يوسف والرؤيا : النتيجة والمُقدّمتان؛ الصُغْرَى والكُبْرَى
فئة : مقالات
يوسف والرؤيا[1]:
النتيجة والمُقدّمتان؛ الصُغْرَى والكُبْرَى
يحمل النصّ القرآني في سورة يوسف صفة قصصية باهرة، مُـتعلقة بالإمكان التشويقي والإدهاشي الذي ينطوي عليه النص؛ فالترتيب الحكائي لقصة يوسف كما صيغت إلهيًا، جاءَ ضمن سياقٍ جاذبٍ يلْهم عقل القارئ، ويجعله في شوق مُتنامٍ لمعرفة أحداث الحكاية اليوسفية، بعيدًا عن أية مواعظ لاهوتية.[2]
ومع اندماج الذات القارئة في فعل القراءة، ينتابها شعور انجذابي للقادم من النص؛ فالتقنية الكتابية المُستخدمة في السياق القرآني لنصّ سورة يوسف، اشتغلت على عنصر التقديم والتأخير لخلق تكاملية حكائية جاذبة.
وأول معالِم هذه التقنية كانت بجلبِ (النتيجة) النهائية للحكاية اليوسفية إلى بداية النص:
{إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأبِيِه يَا أَبَتِ إِنِّي رَأيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}(الآية 4/سورة يوسف)؛
فرؤيا يوسف هي المفصل الرئيس للنص القرآني في سورة يوسف، والنتيجة التي قادت إليها المُقدمتان: الصغرى والكبرى (سآتي على ذكرهما بعد قليل). والنصّ القرآني إذ يشتغل على هذه النتيجة، فإنه يعتمد التشويق القصصي لِيُبقي القارئ على صلةٍ بالنصِّ وحكايته المُتنامية؛ فالحكاية –لا سيما لحظة القراءة- هي مساحة انزياحية بالنسبة للذات القارئة، وخروج بها من تيه الحياة وضنكها، إلى أرض استيعاضية، لذيذة مُسَرْنَمة!
وبالتتابع أخذ النص القرآني ينبني بما يتكشف عن سياقيته القصصية؛ فـَ (النتيجة) بلغة علم المنطق بحاجةٍ إلى (مُقدمتين: واحدة صغرى والأخرى كبرى)، واستخدام تقنية التقديم والتأخير، ليُؤَكِّد عبقرية هذا النص الإلهي؛ فالمقصود في نهاية المطاف ليست رؤى الغير [أولًا رؤيا صاحبي السجن الذي رأى أحدهما أنه يعصر خمرًا، ورأى الآخر أن الطير تأكل خبزا من على رأسه. وثانيًا رؤيا عزيز مصر، إذ رأى سبع بقرات سمان وأُخر عِجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات]، بل المقصود من هذه القصة القرآنية هو رؤيا الذات؛ رؤيا يوسف تحديدًا، فيوسف هو طائر الفينيق الذي سينبعث من ثنايا الحكاية، ليُقيِّم أودها ويمنحها لَذتها الأدبية. وما تلك التفاصيل التخومية في قصة يوسف، إلا بمثابة المقدمات لتشكيل الدلتا عند مجرى النهر، وهذا ما يُؤكد إتيانها في (مقدمة) النص، مع العلم أنها (النتيجة) لكلّ القصة. ولاحقًا أتت رؤى الغير لتأكيد قدرة يوسف على التأويل؛ تأويل الرؤى تحديدًا. وقد أتى الاختبار الأول (= المُقدّمة الصغرى) ساعة كان يوسف في السجن، فقصّ عليه صاحبيه رؤيتهما:
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئنا بِتَأوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}(الآية 36/سورة يوسف).
ويبدو أنهما كانا على علمٍ بما آلَ إليه يوسف من علمٍ بتأويلٍ الرؤيا، إذ ليسَ من المعقول أن يطلبا منه شيئًا إذا لم يكونا على درايةٍ بقدرتهِ على تحقيق ما أراداه. وكان النص القرآني قد هيَّأ لتلك القدرة على تأويل الرؤى:
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مْن مِصْرَ لِامْرَأتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسَى أَن يَنفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأوِيلِ الأحَادِيثِ...(21) }(سورة يوسف).
ثُمَّ أتبعها بالآية القرآنية:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ}(الآية 22/سورة يوسف).للتأشير على البناء الهرمي لعلم يوسف وقدرته على تأويل الأحاديث، فقد استغرق مدّة زمنية طويلة في التعلّم، حتى آلَ إلى ما آلَ إليه من عِلمٍ، فشاعَ بين الناس وذاع صيته كعالِم قادرٍ على تأويل الرؤى؛ أي أنَّ طلب صاحبي السجن من يوسف بتأويل رؤاهما، لم يكن طلبًا ناشزًا، وغير مبني على معطيات واقعية واضحة وصريحة؛ فالتراكمية المعرفية عند يوسف كانت بمثابة الصاعق الكهربائي، الذي فجَّر فتيل التآويل اللاحقة، وأولها طلب صاحبيه في السجن تأويل رؤيتهما.
ومع طلب السجينين تأويلًا لرؤيتهما، كانت (المُقدمة الصغرى) قد تثبَتَّت في السياق القصصي للنص القرآني، والتي ستُفضي في حال دُعِّمت بـِ (مُقدّمة كبرى) إلى النتيجة، وهي الرؤيا الخاصة بيوسف، والتي رأى فيها أحد عشر كوكبًا يسجدون له، إضافة إلى الشمس والقمر.
وفعلًا لن تتأخر (المُقدّمة الكبرى) على التشكّل والانبناء؛ فسرعان ما سَتتكشّف. فقد رأى عزيز مصر رؤيا، عَجِزَ المفسرون عن إيجاد تأويل عقلاني ومقنع لها، وقالوا عنها أضغاث أحلام؛ فقد أعيتهم رمزيتها:
{وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤيَاي إِن كُنتُم لِلرُّؤيا تَعْبُرُون}(الآية 43/سورة يوسف).
لذا كانَ لا بُدَّ من الاستعانة بخبرةِ يوسف، بصفته مُؤَوِّلًا للرؤى! وهنا يأتي دور ذلك الذي رأى في المنام من قبل أنه يعصر خمرًا، فأوَّله له يوسف بأنه سيسقي ربّه (= مليكه) خمرًا. وستظهر شخصية هذا الساقي الناجي في السياق القصصي؛ فقد تذكّر يوسف القادر على تأويل الرؤى، فأرشدهم إليه:
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}(الآية 45/سورة يوسف).
فهذا الساقي الناجي تذكَّر أنَّ ثمة شخصا لديه القدرة على تأويل الرؤى، وأكبر دليل على ذلك هو حلمه الذي رآه من قبل وأوّلَهُ له يوسف، وأتى التأويل مطابقًا لما حدث لذلك الساقي واقعًا، لذا أرشدهم إلى يوسف من أجل تأويل رؤيا المَلِك.
ومع تأويل يوسف لرؤيا الملك، يأتي الاختبار الثاني لعلم يوسف التأويلي، وقدرته على فكّ المُضْمَر في الرؤيا الرمزية. وبالتقادم سيثبت واقعًا مُطابقة التأويل اليوسفي؛ فما حَدَّثَ به المؤَوِّل يوسف–تأويله لرؤيا الملك- حَدَثَ تمامًا على أرضِ الواقع. وعمليًا انوجدت (المقدمة الكبرى) التي أكملت صورة الحكاية بعد أن كانت (المقدمة الصغرى) قد انوجدت من قبل، وكانَ لا بُدّ –كضرورةٍ منطقية– من (النتيجة)، لكي يكتمل البناء المنطقي للقص القرآني، ويكشف عن بُعده القصصي الإدهاشي!
و(النتيجة) كانت قد تقدمت بنيويًا –ضمن سياقية النص القرآني- على المقدمتين، لأنها المُراد من القص؛ فرؤيا يوسف هي المفصل العظيم الذي انْبَنَت عليه الحكاية في سورة يوسف، وما إتيان رؤى الآخرين (رؤى صاحبي السجن + رؤيا الملك) إلا لإكمال رؤيا يوسف بنيويًا؛ ففي الرؤيا الأولى هُيِّئ الجو القصصي بعنصرٍ سيُؤدِّي دوره لاحقًا، وساعة التأويل الثانية لرؤيا ملك مصر، ستكون بمثابة النهاية لبداية جديدة، مع ما احتملته رؤيا العزيز من تهيئة نفسية، من أجل تجلِّي رؤيا يوسف في العالَم؛ فالسنوات العجاف التي تنبأ بها يوسف، كانت –بطريقة المُضْمَر والمُسْتَتِر- بمثابة إرهاص لنبوءة رؤياه القديمة، التي تنبأ فيها بإمكان سجود الكواكب له، مضافًا إليهما الشمس والقمر؛ فكيف تسجد له هذه الكائنات إذ لم تُهيَّأ له الأجواء، وتُدعَّم بوقائع دامغة، فكانت رؤيا العزيز وكانت المكافأة بأن صارَ أمينًا على خزائن الأرض. في الوقت الذي كانت فيه القصة القرآنية تشتغل على محور قصصي آخر، هو محور إخوة يوسف، إذ أُصيبت بلادهم بالقحط كتجلٍّ لا واعٍ لرؤيا عزيز مصر، من أجل اقتيادهم – أعني إخوة يوسف- إلى مصر، وطلبهم العون والمساعدة من الشخص الذي أساءوا له فيما مضى. لكنهم (= إخوة يوسف) هذه المرة ضعفاء [عكس البدايات]، وأخوهم (= يوسف) هو القوي؛ فالسياق الانبنائي للقصة اليوسفية كان سيصل إلى هذا المقام، تهيئةً للتأويل الأكبر لرؤيا يوسف، لناحية سجود أبيه وأمه (= الشمس والقمر)، وإخوته (= أحد عشر كوكباً) له، وهو في مكانٍ عَلِيٍّ وصلَ إليه كمكافأة له على تأويل رؤيا الملك، وكاستكمال سردي ماتع للبداية النتيجة! فالسجود يتم عادة من قبل شخص أقل مكانة إلى شخص أعلى مكانة، وهذا ما وعاه من قبل نبي الله يعقوب (والد يوسف)، وحذّره من قصّ رؤياه على إخوته خوفًا من الحسد والبغض. لكن حكاية لذيذة ستنتظم حلقاتها، وتحقّق متعة لقارئها، وإنْ تكبَّدَ أبطالها عناءً وعنتًا، فدرب الحياة مليء بالآلام؛ كذا درب الحكايا.
وهكذا، كان التأويل لرؤيا يوسف قد أتى في السياق البنيوي كمرحلةٍ أخيرة؛ ففي آخر سورة يوسف قَدِمَ والد يوسف وأمه وإخوته، وهناك سجدوا له، وتمَّ تطبيق الرؤيا واقعًا عمليًا. مع العلم أنَّه كانَ – وبحسب النص القرآني- قد رأى في المنام سجود الكواكب والشمس والقمر في أوائل السورة، بما يُؤكد استخدام تقنية التقديم والتأخير القصصي، وبما ينسجم مع متن النص وروحه، وذلك بربط القارئ بخيط سحري، وإبقائه متصلًا بالسياق الحكائي للقصة، من اللحظة الأخيرة وحتى لحظة البدء!
إذاً، لقد لَعِبَ يوسف دور المُؤوِّل بالنسبة لرؤى الغير. السؤال: ماذا عن رؤياه هو؟ مَنْ أوَّلهَا لَهُ؟ ومن الذي منحها حضورها الواقعي؟
إنَّ المتن القصصي القُرآني، مسرودًا في سورة يوسف، هو التأويل لرؤيا يوسف. الحكاية ذاتها هي التأويل لرؤيا يوسف، إذ كان على يوسف أن يخوض غمار تجربة الحكاية –من أولها إلى آخرها- في البناء القصصي القرآني، لكي يتحقّق –على المستوى الواقعي– من تأويل رؤياه.
إنّ الذروة القصوى للذهن التأويلي اليوسفي كانت على أرض الواقع، وليس في الذهن المُجرَّد؛ فالمرحلة الأخيرة من رحلة التأويل اليوسفي، كما جُلِّيت في سورة يوسف، كانت تطبيقًا عمليًا لعمليات عقلية مبدئية، كُونِّت بموجبها صورة أخيرة حول سجود الشمس والقمر، إضافة إلى أحد عشر كوكبًا، ليوسف؛ فالتربية التراكمية ليوسف المُؤوّل تُوِّجت بلحظة الحسم على أرض الواقع، وليس في ذهن المؤوّل، إذ عجز يوسف عن تأويل رؤيته الخاصة، رغم تمكّنه من تقديم خدمة التأويل لغيره.
باختصار، كان عليه أن يندمج في شغف إمتاعي مع قارئ مستقبلي [على اعتبارية انبثاق النص القرآني إلى العيان الإنسي، عقب حادثة الحكاية اليوسفية]، من خلال مكابدة التفاصيل الصغيرة التي حضرّت لرؤيا يوسف، والمفصليات الحاسمة في المتن الحكائي، لتتشكَّل بذلك معالم القصة كاملة، والتي هي –نهاية المطاف- تأويل لرؤيا يوسف؛ فالقارئ، والحال هكذا، مُشارِك حقيقي في عملية الاندماج الشغفي في (النتيجة) النهائية لقصة يوسف؛ فهو يتنقل –عبر سرد ماتع- خطوة تلو الخطوة، مرورًا بالمقدّمتين: (الصغرى) و(الكبرى)، ناحية حافة النص، ليقفز من هناك قفزة أخيرة في اتجاه الرؤيا اليوسفية، وهي تتحقّق عبر فعل القراءة للحكاية كاملة، من مبتداها إلى منتهاها، تمامًا كما حدث لبطل الحكاية الرئيس (= يوسف)، إذ كان عليه هو الآخر أن يتواجد في المتن الحكائي، من مبتداه إلى منتهاه، لتتحقّق رؤياه، وتتجسد واقعًا مُعاشًا. لذا ثمة شراكة مادية ومعنوية بين البطل والقارئ، بين لحظة التمثّل الحكائي بالنسبة للذات اليوسفية الفاعلة في النص، وبين لحظة القراءة بالنسبة للذات القارئة.
إنَّ يوسف –إذا شئنا أن نستخدم لغة الاستعارات الأدبية، بما أننا بإزاء نصّ أدبي بامتياز، وإن ورد في كتاب لاهوتي- نبع ماء دفق من بدء النص، وفاضَ على طول المتن الحكائي، وصبَّ في نهاية المطاف في نهر الرؤيا.
القارئ أيضًا، نبع ماء دفق من اللحظة الأولى لقراءة النص اليوسفي، وفاضَ على طول المتن الحكائي بانتظار أن تتكشّف الحُجُب عن الرؤيا اليوسفية، وصبَّ نهاية المطاف في نهر تلك الرؤيا؛ فالتقى يوسف والقارئ في مجرى واحد، سَبحَا سوية ووَصَلا سوية، وسوية انتشيا لحظة تحقّق الرؤيا، وكأنها رؤيا مشتركة بينهما ابتداءً.
[1]- أمكنني التأشير هَهُنا على الطابع الدنيوي لقصة يوسف، وإن وردت في كتاب لاهوتي. ولربما هذا مؤشر ودافع ناحية وجود أدب إسلامي يرقى إلى مقاربة الوجود بدناسته وقداسته، بعيدًا عن أية مواعظ دينية تُشعر المرء أنه مفصول عن واقعه، ومتصل –بدءًا وبدون مقدمات- بعالم الماوراء.
[2]- أشير إلى أنَّ هذه المقالة بمثابة إرهاص لبحثٍ موسوم بـ (الأدب في القرآن) أشتغل عليه حاليًا.