رديفة لكلّ أنواع اللّبس والغموض. بدأ مشواره ناقداً سينمائياً، ثمَّ انصبَّ اهتمامه فيما بعد على الفنون البصريَّة، بعدما لاحظ هذا الكمَّ الكبير من الدّراسات الأدبيَّة، خصوصاً بعد الإجهاز على الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة في الجامعة المغربيَّة إبَّان الثمانينيات. راكم الدكتور فريد الزّاهي خبرة طويلة لدراسة تمثّلات المجتمع المغربي والعربي للجسد، والصُّورة، وجدليَّة الأنا والآخر في الثقافة العربيَّة، بما فيها جدليَّة الذكورة والأنوثة. لا يمكن إغفال تأثير أستاذه عليه: عبد الكبير الخطيبي. كما نالت الترجمة والفنون التشكيليَّة قسطاً كبيراً من اهتمامه الأكاديمي الذي توجه أخيراً، عندما تمَّ تعيينه مديراً للمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، وهو المنصب الذي شغله لمدَّة سنوات الكاتب عبد الكبير الخطيبي.
من بين أعماله: "الحكاية والمتخيَّل"1991، و"الجسد والصورة والمقدَّس في الإسلام" 1999، و"حياة الصورة وموتها" لريجيس دوبريه، مترجم 2002، و"العين والمرآة" 2004، و"النص والجسد والتَّأويل" 2004، و"من نظرة لأخرى الفن ووسائطه بالمغرب" 2006، و"الخيال الخلَّاق في تصوُّف ابن عربي" لهنري كوربان، مترجم 2008، و"السحر والدين في إفريقيا الشمالية"، لإدمون دوتي، مترجم 2008، و"العتبة والأفق، تجربة الخروج من اللّوحة في الفن العربي" 2009، و"جسد الآخر" بالفرنسيَّة 2009، و"رحلة إلى المغرب" لأندري شوفريون، مترجم 2011، و"الصورة والآخر، رهانات الجسد واللغة والاختلاف" 2014، وسنة 2015 صدر له ضمن "منشورات مرسم" بالرباط، كتابه الأخير باللغة الفرنسيّة تحت عنوان (Les métamorphoses de l’image) "الصُّورة وتحوُّلاتها"، وفيه حاول الدكتور فريد الزاهي عبر مجموعة من المقالات التحليليَّة أن يعبّر عن عشقه الجمالي للصورة المتعدّدة في مختلف الممارسات والوسائط المتاحة للفنّانين، فكان الخيط النَّاظم لها هو ما يشدُّ الصُّورة إلى الفكر عبر الإدراك والرؤية والقراءة. الكتاب هو قراءة متعدّدة لسحر الصورة وسلطتها.
وفي هذا الإطار، تقدم مجلة "ذوات" الترجمة العربية لمقالة للدكتور فريد الزاهي، التي يتناول فيها بالتحليل فنَّ البورتريه عند بعض الفنانين التشكيليين، مرفقة بحوار مهم مع الفنانة الراحلة ليلى العلوي، مساهمة من مجلة الجسرة السينمائيَّة في تكريم روح الفنانة ليلى العلوي.
النص المترجم
يُعدّ البورتريه واحداً من الوسائط البصريَّة الأولى التي أدخلت المغاربة في عصر الصورة؛ من جهة أخرى، وباعتباره أثراً خالداً للشخص، فقد تحوَّل هذا الفنُّ بموجب ذلك إلى بطاقة بريديَّة محليَّة وأصيلة منحت بتداولها سعادة الحضور، رغم بُعد المسافة. على ظهر البطاقة، تكتب قصائد تمدح الأثر والشخص. فالبورتريه باعتباره أثراً هو أيضاً استذكار للغائب، تذكار نحتفظ به بعناية كي نبدع بلا كلل وجه الآخر. لكنَّ البورتريه، باعتباره أوَّلاً صورة هوويَّة (الهويَّة)، فإنَّه يندرج أيضاً في تعيين حدود الكائن، بغية تثبيته وطبعه ومنحه أيضاً إشراقة الحضور.
بورتريهات وجوه Port-traits
ليلى العلوي مثل بعض الفوتوغرافيين المغاربة (أو المقيمين بالمغرب) لا تشتغل بفنّ البورتريه بالمعنى الحرفي. تتقدَّم هذه السلسلة من الصور المهداة إلى الفنانين المعاصرين المغاربة كاشتغال لتجسيد الذات وابتكار للوجه والجسد. اشتغال من هذا النوع ليس له حمولة سوسيولوجيَّة أو أنثربولوجيَّة، على عكس الأعمال السابقة للفنانة، تتَّسم أعمالها بالأحرى بطبيعة لعبة المرآة التي تنخرط فيها الفنانة الشابة رغبة منها، لمضاعفة المظهر التخييلي للشخصيَّة عن طريق إنجازها لعمل نوعي حول إمكانيَّة التقمُّص réincarnation في التخييل الفوتوغرافي. بالفعل، يعتبر اختيار الفنانة في حدّ ذاته رهاناً. إنَّ أغلبيَّة المواضيع المختارة هي موسَّطة مسبقاً، يتعرَّف عليها هواتها وجماهيرها (عندما يتعلق الأمر بالسينمائيين مثلاً)، بل عن طريق تصويرها من طرف مصوِّرين محترفين. ومن ثمَّ، فإنَّ الرهان مضاعف. رغم أنَّنا نعرف أنَّ كلَّ صورة فوتوغرافيَّة محترفة أو فنيَّة تضعنا أمام وجه جديد ووضعيَّة جسميَّة جديدة، يمكننا أن نقول إنَّ ليلى العلوي تحاول هنا أن تخلق الفوتوغرافيا الرمزية، التي لا مفرَّ منها، تلك التي يمكن أن تصبح مرجعيَّة الفنان.
يعيد البورتريه بواسطة التّخييل رسم الوجه، عبر نوع من الإخراج المضاعف: سواء ذلك المتعلق بالديكور الذي يضع فيه الفنان مواضيعه، أو ذاك المتعلق بوِضعة الجسم، وهو ما يمنح للنتيجة أصالة مذهلة. فإذا كان اختياره عموماً يتم انطلاقاً من نشاط الفنان، حسب ما إذا كان فناناً تشكيليَّاً، ممثلاً أو سينمائيَّاً، فإنَّ السياق أو الخلفيَّة ليس لها ببساطة وظيفة إشاريَّة تغوص برؤيتنا في إحالة مطنبة. فيتمّ تشذيره، والاشتغال عليه مرَّة أخرى، وجعله أكثر سرّيَّة وبحمولة دلاليَّة أكبر. وكذلك أرائك نجوم قاعة السينما (صورة منى فتو) التي تدمج تكراراً يوسّع حقل إدراكنا. تتسرَّب مسحة من الغموض في هذه المتوالية من الموضوعات، التي تدفعنا إلى حلم ما. إنَّ الرأس الصغير للممثلة الكوميديَّة تمَّ تقديمه لنا كظهور يخلق الاندهاش. في الواقع، فالصورة التي لا تدهش بخرقها للواقع هي ببساطة صورة "جيدة". إنَّها كما يعبّر عن ذلك جيّداً رولان بارث: "سيئة بشكل خفي، مسمومة، مزيفة أو قابلة للنقاش، لا تصدق أو غير ثابتة متقلبة".[3]
إنَّ الضَّبابية التي تخضب هذا العمق تسمح للفنان بخلق جو من الغموض، وأحياناً من الحلم، والغرابة المدفوعة إلى أقصاها، تقترح نوعاً من الولادة الذاتيَّة للصورة. وهو ما يتخلّل التحوُّل من الضبابيَّة إلى الأسْوَد الذي يحيط بها. (فوزي بنسعيدي، ون. أمير على سبيل المثال) كما لو أنَّها تمنح للوجه بُعْداً مشرقاً. من جهة أخرى، يجد مثل هذا البُعد تحققه الكامل في صورة تشكيليَّة لها قوَّة كبيرة: صورة بوشرى ويزاكن، هذه الفنانة الشابة، التي تعتبر أعمالها بحثاً عن مكان مفقود في الذاكرة، تجد نفسها هنا مغلّفة داخل جلابة، في ِوضعة جسميَّة شبه جنينيَّة.
إذا كان حضور الخلفيَّة يخلق أثراً متفرداً (سعد بنشفاج) فلن يكون ذلك إلَّا عبر قراءة للوجه. هنا نحن في قلب "إخراج مشهدي" للسمات Traits، ينجز في صنع المظهر وتأويل الشخص، بغية تحويله إلى صورة تخلقها الأنا Persona، إلى قناع، إلى شخصيَّة تلعب وجهاً ما... إنَّ هذه اللعبة التي تتعاطاها ليلى العلوي ليست ببساطة لعبة تقنيَّة. بعد إنجازها لعملها حول "الحراكة" (المهاجرين السريين) عمل بالأحرى ذو طبيعة سوسيو-سياسيَّة. فقد فرض نفسه كرؤية خاصَّة حول الوضعيَّة الإنسانيَّة الفريدة، والمرتبطة بالعبور وبحلم الرفاهيَّة. إنَّها باشرت هذا "العبور" الفني المغربي، حيث وجدت نفسها في مواجهة هذا "الجو" الذي عاشته سابقاً في مدينة نيويورك بجانب الفنانين الفوتوغرافيين المشهورين والسينمائيين العالميين. يبرز فنانان مصوران هذا النوع من الإخراج المشهدي: مشهديات إخراج الفنان حسن الكلاوي بسيجارته ورؤيته التي تخترق رؤيتنا، ومشهديات إخراج ن. أمير N.Amir برؤيته الملائكيَّة، كما لو أنَّه يسبح في سحابة غيمة كبيرة من الحلم. أثر لوجهة نظر واشتغال على الضوء. تتمُّ إعادة صوغ السمات les traits (السحنات) التي تصبح طريقة بالنسبة إلى الفنان في أن يتملك الوجه، أن يعيد صوغه وإبداعه من جديد.
يكشف الفنان بواسطة بورتريهاته عن معرفة داخليَّة للشخصيَّة، أو بالأحرى لنقل إنَّ الرؤية التي يسندها له هي من الفرادة، حيث إنَّها تقوم بإجراء انزلاقات نحو ما يكشف سرَّ الشخصيَّة لنفسها، ومن ثمَّ، تعتبر الصورة بمثابة قراءة منحرفة، ليس فقط للوجه، ولكن أيضاً لسحناته، ووِضعته الجسميَّة وللرؤية. ومن ثمَّ، فإنَّ رؤية الذات الفوتوغرافيَّة تعكس شيئاً (عامَّاً) من رؤية الفوتوغراف. تترجم شعوراً، سكينة، أو اندهاشاً، أو ببساطة تترجم حالة غياب.
إنَّ رؤية هؤلاء الفنانين هي حتماً رؤية الفنان الذي أبدعها من أجلنا، منحها هذا الأخير لموضوعه، باكتشافها في داخله، من أجله، دون أن يكون مع ذلك تطعيماً (إلصاقاً) ناتجاً عن لعبة الضوء والعتاد التقني الذي ينجذب إليه الفوتوغراف داخل (ستوديو) مكان تصويره المتحرك.
مرايا، غياب
صورتان فوتوغرافيتان تستحقان رؤيتنا خاصَّة، تفرضان نفسيهما علينا كعملين فنيَّين، بحساسيَّة خاصَّة وعمق، تعبّران عن موهبة المؤلف وعن خطوته الاستكشافيَّة الجماليَّة.
أولاً صورة خليل الغريب الفنان الذي يحمل في اسمه دلالة، مثله تنسجم كذلك معه هذه الجلابة وهذه الِوضعة الجسميَّة وهو يمشي، مديراً ظهره نحو المحيط... مثل صورة أعماله التي تدير ظهرها للتشكيل، فضلاً عن الخلود المفترض لكلّ عمل فنّي. هو محو أمام أعين الكاميرا والقطيعة مع رؤية المتفرج! إجالة النظر، أليست هذه طريقة لتجديد الصلة بالمجهول، كما يريد ذلك هذا الفنان برفضه توقيع أعماله؟ المجهول هو ربَّما نعت فيه مبالغة، لأنَّنا نعرف الظلَّ الهشَّ لهذا الابن البار لأصيلة المحبّ لأزقتها وشاطئها الساحلي، حيث يجمع الأشياء المتلاشية والمفقودة ليزيّن بها أعماله. نتعرف أيضاً على جلبابه، ومشيه...كما لو أنَّ هذا التصرُّف وحده، سيختزل كينونة خليل. كذلك الوجه الذي تحدثنا عنه قبل ذلك، سيصبح استعارة للموت، هذا الموت الذي سيسلط عليه الضوء في ممارسته الفنيَّة. وبالتالي تشرح ليلى العلوي اختيار هذه الصورة "بالنسبة إليَّ، ينجح بورتريه الفنان عندما يكشف عن الشخص عبر صورة قويَّة جماليَّاً. خليل غريب شخصيَّة غريبة، سريَّة، خجولة، كان لدي اختيار مع مجموعة من الصور الأخرى التي نرى فيها صورته... لكن بالنسبة إلي لا تشبهه هذه الصورة أبداً. إنَّها تقنص أيضاً لحظة قويَّة جدّاً، أشاركها معه بتجوالي في إحدى الصباحات الكاملة داخل أزقة أصيلة، وفي محترفه...".
يتعلق الأمر أيضاً بطريقة شبه معادية للأيقونة بتعليق أثر الصورة، والعودة بها إلى عجزها عن إدراك الكائن، وسلطته في القبض على المظهر le paraitre، وإنتاج شخصيات خياليَّة تخلقها الأنا، أشباح، لها أن تكشف بشكل جيّد مع ذلك من يشكل في الكينونة لحمة الجسد والصورة.
إنَّ الصورة الفوتوغرافيَّة التي تعرضها وتنشرها ليلى العلوي مهمَّة على أكثر من صعيد. صور الفنَّان التشكيلي هشام بن أوحود Benohoud Hichamتبيّن ذلك، فالأمر يتعلق، فضلاً عن فنان رسَّام، بمصور فوتوغرافي. كلّ إبداعات هشام بن أحود منذ تجربته عن بورترهات تلامذته في نهاية التسعينيات إلى حدود اشتغاله على جسده العاري، بل بعد ذلك، تدور حول البورتريه، الوجه، الجسد، وكلّ ما له صلة به طبعاً. إذا كانت الصورة الفوتوغرافيَّة لها صلة شبه منذ مدة طويلة بالمرآة، مرآة ذات خصوصيَّة معيّنة، فإنَّ لدى ليلى العلوي فكرة نقل وجهها في لعبة المرايا التي تضاعف حضور الذات حسب منظورات عديدة. يعتبر هذا الإخراج المشهدي كذلك مضاعفة لعبيَّة، إذ تضع الذات في مواجهة "ظلالها". فمن الواضح إلى الضبابي، ومن القريب إلى البعيد، ومن الوقوف وجها لوجه أمام الكاميرا إلى الوضع الجانبي... هكذا تتوالى صور هذه الصور، كي تكشف لنا الوجوه المتعددة للشخص نفسه. إنَّ هذه الصورة الفوتوغرافيَّة هي حقاً توجد في مركز الانشغال "الفلسفي" للفنانين. إذا كان بن أوحود يشتغل على هويَّة الذات كهويَّة عارية، متعدّدة، تكراريَّة، والمنذورة للصفاء الاستيهامي للأنا، فإنَّ ليلى العلوي تزحزح الهويَّة نحو ما يكشف عنها ويكثفها في النتيجة في النظرة le regard وفي العلامات التي تظهر على الوجه «visagéité» فتمنحه صفة الوجه بتعبير جيل دولوز.[4]
إنَّ هذا ما كان يشغل اهتمام هذه الشابَّة المصورة ليلى العلوي. يقدّم مشروعها الجديد "المغاربة" نفسه جواباً جديداً عمَّا حاول إدراكه المصورون "الكولنياليون" في سعيهم إلى التقاط "الروح" المغربيَّة و"النمط" الخاص بالسكان الأصليين، وهو جواب إذا لم يكن معارضاً لهذه الصورة الأولى الإثنوغرافيَّة، فإنَّه يزحزح استراتيجيَّة مشاهدتها كي يخلق رؤية جديدة لهويَّة متحركة لها أن تخلق هي الأخرى "أرشيفات" (سجلات) جديدة، بنظرة محليَّة وجماليَّة اليومي لهما أن يفككا ثنائيَّة الكائن والظاهر.
في حوار مع الفنانة ليلى العلوي:
التحدي الكبير أن نكون قادرين على الإحساس، وفهم شخص ما عبر الصورة
* كيف جئتِ إلى عالم (الفوتوغرافيا) التصوير؟
كنت دائماً منجذبة بواسطة الصورة، وخاصَّة السينما المستقلة والصورة الوثائقيَّة، أمّي كانت شغوفة بالفوتوغرافيا، كما كانت أيضاً مهووسة بالسينما. عندما كنا أطفالاً كانت تمنعنا من مشاهدة رداءات التلفاز، حيث كانت تفرض علينا بالأحرى مشاهدة أفلام ألمودوفار Almodovar، كودار Godard فليني Fellini أو Visconti فيسكونتي...، من جهة أخرى، لم أكن أفهم شيئاً من هذا، ولكنّي اليوم أشعر بأنَّ هذه التربية قد زوَّدتني بحساسيَّة كبيرة. كانت رغبتي في المراهقة أن أصبح ـمصورة- مراسلة صحفية، ثم بعد ذلك بدأت في جامعة نيويورك بدراسة السوسيولوجيا والسينما، بهدف أن أشتغل في السينما الوثائقيَّة. ثمَّ اتجهت نحو التصوير الفوتوغرافي بفضل أستاذي في المادة، الذي استدعاني يوماً ما إلى مكتبه لكي يقول لي: إنَّ عيني موهوبة، ويجب عليَّ أن أفكر بالتخصُّص في الفوتوغرافيا. كنت أشتغل من جهة أخرى، سابقاً في أعمال حرَّة داخل السينما، وكنت أحسُّ بأنَّ التصوير الفوتوغرافي بإمكانه أن يمنحني إمكانيَّة من الحريَّة أكبر. كنت متلهفة وطموحة للانخراط في هذا العمل. أن أذهب وحيدة ومعي آلة تصوير تغنيني بسهولتها عن الارتباط بفريق عمل في الفيلم، وميزانيَّة لم أكن آنذاك أتوفر عليها. اليوم أنا مستعدة لأن أكتشف الفيديو...، كنت قد بدأت سابقاً في إدخال فنّ المنشأة السمعيةInstallation لمعرضي القادم.
* أعمالك حول المشاهير هل هي اختيار تيماتي وجمالي أو مجرد اكتشاف في المسار؟
بعد ثماني سنوات من الدراسة والتجارب المهنيَّة بنيويورك، قرَّرت أن أمضي وقتاً أكبر في المغرب، كي أشتغل على المواضيع الاجتماعيَّة. بعد مشروعي NOPASARAN حول الهجرة السريَّة، قرَّرت أن أمدّد فترة إقامتي بالمغرب، اكتشفت مرَّة أخرى بلدي، وقد تأثرت بالتغييرات والحراك الثقافي والفني، وديناميَّة مدينة الدار البيضاء بفضل تجوُّلي عن قرب مع مجموعة من الفنانين بنيويورك. كنت بشكل آلي في حاجة إلى أن ألج عالم الفنّ والسينما المغربيَّة، ولذلك قرَّرت أن أنجز كتاباً للبورتريهات خاص بالفنانين المغاربة.
* ماذا يغويك في قبض وإبداع وجه الفنان الذي تشكله مهنته؟
كنت دائماً مهتمَّة بالبورتريهات والكائن الإنساني. أنا لا أحبُّ أن أصوّر المناظر أو التخطيط الحضري، أنا في حاجة لأن أكون في قلب الحركة... التبادل... إنَّ الفنانين هامشيون، يتميزون عن العامَّة، ولهم دائماً قصَّة ومسار متفرّد أصيل.
* أحياناً، يميل اختيارك أكثر إلى الحالة الجسديَّة منها إلى الاشتغال على الوجه! إنَّها حالة هذه الصورة الجميلة لخليل غريب، التي جعلتنا نفكّر في تلك الصورة المشهورة جداً لجون بول سارتر وهو يمشي، أليس كذلك؟
بالنسبة إليَّ أنا، ينجح بورتريه الفنان عندما يكشف الشخصيَّة عبر صورة قويَّة جماليَّاً. الفنان خليل غريب شخصيَّة غامضة، سريَّة، خجولة...، كان لديَّ الاختيار بين مجموعة من الصور الأخرى أرى فيها وجهه... لكن بالنسبة إليَّ تشبهه هذه الصورة أكثر، إنَّها تقبض أيضاً على لحظة قويَّة جدَّاً شاركتها معه في صبيحة بأكملها، تجوَّلت فيها معه في أزقة أصيلة، وفي محترفه.
* احكِ لي كيف قمتِ بإنجاز "إخراج" الصورة؟ هل تنجحين في اختيار صورتك منذ المحاولة الأولى؟
في أغلب الأوقات، لا أعرف الفنان قبل (لحظة) حصَّة التقاط الصورة. صعب أن تفكّر في إخراج معيَّن، عموماً أطلب من الفنان أن يختار مكاناً يشبهه، أو هو رمزي بالنسبة إليه. قبل حصَّة الصورة، أقضي وقتاً معيَّناً في الحديث مع الشخص، وأطرح عليه بعض الأسئلة. أعترف بأنَّ الصورة الشخصيَّة هي دائماً أكثر نجاحاً عندما أعرف مسبقاً الشخص وعمله. في غالب الأحيان يمرُّ اللقاء في ظروف جيّدة. الشخص مرتاح وتلتقط صورة البورتريه بشكل عفوي. أتخذ مثالاً على ذلك المصوّرة الفوتوغرافيَّة لمياء الناجي، التي لم أكن أعرف عنها الكثير، حيث كانت بالأحرى متحفظة في حصَّة التقاط الصورة. ومع ذلك، وخلال بضع دقائق تمكَّنت من الحصول على واحد من أنجح بورتريهاتي.
* يتكوَّن لدينا الانطباع أحياناً بأنَّ بعض الصور هي نوع من البورتريهات السيكولوجيَّة الخاصة بالموضوع، هل هذا صحيح؟
هذا ثناء، لا يعتبر البورتريه حقاً صورة جميلة لشخص وجب عليه أن يحكي قصة، أن يثير انفعالات... مهم جداً أن نكون قادرين على الإحساس، وفهم شخص ما عبر الصورة. هذا تحدٍّ كبير.
* هل لاختيار الأبيض والأسود علاقة بما تودِّين خَلْقَه كمُصَوِّرة فوتوغرافيَّة فنانة؟
أحبُّ كثيراً الأبيض والأسود، إنَّه أحياناً اختيار جمالي، لكن في مناسبات أخرى يكون اللون مهمَّاً، ويعطي معنى ما لصورة معيَّنة. عموماً أنا أصوّر بالألوان، وبعد ذلك أختار ما إذا كنت سأحتفظ باللون أم لا.
* في صورك الفوتوغرافيَّة اشتغال دقيق على الضوء والألعاب التي يدمجها، بعضها أحياناً ضبابي شيئاً ما، بم تفسرين ذلك؟
أشتغل كثيراً على الضوء، كما أوظف كثيراً الضوء الاصطناعي، وتكون دائماً بحوزتي أدواتي الضوئيَّة، واستوديو متنقل خاصّ بي.
[1]- مجلة ذوات العدد49
[2] هذه المقالة والحوار مأخوذان من كتاب: "الصورة وتحوُّلاتها" للدكتور فريد الزاهي، منشورات مرسم الرباط 2015، من الصفحة 97 إلى الصفحة 103
[3] رولان بارث: هسهسة اللغة: Seuil باريس 1984 ص 395
[4] جيل دولوز وفيليكس كاطاري، ألف منصة مينوي 1980 ص 205