يهود المارانوس وحرب الهويّة
فئة : مقالات
التاريخ اليهودي هو تاريخ اليهود وديانتهم وثقافتهم، بتطوراتها وتفاعلاتها مع الأشخاص والأديان والثقافات الأخرى؛ فبعد تحرر بني إسرائيل من العبودية المصرية، تاهوا وعاشوا في سيناء لفترة بلغت الأربعين عامًا قبل فتح كنعان عام 1400 قبل الميلاد بقيادة يوشع بن نون.
لقد عاش اليهود بين الاضطهاد والتسلط عبر تاريخهم الذي كانوا يصنعونه بأيديهم، فكان بعض الشعوب والملوك الأقوياء يذيقونهم سوء العذاب والاضطهاد لاختلافاتهم الأيديولوجية والدينية مع بقية الشعوب التي يعيشون فيها، مما يدفعهم للعزلة والعيش حياة الضحية التي تنتظر المنقذ الذي يخلصها من هذا العذاب.
ظلت حياة اليهود بين العبودية ومحاولات الاستعلاء في الأرض، حتى تفرقوا في ربوع الأرض جماعات وشيعا، وكان يحلو البقاء لبعضهم في وطن، في وقت كان يستمر البعض الآخر في التنقل بين الشعوب.
عاش كثير من اليهود حياة الترحال والتنقل، حتى بلغت منهم مجموعة بلاد الأندلس عام 70م، وكان ذلك قبل وصول المسيحية أوروبا.
منذ أن وصل اليهود الأندلس، وقد نشطوا في العمل التجاري والمالي حتى استطاعوا أن يكونوا ثروات عظيمة، غير أن التغيرات الزمنية كانت عاملا من العوامل المهمة التي شكلت حياة اليهود التاريخية، وجعلتهم ينغلقون على أنفسهم، أو ينفتحون على الشعوب التي عاشوا وسطها، أو يستخدمون عنصر التقية للتغلب على هذه المتغيرات.
وعلى الرغم من محاولاتهم الحفاظ على حياتهم وثرواتهم، إلا أنه في بعض الأحيان تأذى منهم البعض، وأضير عدد كبير في حياتهم وأموالهم.
عمل اليهود على الحفاظ على أنفسهم في غيتو يهودي، حتى يواجهوا المتغيرات على أرض الواقع، وظلوا كذلك حتى بلغت المسيحية الأراضي الأوروبية([1]).
يهود إسبانيا والبحث عن الذات
اليهود السفارديم (سفرديم) هم الذين تعود أصولهم الأولى إلى يهود أيبيريا (إسبانيا والبرتغال) الذين طردوا منها في القرن الخامس عشر، وتفرقوا في شمال أفريقيا وآسيا الصغرى والشام، وكثير منهم كانوا من رعايا الدولة العثمانية في المناطق التي تخضع لسيطرتها، وكانت لهم لغة خاصة هي اللغة الإسبانية اليهودية أو ما تعرف باسم (لادينو([2])) وكانت اللغة مزيجًا من اللغة اللاتينية وتحوي كلمات عبرية، ولكنهم تحدثوا لغات البلاد التي استوطنوها، كالعربية والتركية والإيطالية([3]).
تعود أصول اليهود السفارديم إلى يهود أيبيريا الذين طردوا منها في القرن الخامس عشر
وكلمة "سفرد" هي كلمة تعود إلى إحدى مدن آسيا الصغرى، ووردت في العهد القديم ضمن بلاد الأندلس.
نتيجة للتأثير والتأثر الطبيعي للمهاجرين اليهود، تحولت لغتهم العبرية إلى خليط من العبرية واللاتينية فيما عرف باللادينو مع طرد المسلمين من الأندلس في القرن 15، بالتحديد سنة 1492 م، وأفول نجم دولتهم هناك تفرق اليهود (أو كثير منهم) في حوض البحر المتوسط وشمال أفريقيا، في حين بقى البعض الآخر في إسبانيا نظرا للعامل الاقتصادي متحملين الحكم القوطي ومحاكم التفتيش الإسبانية، حيث أصبحوا يعرفون بالمسيحيين الجدد([4]).
حينما دخلت النصرانية أوروبا، حدث صدام بين أنصار الديانتين، حيث زادت حدة الصراع تجاه اليهود خلال القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد واحتدم الجدال، واستمر هذا الصراع حتى زادت وتيرته، بعدما أعلن الإمبراطور قسطنطين مسيحية أوروبا في القرن الرابع الميلادي.
كان انتصار المسيحية في القرن الرابع الميلادي بداية القهر والتمييز بالنسبة إلى اليهود في ديار المسيحية، فقد عارضوا احتكار اليهود للثروة، فعاملوهم كجالية موجودة على أراضيهم ففرضوا عليهم الضرائب، وسنوا القوانين التي تفرق بينهم وبين غيرهم.
لقد بدأ الاضطهاد المسيحي لهم مبكرا، فحرموا زواج المسيحيات من اليهود أو إجراء الختان - والذي كان من شعائر اليهودية - كما صدر قرار برجم وحرق كل من اعتنق غير المسيحية، ومن ثم استخدم اليهود التقية في التعامل مع الواقع الذي فرض نفسه عليهم بقوة([5]).
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل زاد الاضطهاد حتى اضطر بعض اليهود لاعتناق المسيحية لينجو من الاضطهاد، إلا أن دائرة الاضطهاد اتسعت لتشمل كل يهودي تحول إلى المسيحية.
ويبدو أن وضعهم كان مستقراً نوعا ما حتى عام 589م، حينما تَحول القوط عن مذهبهم المسيحي الآريوسي، واعتنقوا الكاثوليكية، وأصبحت إسبانيا جزءاً من التشـكيل الكاثوليـكي في العصـر الوسيط، فازداد تدهور وضع اليهود تماماً، حيث أجبروا على وضع شارة تميزهم، وتم فصلهم من الوظائف، بل بلغ بهم الأمر أن صار بعضهم عبيدا لدى الأسر المسيحية([6]).
ظل اضطهاد اليهود يأخذ أشكالا متعددة، مما دفعهم إلى استخدام عملية التقية والاختفاء بعقيدتهم من بطش النصرانية، حتى طرق الإسلام أبواب الأندلس، فسارع اليهود للتعاون مع المسلمين - ليس حبا في الإسلام - بقدر ما هو هرب من حياة الذل والاستعباد التي يحيونها.
اليهود في الدولة الإسلامية
وصل الفتح الإسلامي للأندلس (شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة) عام (711) بقيادة طارق بن زياد، والذي أمن جميع سكان المدن والقرى التي فتحها - حتى اليهود - ونتيجة لهذه المعاملة نزح الكثير من يهود أوروبا إلى الأندلس، واستوطنوا اشبيلية وقرطبة وطليطة وغيرها، حتى أصبح لهم أحياء مميزة.
ويؤكد جوزيف رينو أن من العوامل التي ساعدت الفتح الإسلامي للأندلس وجود أقلية كبيرة من اليهود الذين رحبوا بالفاتحين العرب في المدن.
إن الأسباب التي حملت اليهود على اتخاذ هذا الموقف من المسلمين، تتمثل في حرصهم على التخلص من حكم القوط الظالم بحقهم، هذا بالإضافة إلى الرغبة الشديدة في الانتقام منهم([7]).
لقد كان للمسلمين أسبابهم في الاستعانة باليهود عند الفتح، كي يدلوهم على عورات البلاد، ويبدو أن رغبة اليهود في تقديم العون للمسلمين دفعتهم لتوظيفهم وإشراكهم في حراسة المدن المفتوحة.
ويؤكد دوفورك أسباب مساعدة اليهود للمسلمين، ودورهم العجيب في ذلك، وهو ردة فعل في القرن الثامن الميلادي على جهود مملكة القوط التي حاولت التخلص من الأقلية اليهودية في القرن السابع الميلادي بعد اتهام عناصرها بعدم المشاركة في توحيد البلاد([8]).
عاش اليهود تحت الحكم الإسلامي حياة رغدة وثراء فاحشا، واعتبر هذا العصر من العصور الذهبية لهذه الجالية التي استوطنت الأندلس، حيث نالوا قسطا عاليا من الثراء والوظائف المرموقة، وانتعش اقتصادهم، وبزغت نهضة فكرية وثقافية عبرية نتيجة للرخاء الاقتصادي التي كانوا يتمتعون به.
برز منهم - على سبيل المثال- حسداي بن شبروط، والذي صار وزيرا للمالية وسفيرا قبل أن يعينه عبد الرحمن الثالث حاخاما أكبر ليهود الأندلس([9]).
ومع هذا، كانت هناك جماعة يهودية في جبال البرانس (في الشمال) سمح لهم شارلمان (771 ـ 814) بالإقامة ليكونوا حاجزاً ضد التوسع الإسلامي في المنطقة التي كانت تُسمَّى «ماركا هسبانيكا» كما سُمح لهم بامتلاك الأراضي في هذه المنطقة، ومُنحوا حقوقاً كثيرة لتشجيعهم على الاستيطان والبقاء في هذا الجيب المسيحي والمنطقة الحدودية؛ أي أنهم كانوا جماعة وظيفية قتالية تعمل بالزراعة([10]).
اليهود في المرحلة الانتقالية
وكان بعض أعضاء الجماعة اليهودية يشكلون جزءاً من عملية الغزو المسيحي لاستعادة إسبانيا، سواء كعنصر قتالي أو كعنصر زراعي أو إداري، كانت الجيوش المسيحية تضم في صفوفها أعداداً من اليهود.
وحينما كانت المدن الإسلامية تقع في قبضة الجيوش الغازية، فإن حقوق سكانها من المسلمين واليهود كانت تُصان من الناحية النظرية سواء بسواء.
أما من الناحية العملية، فكان أعضاء الجماعة اليهودية مُفضَّلين على أعضاء الجماعة الإسلامية، حيث كان يُسمَح لليهود بالاستمرار في سكنى منازلهم، بينما كان المسلمون يضطرون إلى السكنى خارج المدينة كما حدث في توديللا عام 1115 وسرقسطة عام 1118.
وكان يُسمَح لأعضاء الجماعة اليهودية ببناء معابدهم. وشَكَّل اليهود عنصراً استفاد منه الحكام المسيحيون الجدد في بناء المجتمع الجديد إذ استخدموهم كمترجمين للتراث العربي وغيره.
ولكن الاستفادة منهم كانت أساساً كجماعة وظيفية استيطانية يُوطَّن أعضاؤها في المناطق المفتوحة ويوظفون لتنميتها كما حدث في مورشيا وبلنسية ولامنشا والأندلس وغيرها. وكانوا يُمنحون الأراضي ليزرعوها([11]).
لم يتعرض اليهود في ظل العصر الإسلامي للاضطهاد، أو الإجبار على التحول للإسلام - بمعنى الاضطهاد المتعارف عليه - وظل حالهم في ازدهار - معظم الوقت - حتى ضعفت الدولة الإسلامية في الأندلس، وبدأت الممالك المسيحية في الهجوم على الأراضي الإسلامية في القرن الحادي عشر الميلادي، وقتها بدأ أعضاء الجماعة اليهودية في الانتقال من إسـبانيا الإسـلامية إلى إسـبانيا المسـيحية بأعداد متزايدة.
ولعب اليهود دورا مهما في تمكين القوات المسيحية - خوفا على أرواحهم - على حساب الدولة الإسلامية المتهالكة، وذلك بعدما قويت شوكة الممالك المسيحية، والتي بدأت توجه ضرباتها للمالك الإسلامية.
والواقع أن اختيار القادة المسيحيين لليهود كيهود بلاط، وكعنصر استيطاني زراعي، يرجع إلى أنهم كانوا لا يطمحون للاستيلاء على السلطة السياسية، فهو أمر غير مطروح بالنسبة إليهم نظرا لعدم إمكان التحالف بينهم وبين أية طبقات أخرى مثل الفلاحين أو النبلاء أو القساوسة بسبب العداوة بين أعضاء هذه الطبقات وأعضاء الجماعة. وعلاوة على هذا، لم يكن أعضاء الجماعة يملكون أية قوة عسكرية، الأمر الذي يعني إمكانية التخلص منهم بسهولة. كما أن توزعهم على هيئة وحدات بشرية صغيرة منعزلة كان ييسر عملية التخلص منهم إن نشأت حاجة إلى ذلك([12]).
ويمكن التعرف على وضع اليهود الخاص بالرجوع إلى مرسوم ألفونس العاشر الصادر عام 1263، حيث حدد حقوق أعضاء الجماعة ومنحهم حريتهم الدينية الكاملة شريطة ألا يهاجموا المسيحيين، كما حرم تهمة الدم ومنع مضايقة اليهود في يوم السبت أو تعطيلهم عن أداء شعائرهم وطقوسهم الدينية، حتى لو وجدت أسباب قانونية شرعية لذلك، وحرم كذلك استخدام القوة لتنصيرهم. وكانت غرامة قتل اليهودي تعادل الغرامة التي تدفع عن قتل فارس أو قس. ولقد حاول بعض سكان المدن أن يخفضوا الغرامة، لتعادل الغرامة التي تدفع دية لفلاح عادي. وتتبدى المساواة بين اليهود والمسيحيين في قبول القسم اليهودي أمام المحاكم المسيحية.
بداية التحول والاضطهاد
غير أنه ظهرت، في مرحلة متأخرة، مجموعة مختلفة من القوانين تعبر عن تحيز واضح ضد أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا قد بدأوا يفقدون شيئا من أهميتهم الوظيفية.
وتعكس هذه القوانين بدايات التدهور الذي ألم باليهود، حيث حرم على اليهود مغادرة منازلهم في عيد القيامة، أو أن يكونوا في أي مركز يسمح لهم بالسيطرة على المسيحيين، كما حدد عدد المعابد اليهودية.
لكن ظل لأعضاء الجماعة وظائفهم المحددة التي يضطلعون بها ودورهم المميز الذي يلعبونه.
ولذا، حينما أصدرت المجامع اللاترانية (الثالث عام 1179 والرابع عام 1215) القوانين التي حدت من حرية اليهود، لم تطبق هذه القوانين في إسبانيا تطبيقا تاما.
وإن كانت قد طبقت في بداية الأمر، بصورة مخففة جدا بسبب الضرورات الناجمة عن إعادة فتح الأندلس.
كان يهود البلاط يقومون بحماية بني ملتهم في معظم الأحيان، ولكنهم كانوا يقفون ضدهم في أحيان أخرى بسبب تماثل مصالحهم وثقافتهم مع مصالح البلاط وثقافته.
كما كانوا يقلدون المسيحيين في ردائهم وحديثهم، وتنصر كثير منهم في نهاية الأمر.
وحيث إنهم كانوا يشكلون النخبة القائدة، فإن اندماجهم وانصهارهم كان يعني اهتزاز الهوية اليهودية([13]).
حرب الهوية وظهور المارانوس
كان للتنصير اليهودي جذور قديمة في أسبانيا، منذ الحملة الصليبية الأولى، حيث استجاب عدد كبير من اليهود إلى دخول المسيحية والتعميد - في ظل الأوضاع التي كانوا يعيشون فيها - لكنهم سرعان ما عادوا إلى يهوديتهم بعد زوال الخطر، وظلوا على هذا التقلب حتى دخول الإسلام الأندلس.
لم تستمر حياة الرّخاء التي ظل اليهود يعيشون فيها أثناء الحكم الإسلامي، وبداية الحكم المسيحي فترات طويلة، لكن الحال تغير مع تغير مجريات الواقع.
فما إن فرغت الممالك المسيحية من الوجود الإسلامي، حتى تنازعها الوجود اليهود، حيث كان لدى المسيحي عقيدة أن اليهودي يريد قتله وأطفاله لإحياء طقوسهم الدينية.
أدى ذلك لازدياد اليهود هامشية وأصبحوا عديمي الجدوى بازدياد التغلغل المسيحي في شبه الجزيرة، وهي عملية كانت بطيئة جدا، ومع هذا بدأت آثارها تظهر واضحة مع القرن الثالث عشر الميلادي.
وبدأت الاضطرابات ضد أعضاء الجماعة اليهودية في إسبانيا المسيحية على نطاق واسع عام 1391، ثم انتشرت في كل أرجائها، مما دفع آلاف اليهود للتنصر، وهو ما سبب مشكلة للحكم، إذ كان فصل المتنصرين عن بقية اليهود أمرا لا مفر منه، وكذلك التأكد من جدية ولاء المتنصرين، حتى لا يتظاهر بعضهم بالمسيحية لتحقيق الحراك الاجتماعي، وهم يبطنون اليهودية، وسمي هؤلاء «المارانوس»، وكان هذا دافعا لإقامة محاكم التفتيش.
ظل بعض اليهود في إسبانيا لكنهم اتخذوا قرارا بالتحول إلى النصرانية هربا من الاضطهاد من قبل المسيحيين
زاد اضطهاد الطائفة اليهودية في الأندلس (المارانوس)؛ وذلك في عام 1412، حينما صدرت قوانين حرمت على اليهود الاشتغال بالطب أو الحرف أو الاتجار مع المسيحيين، كما ألغت محاكم اليهود الخاصة([14]).
كان المحرك الأساسي لموجة الاضطهاد ضد اليهود هي المظاهرات التي قام بها مسيحيو إسبانيا اعتراضا على الممارسات اليهودية، واستحواذهم على المناصب والأراضي والثروة، بالإضافة إلى استخدامهم الربا الفاحش والرشوة في المجتمع.
ووقعت أحداث وصدمات كثيرة، وأزهقت أرواح وزاد التعنت ضدهم مما اضطر كثيرا من اليهود إلى النزوح من إسبانيا والتوجه إلى بلاد الشرق خاصة الدولة العثمانية، والتي نعموا بالاستقرار في ظلها.
ظل بعض اليهود في إسبانيا لكنهم اتخذوا قرارا بالتحول إلى النصرانية هربا من الاضطهاد من قبل المسيحيين، ولذا ظهرت للجماعة اليهودية هويتان؛ الهوية اليهودية الأصلية الباطنية، والأخرى المسيحية الشكلية، والتي قادتهم خيانة بعضهم البعض حفاظا على مناصبهم، بل وصل الأمر أن اخترع بعضهم محاكم التفتيش([15]).
كانت الظروف مهيأة أمام اليهود للتخلي عن هويتهم ودينهم - ظاهريا - في سبيل العيش والمحافظة على المكتسبات التي تحت أيديهم، ولذا ظهرت فئة المارانوس.
المارانوس (بالإسبانية والبرتغالية: Marranos، وتنطق بالبرتغالية مارانوش، والمفرد في اللغتين مارانو) هو مصطلح أطلق في الأصل على يهود شبه جزيرة أيبيريا الذين تحولوا إلى المسيحية طوعًا أو قسرًا، والذين ظل بعضهم يمارسون دينهم اليهودي سرًا([16]).
عُرف المتنصرون في ذلك العصر أيضًا بالمسيحيين الجدد (بالإسبانية: cristianos nuevos، وبالبرتغالية: cristãos-novos)، والمتحولين (بالإسبانية: conversos)، كما عرفوا بالعبرية بمصطلح الأنوسيم ـ أي المكرهين ـ وهو المصطلح الذي يفضل استخدامه أحفاد هؤلاء اليهود المتنصرين وبعض الباحثين، نظرًا للدلالة المهينة التي تمثلها كلمة "مارانو" في اللغة الإسبانية حتى اليوم([17]).
قامت العلاقة بين البلاط واليهود في إسبانيا المسيحية على أساس المنفعة، إذ حرص اليهود على التقرب من السلطة، وتحقيق مآربهم الاقتصادية والجاه الذي يدعم الحماية والمال، ووجد البلاط فيهم بغيته؛ فولاهم الأعمال المالية وخاصة تحصيل الضرائب من العامة، مما خلق جوا من العلاقات العدائية بين اليهود وغيرهم من أفراد المجتمع الإسباني، أدَّت إلى مذابح لليهود في حالة ضعف الحكومة خاصة في القرن السابق لمحاكم التفتيش؛ حتى مع قيام محاكم التفتيش لم تحظ الهجمات الشعبية على اليهود برضاء الحكومات، وفي أراجون كان الوضع أحسن حالا من قشتالة، وتجنب المجتمع اليهودي في سرقسطة العنف بسبب وجود الملك مارتن (1396-1410م) في المدينة، حيث أعطى وجوده نوعا من الاستقرار للجماعات اليهودية([18]).
إلا أن عملية الغزو المسيحي تصاعدت لشبه جزيرة أيبيريا بزواج فرديناند وإيزابيلا عام 1469.
واستفاد الملكان من القروض التي دبرها لهم الصيرفي اليهودي دون إبراهام سنيور في حروبهما ضد المسلمين وفي فتح غرناطة. وقد أصبح سنيور جامعا للضرائب وحاخاما لليهود. وبعد أن بسطت السلطة المسيحية الجديدة هيمنتها على شبه جزيرة أيبيريا بأسرها عام 1492، بدأ فرديناند وإيزابيلا في تأسيس ما يعده بعض المؤرخين أول دولة قومية حديثة في أوروبا تتمتع بسلطة مركزية. كان التأكد من ولاء السكان أمرا ضروريا، فبعد أن تنصرت أعداد كبيرة من المسلمين واليهود كانت ثمة أعداد منهم لا تزال تمارس دينها سرّا، مما دفع فرديناند إلى طرد المسلمين واليهود من أسبانيا([19]).
تم طرد اليهود بعد سبعة أشهر من قيامهم بتمويل حملة الدولة الإسبانية الكاثوليكية على الجيب الإسلامي المتبقي ونجاحها في تصفيته، وقدر عدد المطرودين من اليهود بين مائة وخمسين ألفا وربع المليون. وقد استقرت أعداد كبيرة من اليهود الذين كانوا يعرفون بالسفارد في الدولة العثمانية، ولكن العدد الأكبر منهم هاجر إلى وسط أوروبا وهولندا وموانئ فرنسا. وقد ألحق قرار الطرد الضرر بإسبانيا من الناحية السكانية، إذ أدى ذلك إلى إفراغ مناطق بأكملها من سكانها في وقت لم يكن هناك مصدر آخر للطاقة البشرية([20]).
يقول أحمد صالح عبوش: أن عملية طرد اليهود من أسبانيا والبرتغال "في نهاية القرن الخامس عشر جعل من إنجلترا مكانا للاجئين لعدد من سكانها السابقين من اليهود المعروفين بالمارانوس Marranos والذين شكلوا جاليات خاصة بهم في كل من لندن ودوفر ويورك، واعتادوا حضور مناسبات الكنائس الرسولية الكاثوليكية وبطرائق سرية، وتم اختيار عدد معين منهم، ليبقوا غير مختونين وبهدف الكتمان نفسه في مواجهة أي اضطهاد مفاجئ لهم، وطالما أنهم لا يمارسون شعائرهم الدينية، فإن المارانوس سيكونون بأمان"([21]).
محاكم التفتيش
يبدو أن الملكة إيزابيلا كانت متشددة لنصرانيتها ولمذهبها، ولذا كشفت عن وجهها البغيض بإعلان الحرب على كل مخالف للكاثوليكية، فكانت نجاتها في محاكم التفتيش.
يُعتبرُ تحول اليهود إلى المسيحية هو السَّبب الحقيقي لدخول محاكم التفتيش إلى إسبانيا المسيحية، وبدأت الإرهاصات الأولي لها منذ أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، حيثُ أُنشئت محاكم للتحقيق مع المُتحوِّلين الذين ارتدُّوا إلى اليهودية في مملكة أراجون، وبدأت في مهامها سنة 1242م.
1- محاكم التفتيش الوسيطة التي أسسها البابا جريجوري التاسع عام 1233، وكانت مهمتها التفتيش والبحث عن الهرطقات الدينية بين المسيحيين بعد انتشارها في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا مثل الكاثاري والوالدينيز([22]).
2- محاكم التفتيش الإسبانية التي أسسها البابا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي (عام1471) بناء على طلب الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، وللتأكد من إيمان مواطني إسبانيا من المسلمين واليهود الذين اعتنقوا عقيدة الدولة؛ أي المسيحية الكاثوليكية، ولتعقب السحرة. ومما يجدر ذكره أن هذه المحاكم كانت محاكم «قومية» تابعة للدولة الإسبانية، رغم أنها صدرت بمرسوم من الكنيسة الكاثوليكية، ورغم وجود رجال دين ممثلين فيها كان من أشهرهم توماس دي تروكيمادا، وهو من أصل ماراني وأصبح رمزا لقاضي محاكم التفتيش الذي يستخدم أدوات التعذيب لإرهاب ضحاياه. وكانت نتائج المحاكمات تعلن فيما يسمى «أوتو دي في auto de fé»، وهو الاحتفال العام الذي يتم فيه النطق بالأحكام. وكان نفوذ محاكم التفتيش لا يمتد إلى غير المسيحيين، ثم صدر مرسوم في 31 مارس عام 1492 خير أعضاء الجماعة اليهودية في إسبانيا بمقتضاه بين النفي والتعميد (وقد طبق هذا المرسوم على المسلمين عام 1502). فغادرت أعداد كبيرة من اليهود والمسلمين (نحو ثلاثة ملايين مسلم وما بين 150 إلى 250 ألف يهودي) شبه جزيرة أيبريا. وقد صدر المرسومان بضغط من محاكم التفتيش التي كانت تهدف إلى حماية اليهود والمسلمين المتنصرين من التأثير السلبي لإخوانهم السابقين في الدين، ثم وضعت محاكم التفتيش هؤلاء المتنصرين تحت الرقابة الشديدة للتأكد من صدق إيمانهم وولائهم للدولة، وكانوا يمارسون شعائر دينهم الأصلي في السر([23]).
ويبدو أنَّ محاكم التَّحقيق كانت لا تزال قليلة جداً في أراجون حتَّى النصف الأول من القرن 14م، والسَّببُ هو التجريم العظيم من جانب المجتمع اليهودي الذي يصل إلى أن يقدم المتحول نفسه قُرباناً لتطهير روحه، والرفض المجتمعي له هو الذي حد إلى حين من عمليات التنصير بين اليهود، لكن مع زيادة عمليات التحويل خلال القرن 15م زاد ضغط الكنيسة لإدخال نظام محاكم التفتيش، حيث أرسل البابا سيكستوس الرابع مبعوثاً بابويّاً مزَّوداً بكُلِّ السُّلطاتِ للتحقيق والقبض على المارقين ومعاقبتهم، لكن فرديناندو وإزابيلا وقفا ضدَّ هذه المحاولة؛ حرصاً على سلطانهما وحماية لأعوانهما اليهود، وحدّاً من سلطة الكنيسة. انضم رجال الكنيسة من المتحولين المتعصبين إلى البابا ضد إخوانهم السابقين، وحرَّضوا الملكين على مطاردة الكُبراء ذوي الأصل اليهودي من خلال نظام محاكم التفتيش([24]).
وتعقبت محاكم التفتيش أعضاء المارانو في البرتغال، بل وفي المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في جميع أنحاء العالم. ومع ظهور الإصلاح الديني، طاردت محاكم التفتيش العناصر البروتستانتية، ونجحت في القضاء عليهم في شبه جزيرة أيبيريا ولكنها فشلت في ذلك في هولندا([25]).
وقد ارتكبت محاكم التفتيش كثيرا من الفظائع، الأمر الذي دفع البابوات إلى التدخل لإيقافها عند حدها. وقد ألغيت هذه المحاكم في القرن الثامن عشر الميلادي في البرتغال وفي التاسع عشر الميلادي في إسبانيا. ومما يجدر ذكره أن يهود بروفنس قدموا شكوى لمحاكم التفتيش ضد كتابات موسى بن ميمون بسبب هرطقتها، وأمرت المحكمة بحرق كتبه بناء على طلبهم هذا([26]).
3 ـ محاكم التفتيش الرومانية، وهي محاكم كنسية أسسها البابا بول الثالث عام 1542 ليحارب البروتستانتية، واستمرت هذه المحاكم حتى عام 1908، حيث تم تغيير اسمها، وهي تعد استمرارا لمحاكم التفتيش الرومانية الوسيطة([27]).
وبناء على رغبة إيزبيلا تأسست محاكم التفتيش عام 1471م، حيث أقنع رئيس الرهبنة الدومنيكي الملكة إيزابيلا بأن بعض اليهود الذين تحولوا إلى المسيحية لا يزال يمارس اليهودية سرّاً، فقامت بتشكيل محاكم خاصة للنظر في مصداقية هذا الادعاء، وقد استجاب لها بابا الكاثوليك([28]).
كانت المحاكم غالباً ما تستعمل التعذيب في انتزاع الاعترافات وخاصة في القرن الثاني عشر وأثناء محاكم اليهود السفرديين([29]).
كما كان المحاكمون غالباً ما يعتمدون على شهادة جيران المتهمين في التحقيق من التهم المنسوبة إليهم. وقام البابا في البداية بنشر إعلان ذكر فيه عدم شرعية هذه المحاكم غير أن ضغط ونفوذ ملوك إسبانيا أدى إلى إلغاء هذه الدعوة وإعطاء السلطات كافة الصلاحيات الدينية في هذه المحاكم([30]).
كان لتأسيس هذه المحاكم دوافع ظاهرية، ومنها التأكد من صحة الذين تنصروا من اليهود والمسلمين، وأيضا تعقب الهرطقة التي انتشرت وسط الناس، غير أن السبب الحقيقي وراء إنشاء هذه المحاكم هو أخذ أموال هؤلاء اليهود والمسلمين، فقد صرح الكاردينال (لورينزو بوسي): عندما طلب القيصر (يوهان) من البابا كليمنت السابع تأسيس تلك المحاكم عام 1528م، بقوله: لم يكن إقامتها الخوف والتقوى ومحبة الدين، وإنما الرغبة في الحصول على أموال المتنصرين والاستيلاء على ثرواتهم([31]).
كان أول رئيس لمحاكم التفتيش هو توماس دى تور كيمادا -وهو مسيحي من أصل يهودي- حيث أحرق توماس دي توريكريمادا أعدادا كبيرة من هراطقة المتحولين اليهود وأعدادا كبيرة من كتبهم في 1490م، وأخذ يحث إيزابيلا على طرد جميع اليهود من قشتالة ما لم يتنصَّروا، ولكنها لم تستجبْ إلا بعد استسلام غرناطة، لأنَّها كانت بحاجة إلى أموال اليهود في حربها مع المسلمين([32]).
وقد شاركه في محاكم التفتيش بعض الرهبان المتهودين، وذلك بدافع تصفية الخصومات القديمة بين اليهود بعضهم البعض.
غير أن إظهار الولاء للمسيحية هو الدافع القوى لرؤساء المحاكم المتنصرين من إنزال أشد أنواع العذاب على أبناء عقيدتهم السابقين، حتى وصل الحال بظهور ما سمي بالواشي (الجاسوس) الذي يشى بذويه لدى الرهبان([33]).
كان وضع المارانوس في البرتغال يختلف عن وضعهم في إسبانيا، حيث عاشوا في بحبوحة من أمرهم في ظل مانويل الأول عام 1495م وشكلوا قوة اقتصادية ضاربة، ولم تبدأ محاكم التفتيش في البرتغال إلا في عهد كلمنت السابع عام 1531م([34]).
أصبح المتحولون بين مطرقة المسيحية وسندان اليهودية، واتَّجهت إليهم سهامُ التَّشكيكِ والخيانة من الجانبين، باعتبارهم يهودا لا يحملون من المسيحية شيئاً من الولاء أو الإيمان.
استمر العمل بهذه المحاكم حتى تم إلغاؤها في إسبانيا في القرن التاسع عشر (عام 1808م) حينما عثرت بعثة عسكرية فرنسية دير قرب مدينة مدريد في إسبانيا كان ما يزال يمارس أعمالا وحشية لمحاكم التفتيش، فقاموا بتفتيشه وكان عبارة عن دهاليز مظلمة، واطلعوا على أدوات التعذيب وغرفه، كما وجدت البعثة سجناء على قيد الحياة، رجالا ونساء في حالة مزرية([35]).
يوميات مارانو
كان المارانو يمارس شعائره المسيحية كالمسيحيين، حتى لا يشي به أحد، فكان يعمد أولاده، ويذهب للكنيسة يوم الأحد، ويأكل العشاء الرباني - قبل أن يلفظه في الخارج- ومع ذلك كان المارانوس يعتقدون داخليا أن الخلاص سيكون بتعاليم موسى عليه السلام، وأن ما يحدث لهم عقاب إلهي حاق بهم، إلا أنهم ظلوا يمارسون عقيدتهم وعبادتهم في الخفاء وفي بيوتهم، ويقيدون شموع السبت، ويحتفلون بأعيادهم([36]).
كما أنهم كانوا يستخدمون رموز معينة وإشارات يتعرفون بها على بعضهم البعض، بل بلغ بهم الأمر أن كانوا يبنون معابدهم على شكل كنائس وسط الأحياء التي يسكنون فيها، ومع ذلك مارسوا المسيحية كالمسيحيين تماما، وزيادة في التقية والتمويه كانوا يشيرون بعلامة الصليب على جباههم وصدورهم، إلا أنهم لم يؤمن بالثالوث المقدس المسيحي، أو بالمسيح([37]).
واجه المارانوس مشكلة كبيرة في عملية الختان، حيث إنهم خافوا أن تفضحهم أثناء عرضهم على محاكم التفتيش، ولذا لم يقوموا بختان الأطفال كاملا.
يقول الدكتور حسن حنفي: بالرغم من تخلى يهود إسبانيا عن دينهم وتحولهم إلى الكاثوليكي، إلا أنهم حافظوا على طقس الختان رمزا للرباط الأبدي بينهم([38]).
يتضح أن المارانوس مارسوا كل طقوسهم التعبدية في الخفاء دون علم أحد من المسيحيين المتربصين بهم وفي سرية تامة بعيدا عن الواشي، بل بلغ بهم الأمر أنهم كانوا يصومون يوم الغفران في شهر تشرين / أكتوبر من كل عام، وغيره من أعياد اليهود بحذر شديد.
ومع هذا الحرص الشديد، كان هناك عنصران أديا إلى ضعف الطائفة المارانوسية وانحلالها وهما:
1- نقص الربانيين وعارفي الشريعة والعقيدة والمعلمين اليهود.
2- ازدياد نسبة الزواج المختلط بين اليهود المتنصرين والمسيحيين، الأمر الذي أدى إلى ضعف الصلة باليهودية نفسها([39]).
تغيرات جوهرية
حاول اليهود التأقلم مع الأوضاع التي كانوا يعيشون فيها لكن مع مرور الزمن، عمدوا لتكوين تنظيمات جديدة ضد أحكام محاكم التفتيش، بعدما فشلوا في الاندماج مع المجتمع المسيحي، حيث عارضت هذه الجماعات المتجمع المسيحي الكاثوليكي، مثل حركة الإصلاح البروتستانتي وحركة المتنورين، والتي تأسست في ألمانيا في 1 مايو 1776م على يد آدم وايسهاوبت([40]).
التحق هؤلاء المتنصرون بجماعات مسيحية أخرى، مثل المذهب البروتستانتي المعادي للكاثوليكية، حيث اتبع المتنصرون الطريقة الرهبانية الجرونيموية، وهي عبارة عن ممارسة العبادة بصفة فردية([41]).
مع مرور الزمن وتلاشي الأخطار التي حاقت باليهود، عمل هؤلاء على إعادة المارانوس إلى يهوديتهم الحقيقية بعد زوال الأخطار التي كانوا يتعرضون لها.
ففي عام 1860م تأسست جمعية الأليانس، والتي سعت إلى إقناع المارانوس الإنجليز للعودة إلى يهوديتهم وتأكيد هويتهم والسفر إلى إسرائيل للعيش فيها والحفاظ على كينونتهم اليهودية([42]).
لكن من الواضح أن اليهود أينما حلوا حاولوا أن يحددوا الخطوات التي تساعدهم على العيش في سلام، فنجدهم يعتنقون النصرانية في إسبانيا تارة، وحينما تحولوا إلى تركيا تحت حكم الدولة العثمانية نجدهم - يهود الدونمة- يعتنقون الدين الإسلامي ظاهرا ويبطنون يهوديتهم، وهو ما أطلق عليه الحركات المسيحانية، والتي استفادت من سماحة الدين الإسلامي، فكان لهم نفوذ وسلطة خاصة في الدولة العثمانية.
من الواضح أن اليهود أينما حلوا حاولوا أن يحددوا الخطوات التي تساعدهم على العيش في سلام
ومن هذه الحركات حركة الشبتائية (يهود الدونمة) والفرانكية، والتي جمعت بين هذه الحركات السابقة والمارانوس صفات مشتركة كإظهار دين الدولة الرسمي التي يعيشون على أرضها وإخفاء ديانتهم الحقيقية، كما يحرصون على ممارسة شعائرها في الخفاء وفيما بينهم، وعدم الزواج من غيرهم([43]).
والمسيحانية هي عبارة عن الإيمان بالمسيح المنتظر والمنقذ والمخلص، والذي سوف يأتي في آخر العالم ليخلص شعبه إسرائيل، وهي المعروفة حاليا باسم المسيحية الصهيونية([44]).
كان من الواضح أن حاخامات اليهود كانوا ضد المارانوس والشبتائيين والفرانكيين وغيرهم من الحركات التي ظهرت، حيث اعتبروهم خارجين عن العقيدة اليهودية، خاصة أن المارانوس وغيرهم اتبعوا تعاليم موسى بن ميمون، والتي اعتبرها حاخامات اليهود هرطقة.
اختفت العقيدة والتقاليد اليهودية مع مرور الزمن من ذرية عائلات المتنصرين اليهود في إسبانيا والبرتغال، حيث تزوجوا من عائلات خارج اليهود، وسافر الكثير منهم في كل أنحاء العالم، مما أدى للبلبلة والشك حول موقف المارانوس الذين عادوا لليهودية خاصة فيما يتعلق بالزواج والعلاقات والأنساب، وهو ما يخالف العقيدة اليهودية التي تمنع الزواج بغير اليهود فيما بينهم([45]).
أسئلة مشروعة
يدفعنا هذا للسؤال ما مصير المتنصرين في دولة إسرائيل اليوم؟ وما وضعية من تزوج وأنجب من خارج اليهود؟ وكيف ينظر المجتمع الإسرائيلي إلى كل مارانو عاد تائبا؟، وكيف تنظر الشريعة اليهودية لعقود الزواج التي تمت في الكنيسة في بعض أوقات الاضطهاد؟، وما مصير النساء المعلقات اللواتي هربن من الاضطهاد إلى إسرائيل وتركن أزواجهن، في وقت تطلب الشريعة وثيقة الطلاق من الزوج الأول؟، كيف ينظر المجتمع الإسرائيلي إلى الأبناء غير الشرعيين (مامذيريم)، وهل يتنازل المجتمع الإسرائيلي عن كل ذلك رغبة في عودة الجميع إلى إسرائيل؟.
والسؤال الأهم الآن، هل ما زال في هذا العصر يوجد مارانوس في ظل وجود دولة لهم ويتمتع اليهودي بكافة حقوقه فيها؟ وهل ما زال يوجد يهودي يخفي يهوديته خوفا من الاضطهاد مثل الذي وقع على أجدادهم في عصور الاضطهاد؟.
لماذا تحرص الكنيسة حتى اليوم على عدم إعطاء الفرصة للمتنصرين للعودة إلى دينهم الرئيس، في وقت يرفض فيه بعض الحاخامات عودتهم أيضا إلى يهوديتهم؟
أسئلة كثيرة تطرح لتحدد مصير هؤلاء المارانوس الذين عاشوا جاهدين الحفاظ على هويتهم اليهودية، في ظل بعض التشريعات المتشددة التي تضع الدولة الإسرائيلية أمامهم، حتى تثبت براءته ونظافة دمه.
ومما لا شك فيه، فإنه بانتهاء فترة العصور الوسطى، وأحداثها فقد أصبح المارانوس - نتيجة لاندماجهم في بلدان مختلفة في الأصول والعقيدة - يمثلون جماعات منعدمة الهوية وفقا لمصالحهم، حيث لا انتماء لدين أو شعب، مما شجع الكثير على عدم الرغبة في العيش في إسرائيل والتمسك بالحياة في أوروبا وغيرها من الدول الكبرى.
خاتمة البحث
إنّ الحفاظ على الهوية هدف حيوي يحرص عليه الجميع - خاصة تجمعات الأقلية - ومحاولة التأقلم مع الواقع، حتى لا يذوبوا في المجتمع، أو يتلاشوا مثلما حدث للعديد من الشعوب التي لم تستطع مقاومة الحداثة.
ولقد عملت الطائفة اليهودية في الأندلس على مر تاريخها الحفاظ على هويتها من الذوبان في المجتمعات التي قطنت فيها - بالرغم من مراحل الاضطهاد التي عاشتها منذ اجتماع قسطنطين، والذي فرض المسيحية- حيث أثبتت هذه الطائفة تماسكها - رغم تحولها الظاهري في بعض الأوقات.
ومن ثم يخلص هذا البحث إلى العديد من الاستنتاجات، منها:
1- استطاع اليهود - رغم ما تعرضوا له - العمل على المحافظة على نقاء اليهود عرقياً إلا في قليل من الأحيان.
2- لا تعتبر اليهودية ديانة تبشيرية - مع أنه في فترات تم فرضها على بعض الشعوب - وهذا ما يجعلها قلة وسط الشعوب.
3- قدرة اليهود على التسلل إلى عمق المجتمعات التي يعيشون فيها مع القدرة على التأثير فيه، مع الاحتفاظ بعزلتهم.
4- التقية مبدأ يلجأ إليه كثير من الجماعات والطوائف مع المحافظة على السرية والتخفي وقت الاستضعاف والاضطهاد، وهذا ما يفسر امتزاجهم وذوبانهم وسط المجتمع في بعض الأوقات.
5- نجاح اليهود المارانوس - رغم ضعفهم - في تكوين جماعات ضغط في العديد من المجتمعات التي سكنوا فيها لنفوذهم الاقتصادي والحرفي والمالي.
6- الطبيعة المزدوجة لدى المارانوس جعلت الحفاظ على الهوية أمرا صعبا في كثير من الأوقات - خاصة أوقات الاضطهاد.
7- انفصام الشخصية والشرعية اليهودية - في بعض الأوقات التاريخية - وفق المصالح التي يحصلون عليها والأوضاع التي يحيون فيها.
8- عمل اليهود على استقلال حضارتهم وأعرافهم وطقوسهم عن الشعوب التي انصهروا فيها.
([1]) محمد بحر عبد المجيد: اليهود في الأندلس، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970م، ص 6
([2]) الإسبانية اليهودية لغة يهودية قريبة من اللغة الإسبانية. تحتوي على الكثير من الكلمات المأخوذة من اللغتين الإسبانية واللغة العبرية، على عكس لهجة الحاكيتيا التي تطغى عليها العربية المغربية، ويتحدث بها اليهود السفارديون اليوم في إسرائيل، وتركيا، والبوسنة والهرسك، والولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الأخرى (فريد هاليداي: مئة وهم حول الشرق الأوسط، بيروت، دار الساقي، 2005م، ص 14
([3]) علي محمد عبدالله: اليهود من عهد داوود إلى دولة إسرائيل، دار الكتب المصرية، 2017م، ص 55
([4]) عبد الوهاب المسيرى: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، 1999م، المجلد الثاني، الباب الثاني: مدخل السفارد.
([5]) اليهود في الأندلس: مرجع سابق، ص 11
([6]) يواكيم بيرنر: بابوات من الحي اليهودي، ترجمة خالد أسعد عيسى، دار حسان، 1983م، ص 17
([7]) محمد الأمين ولد أن: تاريخ اليهود في الأندلس 422 - 539 هـ / 1030 - 1141م، طـ 1، دار الكتب العلمية، 2018م، ص 36
([9]) أمريكو كاسترو: إسبانيا وتاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة على إبراهيم منوفي، المجلس الأعلى للثقافة، 2002م، ص 541
([10]) عبد الوهاب المسيري: اليهود فى عقل هؤلاء، دار المعارف، 2008، ص 88
([11]) عبد الوهاب المسيري: مرجع سابق، 4569
([12]) حسن ظاظا: الفكر الديني اليهودي، دار القلم، دمشق، 1999م، ص 258
([13]) عبد الوهاب المسيري: مرجع سابق، ص 4574
([15]) أمريكو كاسترو: إسبانيا وتاريخها، مرجع سابق، ص 605
([16]) DBpedia، http://cutt.us/I9sXk
([17]) حسن ظاظا: مرجع سابق، ص 257، 258
([18]) Encyclopedia Judaica1971: Spain, vol.15, col.237-238
([19]) محمد عبد الله عنان: نهاية الأندلس، وتاريخ العرب المتنصرين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1966م.ص 184
([21]) أحمد صالح عبوش: إنجلترا في عهد اوليفر كرومويل 1649-1658 "دراسة تاريخية"، لمكتب العربي للمعارف، مصر، 2015، ص 184
([22]) Jewish Encyclopedia، http://cutt.us/fZc7Y
([23]) عبد الوهاب المسيري: مرجع سابق، ص 4581
([24]) نهاية الأندلس، وتاريخ العرب المتنصرين، مرجع سابق، ص 184
([25]) عبد الوهاب المسيري: مرجع سابق، ص 4581
([27]) فكري جواد عبد وعبد الأمير كاظم زاهد: أسس التطرف الديني في الأديان الإبراهيمية، دار الرافدين، بيروت، 2017م، ص 56
([28]) رمسيس عوض: من أوراق الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إيطاليا، طـ1، القاهرة، الشروق، 2011م، ص 71
([29]) أحمد محمد عطيات: الأندلس من السقوط إلى محاكم التفتيش، أمواج للطباعة والنشر والتوزيع، الأردن، 2016م، ص 167
([30]) هدى درويش: أسرار اليهود المتنصرين في الأندلس: دراسة عن اليهود المارانوس، دار الصفوة للنشر والتوزيع الطبعة: الأولى 2009م، ص ص 43، 44
([32]) بسام اسخيطة، قصة محاكم التفتيش في العالم، دار هيا للنشر والتوزيع، دمشق 2000م، ص 211
([33]) أميركو كاسترو: مرجع سابق، ص 599
([35]) عبدالرحمن علي الحجي: محاكم التفتيش الغاشمة وأساليبها، شركة الشهاب، الجزائر، 1987م، ص 35- 36
([36]) يواكيم بيرنر: بابوات من الحي اليهودي، ص 49
([37]) هدى درويش: أسرار اليهود المتنصرين في الأندلس، ص ص 62، 63
([38]) اسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1981م، مقدمة الترجمة ص 56
([40]) أنظر http://cutt.us/iDACC
([42]) عبد الوهاب المسيري: مرجع سابق، المجلد الثاني، الجزء 2
([43]) عبد العزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية, 2005م، المجلد الثاني، ص 750
([44]) مركز مدار: المسيحانية، http://cutt.us/0ZjGK
([45]) حسن ظاظا: الفكر الديني اليهودي، مرجع سابق، ص 192