وصاية الفقيه في الدولة الإسلاميّة السُنّيّة
فئة : مقالات
الفقيه أبرز الشخصيّات حضورا في الدولة الإسلامية، وأكثرها نفوذا؛ فمن بين المجتهدين في الفقه يأتي الخليفة (الإمام)، ومنظّرو الدولة الإسلامية قديما وحديثًا يشترطون لتولية منصب الإمامة أو الوزارة أن يكون المرشّح من أهل الاجتهاد الفقهي، وليس من الفقهاء المقلدين؛ لأنّ "التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال".([1]) ورُوي اتفاق القدامى([2]) على وجوب أن يكون الحاكم خليفة أو وزيرا أو واليا -بصفته نائبا عن الخليفة- من مجتهدي الطبقة الأولى في الأصول والفروع من مسائل الشريعة وأقصى ما استطاعه بعض الأحناف من مخالفة لهذا التصور، أنهم اكتفوا أن يكون من أهل الاجتهاد الشرعي دون اشتراط الطبقة الأولى.([3])
وإذا اقتضى الواقع أن يُسند منصب الإمام إلى غير فقيه مجتهد، ودفعت الضرورة القصوى إلى ذلك، فإنّ الحاكم لا يقطع برأي ولا يحسم أمرا دون الرجوع إلى الفقيه المجتهد؛ لأنّ الدين أصل لكلّ تفاصيل الدولة، والفقيه من يملك بأدواته استخراج أحكام الدين واستنباطها من الأدلة الشرعية، "فإذا كانت الضرورة قد قضت بأنّ الخليفة لم يبلغ مستوى المجتهدين، فيكون تحقق هذا الشرط عن طريق اعتماده على المجتهدين من الأمّة وعلمائها، فلا يقطع برأي دونهم ولا يبرم أمراً. وبدا أنّه يميل إلى إجازة ذلك مادامت الغاية من الشرط ستتحقق. ولكن على أن يكون مفهوماً، مع ذلك أنّ هذه الإجازة للضرورة. ولذا، فإنّ المتأخرين ممن بحثوا مسألة الخلافة كانوا لا يتصورون أن يوجد خليفة في الأزمنة الأخيرة إلاّ إذا اعتمد على علماء الأمة، ورجع إلى آرائهم في كل شيء، ورأوا أنّه لا يمكن أن يتحقّق العدل الذي يرمي إليه الإسلام بدون ذلك".([4])
وتظهر وصاية الفقيه على دولة الخلافة الإسلامية في جانب آخر. فالهيئة التي تختار الخليفة (أهل الحل والعقد) رغم اختلاف الفقهاء في صفتهم، والشرط اللازم تحققه فيهم، إلاّ أنّهم اتفقوا على اشتراط كونهم من أهل الاجتهاد الفقهي، بلا خلاف بين منظري دولة الخلافة الإسلامية من علماء أهل السنة، فالصفة المشتركة عندهم لأهل الحلّ والعقد أو أهل الاختيار أو أهل الشورى أو أولي الأمر أنهم من الفقهاء المجتهدين. ثم اختلفوا، فمنهم من حصر أولي الأمر أو أهل الحل والعقد في الفقهاء المجتهدين دون غيرهم، ومنهم من جعلهم أهم مكونيها بالإضافة إلى غيرهم، ممّا أكسب تلك الهيئة من أولي الأمر أو أهل الحل والعقد بعدا دينيّا، فهي الهيئة الشرعية التي تمثل موقف الشريعة. فالسلطة في الدولة الإسلامية السنيّة بهذا التصوّر يمنحها الفقهاء، وهم الذين يسقطونها، فإذا كانت الدولة في المنظور الشيعي تقوم على ولاية الفقيه، فإنّها من المنظور السني تقوم على وصاية الفقيه، الذي يشارك الإمام في الدولة الإسلامية مهمّة الاستخلاف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "فخلافة الرسول في نظر الفقهاء لم تكن قاصرة على الإمام، بل إنّ القاضي والعالم والمجتهد خليفة له أيضًا، ولا فرق بين الخلافتين إلاّ في العموم والخصوص".([5])
إذا كانت الدولة في المنظور الشيعي تقوم على ولاية الفقيه، فإنّها من المنظور السني تقوم على وصاية الفقيه
والاجتهاد عند منظّري دولة الخلافة الإسلامية مقيد بكونه من فقيه؛ فالاجتهاد لا يتجاوز حدود المفهوم الشرعي الذي يجعل من الفقيه سلطة عليا وصيّة على الدولة بامتلاكه دون غيره القدرة على فهم النصوص الشرعية، فهو "يعرف من القرآن والسنّة ما يتعلق بالأحكام؛ وخاصّه وعامّه، ومجمله وبيّنه، وناسخه ومنسوخه، ومتواتر السنة وغيره، والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفاً؛ ولسان العرب لغة ونحواً، وأقوال العلماء من الصحابة فمَن بعدهم، اجتماعا واختلافا. والقياس بأنواعه".([6])
ولا ينازع الفقيه في تلك الوصاية إلاّ الإمام الذي اشترطوا فيه "أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية، وعلمه بها يشتمل على أصولها، والارتياض بفروعها. وأصول الأحكام في الشريعة أربعة: أحدها علمه بكتاب الله عز وجل، على الوجه الذي تحصل به معرفة ما تضمنه من الأحكام. والثاني علمه بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها. والثالث علمه بتأويل السلف، فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه. والرابع علمه بالقياس، لردّ الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا إلى العلم بأحكام النوازل. فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد في الدين. وإن أخلّ بها أو بشيء منها، خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد".([7])
وانحصر مفهوم الاجتهاد اللغوي الرحب في الثقافة الإسلامية في الفقه وعلماء الشريعة، وأصبح مرتبطا بها، واسْتُلبت دلالته الواسعة من كونه دعوة لإعمال العقل وحرية الفكر في المسكوت عنه، ومما لم يقطع بدلالته يتساوى في الاجتهاد حوله المسلمون، كل يستفتي قلبه، ويُعمل عقله ويستفيد من علمه، فيبدع كلّ في مجال اختصاصه في الدولة، فالاجتهاد في حقيقته يتجاوز قيد الفقهي إلى الاجتهاد في مفهومه العام، فلم يكن المسلمون الذين نزل القرآن في عصرهم أئمة في علوم العربية والشريعة، بل أخلصوا واجتهدوا برأيهم، فالاجتهاد اعتراف بحق كلّ فرد في التفكير المستقل والاختيار في المسائل المختلف حولها، والالتزام بما ينتهى إليه اختياره.
ولا تختلف رؤية أكثر المعاصرين من الفقهاء عن رؤية القدامى، وبين المعاصرين يكتسب تنظير القرضاوي أهميّة؛ لأنّه نقطة تقاطع بين جماعة الفقهاء وجماعة الإخوان المسلمين أكبر الجماعات الداعية لدولة الخلافة الإسلامية، إذ يحصر القرضاوي الاجتهاد في قضايا الدولة في العلماء المجتهدين دون غيرهم، فمن منظوره "الاجتهاد مهم وضروري، ولكن للاجتهاد أهله من كبار العلماء المختصّين، الذين تتوافر فيهم شروط الاجتهاد الصارمة، ولا ينبغي أن يُترك نهبًا سائبًا للجهلة والمنافقين والمتطفلين على العلم الشرعي، وتلاميذ المستشرقين الضالين المضلين. كما أنّ الاجتهاد ممكن في الأمور الفرعية الجزئية فحسب".([8])
وهكذا تبنى أسوار حول علاقة الدين بالدولة، فلا يستطيع أحد غير رجال الدين الولوج إليها، ويفهم إرث العلماء للأنبياء على أنه إرث في سلطة سياسية، والأولى أن تقف عند حدود الموعظة والتبليغ مع الالتزام بتمييز المقطوع ثبوتا ودلالة عما يحتمل أوجها من الاجتهادات والأحكام، والتزام الصمت عن الإدلاء برأي في دائرة المباح والجائز؛ لأنّ الله سكت عنه، فليس في حاجة إلى نطق فقيه باختيار.
ويعزّز من وصاية الفقيه في الدولة الإسلامية السنية الفكرة الشائعة في الثقافة العامة -بتأثير خطاب الجماعات الدينية- وهي أن الإسلام قدّم أدق التفاصيل للدولة الإسلامية، "فالشريعة الإسلامية تتغلغل في كافة نواحي الحياة، ولا يتصوّر أن تهمل شأن الدولة".([9])
ولمّا كانت النصوص الصريحة من القرآن وصحيح السنة اكتفت بمبادئ عامة وأقلّ التفاصيل، تمدّدت آراء الفقهاء؛ لتستكمل تصوّر الدولة، وتستنطق النصوص بالدلالات الشرعية للمستجدات التي تواجه الدولة، ففقيه الدولة الإسلامية في عمل دائم إذ يُمثِّل همزة الوصل، وطريق الربط بين الدين وأدقّ تفاصيل الدولة، وهو بمثابة المصفاة لتصفية أفكار الفسق والانحلال والإلحاد التي قد تُصيب الدولة الإسلاميّة، "فلا يتصوّر أن تهمل الشريعة الإسلامية شأن الدولة، وتدعها للمتحللين والملحدين أو الفسقة يديرونها تبعا للهوى".([10])
ولا تقتصر وصاية الفقيه على إرساء الرؤية الشرعية المستقرّة للدولة الإسلامية، بل يختص دون غيره بالتجديد والتطوير في البنية الفكرية للدولة، فالتجديد يأتي من داخل البنية نفسها، فالقرضاوي يدعو إلى ضرورة تحديث أحكام الفقه حول الدولة الإسلامية، وهي التي يقوم بها الفقيه المعاصر تحت مسمى الفقه السياسي، فلا وسيلة للتحديث داخل الدولة الإسلامية "الخلافة" إلاّ من خلال الفقيه، فهو دون غيره من يملك تحديد وتحريك الديني المجرّد الثابت في الدولة ليجعله زمنيا نسبيًا غير ثابت قابل للتغيير تبعا للواقع، وهو من يجعل من الزمني المتغير دينيا ثابتا باختياره له.
فتصوّر دولة الخلافة الإسلامية هو مجموعة من الأحكام التي انتهى إليها الفقيه، فهو دون غيره من يملك مراجعتها؛ وهو من يملك الاستدعاء الجزئي لصور من تجربة الدولة الحديثة بجذورها الغربية ليدخلها في الدولة الإسلامية بعد أن يُعيد صبغها وتوفيقها، فمفهوم الديمقراطية ظلّ لعقود لفظا سيئ السمعة حتى تمّ قبوله عند بعض منظري الدولة الإسلامية -الجانب الصحوي الذي يمثله القرضاوي- ليس بمعنى السيادة الكاملة للشعب، فالسيادة لله، لكن بوصف الديمقراطية مرادفة للشورى، وكذلك مشاركة المرأة في الحياة السياسية بالتصويت أو الترشيح، فقد تطوّر الموقف من المنع التام إلى الجواز على مرحلتين فمنحها منظرو الدولة الإسلامية -الجناح الصحويّ وليس الجناح السلفي الجهادي- حقّ التصويت، وفي مرحلة تالية منحها حق الترشح.
فالقرضاوي كمنظّر للدولة الإسلامية (الخلافة) يشير إلى بعض الأفكار فيقول هذا تصوّر الإسلام للدولة لا يجوز الاقتراب منها، وهذا اجتهاد فقهي يمكننا إعادة النظر فيه؛ فتبدو أفكار منظري دولة الخلافة الإسلامية أصناما من حلوى كلما دفعهم الواقع إلى أكل شيء منها أكلوه، وكأنه لم يكن من قبل مقدَّسًا لا يجوز الاقتراب منه، ولا يحتاج الأمر منه سوى أن يعمل فيه آلته من قواعد اجتهادية ليحيله إلى صورة جديدة تتسع لمستجدات العصر، مما أوقعه في تناقض فجّ، فالقاعدة الفقهية نفسها يقرّها في موضع ليثبت شرعية فكرة ما في تصوره للدولة الإسلامية، وينقض القاعدة نفسها مرة أخرى؛ لينفي الإسلامية عن فكرة تزعم جماعة إسلامية مخالفة له أنها أصيلة في الدولة الإسلامية (الخلافة).
فمثلا القاعدة الفقهية: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص الأسباب" قاعدة أقرّها القرضاوي، وانطلق منها في الردّ على المفرطين -من منظوره- الذين يقولون بأنّ الحاكميّة التي في آية سورة المائدة "ومن لم يحكم بما أنزل لله" خاصة بمواقف احتكام اليهود إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليقضي بينهم، فيرى أنّ اللفظ هنا عام ننظر إليه، ولا ننظر إلى السبب الذي نزلت من أجله الآيات، وشكّك في أسباب النزول، قائلا: "إنّ علماء الأصول بحثوا في قضية الأسباب الخاصة لنزول القرآن، أو ورود الحديث، والألفاظ العامة التي وردت بناء عليها، وحققوا: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. ولولا ذلك لعُطّلت أحكام كثيرة نزلت بسبب حوادث خاصة في عهد النبوة "وهذا إذا صحت أسباب النزول، وكثير منها غير صحيح".([11]) فأقرّ الدكتور القرضاوي قاعدة عموم اللفظ؛ ليثبت بها عموم مفهوم الحاكميّة وأصوليته في الدولة الإسلامية، فكل صور الاحتكام لغير الله كفر وفسق وظلم.
ثمّ عاد ونقض القاعدة نفسها وتراجع عنها في موضع آخر من الكتاب نفسه عندما استند إليها مَن وصفهم بالمغالين من الجماعات وجماعة من علماء الأزهر في خمسينيات القرن العشرين في فتواهم بمنع المرأة من التصويت في انتخابات المجلس النيابية، أو الترشح لعضويتها مستندين لعموم لفظ الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن الفرس ولّوا على ملكهم بنت كسرى بعد موته، قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة."، فرفض القرضاوي هنا الاستناد إلى قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وقال بضرورة النظر في الأسباب التي جاء فيها النصّ، بل اتهم من يتمسك بالقاعدة بأنه سلك مسلك الخوارج، قائلا: "صحيح أنّ أغلب الأصوليين قالوا: إنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن هذا غير مجمع عليه، وقد ورد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما ضرورة رعاية أسباب النزول، وإلاّ حدث التخبط في الفهم، ووقع سوء التفسير، كما تورط في ذلك الحروريّة من جماعات الخوارج وأمثالهم، الذين أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين فعمموها على المؤمنين".([12]) هكذا اتهم القرضاوي مخالفيه بالتخبط رغم وقوعه فيه، فتبنى القاعدة الأصولية مرة وتبنى نقيضها مرة أخرى.
ولا يسلم الفقيه في تأصيله لدولة الخلافة الإسلامية بالفعل التاريخي من تناقضات بين الصورة المثالية المرجوة من تديين الدولة والصورة التي يفرضها الواقع بما فيها من قصور مما يدفعه للتبرير أحيانا وإحداث مواءمات أحيانا أخرى، فيشرّع للشيء ونقيضه، فمثلا وجد الفقيه نفسه أمام واقعين تاريخيين للخلافة كلاهما له وصف إسلامي: خلافة مركزية موحدة، وخلافات متعددة فقام بتكييف الأحكام الشرعية بما يتوافق مع الواقع التاريخي السابق على الحكم لِيُدخل الصورتين في رؤيته الإسلامية للدولة، فبعد أن قرر الفقيه أنّ "إيجاد دولة أو قيادة عامة للإسلام فرض واجب على المسلمين أو ركن أساسي للدين، وأنّ الأمّة تكون مقصرة ويقع عليها الإثم من الوجهة الدينية إذا لم تقم بهذا الواجب، بل تكون مقصرة في حق نفسها ومصلحتها ومصيرها".([13]) يعود ويناقض نفسه، فيرى أنّه "في ضوء ما أثبتت التجارب العملية أنّ وحدة الإمامة تكون في كثير من العصور متعذرة، قد أفتوا بأنه يجوز تعددها عند اتساع المدى وتباعد الأقطار. والذي تبرهن عليه حقائق التاريخ أنّ تعدّد الإمامة قد يكون في بعض الأحوال أو العصور أدعى إلى اقتدار الأمة على إصلاح حالها وتدبير شؤونها، وإلى مضاعفة قواها، بازدياد قوات الوحدات التي تتألف منها، بينما تكون وحدة الحكومة أو الإدارة، مع اختلاف طبائع وحاجات الأقطار والشعوب مؤدية إلى عكس هذه الأمور، فينتج عنها الإهمال، أو الاضطراب، أو الاستغلال".([14]) ولم يكتف الفقيه بذلك بل امتدحه بقوله: "وهذا يدلّ على ما في الفقه الإسلامي من مرونة تساير الواقع، وكأنّ الفقه إزاء هذا التطوّر كان لا يريد أن يلتزم بنظام واحد للدولة هو نظام الخلافة المركزي، بل كان مستعداً لنظام آخر أو نظم أخرى تتطور عن هذا النظام.([15])
لا يسلم الفقيه في تأصيله لدولة الخلافة الإسلامية بالفعل التاريخي من تناقضات بين الصورة المثالية المرجوة من تديين الدولة والصورة التي يفرضها الواقع بما فيها من قصور
فعلاقة الفقيه بالواقع التاريخي متفاوتة فأحيانا يتجاهله؛ فيبدو اجتهاده مجردا عن الزمان والمكان وكأنه وحي مقدس، لا يجوز المساس به مثل إجماعهم على القرشية، وأحيانا يتفاعل مع واقعه ويتأثر به ويؤثّر فيه، ويأتي اجتهاد الفقيه عقب فعل السلطة؛ ليكيَّف الواقع الجديد ويجعله متسقا مع الشريعة، مثل إمارة الاستيلاء، وفيها يستولى الأمير بالقوة على بلد يقلده الخليفة إمارتها ويستبد بالسلطة فيها، فهي عند جمهور فقهاء السنة صحيحة ([16])، لا تختلف عن إمارة الاستكفاء التي تكون برضا الخليفة، وإن كانت في الواقع ليست باختياره، إلاّ أنّهم أدخلوها في التفويض والنيابة عن الإمام، علتهم خوف الوقوع في الفتنة والاقتتال الداخلي، فأيهم أتى أولا: فعل السلطة أم اجتهاد الفقيه؟؟!! إنّ إقحام الإسلامية والشرعية في صراعات على السلطة؛ لنقول بأن كلا الطرفين لم يخرجا عن الشرع، لسنا بحاجة إليه إذا أعدنا الدولة إلى سياقاتها التاريخية، ولم نجعلها تنظير الإسلام للدولة، وفصلنا بين فعل المسلمين البشري وبين إسلام الوحي. إن نزعنا القداسة عن دولة الخلافة استراح الفقيه من ملاحقة أفعال السلطة ليضفي عليها شرعية.
فأبرز إشكاليات أفكار الدولة الإسلامية "الخلافة" التباس اجتهادات الفقهاء المتغيرة بإسلام الوحي المقدس الثابت، ليس في عقل العامة فحسب بل في عقل المنظّر لدولة الخلافة، وإذا سلمنا جدلا بأنّ الدولة مقيدة بأحكام الفقيه، فإنّ تلك الأحكام تفاصيل وفرعيات شأن موضوعات الفقه، وليست بالأصول التي ميدانها العقيدة، وما دمنا أمام اجتهادات لفقهاء فمن الطبيعي أنّها قد تتفق وقد تختلف، فلسنا بصدد الحديث في حق وباطل، فهذا يكون في الأصول العقائدية، أمّا الفروع فهي تصوّرات واجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، فكلّ تصوّر فقهي بشري للدولة بداخله مساحة من الصواب والخطأ يُؤجر فيه من الله مرتين على صوابه ومرة على خطئه، كما أنّه لا مجال فيها للثبات والإلزام؛ لأنّ اختلاف أقوال الفقهاء وتعدّدها يجعلها مجالا للاختيار، أضف إلى ذلك أنّ الفقه مرتبط ارتباطا وثيقا بالواقع المتغير مما يقتضي تغير الأحكام والآراء الاجتهادية بما فيها أحكام الدولة.
([1]) محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة السابعة، ص 161
([2]) عبد القاهر بن طاهر البغدادي (أبو منصور)، أصول الدين، مطبعة الدولة، استانبول، 1928م، ص 277. عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الملقب بإمام الحرمين، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق د. محمد يوسف موسى، د. على عبد المنعم عبد الحميد، ، مكتبة الخانجي - مطبعة السعادة، القاهرة، 1950، ص 426
([3]) عبد الرازق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية تحقيق توفيق الشاوي، نادية السنهوري، ط. مؤسسة الرسالة، منشورات الحلبي، القاهرة، ص115 - د. ضياء الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 287، 288
([4]) النظريات السياسية الإسلامية، ص278، 288. تعليقا على ما جاء عند الغزالي في كتابه الردّ على الباطنية، ص ص 75-76
([5]) النظريات السياسية الإسلامية، ص 123
([6]) محي الدين يحي بن شرف النووي (أبو زكريا)، المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، ج8، ص 82
([7]) على بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (أبو الحسن) الأحكام السلطانية، تحقيق أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، ص 63
([8]) خالد سليمان، مقال "بين الفكر والكفر شعرة فحاذر أن تقطعها" منشور على موقع ساسة sas post، 1 مايو 2016
([9]) د. يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط3، 2001، ص 16
([11]) من فقه الدولة في الإسلام، ص 108
([13]) النظريات السياسية الإسلامية، ص 209
([16]) ينظر: الأحكام السلطانية ص ص 28-29 - أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (ابن خلدون) المقدمة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1988م، ص 199