يسألونك عن الفتوى والقتلى أو جنون العمامة وجذورالمحرقة


فئة :  مقالات

يسألونك عن الفتوى والقتلى أو جنون العمامة وجذورالمحرقة

 يسألونك عن الفتوى والقتلى

أو جنون العمامة وجذورالمحرقة


في الذاكرة المستعادة للتاريخ تقوم العقلية الاجترارية باستدعاء ميراث العنف السياسي والقمع الفكري إلى ساحة التداول العام لإضفاء الشرعية والمشروعية على سلوكها المجتمعي وتنظيمها الإيديولوجي، وهكذا تعيش الذهنية على سوابق الماضي وتعكف على إحياء ذكراها، وجعلها كنوازل محينة تقفز بها على منطق الراهن وتحدياته، فتقوم بعمليات الإسقاط المعرفي والعسف في الإحالة المرجعية، لوصل الصلة واختصار المسافات بين الأزمنة واستنساخ التجارب رغم الفارق في القياس.

ولعل جماعات العمل الدعوي وتنظيمات المنزع العقدي المتطرف من أبرز حالات الارتهان لهذا المنطق، فهي في طبيعتها لا تمتلك حساً نقدياً ولا مشروعاً فكرياً، وكلّ ما تعوّل عليه بعض الأفكار الهلامية وخوارق اللاشعور المسنودة بجملة من النصوص والحواشي الفقهية، ممزوجة بروح انفعالية حادة على مستوى الشعور، وبسطحية تأويلية تركن إلى حرفية في الاستدلال وضعف في الاعتبار المآلي.

كلّ هذا أمعن في إغراق هذه الأطياف الإيديولوجية بتصورات خاصة عن الدين والمجتمع والحياة، عكس ذلك ارتماء تلك الأطياف في أحضان العنف والإرهاب المادي والمعنوي، واجتراحها لثقافة مركبة تعتمد نهجين متناقضين في المد والجزر، إذ تفضل الانعزال والابتعاد عن طرائق التدبير في مجتمعها وتعيش في إطار خلايا منغلقة، بالقدر الذي تراكم في بناء طموح سياسي كبير يروم إنشاء مجتمع جديد، يكون على أنقاض "مجتمع الجاهلية" الذي تحاربه وتحارب من أجله في الوقت ذاته.

فهي بذلك جماعة انطوائية تبقى على مسافة مع المنطق العام للدولة والمجتمع، دون أن يطفئ فيها ذلك وهج التفكير في صياغة واقع جديد، يحسم بضرورة تطبيق الشريعة وإسناد الحاكمية لله وحده، طرحاً لمثالب مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والحرية، وطلباً لمعالم الهداية والسلفية والتوحيد.

ولتحقيق مقاصدها العليّة تتوسل ما تيسّر من وسائل تقع في خانة المباح مادامت معالجة في مختبر المصلحة الكبرى للأمّة، وبعدها يهون كلّ أمر جليل ولو أجمعت الخلائق على سماجته واستنكار قربانه، فالحرق والقتل والاختطاف والفداء والتفجير كلها آليات بريئة إذا حكمت بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، والحال أنّ "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

واستناداً إلى هذه القاعدة الذهبية ستنتقل الاستراتيجية الدعوية من نداء الرحمة والتعامل بالتي هي أحسن والمجادلة الفكرية، إلى رهان جديد يقوم على أساس الإجبار والانتصار للفكرة على حد السيف وعلى فوهة البندقية والمدفع، لفرض الواقع وحسم محل النزاع مع المخالف في الداخل والخارج.

فزمن البيان للناس وتسديد حالهم بالنظير انتهى عهده، وصار إلى خلاصات حاسمة تستعجل الحلّ وتبغي دنو الثمار التي يحول دون قطافها شوك الضلال والفجور، وقد توسّع طوق الحصار على الثمرة المستطابة في الشجرة التي يحمل عودها أهل الحق والباطل معاً، فالمنافرة تقتضي المنازعة والمنازعة سبيل إلى المنازلة في المقام والمقال.

فخطاب الإرهاب والتشدد والعنف اللغوي ليس ترفاً فكرياً في النظام المعرفي لهذه الجماعات، بل هو خلفية نظرية لمجمل الأعمال والأنشطة الميدانية التي تفيض من خلالها عقدة التفوق والطهرانية التي يحوزها المنضوون داخل هذه التنظيمات، فهذه الخلفية النظرية المغشوشة هي التي تؤطر الانخراط في العمل الإجرامي الذي ينهجه أفراد هذه التنظيمات، وهي التي تسمح لهم بمعانقة أنشطة كانت محصورة في فئة تجار الممنوعات، وفي إطار أدبيات الجريمة المنظمة والمنشقين في أي مجتمع.

وإلا فما علاقة الدين والانتصار لمقاصده في تفاصيل التعامل بالوسائل القذرة في المجتمع، التي يرفضها الحس المشترك والقانون والأديان؟ فالمتاجرة بالمخدرات وتوظيف أموالها في حصيلة أعمال الإرشاد الدعوي، وكذلك اختطاف الأبرياء وجعلهم رهائن لاستدرار الأموال وتحصيل الفداء من الدول، أمر يصعب على العقل تقبله قبل النقل، ويمضي التفكير بهذه الطوائف إلى رمي الناس في الأماكن العمومية بالنار والبارود، وهدم البنيان على أمّ رؤوسهم دون تفريق بين الجاني والبريء، وزرع الرعب في الجو بإسقاط الطائرات وتعكير أمن المطارات والفنادق والمؤسسات المدنية والديبلوماسية، كلّ هذا جنوح بيّن عن الأعراف والقوانين والأخلاق ومستباح في شرعة الانقتاليين والانتحاريين الجدد.

لقد تمزّقت أوصال الأمّة الإسلامية فقراً وتخلفاً واستبداداً، فما بقي لها إلا أن ينخر السرطان الإرهابي في خلاياها، ويضع مصيرها في معترك فيروسات لا تبقي الحياة في الجسد المترهل، ولا تدع تفكيراً مستقيماً في دماغها الثقيل بهموم الماضي أكثر من الحاضر.

ولكنّ العقل الذي يغذي هذا الفيروس يملك ذاكرة فتاكة، لا تنسى أسباب الإجهاز على الأعضاء الحية في الجسد وشلّ نظام التفاعل بينها، لأنّ منطق الاسترجاع لديه قوي للغاية يجعل من الذاكرة المستعادة قانوناً يفرض جنونه على مفاصله الدقيقة.

فالعناصر التي يشتغل بها هذا العقل لها دماغ فكري وسياسي موحّد رغم تعدد المشارب والجينات، وإلا كيف ينتظم في سلكها الهاربون من القانون وأصحاب السوابق القضائية وذوو حالات العود الجنائي؟ وكيف يأتلف في أحشائها مروّجو الممنوعات وأصحاب الحرف اليدوية والباعة المتجولون، وأصحاب الأهواء وتعساء الحياة وملفوظو المجتمع من بؤساء الأحياء الصفيحية، ويحكم قبضة هذا التنظيم دراويش الفكر السلفي مع المتنطعين في الدين مسنودين بخبراء في التقنية وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات؟

هذه التركيبة العجيبة والاستثنائية لا تلتقي إلا داخل منطق الصدف التاريخية، وهاهي التنظيمات الجهادية تنجح في لمّ هذه الألوان المجتمعية والطبقية في بوتقة واحدة، وتحت راية سوداء تهتف "الله أكبر"، وتزحف لنيل المنى في غزوات العصر في بلاد الإسلام قبل أوروبا وأمريكا وهلمّ جراً.

ثم إنّ هذه التركيبة الاستثنائية هي ما يجعل من التطرف ظلمات بعضها فوق بعض، ويحيلها إلى طبقات من المدارج للسالكين في طريق الجحيم، فمنهم المقتصد ومنهم السابق بالخبرات القتالية، ففي الماضي كنا نعدّ تنظيم القاعدة رأس سنام الجهاد الارتدادي، حتى جاءنا الدواعشيون بالخبر اليقين عن المفهوم الجديد للسلطة العقدية على الناس، وفي الفتك بالأسرى ومصائر الخلائق.

فسياسة الحرق التي عمد إليها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، لم تبقِ للقاصي والداني عبارة للشجب ولا حسرة للندب ولا دمعة للنحيب، ولم يحسن بيان الإدانة لوقعتها إلا شقيقه من رضاعة الدماء تنظيم "القاعدة"، حين امتعض من أسلوب الحرق الذي قذف في قلوبهم المظلمة شعاعاً من الرقّة، وجعلهم يعضّون أيديهم من الندامة والاستغراب.

لكن هل يحتاج البغدادي إلى نصيحة أخيه وسلفه الظواهري لتكييف نازلة الحرق من الناحية الفقهية والعقدية؟ أم هل غدا تنظيم القاعدة محسوباً على تيّار الحمائم مع بروز تنظيم داعش المحسوب على تيّار النسور؟ أم أنّ الدم مستباح مبدئياً، ويبقى فقط التساؤل عن أنجح الوسائل لإراقته دون إثارة لفوبيا الجهاد في الداخل والخارج؟

فحينما يقف البغدادي على منبره ويعتلي رؤوس الناس مخاطباً ومزمجراً، وكأنه يحيل على الخطبة التاريخية لطارق بن زياد وهو على مشارف الضفة الأخرى، بجبل طارق، وهو يستحث في جيشه نداء الإقبال على الآخرة والإدبار عن الدنيا: "العدو أمامكم والبحر وراءكم، وليس لكم والله إلا النصر"، وأي نصر والعالم يناصب الأنصار العداء والمسلمون في ضعف بيّن، فما على البغدادي إلا أن يرفع مستوى التحذير والوعيد إلى أقصاه، فينصّب نفسه أميراً على المسلمين ويجعل من مناصريه فاتحين جدد، ولكن ليس من رحم قسطنطينية أو رومية كما يبشر بذلك الحديث المعروف، بل من عمق بلاد الرافدين والشام ثم اتباعاً عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقية، طبعاً مع استثناء المحصّنة بعين اللات والعزى إسرائيل، التي تنتشي من وقع ما يحدث أكثر ممّا تنزعج.

لقد تفطّن الغرب إلى أنّ الاستعمار لم يعد مجدياً فيما بعد الألفية الثالثة، فمنطق الحديد والنار اختفى مع الحرب العالمية الثانية وصار الرهان إلى سلط جديدة في التأثير، فالطريق إلى الحداثة والحضارة والتقدم تمرّ عبر سكة المعرفة في كلّ تمظهراتها، إلا أنّ العقل الديني في بلداننا ما يزال يرهن الإنتاج الفكري للمتون والحواشي البدوية، فما تزال الفتوى تخرج الناس عن بكرة أبيهم لحمل السلاح، وما تزال تمنع بعضهم لتحصيل العلم والمشاركة في الحياة العامّة، وما تزال تنفخ النار في الرماد لإيقاظ الفتن والأوجاع والمآسي التاريخية، وما تزال الدماء والأعراض تنتهك بصكوك الفتاوى، وأخيراً ما تزال بطون الكتب تبقر بطون النساء والأطفال والأبرياء في شوارعنا التي يلعلع فيها الرصاص، ويموت الإنسان بلا وطن وهو مدان بنصّ الفتوى.