اختتام أشغال المؤتمر السنوي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث
فئة: أنشطة سابقة
اختتمت مساء الأحد 27 أيار/ مايو 2013 أشغال المؤتمر السنوي العربي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وهي مؤسسة فكرية تجمع ثلة من الناشطين والباحثين الشباب في مجاليّ الفكر والثقافة، تحت شعار "الدين والثقافة الواقع والآمال". وتميز هذا اللقاء العلمي بحضور مفكرين وباحثين قدموا من مختلف البلدان العربية، شاركوا في أربع جلسات فكرية تمحورت حول بعض القضايا والملفات المرتبطة بالسياق العربي والإسلامي الراهن. وهكذا جاءت الجلسة الأولى ابتداء من صباح يوم السبت 26 أيار/ مايو، مخصصة للتعريف بمشروع المؤسسة، من خلال إلقاء الأستاذ محمد العاني، مدير عام منظمة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، الكلمة الافتتاحية للمؤتمر، مؤكدا بداية على أن المؤسسة تسعى لتكون بيئة حاضنة للأفكار التجديدية المتنوعة، وخلق فضاء معرفي حر ومبدع لمناقشة مختلف القضايا ذات الصلة بالإنسان، مشيرا إلى أن فكرة "مؤمنون بلا حدود" تحمل رؤيتها "من صميم إيمانها بجدوى المراهنة على خيرية الإنسان، وأهليته ورشده العقلي، ووجدانه الأخلاقي المساند لتجليات عقلانيته"، كما اعتبر العاني أن الرهان الحالي مرتكز على دور الشباب الباحثين في التفاعل مع مجتمعاتهم، ومع احتياجات الناس، "ليحققوا التواصل الخلاق بين الفكر والواقع، بالعلم والمعرفة والأخلاق ذات الغاية الإنسانية"، مضيفا بالقول "لا نريد التقليد، وتكرار المكرر، ولا نريد استنساخات فكرية تحول الفكر التجديدي لمذاهب جديدة".
وبخصوص مشاريع المؤسسة على أرض الواقع، أكد العاني أنه على المستوى العملي فإن مؤسسة مؤمنون بلا حدود ستسعى لتكون رافعة حقيقية للعمل التجديدي والتنويري، عبر طرق باب كل باحث جاد يؤمن بضرورة هذا العمل، موجها الدعوة إلى ثقة الحضور من نخب وباحثين شباب، لتتضافر الجهود لإرساء فعل تجديدي حقيقي، والتفاعل مع ناقدين ومحاورين، ومبدعين لأفكار متجددة دائما، قائلا: لا نريد التقليد، وتكرار المكرر، ولا نريد استنساخات فكرية تحول الفكر التجديدي لمذاهب جديدة. نريد إبداعاً حقيقياً، فاعلاً ومتفاعلاً مع المجتمع، ومن هنا الرهان على دور الشباب الباحثين في التفاعل مع مجتمعاتهم، ومع احتياجات الناس، وهمومهم، ليحققوا التواصل الخلاق بين الفكر والواقع، بالعلم والمعرفة والأخلاق ذات الغاية الإنسانية. أما احميدة النيفر، فألقى كلمة باسم مجلس أمناء المؤسسة، منوها بمشروع مؤسساتي طموح وأمل ممتد من أجل أن تتضافر فيه جهود كل الفاعلين القدامى والشباب، من أجل إرساء عمل أصبح من متطلبات المرحلة التي تتجاوز احتياجات بلد معين، خاصة أن هذه المتطلبات، يضيف النيفر، طالما كان المثقفون العرب يسعون إلى تأسيسها، وهذا هو الطموح الأول والرئيسي، كما يجسد ذلك حضور الجمهور الكريم من المفكرين والباحثين الذي واكب أشغال هذا اللقاء العلمي. وأضاف النيفر أن بناء المؤسسة جاء منسجما مع تحديات العولمة المعاصرة، إذ يقتضي هذا المشروع تكريم الإنسان، والذي يقتضي بدوره التعالى على المذهبيات والإيديولوجيات، وهذا الأمر يحتاج إلى طاقات واعية وراشدة، مجددا التأكيد بدوره على أن المؤسسات الفكرية ينبغي عليها أن تكون متجاوزة للحدود، وألا تجعل الفكر والمعرفة مرتبطة بحدود معينة.
وفي ختام مداخلات الجلسة الافتتاحية، تطرق إبراهيم أمهال، رئيس قسم دراسات الحقوق والحريات، في كلمة ألقاها باسم فريق عمل مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إلى بعض العوائق التي تحول دون قيام مؤسسات بحثية رصينة في الساحة العربية: وفي مقدمتها العوائق الإيديولوجية والشخصية والمالية على الخصوص؛ كما توقف المتدخل عند طبيعة الآفاق البحثية التي يجب أن تستحضرها المؤسسات الثقافية والبحثية حديثة التأسيس، وقد لخصها في ثلاث مستويات من حيث الأهمية والسياق الزمني في آن: هناك أولا المستوى التعريفي، ويروم إعادة شرح المشاريع الفرية القائمة في الساحة العربية؛ ثم المستوى الحواري والسجالي، ويروم مقارنة ونقد أهم المشاريع الفكرية القائمة؛ وأخيرا، المستوى الإبداعي، باعتباره تتمة وتتويجا للمستورين السابقين. كما نبّه أمهال إلى ضرورة الرهان على ثلاث محددات بخصوص طبيعة الأفكار التي تروج في هذه المؤسسات البحثية، وهي التأصيل والإجرائية والغائية، أي استحضار دور ومرجعية القيم اللصيقة بهذه الأفكار.
في ختام أشغال هذه الجلسة الافتتاحية، تم توزيع جوائز مسابقة المؤسسة للشباب العربي للبحوث، وهي مسابقة أطلقتها المؤسسة، وتفضل الأستاذ محمد العاني مدير عام المؤسسة، والدكتور أحمد فائز، المدير التنفيذي للمؤسسة، بتسليم الجوائز للباحثين، حيث ارتأت لجنة التحكيم أن يتم حجب الجائزة الأولى، وقيمتها 10 آلاف دولار لعدم إيفاء أي من البحوث المقدمة بمعايير المركز الأول الأكاديمية، وجاءت الجائزة الثانية وقيمتها 5000 دولار من نصيب الباحث رشيد سعدي حول بحثه الموسوم "الإيمان وعلاقته بمنظومة الحقوق والحريات" بالجائزة الثانية ، بينما فاز بالجائزة الثالثة وقيمتها 3000 دولار الباحث محمد بنتاجة، عن بحثه الموسوم "الظاهرة الدينية والمقاربة المعرفية"، فيما نال الباحث حسن الحما جائزة تشجيعية قيمتها 1000 دولار
خُصصت الجلسة الثانية لعرض لائحة من الشهادات الفكرية لبعض المفكرين المشاركين في أشغال المؤتمر، وتميزت أولى المداخلات بالنفحة الشعرية التي جاءت في كلمة سماحة العلامة هاني فحص، والذي وجه الدعوة إلى الحضور من أجل دخول الذات في التعرف على الآخر وبالعكس، معتبرا أن المذهبيات المنغلقة تساهم في حرمان الذات من المعرفة الحقيقية لذاتها ومعرفة الآخر، قائلا في هذا الصدد: "نحن متعاقدون على تغليب المضمون الواحد على الأشكال المتعددة، وقصارنا كأهل إيمان، أن يدخل الآخر في تعريف الذات ويتجسد فيها حتى يتضح لنا أن التوحيد جامعنا وعاصمنا". واختتم المحاضر شهادته المعنونة "اللاهوت السياسي"، بالتأكيد والتحذير من مخاطر الدولة الدينية، مؤكدا أنها لا يمكن أن تكون إلا مذهبية ومرجعيتها خلافية إلى أبعد الحدود. من جهته، توقف الأنثروبولوجي السعودي أبو بكر أحمد باقادر في مداخلته التي جاءت تحت عنوان: "الأنثروبولوجيا والدين"، عند طبيعة القراءات الاستشراقية التي اشتغلت على أنماط التديّن في الساحة الإسلامية، معتبرا بداية أن الإسلام كان دوما محط تطبيقات نظرية في الغرب عند أهل الأنثروبولوجيا، وهذه الأرض المغربية، حسب المتدخل، جسّدت إحدى محطات هذه الأعمال النظرية، وأضاف باقادر في هذا الصدد، من باب التأكيد على أهمية هذه الدراسات، بما لها وما عليها، وأن أحداث الربيع العربي أكدت لنا أن الهوية العامة تبقى هوية دينية، ولكن فقط في خطاب الشعارات، مقابل غياب المشاريع، مؤكدا في خاتمة شهادته على أن التحدي الرئيسي الذي يواجهنا اليوم ليس الجدل النصي ولكن جدل المعيش، لأن الجدل الأول اتضح من خلال أعمال أغلب الدارسين أنه كان جدلا إيديولوجيا.
أما الدكتور السيد ولد أباه، أستاذ الفلسفة في جامعة نواكشوط بموريتانيا، وفي معرض شهادته المخصصة لمعالم وواقع الفلسفة العربية اليوم، انتقد الشعور السائد في المنطقة العربية حول واقع الفلسفة اليوم، مفاده أن الفلسفة العربية ليست على ما يرام، معتبرا أن الأمر يتعلق بشعور زائف، ومستشهدا بالعديد من الأمثلة النظرية والعملية في الساحة العربية، أقلها أنه اضطر لأن يحاضر طيلة عشرة ايام مؤخرا في دولة خليجية لا تدرس فيها شعبة الفلسفة، فقط موضوع الفلسفة بسبب تعطش المنظمين والحضور لذلك. وعن قلاقل الساحة العربية اليوم، بحكم أن الأمر يتعلق بحدث المنطقة منذ بضع سنين، خلص ولد أباه أننا إزاء معركة عربية قائمة اليوم حول من يمتلك شرعية الدين، بما يغذي مأزقا كبيرا تعاني منه الاعمال الفلسفة العربية، مفاده آت من تواضع مساهمتها في تغذية أعمال فلسفية كونية، لأن السائد حاليا لا زال رهين إشكاليات الذات والتراث، ولازلنا نحاول الإجابة عن سؤال: "من نحن؟"
أما هاشم صالح، الباحث والمترجم السوري الذي اشتهر على الخصوص بترجمة أعمال الراحل محمد أركون، فجدد التأكيد على أن هذا الأخير يبقى من أهم مفكري العالم الإسلامي، بالرغم من الاتهامات التي كانت تلصق به، مضيفا أننا لا زلنا نعيش في العالم الإسلامي على واقع طالما اجتهد محمد أركون في تفكيكه، أي واقع "السياج الدوغمائي المغلق"، والغريب، يضيف صالح، أن هذا السياح كان مرنا في القرون الوسطة، وأصبح صلبا اليوم. وأضاف هاشم صالح أن المتأمل في المشهد الإسلامي الراهن، يشعر بأهمية التفكير في خطورة السياجات الدوغمائية المغلقة، مؤكدا أن الأمر لا يتعلق بقضايا فكرية، وإنما بقضايا عملية، لأن هذه السياجات تسببت في إثارة حروب ومجازر عند الأوروبيين فيما مضى. وبحكم أن كانط هو فيلسوف الأخلاق الأكبر، حسب تاريخ علم الأفكار، فقد قام في الواقع، برأي المحاضر، قام بعلمنة الأخلاق الدينية، وهي عين الأخلاق التي نجدها مثلا عند المسلمين، مستشهدا مثلا بما جاء في الآية القرآنية التي تتحدث عن فعل الخير والشر: "ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مقال ذرة شرا يره". وأخيرا، جاءت مداخلة المفكر خزعل الماجدي مخصصة لتاريخ الأديان، من خلال الترحال التاريخي والتفصيلي مع أهم الأديان التي عرفتها البشرية، مؤكدا بداية أنه قيد طبع عمل من المتوقع أن يصبح مرجعيا في هذا العلم، وسيصدر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، يتم التطرق فيه بشكل تفصيلي للحلقة المفقودة بين الشرك والتوحيد؛ كما انتقد المحاضر مضامين أغلب الأعمال التي تطرقت لتاريخ الأديان، واصفا إياها أنها سقطت في فخ الانتقائية. وتوقف الماجدي مليا عند مكونات أي دين مرت به البشرية، ملخصا إياها في مكونات رئيسية، وهي المعتقد والأسطورة والطقوس، مقابل وجود مكونات ثانوية مصاحبة، وهي الشريعة والأخلاق والسيرة والجماعة.
"الدين والثقافة: الواقع والآمال"، هو عنوان جلسات اليوم الموالي لأشغال المؤتمر السنوي للمؤسسة، وجرت صباح يوم الأحد 27 أيار/ مايو، وتميزت بمشاركة ثلاثة أسماء علمية، يتقدمها عبد المجيد الشرفي من خلال محاضرة جاءت تحت عنوان: "ملامح الثقافة الإسلامية السائدة"، ويرى أننا نعيش على واقع تأثير ثقافة سائدة ومهيمنة، لا تتعلق بموضوع إنتاج المعاهد الإسلامية التقليدية، أو النظر إلى الدين من الزاوية غير التقليدية، وإنما تتعلق أساسا بثقافة الإعلام الديني، بمصادرها ونتائجها، مضيفا أنه من نتائج هذه الثقافة السائدة اليوم، عبر الوسائط الإعلامية، وخاصة عبر وساطة وتأثير "الدعاة الجدد"، أن شباب المنطقة يعتقد أن الآباء والأجداد لم يكونوا مسلمين كما يجب، وخاصة عند الجيل الذي انتقل من الثقافة الشفاهية إلى الثقافة الكتابية، موجها الدعوة إلى ضرورة الابتعاد عن بعض الدوغمائيات السائدة، وخصّ بالذكر ما يدرس لدى التلاميذ بخصوص إمامة المرأة للصلاة، حيث الإجماع في هذه المقررات المدرسية على عدم جواز ذلك، ولكن عندما نقرأ بعض الأعمال التأسيسية والاجتهادية، منها ما جاء في "الفتوحات" لابن عربي، نرى جواز ذلك، يضيف الشرفي. واختتم المحاضر مداخلته بالإشارة إلى تواضع الجاهزية الفقهية عند الحركات الإسلامية، عندما نبّه إلى أنها تضم مهندسين وأطباء ومحامين، ولكن في المقابل، قلما اشتغلت على ثقافة دينية نوعية، مادامت تنهل مما تعلموه في دراستهم الابتدائية. أما عبد الجبار الرفاعي، مدير مجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، فحاضر في موضوع "البحث عن آفاق تتخطى الاتباع في الدراسات الإسلامية"، ويرى أن الإيمان والمعتقد لا يرتكز فقط على الارتهان للتراث والركون للسلف، وإنما بناء فعالية متوهجة في العلاقة مع الله، لولا أن هذه الفعالية تتطلب الرهان على ملكة النقد، باعتبار أن النقد ساهم ويساهم في تحفيز التطور البشري، في مختلف المجالات الإنسانية: "بدون نقد ومراجعة، لا يمكن أن نفكر بجدية، إما نفكر بجدية أو لا نفكر أبدا"، يضيف الرفاعي، بما يخول التنبيه إلى أن عقولنا في إجازة، وقلما تجد شخصا قادرا على استخدام فهمه الخاص للدين، ملاحظا أنه عندما يجرب الإنسان على استخدام عقله الخاص، يرتقي في النقد، ومن هنا يتمكن من نقد بعض اليقينيات السائدة والمهيمنة منذ قرون. كما نوه عبد الجبار الرفاعي بأن تاريخ العلوم قائم أساسا على سلسلة من التكذيبات، وأن أغلب المفاهيم الجديدة مزعجة، وربما تمثل بعضها فضيحة لصاحبه في وقتها، وغالبا ما تثير إعصارا فكريا، ومن شأن هذا الإعصار أن يخلف أثرا مع مرور الزمن، وجاءت آخر إشارات المحاضر بالتوقف عند ضرورة تحديث المؤسسات الدينية، لسبب منطقي، مفاده أنه لا يمكن تحديث الفكر الديني دون تحديث المؤسسات الدينية، مادامت هذه الأخيرة تبقى المؤثرة أكثر على الشارع والرأي العام.
"المسألة الدينية بين الفكر التقليدي والفكر الحديث"، هي عنوان آخر محاضرات الجلسة الثالثة، وألقاها محمد سبيلا، من خلال الارتحال على مشروع المفكر الإيراني داريوش شايغان، والذي يؤسس مشروعه العلمي على وجود بون شاسع يبلغ أحيانا حد القطيعة، يصفها بـ"الثغرة العميقة"، بين الثقافات التقليدية والثقافات الحديثة، ومرد ذلك، بتعبيره، مرتبط بمكر التاريخ، وحسب شايغان، فإن الحضارات التقليدية تعيش حالة انتقال طويلة بين نظام روحي يترنح ولكنه يجد صعوبة في إعادة شكله الأصلي، رغم طموحه المستمر، وبين نظام حديث وعصري. كما لخص شايغان واقعنا الحضاري اليوم، في حالة القلق بين عالم "الما لم يحن بعد" وعالم "الما لم يعد قائما"، واصفا إياها بحالة البين ـ بين، بتعبير سبيلا هذه المرة، مستشهدا بقول مأثور صدر يوما عن محمود درويش قائلا: "لا الأمس يمضي ولا الغد يأتي". وأخيرا، توقف سبيلا عند أهم التحولات الرئيسية التي ميّزت القطائع المعرفية التي أحدثت الحضارة الغربية: إخلاء الطبيعة من الروح؛ استبعاد كل غائية من الطبيعة، ثم من التاريخ؛ تمجيد المادة؛ وأخيرا، تغيير التراتب الأنطولوجي للعالم والكون وانفتاحه على آفاق ورؤى لانهائية، مع تجديد العلاقة بين أطراف الرابوع الشهير: الله، الإنسان، الطبيعة، والتاريخ. اختتمت أشغال المؤتمر السنوي للمؤسسة لتنظيم الجلسة الرابعة، وافتتحها فهمي جدعان، منبها بداية إلى أنه ستحضر روح ابن سينا في مداخلته لأن يكتفي بسرد "إشارات وتنبيهات" (إحدى عناوين أعمال ابن سينا)، ومعتبرا أن الأمر يتعلق بإشارات تتوزع على ما هو معرفي ووجداني في آن، ولكنها إشارات دالة على ما يؤمن به شخصيا، بما يتقاطع مع مشروع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، والذي يدور في فلك الإيمان والإنسان. افتتح المحاضر مداخلته بالتأكيد على أن الإيمان لا ينحصر في إيمان واحد، لأنه يكون متعلقا بالله أو الإنسان أو بفكرة أو حتى بالإنسان نفسه، وأنه غالبا ما اقترن الإيمان بالدين على الخصوص، لولا أن الدين على وجه الخصوص هو الذي يستبد بالمصطلح. ولأن ضروب الإيمان تختلف، فإن مفاهيمه ونزعاته تختلف بالطبع، بل وتتباين، لذلك تتباين أحوال المسلمين وعلاقاتهم بالمؤمنين ومع غير المؤمنين، ملاحظا أن إيمان الشخص مرتبط بدرجة من الوجدانية للمؤمن المعني، وبالمخطط الأول لهذه الذاتية، وهذا معطى يفسر تفاوت أحوال المسلمين بين التشدد والرحمة، بين التزمت والانفتاح.
ولاحظ جدعان أيضا أن للإيمان امتدادات عمودية، نحو السماء، وأفقية نحو الأرض، نحو الإنسان، نحو عباد الرحمن، وفقا للبرمجة الوجدانية، مختتما محاضرته بالإشارة إلى أن العدالة تبقى الضامن الوحيد لسعادة عباد الرحمن، ومن هنا تفطن الفقهاء القدامى الأفذاذ، عندما جعلوا العدل المحضن الأسمى الذي يضمن غايات الإنسان في تحقيق سعادته وإدراك طيب العيش وحالة السلم. وحاضر المستشار عبد الجواد ياسين في موضوع "الديني في الثقافة أم الثقافة في الدين"، وبدأ من معطى مادي موضوعي، يفيد أن حضور الدين في الثقافة واقع مادي يتعذر نفيه، بل إن بالاستقراء المباشر، يتضح أن حضور الدين في الإنسان يصل إلى حد الغريزة. وانتقد ياسين ما قامت به أغلب المؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي، بحكم أنها مارست تنميط الدين في أشكال جاهزة ومؤسسة لسلطة قمعية متواصلة على الفرد، كما اعتبر أن هيمنة الديني على الاجتماع الثقافي ظاهرة تاريخية لم تتعرض لنقاش جديد طيلة العصور السابقة على الحداثة، وأنه من أهم أسباب التناقض بين الديني والثقافي ـ مع ضرورة هذا التعارض للمفارقة ـ أن الديني كلي ويأتي من خارج الاجتماع الثقافي، بينما التدين يبقى ممارسة الدين من داخل الاجتماع، ومن هذا المنطلق نرى أن التدين هو ثقافة اجتماعية وإن كان موضوعها الدين. وأخيرا، ومن أجل أن ندخل الثقافة إلى بنية الدين الملزم، عبر بوابة التدين، حسب مؤلف كتاب "الدين والتدين"، لا بد من معطيين اثنين: من خلال النص التأسيسي ذاته، وثانيا، عبر تلك الإضافات التي تتراكم عبر التعاطي مع النص الديني بالتأويل والتنصيص، مضيفا أن مشكلتنا الأساسية تكمن في المعطى التالي: لا يوجد المشكل في حضور الدين في الثقافة، لأنه أصلا حاضر، وهذه واقعة مادية لا نناقشها، وإنما تكمن في حضور الثقافة في الدين، مع ضم كتلة الاجتماع التاريخية إلى دائرة المقدس المنزل لصالح سلطة إلزام غير إلاهية أساسا. بنبرة نقدية واضحة وصريحة، جاءت آخر مداخلات هذا المؤتمر السنوي، على لقاء صلاح الدين الجورشي، أحد مؤسسي تيار "الإسلاميين التقدميين" في تونس (رفقة احميدة النيفر)، وجاءت تحت عنوان "الدين والسياسة في ظل حكم الإسلاميين"، وافتتح مداخلته بالتنبيه إلى أن وصول الإسلاميين إلى الحكم في الساحة العربية، ومنها الساحة التونسية، جاء في سياق تاريخي لم تكتمل فيها المراجعات الكبيرة التي قامت بها التيارات الإصلاحية، والتي انطلقت منذ حوالي 150 سنة، بما يفسر حالة التخبط السائدة بين التيارات الإسلامية نفسها، ودهشة الفتاوى الصادرة خلال السنتين الأخيرتين، وكما كان صادما عند التونسيين، حسب الجورشي، أن يسمعوا مطالب فقهية حول ما يمسى ختان البنات في تونس.
فيما يتعلق بالنخبة الحداثية، فإن وصول الإسلاميين إلى الحكم جاء في ظرف تعيش فيه النخبة الحداثية أزمة هيكلية، رغم جهود تحديث الواقع مع الافتقار إلى إجابات حول أسئلة حقيقية، وهذه النخبة في حاجة إلى مراجعات أصبحت ضرورية مع التحول التاريخي الحاصل الآن، ملاحظا أن هذه النخب لم تنجح في تحييد الدين من المجال العام، بما يفسر عودة تدين سطحي في الساحة التونسية، ليبزغ السؤال الأهم اليوم على هذا التيار: هل سيتمكن المشروع التحديثي من الاستمرار وأن تتولى شعوب المنطقة الدفاع عن المشروع دون وصاية أنظمة فاقدة للشرعية؟ وبالنسبة لأداء الإسلاميين (كما جاء في عنوان المحاضرة)، فقد لاحظ حالة ارتجال وغياب الخبرة عند الإسلاميين، بدليل غياب رجالات دولة، ربما بسبب ابتعادهم عن الإمساك بدواليب السلطة، كما انتقد الجورشي إصرار الإسلاميين على النظر إلى البعد الديني باعتباره ورقة انتخابية رابحة، واعتبر أن لهم الحق في ذلك لأنها ورقة لعبت لصالحهم سابقا، ويعتبرونها صالحة للتوظيف ضد خصومهم، مع فارق مؤرق يؤكد أنهم لا يملكون بدائل حقيقية أصيلة منبثقة من الشعار التاريخي "الإسلام هو الحل"، ومن هنا دلالات التصريح الصادر عن الشيخ يوسف القرضاوي أثناء آخر زيارة له لتونس، وجاء عبارة عن نصيحة للإسلاميين التونسيين، وجاء فيه أنه عليهم الاستفادة من علم السياسة الحديث لأنها لن تجد شيئا كثيرا تستفيد منه في السياسة الشرعية. من الانتقادات الصادرة عن المحاضر أيضا أن الإسلاميين يحكمون بدون ثقافة إسلامية جديدة وثورية، وبالتالي لم تؤسس لمدارس فكرية جدية، بقدر ما تبقى تيارات سياسية، مقترحا فرضية تهم التيار العلماني والحداثي، ويرى في مضامينها أن وصول الإسلاميين سيجعل العلمانية أكثر عقلانية ومؤمنة أكثر مع الإسلام، لأنه كلما توسع المقدس، كلما أصبح المشترك المجتمعي مهددا.
واختتمت أعمال المؤتمر بتكريم المتداخلين من المفكرين، وتم تسليمهم دروع وهدايات تذكارية.