وهم الانسجام والأصالة
فئة : مقالات
مـــقدّمة:
إنّ القضاء على وهم من الأوهام حسب نتشه[1] لا ينشئ على التّو حقيقة ما، بل يؤدّي إلى جزء جديد من الجهل يوسّع بلا شك فضاءنا الخاوي والتّيه في صحرائنا. لذلك اخترت في قراءتي لمعضلة وهم الهويّة أن أتناولها من جانبين: الانسجام والأصالة، إذ فرّعت الجانب الأوّل إلى عنصرين لأبيّن المغالطات التّي تحفّ بمفهومي التّجانس والجماعة في الفكر العربيّ الإسلاميّ. أمّا الجانب الثّاني، فقد أردت من خلاله الكشف عن وهم الأصالة عند السّلفيّة الجديدة، وبيان أهمّ أسباب الانزلاق نحو الأصوليّة وما ترتّب عليه من نتائج.
I- وهم الانسجام:
1) فرض التّجانس:
يقرّ لطفي المرايحي[2] بأنّ العرب يعيشون حالة انفصام بين هويّة أقرّت لهم ولا تناسب مقاسهم، وبين أخرى يطمحون إليها لكن تحول بينهم وبينها قدرة القادرين، فيكون مآلهم اغترابا يضاف إلى إحساسهم بالانسلاخ عن المجموعة، ويؤصّل فيهم الشّعور بالعجز أمام هذه القوى الجاثمة على مصائرهم وسدرة المنتهى في هذا التّرديّ هي الإذعان المتولّد لدى المغترب ومردّه إلى اليأس من إمكانيّة تغيير الأمور لاعتقاده بأنّ ذلك يتطلّب ثمنا باهظا ليس قادرا على بذله. ولكي يثبت المؤلّف زيف التّجانس يطرح سؤالا مفاده: هل نريد مجموعة متجانسة أم مجموعة منسجمة؟
إنّ اختيار أحد التّصوّرين : التّجانس أو الانسجام رهين كيفيّة تعامل أفراد المجموعة مع الهزّات التّي تنتاب إدراكهم لهويّتهم وتعريفهم لذواتهم
لا شكّ أنّ في التّجانس انغلاقا لأنّ طلب التّجانس يفضي إلى مجموعة منغلقة وكيان يجتمع كلّ أفراده حول المواضعات نفسها متقاسمين القناعات ذاتها، فتسهل إدارتهم وإحكام السّيطرة عليهم. أمّا الطّموح إلى الانسجام، فإنّه يرمي إلى تشكّل مجموعة منفتحة لا تخشى على نفسها تعدّد المشارب، وهي كذلك قادرة على تحويل أطيافها المختلفة إلى إغراء فكريّ وإبداعيّ، فيتّسع صدرها لقبول الاختلاف وتشبّ على ثقافة وممارسات متسامحة تسهّل عليها التعامل مع الآخر.
إنّ اختيار أحد التصوّرين: التجانس أو الانسجام رهين كيفيّة تعامل أفراد المجموعة مع الهزّات التّي تنتاب إدراكهم لهويّتهم وتعريفهم لذواتهم. والأكيد أنّ مقاربة الهويّة على أساس اللّغة أو الدّين والتّاريخ لا تفضي إلاّ إلى التّجانس؛ ذلك أنّ حصر الهويّة في هذه العناصر دون سواها بمدلولاتها القديمة يعني أنّ قراءة الهويّة متخلفة تتوهّم خروجها من المأزق الحضاري، والحال أنّ حلّ الأزمة عمليّة صعبة تتطلّب مشقّة فكريّة وشجاعة في مراجعة التّراث.
إنّ فرض التّجانس، إذن، هو لا مبالاة بحركة الزّمان وانتقال للحظات مشرقة من الماضي وتغاضٍ عن المتغيّرات، لكنّ العامّة على غرار المثقّفين تشعر بأمر يهدّد حياتها وتتملّكها حالة من عدم الارتياح أو لِنَقُلْ إنّها تحدس بأنّ الأشياء لا تستقيم[3]. فالتّجانس والتّرادف والتّماثل شأنها شأن ادّعاء الوحدة وتكريس مقولة الجماعة والأمّة لا تحقّق الانسجام، بل توصد أبوابه كليّا.
2) شتات الجماعة وزيف الوحدة:
بعد استقراء تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة ينبّه عبد المجيد الشّرفي[4] على أنّ الإمبراطوريّة الإسلاميّة لم تبق موحّدة إلاّ فترة وجيزة من الزّمن؛ فمنذ القرن الثاني هجري بدأ استقلال الدّويلات أو الدّول التّي نشأت في الأوّل على هامش رقعة الإمبراطوريّة الإسلاميّة وحتّى في قلب هذه الإمبراطوريّة، إذ بدأ الأمر مع الأدارسة في المغرب الأقصى ومع الأغالبة في تونس، ثمّ انتشر في بلاد المشرق حتّى أنّ بغداد مركز الخلافة العباسيّة سقطت في القرن الرّابع هجري في أيدي البويهيّين ثم السّلاجقة من بعدهم. كما يؤكّد محمّد الطّالبي حالة التّشرذم وزيف الجماعة والوحدة بقوله[5]: "إنّ الأمّة الإسلاميّة تتفكّك رويدا رويدا من الدّاخل، فإذا كان (الإسلام ـ ثقافة) لا يزال صلب العود فإنّ (الإسلام - قناعة) أي الإسلام الحيّ والفاعل غارق في حدّ ذاته في الأزمة وعرضة للتّفتت، إمّا عن جهل، وإمّا نتيجة لعدم المبالاة؛ إذ هناك من لا يدّخر جهدا ليبثّ بكل الوسائل الخلط بين هذين النّوعين من الإسلام. فإذا كان (الإسلام ـ قناعة) يفترض وجود (الإسلام - ثقافة)، فإنّ العكس غير جائز؛ أي أنّ (الإسلام - ثقافة) لا يفترض وجود (الإسلام - قناعة)".
لذلك يحذّر هذا المفكّر من الخلط بين هذين الضّربين من الإسلام الّذي يعمل بعضهم على تمريره وتكريسه لأنّهم، بمثل هذا السّلوك، يتواطؤون موضوعيّا وعن غير قصد مع بعض المناورات. ويخلص المؤلّف إلى أنّ وجه الأمّة الإسلاميّة قد تغيّر كثيرا، إذ يرى أنّ دار الإسلام قد أصبحت بعبارته معزلا خانقا وعقبة، لأنّها أمست دارا ضيّقة انحصرت فيها الأمّة فكرا وعددا[6]. ويميّز في السيّاق ذاته بين الأمّة كمجموعة إيمانيّة وبين الأمّة كمجموعة سياسيّة؛ ذلك أنّ الإسلام ليس بقوميّة، لأنّه اليوم لا توجد قوميّة أفرادها كلّهم مسلمون. وعليه، فإنّه يشترط احترام الفوارق والحقّ في المغايرة لتجنّب العقبة ووهم الوحدة والأمّة. وحتّى المنظّرون لمشروع الوحدة في العالم العربيّ واهمون كذلك، لأنّ الانطلاق من فكرة أنّ العالم في الأصل واحد لا يعسر توحيده حول إيديولوجيا معيّنة، وأنّ الاختلاف والتّعدّد زائفان ليس إلاّ نظرا اعتباطيا يؤديّ إلى استبعاد الاختلاف وعدم الاعتراف به. فالثّابت أنّ فضاءنا العربي بعبارة عبد المجيد الشرفي[7] "يشبه مغارة علي بابا. فنجد من يعيش بجسده بيننا ولكنّه بإحساسه وبفكره يعيش في القرون الوسطى. ونجد من هو متفاعل مع الأوضاع المحلّيّة ومع أوضاع المجتمع الذّي يعيش فيه ونجد من هو متفاعل مع الآخر وما يحدث في البلدان الغربيّة أكثر مما هو متفاعل مع مجتمعه." ذلك أنّ التّمزق الجارف للجسد العربي يشي حتما بزيف الأصالة.
بعد صعود الإسلام السياسي سدّة الحكم توهّم أنّه قادر على اكتساح الأوطان العربيّة الإسلاميّة بتصوّراته المغلوطة والاندساس بأوهامه في بقيّة دول العالم
II– وهم الأصالة:
1) السّلفيّة الجديدة بين التّلفيق والتّعالي:
إنّ أصحاب مرجعيّات الإسلام السيّاسيّ بعبارة فريد بن بلقاسم[8] "يعملون على ترميق الهويّة لكونهم يتبنّون الإسلام مرجعيّة في رؤيتهم للذّات من جهة والنّظر للآخر من جهة أخرى، وهم يستأنسون بقسم من قيم العصر لا يرونها تتعارض مع تلك المرجعيّة أو هم يعملون على أسلمتها في سعي لأن يكونوا أوفياء على طريقتهم لما يعتبرونه جوهر الرسالة الإسلاميّة من ناحية أولى، ومنسجمين مع مقتضيات عصرهم من ناحية ثانية، فتجدهم يتقبّلون الواقع الجغراسياسيّ المعاصر وما يترتّب عليه من محدّدات انتماء وهويّة فضلا عن كونهم لا يجدون حرجا أو مانعا إيديولوجيّا أو عقائديّا في التعامل مع الآخرين والتّفاعل معهم بالقدر الذّي يحفظ ما يعدّونه خصوصيّة ثقافيّة ودينيّة. لذلك يؤكّد عبد المجيد الشرفي[9] حدّة المشكلات النّاجمة من أسلمة الحداثة في العالمين العربيّ والإسلاميّ، لأّنّ الحداثة تقتضي الأخذ بالنّواحي المادّية والأخلاقيّة من الغرب في الآن معا. أمّا الاكتفاء بما هو ماديّ والإبقاء على ما هو قيمي على الحالة الّتي هو عليها يؤدّي بنا إلى الأخذ من الغرب إلاّ ما هو جاهز حتّى وإن سمّيناه بأسماء عربية وألبسناه لباسا إسلاميّا. وهذا النّوع من السّلوك سيفضي حتما إلى التّلفيق المنافي للأسلمة الحقيقيّة أو لنقل إنّ التّرميق والتّلبيس يطغى على خطابات السّلفييّن الجدد. وينضاف إلى هذا التّخبط في التّعامل مع الحداثة سلوك آخر لا يقلّ سوءا عن الأوّل، لكونهم لا يعترفون إلاّ بهويّتهم الإسلاميّة ويتعالون على بقيّة الإيديولوجيّات ويسقطون مفاهيم قديمة على الواقع المتجدّد. والدّليل على ذلك، أنّهم يظنّون المسلمين قد عرفوا الدّيمقراطيّة قديما بما أن الشّورى كانت سُنّة تتّبع في الشّأن العامّ، والحال أنّ هناك بونا شاسعا بين مصطلحي الدّيمقراطيّة والشّورى. كما تخيّل إليهم أنّ الآخر أو الغرب لم يتقدّم إلاّ بفضل منجزات الحضارة العربيّة الإسلاميّة، بل إنّ تراثهم هو الذي صنع الحضارة الغربيّة نافين بذلك كل جهد بذله روّاد النّهضة وحركة التّنوير والثورات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التّي شهدها العالم الغربيّ.
إنّ هذا التّعالي في رؤية الذات والآخر يؤدّي حتما إلى وهم امتلاك الحقيقة وحصر الهويّة وتسييجها في دار الإسلام إذا لا ترى إلاّ نفسها، وما عداها فهو يدخل في دار الكفر. ذلك ما تلمسه فعلا في بلدان الثّورات العربيّة. فبعد صعود الإسلام السياسي إلى سدّة الحكم توهّم أنّه قادر على اكتساح الأوطان العربيّة الإسلاميّة بتصوّراته المغلوطة خاصّة والاندساس بأوهامه في بقيّة دول العالم عامّة.
نحن نعيش حتما مأزقا هوويّا، ومن ثمّ فنحن عاجزون عن بناء علاقة جيّدة بالآخر على أساس التّفاعل وليس التّعالي.
رغبة الأصوليّ في إسقاط الماضي على الحاضر أو شعوره بأن هويّته مستهدفة تؤدّي به لا محالة إلى التّطرّف
2) الانزلاق نحو الأصوليّة:
إنّ الوقوع في الإسلامويّة التّي هي في الأصل نتاج فكر متطرّف وليست من الدّين في شيء يفضي حتما إلى جعل الإسلام فوبيا تؤرّق العالم الغربي، إذ إنّ رغبة الأصوليّ في إسقاط الماضي على الحاضر أو شعوره بأنّ هويّته مستهدفة تؤدّي به لا محالة إلى التّطرّف. وكثيرا ما يستغلّ الإسلام السياسيّ هذه النّزعات للتّجييش والتّعبئة لشحن أتباعه ولتبرير مقولاته وأطروحاته القائمة على فكرة أنّ الإسلام هو الحلّ. لذلك باتت عبارات من قبيل الإرهاب الإسلاميّ والتّطرف الإسلامي والإسلام الفاشي نعوتا متداولة على نطاق واسع[10]. وفي هذا الصّدد، يؤكّد لطفي المرايحي الفكرة السابقة بقوله: "بل إنّ علاقتنا بالغرب صارت متوتّرة والعرب يتحمّلون بدورهم نصيبا لا بأس به في تشنّجها وتعميق هوَتها من حيث يشعرون أو لا يشعرون … وهي ببساطة وهن في فهم الآخر وفهم الذّات معا[11]". فطغيان الخصوصيّات والنّزعات الفئويّة والإقليميّة تحت شعار الوحدة والاحتكام إلى منطق الإيديولوجيّات المعتقدة بالهويّات الصّافية يؤدي إلى التّماثل أو الإدانة؛ بمعنى إن لم تكن في صفّي فأنت ضدّي. وحتّى النّخبة حسب علي حرب[12] وقعت في هذا المطبّ، لأنّها عجزت عن ممارسة دورها التّنويري. فهم حسب رأيه "فقهاء أصوليّون، لأنّهم اكتفوا بكشف الثّغرات والعيوب المهيمنة على العقل العربي دون أن يمارسوا النّقد بمفهومه الأنطولوجي؛ أي دون أن يستشرفوا أفقا فكريّا جديدا يجعل ما كان ممتنعا جائزا … ذلك ما جعل الخطاب العربي المعاصر ينزلق في الانتقائيّة أو التّلفيق أو الدّوغمائية انتهاء إلى الأصوليّة الضّاربة في التّماهي مع الأصل والتّطابق مع الذّات ظنّا منها أنّها بلغت الأصالة."
إنّ الأصالة بعيدة كلّ البعد عمّا هو تقليديّ أصوليّ متطرّف، بل هي تتصدّى لكلّ جمود فكريّ في التّعامل مع التّراث، وهي في المقابل تعتني بالإبداعات الجديدة وتنفتح على تجارب الشّعوب الأخرى وتعمل أيضا على استدماج ما تحويه من جوانب عقلانيّة خلاّقة.
خاتمة:
لقد اتضح لي من خلال تشخيصي لضرب من ضروب أوهام الهويّة، أنّنا دخلنا منطقة الضّياع وافتقاد الأمل بعد انجراح الهويّة. ذلك ما أكّده نصر حامد أبوزيد[13] في أكثر من موضع "إذ باتت الطائفيّة والتشرذم وغطاء الدّين تشكيلة متواطئة مع بعضها البعض لتفرّخ الإرهاب والعنف".
لذا حريّ بنا إعادة النّظر في بديهيّات الماضي دون القطع معه أو تهميشه بل ما ينبغي فعله باستمرار هو أن نسائل مفهوم الهويّة بما أنّها تواصل عبر الزّمن كي نتمكّن من سبر رحلتها وحتّى ندرك ما علق بها من إضافات أو ما حذف منها من إبداعات.
قائمة المراجع:
* أبو زيد نصر حامد. دوائر الخوف. المركز الثّقافي العربي. الدّار البيضاء، ط 3، 2004.
* بن بلقاسم فريد. قضايا الهويّة في الإسلام المعاصر. ط1، جانفي 2013.
* حرب علي. الممنوع والممتنع. المركز الثّقافي العربي الدّار البيضاء ط1، 1995.
* السّعفي كلثوم. نحن والغرب. مؤسّسات عبد الكريم بن عبد الله تونس ط1، 1992.
* الطّالبي محمد. أمّة الوسط. دار سراس للنشر ط1، 1996.
[1] أبو زيد نصر حامد. دوائر الخوف – المركز الثقافي العربي – الدّار البيضاء. ط 3 - 2004 - ص 38
[2] المرايحي لطفي. الهويّة العربيّة: فجوة الأدلجة والواقع. الأطلسيّة للنشر. ط 1 – 2011 – ص 7 و8
[3] المرايحي لطفي. المرجع نفسه. ص 18
[4] السّعفي كلثوم. نحن والغرب: مؤسّسات عبد الكريم بن عبد الله. أفريل 1992، ص 90
[5] الطالبي محمد. أمّة الوسط. دار سراس للنشر 1996: ط 1. ص 66
[6] الطالبي محمد. المرجع نفسه ص 69
[7] السّعفي كلثوم. المرجع نفسه ص 90
[8] بن بلقلسم فريد. قضايا الهويّة في الإسلام المعاصر. ط 1 يناير 2013. ص 128 و129
[9] السّعفي كلثوم. المرجع نفسه.
[10] بن بلقاسم فريد. المرجع نفسه ص 115
[11] المرايحي لطفي. المرجع نفسه ص 14 و15
[12] حرب علي. الممنوع والممتنع، المركز الثّقافي العربي. الدّار البيضاء. ط1 1995. ص 99
[13] أبو زيد نصر حامد، المرجع نفسه، ص 38