يورجن هابرماس: بحق الله، لا تجعلونا نخوض في الفلاسفة الحُكَّام
فئة : حوارات
يورجن هابرماس: بحق الله، لا تجعلونا نخوض في الفلاسفة الحُكَّام([1])
Jürgen Habermas: “For God’s sake, spare us governing philosophers!”
في عشية عيد ميلاده التاسع والثمانين، يبدو النشاط على واحد من أكثر المفكرين المؤثرين الأحياء، وهو يُقَدِّمُ رؤيته حول أكثر المواضيع إشكالًا في عصرنا، في منزله بشتارنبيرج Starnberg، ومنها القومية والهجرة والإنترنت وأوروبا.
حول البحيرة في شتارنبيرج، على بُعد 50 كيلومتر من ميونيخ Munich، يَقْطَعُ مبنى أبيض ذا نوافذ ضخمة صفوفًا متتالية من الأكواخ ذات الطراز السائد في جبال الألب ــ ويعد هذا المبنى بمثابة المُعادِل المعماري للعقلانية في أرض هيدي Heidi، والجامع بين حداثة باوهوس[2] Bauhaus والنزعة المُحافِظَة الصامدة لبافاريا Bavaria. تؤكد لافتةٌ بيضاء صغيرة على باب أزرق أن هذا هو منزل المفكر يورجن هابرماس Jürgen Habermas، المولود بدوسِلدورف Düsseldorf، وهو الذي أكسبه إنتاجه الفكري الاستثنائي (والضخم) مكانًا مُعَظَّمًا ضمن أكثر الفلاسفة تأثيرًا على مستوى العالم، حتى وهو يقترب من عيد ميلاده التاسع والثمانين.
تفتح زوجته (المؤرخة أوتى فيسيلهويفت Ute Wessselhoeft التي تزوجها منذ أكثر من ستين عاماً) البابَ لتكشفَ عن رواقٍ صغير وتنادي زوجها: "يورجن! وصل الرجال القادمون من إسبانيا!". لقد عاش كلٌ من يورجن وأوتى في هذا المنزل منذ 1971، عندما تولى الفيلسوف إدارة معهد ماكس بلانك Max Planck.
تلميذٌ ومساعدٌ لتيودور أدورنو Theodor Adorno، وعضو بارز من الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت وأستاذ الفلسفة بجامعة جوته بفرانكفورت، يخرج هابرماس من جُحره الفوضوي الممتلئ بالأوراق والكتب الذي يسميه مكان الدرس، وتُطِلُّ نوافذه على الغابة.
لا يمكنك أن تحصل على مثقفين مُلْتَزِمِين إذا لم يكن هناك قراء تخاطبهم بأفكار
الغرفة مُزيَّنَة باللون الأبيض والمَغْرَة، كما توجد مجموعة صغيرة من الفن المعاصر تتضمن لوحات هانس هارتونج Hans Hartung، وإدواردو شيليدا Eduardo Chillida، وشون سكُلي Sean Scully، وجونتر فروترنك Günter Fruhtrunk، بالإضافة إلى منحوتات من أعمال خورخي أوتيزا Jorge Oteiza وخوان ميرو Joan Miró ــ وهذه الأخيرة هي جائزة أمير أستورياس للعلوم الاجتماعية، وحصل عليها عام 2003. تحتوي أرفف الكتب على مجلدات جوته Goethe وهولدرين Hölderlin، شيلر Schiller وفان كليست Von Kleist، وصفوف من أعمال إنجلز Engels وماركس Marx وجويس Joyce وبروك Broch وفالسر Walser وهرمان هسّه Hermann Hesse وغونتر غراس Günter Grass.
يتحدث هابرماس، وهو مؤلف أعمال مهمة تتعلق بالعلم السوسيولوجي والسياسي في القرن العشرين، لـ "البايس EL PAÍS" عن قضايا شغَلَته طوال الستين عامًا المنصرمة. وَقْفَته قوية، ومصافحة يده حازمة، وعلى الرغم من شبهه بجده البادي من شعره الأبيض، إلا أنه غاضبٌ. يقول هابرماس "نعم، لا زلت غاضبًا من بعض الأشياء التي تحدث في العالم. هذا ليس أمرًا سيئًا، أليس كذلك؟".
يواجه هابرماس صعوبة في النُطق بسبب حنكه المشقوق. لكن معاناته مع التحدُّث دفعته ليفكر بعمق أكثر بخصوص التواصل الذي يراه هابرماس بمثابة وسيلة لعلاج ولو نذر يسير من عِلَلِ الاجتماع. يبدو البروفيسور مستكينًا عندما ينظر من النافذة في لحظة ما أثناء محادثتنا، فيتمتم: "لم أعد أحب قاعات المحاضرات أو الغرف الكبيرة. لا أعلم ما يحدث. هناك نشازٌ يملأني بالقنوط".
س: هناك الكثير من الحديث عن تدهور المثقف المُلتَزِم. لكن، هل تعتقد أنه من العدل القول بأن هذا الموضوع نادرًا ما يتجاوز المجال الفكري؟
ج: وفق النموذج الفرنسي ــ من زولا Zola لسارتر Sartre وبورديو Bourdieu، يُعتَبَر المجال العام شديد الأهمية للمثقَّف، على الرغم من أن بنيته الهشّة تمر بعملية متسارعة من التحلُّل. يغفل سؤال "أين ذهب كل المثقفين؟" النقطة المطلوبة. لا يمكنك أن تحصل على مثقفين مُلْتَزِمِين إذا لم يكن هناك قراء تخاطبهم بأفكار.
س: هل قام الإنترنت بتقليل كثافة المجال العام الداعم للإعلام التقليدي، الذي قام، بالمقابل، وبشكل عكسي، بالتأثير على الفلاسفة والمفكرين؟
ج: نعم، منذ هاينريش هاينه Heinrich Heine، اكتسب نموذج المثقف مكانة مع التوزيع الكلاسيكي للمجال العام الليبرالي. ومع ذلك، يعتمد هذا الأمر على افتراضات اجتماعية وثقافية غير قابلة للتصديق، بالأساس وجود الصحافة الواعية، مع جرائد تؤخذ كمَراجع وإعلام جماهيري قادر على توجيه اهتمام الأغلبية لقضايا تتناسب وتكوين الرأي السياسي، وأيضًا، وجود كتلة جماهيرية متعلمة، وقارءة تهتم بالسياسة، ومعتادة على العملية النزاعية لتكوين الآراء، والتي تأخذ من وقتها لتقرأ صحافة مستقلة ذات جودة مُعْتَبَرَة.
إن الطريقة الوحيدة للتعامل مع موجات الهجرة ستكمن في معالجة القضايا الاقتصادية
في هذه الأيام، لم تعد البنية التحتية سليمة، على الرغم من أنها – وذلك بقدر علمي - لا تزال موجودة في بلدان كإسبانيا وفرنسا وألمانيا. لكن حتى هناك، قام تأثير الانقسام الذي تسبب به الإنترنت بتغيير دور الإعلام التقليدي، بالتحديد للأجيال الشابة، حتى قبل أن تنشط الميول البعيدة عن المركز والمشتتة للإعلام الجديد أحدث الاستغلالُ التجاري لاهتمام الشأن العام تفككًا في المجال العام. وكمثال، تجد الولايات المتحدة واستخدامها الحصري لقنوات التليفزيون الخاصة. الآن، تمتلك الوسائل الجديدة للتواصل نموذجًا من الاستغلال التجاري أكثر مكرًا بكثير، وليس هدفه أبدًا انتباه المُستهلك بشكل بيِّن، وإنما الاستغلال الاقتصادي للحساب الشخصي الخاص بالمُستخدِم. إنهم يسرقون البيانات الشخصية للعملاء بدون معرفتهم بذلك لكي يتلاعبوا بهم بشكل أكثر نجاعة وتأثيرًا، وفي أوقات أخرى بواسطة غايات سياسية فاسدة، كما حدث في الفضيحة الأخيرة لفيسبوك.
س: على الرغم من مزاياه الواضحة، هل تعتقد أن الإنترنت يُشَجِّع نمطًا جديدًا من الجهالة؟
ج: أنت تقصد الخلافات العنيفة، والفقاعات وأكاذيب دونالد ترامب Donald Trump في تغريداته على موقع تويتر؟ لا يمكنك حتى القول بأن هذا الشخص في مستوى أدنى من المستوى السياسي، الثقافي لبلده. إن ترامب يدمّر هذا المستوى بشكل دائم. ومنذ عصر اختراع الصفحة المطبوعة، استغرق تحويل كل شخص لقارئ مُحتَمَل قرونًا حتى استطاع السكان القراءة. يحوِّلنا الإنترنت جميعًا إلى مؤلفين مُحتَمَلين ولم يتجاوز عقدين من الزمان منذ تأسيسه. ربما مع مرور الوقت سنتعلم كيف ندير الشبكات الاجتماعية بطريقة متحضِّرَة. لقد فتح الإنترنت الملايين من كوّات الثقافة الثانوية المفيدة، حيث يتم تبادل المعلومات والأصوات السديدة الجديرة بالثقة. ليست الأعمال الأكاديمية الخاصة بالمنتديات العلمية وحدها التي يتم توسيعها بواسطة هذه الوسيلة، ولكن أيضًا، على سبيل المثال، [منتديات] المرضى الذين يعانون من مرض نادر ويمكنهم الآن أن يتواصلوا مع آخرين يمرون بنفس الموقف يعيشون في قارة أخرى ليتشاركوا النصيحة والخبرة. ثمة فوائد جمَّة للتواصل بدون شك، وليس فقط لزيادة سرعة تجارة الأوراق المالية والمضاربة. إنني طاعنٌ في السّن للحكم على الدوافع الثقافية التي ينشئها الإعلام الجديد. لكن يزعجني أنها أول ثورة للإعلام في تاريخ البشرية التي تخدم، في المقام الأول، الغايات الاقتصادية في مقابل الغايات الثقافية.
س: في المشهد المعاصر الذي تهيمن عليه التكنولوجيا، ما مستقبل الفلسفة؟
ج: أؤيد الرأي العتيق القائل بأنه يجب على الفلسفة أن تستمر في محاولة إجابة أسئلة كانط Kant: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب أن أعرفه؟ ماذا يمكنني أن أتوقع؟ ما معنى أن تكون إنسانًا؟ لكن، لست متأكدًا من أن الفلسفة، كما نعرفها، تمتلك مستقبلًا. حاليًا، إنها تتبع تيار التخصُّص الآخذ في التزايد، مثل كل الأنساق [الفكرية]. وهذا هو الشارع ذو النهاية المسدودة، لأنه ينبغي على الفلسفة أن تحاول شرح الكُّلِ، أن تسهمَ في الشرح العقلاني للطريقة التي نفهم بها أنفسنا والعالم.
س: ما هو التطور الذي لحق بانتسابك القديم للماركسية؟ هل أنت يساري للآن؟
ج: لقد قضيت خمسة وستين عامًا أعمل وأناضل في سبيل مُسَلَّمات اليسار في الجامعات والمجال العام. لو أنني قضيت ربع قرن أحارب من أجل تكامل أكبر للاتحاد الأوروبي، سأفعل ذلك مستندًا فقط على الفكرة القائلة بأن هذا التنظيم القاريّ قادر على جعل الرأسمالية غير المُقَيَّدَة تحت السيطرة. لم أتوقف يومًا عن نقد الرأسمالية كما لم أتوقف عن الوعي بأن التشخيص غير المدروس لا يكفي. لست واحدًا من هؤلاء المفكرين الذين يصوّبون بدون وجود هدف.
س: كانط Kant + هيجل Hegel + التنوير + الماركسية اللا-أرثوذوكسية = هابرماس. صحيح؟
ج: لو أنه يتعين عليك التعبير عنها بشكل دقيق، فالإجابة "نعم"، لكن ليس بدون مقدار ضئيل من جدل النفي كما صاغه أدورنو Adorno.
س: في عام 1986 قمت بتدشين المفهوم السياسي المتعلق بـ "الوطنية الدستورية" والذي يبدو ذا أثر دوائي اليوم في مواجهة وطنيات مفترضة أخرى تتضمن الأناشيد والأعلام. هل تقول إنه من الصعب بمكان أن نحقق الأولى؟
ج: في عام 1984، تمَّت دعوتي لإلقاء كلمة في مجلس النواب الإسباني. بعد ذلك ذهبنا لنأكل في مطعم تأسس منذ زمن طويل. لو أنني أتذكر بشكل صحيح، كان المطعم يقع بين مجلس النواب وبويرتا ديل سول the Puerta del Sol [ميدان عام في مدريد]، على الجانب الأيسر من الطريق. أثناء الحوار الحيوي مع المضيفين المشهورين، وكان منهم عديد الديمقراطيين الذين اشتركوا في صياغة دستور البلاد الجديد. تم إخباري أنا وزوجتي أنه في نفس هذا المبنى تم إعلان الجمهورية الأولى بإسبانيا في عام 1873. وبمجرد أن عرفنا ذلك، انتابنا شعور مختلف بالكلية. تحتاج الوطنية الدستورية إلى قصة تاريخية تجعلنا واعين، على الدوام، بأن الدستور إنجاز قومي.
س: هل تعتبر نفسك وطنيًا؟
ج: أشعر بأنني مواطن لبلدٍ أسَّسَت، على الأقل، وعقب الحرب العالمية الثانية، ديمقراطية مستقِرَّة، وبتوالي عقود متتابعة من الاستقطاب السياسي، أسست ثقافة سياسية ليبرالية. إنها المرة الأولى التي أتحدث فيها هكذا، لكن بهذا المعنى، نعم، أنا ألماني وطني كما أنني نتاجٌ للثقافة الألمانية.
س: مع تدفق المهاجرين، هل توجد ثقافة واحدة فقط بألمانيا؟
ج: إنني لفخورٌ بثقافتنا التي تضمُّ جيلًا ثانيًا أو ثالثًا من المهاجرين الأتراك والإيرانيين واليونانيين الذين يخرج منهم صناع أفلام، وصحفيين وشخصيات تليفزيونية بجانب مديرين تنفيذيين مذهلين، وأكثر الأطباء كفاءة، وأفضل الكُتَّاب، والسياسيين، والموسيقيين والمعلمين. هذا برهان ملموسٌ على قوة وسعة ثقافتنا على التجدُّد. إن رفض اليمين الشعبوي العدائي لهؤلاء الأشخاص، الذين لولاهم لصار إثبات الأمر سالف الذكر مستحيلًا، لهو ضرب من الهراء.
إنني أحترم ماكرون، لأنه يجرؤ على التحلي بمنظور سياسي وشجاع
س: هل يمكنك أن تحدثنا عن كتابك الجديد المتعلق بالدين وقوته الرمزية، باعتباره علاجًا لعلل عصرية محددة؟
ج: إنه كتاب لا يتعلق بالدين بدرجة كبيرة بوصفه فلسفة. أتمنى أن تتمكن جينالوجيا الفكر ما بعد الميتافيزيقي المؤسسة على حجة قديمة بخصوص الإيمان والمعرفة من المضي قُدمًا لمنع فلسفة منحلة علميًا بشكل تدريجي من نسيان وظيفتها التنويرية.
س: بالحديث عن الدين والحروب الثقافية الدينية، هل تعتقد أننا نتجه نحو صدام الحضارات؟
ج: على قدر اهتمامي، هذه الفكرة، بالكلية، خاطئة. تميزت أقدم الحضارات وأكثرها تأثيرًا بالميتافيزيقا والأديان العظيمة التي درسها ماكس فيبر Max Weber. تمتلك جميعها إمكانًا كونيًا، وهو السبب في كونهم مزدهرين بفضل الانفتاح والاندماج. إن الحقيقة هي أن الأصولية الدينية ظاهرة حديثة بالكامل. لقد انبثقت من الاجتثاث المجتمعي المُسَبَّب بواسطة الكولونيالية، ونهاية الكولونيالية والرأسمالية العالمية.
س: لقد كتبت في مناسبة أنه يجب على أوروبا أن ترعى نسخة أوروبية من الإسلام. هل تظن أن ذلك يحدث بالفعل؟
ج: في جمهورية ألمانيا الاتحادية، نبذل جهدًا لنُدخِلَ اللاهوت الإسلامي في جامعاتنا، ما يعني أنه يمكننا تدريب مدرسين للدين في بلدنا بدلًا من استيرادهم من تركيا وأماكن أخرى. لكن، بحق، تعتمد هذه العملية على تمكننا من دمج أسر المهاجرين بحق. لكن، هذا الأمر لا يخاطب موجات الهجرة العالمية. إن الطريقة الوحيدة للتعامل مع موجات الهجرة ستكمن في معالجة القضايا الاقتصادية.
س: كيف تفعل ذلك؟
ج: بدون القيام بتغييرات في النظام الرأسمالي العالمي، لا تسألني هذا السؤال. إنها مشكلة تعود لقرون مضت. إنني لست بخبير، لكنك لو قرأت كتاب ليسنيش Lessenich، وأقصد "تخارُج المجتمع - Die Externalisierungsgesellschaft [The Externalization Society]"، سترى كيف أن أصل هذه الموجات التي تكتسح أوروبا والعالم الغربي يحمل أصول هذه المشكلة داخله.
س: يتم الاقتباس منك، إذ قلت إن أوروبا عملاق اقتصادي وقزم سياسي. يبدو أن لا شيء تحسَّن ــ لقد خضنا بريكسيت Brexit والشعبوية، والتطرف، والقومية.
ج: قسَّم تقديم اليورو المجتمع المالي إلى جنوب وشمال ــ الخاسرين والفائزين. سبب ذلك هو عجز الاختلافات البنيوية بين المناطق القومية الاقتصادية عن تعويض بعضها البعض لو لم يكن هناك تقدم في اتجاه وحدة سياسية. إن صمامات الهروب، مثل قابلية التنقل في سوق واحد للعمالة ونظام تأمين اجتماعي مشترك، مفقودة. ينقص أوروبا كذلك القدرة على ابتكار سياسة ضريبية عامة. أضف لذلك نموذجًا لنظام نيوليبرالي مُضَمَّنًا في معاهدات أوروبية تقوّي من اعتمادية الدول على السوق العالمي. إن معدل توظيف الشباب في الدول الجنوبية فاضحٌ. لقد تزايدت اللا-مساواة بصفة عامة ونخرت بدن الترابط المجتمعي. من ضمن هؤلاء الذين تمكنوا من التأقلم، شرع النموذج الاقتصادي الليبرالي في التأسس، وهو الذي يروِّج لمكسب الفرد. ومن ضمن هؤلاء الواقعين في موقف متداعٍ، تنتشر ميول ارتدادية/ نكوصية وتفاعلات لغضب غير عقلاني ومدمر للذات.
س: ما رأيك في قضية استقلال إقليم كتالونيا؟
ج: لا أفهم لماذا يريد سكان تقدميون ومثقفون مثل سكان كاتالونيا أن يسيروا بمفردهم في أوروبا. ينتابني شعور أن الأمر كله يتعلق بالاقتصاد. لا أعرف ما سيحدث. ما رأيك أنت؟
س: أعتقد أن عزل تعداد سكان يربو على اثنين مليون شخص سياسيًا مع تطلعات للاستقلال ليس أمرًا واقعيًا. وليس سهلًا كذلك.
ج: من الواضح أنها مشكلة.
س: هل تعتقد أن الدول القومية صارت أكثر ضرورة من أي وقت مضى؟
ج: ربما لا يجب عليَّ قول ذلك لكنني أؤمن بأن الدول القومية كانت شيئًا لم يؤمن به أحد لكن لزم اختراعها في حينها، لأسباب براجماتية بدرجة كبيرة.
س: نلوم السياسيين دومًا بسبب المشكلات في بنية أوروبا، لكن، قد يكون عموم الناس مذنبين بسبب نقص الإيمان؟
ج: للآن، مضى القادة السياسيون والحكومات قُدُمًا في تبني المشاريع بشكل نخبوي بدون إشراك الناس في الأسئلة المعقدة. ينتابني الشعور بأن الأحزاب السياسية أو أعضاء البرلمان القوميين لا يألفون المادة المعقدة التي تُكَوِّنُ السياسات الأوروبية. تحت شعار "ماما تعتني بمالك"، حصَّنت ميركل Merkel وشوبل Schäuble ترتيباتهما أثناء الأزمة ضد المجال العام بشكل نموذجي بحق.
س: هل اعتبرت ألمانيا، في بعض الأوقات، أن القيادة هيمنة؟ وإن كان، ما هو موقع فرنسا من ذلك الاعتبار؟
ج: إن المشكلة تكمن في أن حكومة ألمانيا الفيدرالية لم تمتلك الموهبة ولا الخبرة لسلطة مهيمنة. ولو كانت تمتلكها، لعرفت أنه من غير الممكن أن تظل أوروبا متحدة بدون أخذ مصالح الدول الأخرى في الاعتبار. في العقدين الأخيرين، لعبت الجمهورية الفيدرالية، بشكل متزايد، دورَ السلطةِ القومية عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد. وفيما يتعلق بماكرون Macron، فإنه يستمر في محاولة إقناع ميركل بلزوم أن تفكر في الكيفية التي ستظهر بها في كتب التاريخ.
س: ما هو دور إسبانيا في تشييد أوروبا؟
ج: يلزم على إسبانيا أن تدعم ماكرون.
س: إن ماكرون فيلسوف مثلك. هل تعتقد أن السياسة والفلسفة يعملان في توافق؟
ج: بحق الله، لا تجعلونا نخوض في الفلاسفة الحُكَّام! لكن، يحفز ماكرون المرء على احترامه لأنه، في سياق المشهد السياسي الحالي، هو الوحيد الذي يجرؤ على امتلاك منظور سياسي، وهو الذي، باعتباره مفكرًا وخطيبًا قديرًا مُقْنِعًا، يطارد الأهداف السياسية التي وضعتها أوروبا، وهو الذي أظهر، في سياق ظروف الانتخابات اليائسة بشكل شبه كامل، شجاعةً شخصية وللآن، باعتباره رئيسًا، لا زال يفعل ما وعد به. وفي عصر يتميز بالخسارة التعجيزية للهوية السياسية، تعلمت أن أُقَدِّرَ هذه الصفات الشخصية على الرغم من قناعاتي الماركسية.
س: لكن، من المستحيل بمكان معرفة إيديولوجيته، أو إذا ما كان يملك واحدة.
ج: أنت محقٌ. لا زلت عاجزًا عن رؤية القناعات الراقدة خلف السياسات الأوروبية لرئيس فرنسا. أريد أن أعرف لو أنه على الأقل ليبرالي مقتنع ويميل لليسار، وهو ما آمله.
حارس الحديث
يجلس ثلاثة ضيوف لتناول الطعام في منزل هابرماس، وعلى الفور سَرَت همهمات الحديث في أرجاء البيت. وبعيدًا عن السيطرة [على مجريات الحديث]، يُنصت هابرماس ويستفسر، وتلك، بدون شك، هي السمة المميزة لمفَكِّر عظيم. هناك شعور بأننا ربما نتحدث لآخِر المفكرين المهتمين بالكتابة للجمهور، إنه يمتلك نوعًا من السلطة التي بدأنا نفتقدها في هذا العصر ـــ عصر وسائل التواصل الاجتماعي والانتهازية الآنية. سأجازف بالقول إن ميراث هابرماس لن يكون إسهامه الهائل المكتوب، وإنما تقديره للمجال العام، الذي هو قيمة مدنية وسلوك مثقَّف أكثر من كونه نظرية.
إن هابرماس، قبل كل شيء، متحمسٌ عندما يتعلق الأمر بالحديث، إنه شخص مُقْتَنِع بقيمة المجهود المُشْتَرَك. لقد كان انشغاله الرئيس على الدوام هو حماية وتحسين الحيز الما-بين ذواتي inter-subjective لأنه هو المجال الذي نقوم فيه بعَمَلِ اكتشافات حقيقية، وفوق كل شيء، حيث نبني انسجامًا ديمقراطيًا.
إن هابرماس نتاجُ تراث الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، وقد اختبر، في مقابلها، نظريات حديثة مثل اللغة التحليلية أو الأشكال الجمهورية للديمقراطية. يتسلح هابرماس بثقافة واسعة. وهذه الثقافة ليست تكدسًا للمعلومات بقدر ما هي تعددية استعمال [تتفاعل فيها كل الأفكار] في سبيل الحوار. يحضر كانط وماركس وأدورنو بشكل جليٍّ في أفكاره، لا باعتبارهم قطع صامتة تقبع في متحف ما، وإنما باعتبارهم مساهمين نشطين يستطيعون إجراء حوار مع أوستن Austin، ودريدا Derrida، ورولز Rawls. المُنْتَج الأخير هو حديثٌ بين عديد المساهمين. إن هذا الميل للتفسيرات العامة للعالم وثقافته شيءٌ يكاد أن يبدو غريبًا في عصر التشظّي والتخصُّص. إن العقبة الأولى التي تواجه أي شخص ينتوي توضيح شيء ما مثل نظرية عامة للأشياء هي النزعة الشكِّيَّة لهؤلاء الذين يؤمنون أنه من المستحيل، أو على أقل تقدير، ليس بذات القدر من الجدوى، أن نعرفَ كلَّ شيءٍ عن لا شيء. لقد قاوم هابرماس دومًا الاتهامَ بالزهو أو السذاجة لأخذه الكل the whole في الاعتبار. وبفضل شجاعته، صارت فكرة وضع الكائنات البشرية والحوار في مركز كل الحلول أمرًا مألوفًا لدينا.
ربما يشرح شغفه للحوار مع الجمهور حسَّ المسؤولية الذي هيمن على حياته باعتباره مثقفًا يهتم بالجمهور. لا تنفصل وظيفته كأستاذ جامعي وباحث عن إسهاماته المستمرة في النقاشات الكبيرة المتعلقة بعصرنا، سواء كانت الاستخدام العمومي للتاريخ، أو مخاطر الهندسة الجينية (الوراثية)، أو - مؤخرًا - الطريقة التي يتعين على أوروبا أن تحل أزمتها من خلالها. لو قال فولتير عن مسؤولياتنا إننا يجب أن نرعى حدائقنا لتنمو وتزدهر [أي أن ننشغل بأمورنا الخاصة][3]، فإنه يبدو أن هابرماس يقول، على الوزن الفولتيري، إننا يجب أن نرعى محاوراتنا.
وفق منظوره، لا يجب تصوُّر المجال العام بوصفه حوارًا جدِّيًا بين شخصيات العالم الأكثر نفوذًا فقط، وإنما كذلك باعتباره حديثًا حول مائدة العشاء لا يلزم أن نتفق جميعًا، ودائمًا، عليه.
[1] رابط المقابلة:
https://elpais.com/elpais/2018/05/07/inenglish/1525683618_145760.html
[2] كانت حركة باوهوس أكثر مدرسة معاصرة للفن في القرن العشرين، وقد نتج عن مقاربتها لتعليم وفهم علاقة الفن بالمجتمع والتكنولوجيا أثرًا رئيسا في أوروبا والولايات المتحدة حتى بعد أن أُغلقت. (م).
[3] تلزم الإشارة هنا، لأن "ذاتية" فولتير لا تعني بالضرورة أن الانشغال بالأمور الخاصة أمرٌ غير مُنتِج، وذلك لكي يستقيم المعنى. (م).