وهم العذرية في الثقافة الذكورية
فئة : مقالات
قادت التصورات السائدة عن الشرف والعفة وحفظ الفرج إلى الإعلاء من مفهوم العذرية، وارتبط هذا المفهوم بالمرأة من دون الرجل، كما هو الحال في غيره من المفاهيم الأخرى، فتعرف العذراء أو البتول أو البكر في الأصل على أنها المرأة التي لم تقم علاقة جنسية سابقًا، ومن هنا وصفت السيدة مريم بالعذراء في الديانتين المسيحية والإسلامية. والبتولية أو العذرية هي الحالة في كون المرأة بتولًا أو عذراء. أما في الاستخدام العام لكلمة بتولية، فيتسع ليتعدى ذلك جنس الشخص (سواء أكان رجلًا أو امرأة)؛ فقد يكون الرجل أيضًا بتولا، وهو الرجل الذي لم يقم علاقة جنسية سابقة، أو قد يستخدم هذا التعبير للحديث عن الأدوات أو الأشياء، كأن يقال "أرض عذراء" أي الأرض التي لم تطأها قدم إنسان من قبل. وقد حدّد إبراهيم محمود العذرية بوصفها رمزًا من رموز السلطة الذكورية في العمق المجتمعي، وهي رمز امتلاك الرجل للمرأة أصلا، "إذ يستحيل النظر في موضوعة العذرية إلا باعتبارها جنحة أنثوية مدمجة بها، تلاحقها كلعنة، وتوليفة الذكر الذي يتحرى الجسد في نطاق التفاوت القيمي، عبر دمغة تحيل إليه وتتهدد المرأة في جسدها، منذ البداية، الجسد الذي لا يمكنه الانتقال المرحلي من وضعية العذراء إلى وضعية المرأة إلا بتدشين احتفالي، طقوسي من قبل الذكر بالذات، وبشهادة الشهود، عبر رؤية الدم الأحمر الخاص، وما في ذلك من محاكمة لكينونة الجسد الأنثوي بالذات"[1].
تواطأت القوانين الدينية والمدنية والأعراف والتقاليد كلها مع الرجل، فأباحت له تجريم المرأة وجواز طلاقها، إذا اكتشف أنها ليست عذراء ليلة الزفاف
هكذا اختزل مفهوم العذراء، أو البتول، أو البكر، في غشاء البكارة، والبَكَارة بالفتح هي الجلدة التي على قُبل المرأة، وتسمى عذرة أيضًا والعذراء هي المرأة التي لم تفتض. والبكر هي التي لم يقربها رجل، ويقال للرجل بكر إذا لم يقرب امرأة، ومنه قول الرسول: "البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة". هذا هو المعنى اللغوي للبكارة، ومن الواضح أنه يحيل على المرأة والرجل بالدلالة نفسها، غير أن التعريف الطبي يقصره على المرأة؛ لأنه يحاصره في الدلالة البيولوجية، فهو "عبارة عن غشاء موجود حول فتحة المهبل الخارجية، ويتكون من طبقتين رقيقتين من الجلد بينهما نسيج رخو غني بالأوعية الدموية وغشاء البكارة لا يكون مصمتًا إلا في حالات نادرة، وفي ما عدا ذلك تكون له فتحة تسمح بمرور دم الحيض إلى الخارج"[2]. وقد جرى تضخيم الطقوس التي تحتفي بهذا الغشاء، وبفضّه، بوصفه الدليل الوحيد على شرف المرأة، بل تعدى الأمر ذلك إلى حصره في رؤية الدماء ليلة الزفاف، فطالما هناك دماء فالمرأة شريفة، وتفوز بصك البراءة الذي يمنحها الرجل إياه، وإن كانت غير ذلك. أما إذا غابت الدماء لأي سبب كان، فالمرأة ليست شريفة، ولو كانت مريم العذراء. وهكذا ارتبطت العذرية بالمرأة من دون الرجل؛ لوجود دليل عليها، وهو غشاء البكارة، بينما ظل الرجل بمنأى عن مفهوم العذرية؛ لغياب الدليل على عذريته، وتواطأت القوانين الدينية والمدنية والأعراف والتقاليد كلها مع الرجل، فأباحت له تجريم المرأة وجواز طلاقها، إذا اكتشف أنها ليست عذراء ليلة الزفاف، وهذا ما حدث في قضية الشاب الفرنسي الذي تزوج من فتاة مغاربية على أنها عذراء، ثم اكتشف عكس ذلك ليلة الزفاف، فتقدّم بطلب إلى محكمة ليل التي قضت بالحكم لصالحه، وإعفائه من نفقات الطلاق، مما أثار فضيحة أخلاقية في فرنسة، فهبت الجمعيات النسائية، والثقافية للمطالبة بإلغاء هذا القرار الذي قد يسبب تراجعًا في مستوى الحريات في فرنسة[3]، بينما لا يوجد ما يبيح للمرأة طلاق زوجها إذا اكتشفت أنه غير أعذر، إذ لا دليل على افتضاض عذريته، ثم شجّعت قوانين جرائم الشرف، والعقوبات المخفضة لمن يرتكبها على ارتكاب الجرائم بحق النساء بدون أدلة واضحة، وشاع قتل الزوج لزوجته، أو أخته، أو ابنته، وحتى أمه، تحت مسمى جريمة شرف، مما شجع البعض على ارتكاب جرائم لدوافع أخرى، وتقديمها على أنها جرائم شرف، طالما أن القوانين تعاضد الرجل في هذا المجال.
إن ربط العذرية بالمعنى الحسي لها، المتمثل في غشاء البكارة يثير إشكاليات عديدة، فإذا كان الغشاء هو الدليل الوحيد على صون المرأة لجسدها وشرف الرجل، فما حال المرأة المتزوجة التي قدّمت دليل براءتها وعفتها، وصارت حِلّا من ذلك الختم الذي كان يختم جسدها، ما الذي سيضمن شرفها بعد ذلك وما الدليل عليه؟! وما حال المرأة المطلقة أو الأرملة التي فقدت عذريتها بطبيعة الحال؟! ثم إن ربط حفاظ المرأة على جسدها بشرف الرجل، خلق أيضًا إشكاليات عديدة، ونتج عنه فقد المرأة لحريتها، وامتلاكها من قبل الرجل، والتمييز الطبقي بين النساء أيضًا، وشرعن لسجن المرأة، وحجبها وكشفها وفقا لأهوائه، ووأدها خوفًا من جلبها العار له، وختانها لتخفيف شهوتها وحفظًا لها من ضياع شرفها الذي يعني شرفه.
عمّق التصور السابق عن مفهوم الشرف، وربطه بالمرأة تبعيتها للرجل، وحرمانها لأبسط حقوق الملكية، وهي ملكية الإنسان لجسده، فصارت المرأة لا تملك جسدها، بل سادت قطيعة بينها وبينه. ومنذ نعومة أظفارها تحاصر بمجموعة من القوانين والأعراف التي تنمّي لديها التعامل مع جسدها وكأنه أمانة عندها، أو أنه جزء غريب عنها، وعليها صونه والحفاظ عليه إلى أن يأتي صاحبه ومالكه الذي يحق له فتح أقفاله، وكشف مكنوناته. والويل لمن تحاول كشف المستور، وفتح الأقفال الموصدة بنفسها، فذلك سيلحق بها العقاب الذي يصل حدّ الموت. أما الرجل، فظل بعيدًا عن كل ذلك، وخاض تجربة اكتشاف جسده منذ نعومة أظفاره، وتعرّف على أسرار الجسد ورغائبه وأهوائه، بدون أن تحاصره القوانين والأعراف، أو يلحق به العقاب أيًّا كان نوعه. وقد تنبهت النسويات إلى هذه القضية، فها هي نانسي فرايدي تشير إلى الحرية التي يتمتع بها الطفل الذكر، وهو يمسك بعضوه، وتؤكد ذلك جيسي بوتر في تعليلها لإصابة البنات بالذعر إذا رغب الأولاد بلمس أعضائهن التناسلية، وعدم قدرة الأولاد على استيعاب ذلك؛ لأن الولد يلمس ذكره في كل مرة يريد التبول فيها، بل لا يقتصر الأمر على ذلك فالأولاد يمارسون الاستمناء على مرأى من بعضهم البعض بدون أدنى إحساس بالذنب، أو الخوف والخجل، بينما تعجز الطفلة الأنثى عن ذلك، إذ تتلقى أهم الدروس عن جسدها، ومن الشخص الذي يمكنه احتضانها أو إطعامها أو توجيهها، وتُنهر حينما تلمس عضوها التناسلي[4].
تعاملت الثقافة الذكورية مع الجسد الأنثوي بوصفه سلعة قابلة للبيع والشراء، والرهن والسلب، والكشف والحجب، والوأد الرمزي بعد غياب الوأد الفعلي بالإقصاء والإخفاء، والتصميت الشامل والمتكامل الذي أحال المرأة إلى مجرد مسخ ليس له ملامح أو صفات أو تفرّد[5]. ولعل أبرز مظهر من مظاهر الاستلاب الذي تعرضت له المرأة، هو عدم ملكيتها لجسدها، ويظهر ذلك واضحًا في تبعيتها للأب، أو للأخ، أو للزوج، أو حتى للابن في غياب الزوج. وأدى عدم امتلاك المرأة لجسدها إلى شرعنة مراقبة المجتمع للمرأة في كل حركاتها وسكناتها، وتحديدًا حياتها الجنسية، وعدّها أمرًا لا يخصها وحدها، لأنه مرتبط بشرف الرجل والعائلة، وهو ما أدى ويؤدي إلى جرائم الشرف. وفسّرت رجاء بن سلامة هذا الأمر من خلال ربطه بالصيغ العلائقية التي "تجعل جسد المرأة ملكًا للزوج أو الأسرة، وهي صيغ مترسبة من البنى المجتمعية التي كانت فيها المرأة موضوع تبادل بين الرجال لا ذاتًا داخل عمليات التبادل الاجتماعي، وهي صيغة... تؤدي إلى تكريس تصورات عتيقة للشرف، تربطه بالحياة الجنسية وتقصره عليها، وتجعل جسد المرأة مجال رأسمال رمزي للرجل، حيث إن شرفه لا يتلوث بما يعقده هو من علاقات، بل يتلوث بعلاقات قريباته الحقيقية أو المتخيلة برجال آخرين"[6].
وقاد ذلك إلى تسويغ العنف ضد المرأة، والتحايل عليه تحت مسميات عديدة؛ ففي "كل أنحاء العالم وفي كل لحظة، هناك نساء يغتصبن ويضربن وتسترقّ أجسادهن نتيجة الاتجار بها، وهناك نساء يتعرضن إلى الملاحقة والشتيمة والإهانة، ويعيّرن في الطرقات العامة، أو يعيّرهن الأقارب بأنهن عاهرات... فثقافة العنف ضد النساء هي التي تجعل الناس يعتقدون أن العنف ليس عنفًا، وهي التي تسمي العنف بأسماء أخرى هي حماية المرأة، أو تهذيبها، أو الدفاع عن الشرف والعرض والخصوصيات الثقافية... فثقافة العنف هي التي تجعل النساء والرجال لا يعتبرون العنف عنفًا، وهي التي تنتج احتقارًا منظمًا للمرأة ولجسدها، وحدًا لحريتها وطموحاتها"[7].
تعاملت الثقافة الذكورية مع الجسد الأنثوي بوصفه سلعة قابلة للبيع والشراء، والرهن والسلب، والكشف والحجب، والوأد الرمزي بعد غياب الوأد الفعلي
وإلى ذلك، فقد ارتبط العنف ضد المرأة بالتمييز والاحتقار للمرأة، إذ استهدفت المرأة بالعنف بوصفها أنثى لا بوصفها إنسانًا أو مواطنة، فهي تتعرض للعنف على أساس أنها كائن مؤذ، أو مصدر فتنة للرجال، أو تجلب العار إذا لم تحافظ على شرفها الذي هو شرف الرجل مالكها، وبلغ التمييز درجة جعلت حتى الشتائم الموجهة إلى الرجال، تحمل التمييز نفسه ضد النساء، فالرجل في مجتمعاتنا يشتم بالمخنث ونسواني ومأبون وغيرها[8]. ويؤدي الرجل دورًا سلبيًا في الحفاظ على شرف المرأة الذي يعدّه شرفه، فهو يتسم بالازدواجية والتناقض، فمن جهة يطالب المرأة بالحفاظ على شرفها من أجله، ومن جهة ثانية ينتهك شرف المرأة بالتحرش بها، والذي يصل إلى درجة الاغتصاب، فهو يريدها شريفة وعفيفة حينما يتعلق الأمر بذويه من النساء، حتى يظل شرفه في مأمن، ويريدها أن تستجيب لرغائبه ومتعه، حينما يلاحقها ويضايقها حتى في لقمة عيشها إلى أن تخضع له، وفي كلتا الحالتين يوجّه اللوم والإدانة إلى المرأة، وينسى أنه طرف في هذه العملية، بل إن الرجل هو الطرف الأكثر تأثيرًا في عملية التحرش الجنسي التي تنتهك كرامة المرأة وحقوقها، ولا سيما حينما تكون المرأة مجردة من المؤهلات، التي تمكّنها من مواجهة الرجل والتصدي له، وبخاصة إذا كان يمتلك زمام مصيرها بشكل أو بآخر، فإنها تسقط ضحية، ويرسّخ الرجل بذلك التراتبية الجنسية التي تجعل منه سيّدًا وصيادًا دائمًا، وتجعل من المرأة تابعة وفريسة منتظرة[9].
وكان لا بد من أن ينعكس ذلك الإرث الثقيل الواقع على المرأة في الآداب والفنون جميعها، وقد ظهر ذلك جليًا في العديد من الأعمال الأدبية والفنية، غير أن الكتابات النسوية احتفت بهذا الموضوع؛ أي الشرف والمرأة، وما يتصل به بطريقة مغايرة ومن وجهة نظر، ورؤية نسوية، فأعادت تمثيل ما لحق بالمرأة التي كبلتها العادات والتقاليد والأعراف والقوانين، وحاصرتها في إطار الجسد وفي جزء محدد منه، وكشفت عن الانتهاكات التي لحقت بها، ما أدى إلى تبني رؤية جديدة تمردت على المفاهيم السائدة حول المرأة والشرف، ونسفت عرض الحائط بالقدسية التي طالت بعض الأمور المتعلقة بالشرف كالعذرية وسخرت منها، عبر فضحها لعقلية الرجل الذي يستريح لرؤية الدماء التي توحي بالعذرية، والحفاظ على شرف الرجل والعائلة، بينما من الممكن أن لا تكون المرأة عذراء إطلاقًا، وقدّمت مفهومًا جديدًا للعذرية. وأكدت على هوية جسد المرأة وحقها في امتلاكه وحرية التصرف به.
[1]- محمود، إبراهيم: زئبق شهريار، جماليات الجسد المحظور في الرواية العربية النسوية، دار الحوار، ط1، 2012، ص 93
[2]- أبي يسيرة، هشام بن سيد بن حداد: الغارة على رتق غشاء البكارة، مراجعة وتقديم: مصطفى بن محمد بن سلامة، مكتبة الدعوة بالأزهر، ط1، 1996، ص ص 11-12
[3]- ينظر: نموذجان مما كتب بفرنسا عن قضية محكمة ليل، مجموعة من الكتاب، تر: عادل الحاج سالم، 13، حزيران، 2008، ص 12 ضمن ملف مجلة الأوان.
[4]- فرايدي، نانسي: أمّي مرآتي بحث الابنة عن هوية، ترجمة: راتب شعبو، تيسير حسّون، دار السوسن، دمشق، سورية، ط1، 2000، ص85، وينظر ص 229
[5]- حماد، حسن: جسد المرأة العربية بين فتنة الغواية وعنف القمع، ضمن كتاب إشكالية الجسد في الخطاب العربي الإسلامي، أعمال المؤتمر الدولي المنعقد بتاريخ 15 و16 أبريل، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر، ط1، 2012، ص 342
[6]- بن سلامة، رجاء: بنيان الفحولة، أبحاث في المذكر والمؤنث، دار بترا للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2005، ص 109
[7]- المرجع نفسه، ص 101
[8]- المرجع السابق نفسه، ص 105
[9]- ينظر: أزرويل، فاطمة الزهراء: البغاء أو الجسد المستباح، أفريقيا الشرق، المغرب، 2001، ص ص 57-58