اللّقاء العلمي الحواري: ''الجاهليّة: المفهوم والمقاربات''
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقر مؤمنون بلا حدود وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، مساء الأربعاء 01 نونبر اللّقاء العلمي الحواري: ''الجاهليّة: المفهوم والمقاربات'' بمشاركة كلّ من الأستاذين محمّد الرّحموني بمداخلة عنوانها: "أضواء جديدة على مفهوم الجاهلية"، ونادر الحمّامي بمداخلة عنوانها: "من الجاهلية إلى الإسلام: في صراع الوضعانيات". وأدار اللقاء الأستاذ فيصل شلّوف.
بدأ د. محمد الرّحموني مداخلته بالإشارة إلى الاختلاف السّائد بين نظرتين إلى الجاهلية؛ تعتبر الأولى أن الجاهلية مذمومة، في حين تعتبر الأخرى أنّها محمودة، وأنّها تمثل جذور العرب، وبيّن أن هناك دراسات حديثة خاضت في هذه المسألة، وحاولت أن تتجاوز الصّورة التّقليدية للجاهلية وتعدّلها، وتبين أن الجاهلية ليست سلبية كلّها، بل فيها جانب سلبي وآخر إيجابي؛ فقد كان فيها الشرك والتوحيد، ووحدة بين العرب، وأشار إلى بعض الدراسات الحديثة حول الجاهلية ووصفها بأنها قدّمت إضافة في هذا الموضوع.
وقال إن الجاهلية هي بناء مفهومي استحدثه المسلمون في مرحلة أولى من أجل بيان دور الإسلام في نقله من الهامشية إلى الفاعلية الحضارية، ثم أعادوا بناءه في مرة ثانية في مواجهة سياق الشّعوبية؛ وذلك يعود إلى أن اللفظة القرآنية غامضة أو هي مكتظة المعاني لها دلالات كثيرة ومتنوعة، بل ومتناقضة أحيانا. واعتبر أنّه يتباين مع تلك الدّراسات في مسألة جوهريّة تتعلّق بمعنى الجاهلية في القرآن وفي المعاجم، وقال إنّها في القرآن مثلاً لا تحيل على زمان ولا على سلوك، بل هي مجرّد فرضيّة منهجيّة لبيان أهمّية الإسلام، تماماً كما كانت حالة الطّبيعة لدى فلاسفة العقد الاجتماعي، لبيان قيمة الاجتماع وأهمّية التّعاقد، وقال إنّها في المعاجم العربيّة لم يتم استثمار كل معانيها، ومنها معنى الإحالة على الفضاء وغير ذلك من المعاني التي اعتبر أنّها هي الأساس في فهم الجاهليّة. ثم أشار إلى مفهوم الجاهلية في كتب التّاريخ، من خلال أوّل نص تاريخي ذكرت فيه لفظة الجاهلية وهو سيرة ابن هشام، وقد ذُكر ذلك في إطار الحديث عن الهجرة إلى الحبشة، في سياق ذمّ للفترة السّابقة على الإسلام، وقال إن تلك الصّورة المذمومة يلخّصها حديث نبوي يعتبرها ''جاهلية نتنة''.
وبيّن الرّحموني أن مع القرن الثّالث للهجرة ومع ظهور الشعوبية، برزت صورة أخرى عن الجاهلية، وهي الصّورة التي توجد لدى ابن قتيبة الذي اعتبر أن العرب في الجاهلية أعزّ نفساً، وأنّ من بينهم من اعتقد الحنيفية... كما توجد لدى ابن حبيب الذي اعتبر أن ما جاء به الإسلام كان موجودا قبله... وهي صورة مناقضة تماما للصورة السابقة عن الجاهلية، وقد فسر الرحموني ذلك بالرد عن الشعوبية وبصعود البداوة، والبدو كانوا يتحمّلون مهمّة الدفاع عن الدّولة المركزية وحماية التّخوم، واحتجّ بتفسير هشام جعيّط القائل بأنّ ''العرب شبعت بطونهم فأصبحوا يرون الماضي جميلا''، وبيّن أن الصّورة المذمومة عن الجاهلية عادت بعد ذلك للظّهور بداية من القرن الرّابع في المعاجم وكتب التّفسير، لتستقر في وعي المسلمين إلى اليوم، وفسّر عودتها بانحسار الفتوحات وتصاعد الصّراعات المذهبية وتفكّك المجتمع...
وختم الرحموني مداخلته بالتّأكيد على أن القرآن هو الذي صاغ مفهوم الجاهلية للتعبير عن الانفصال الجذري عن الماضي، وأنّ الجاهليّة لا تحيل على تاريخ ولا على وقائع، بل هي رمز الخلاء والشّتات وانعدام العمران والمدنيّة، وأنّها نقيض الإسلام بما هو مدينة وجماعة ونص وسلطة أية دولة.
وأحيلت الكلمة إلى د. نادر الحمّامي، فقدّم لمداخلته بما طرحه الرحموني من اعتبار الجاهلية فرضيّة منهجيّة قائمة على حالة متصوّرة، وقال إن هذه الفرضية المنهجية قد تسمح لنا بمقاربات متعدّدة لمسألة الجاهلية، وأنّها تسمح بالمقاربة الأنثروبولوجية الرّمزية في قراءة الجاهلية وتجنُّب القول بأنّها فترة سابقة للإسلام، وعقّب على ذلك بالقول إن تلك الفرصة في قراءة الجاهلية بمناهج مختلفة لم تمنع من غلبة منهج أساسي هو المنهج التاريخي، واعتبر أن المقاربة التّاريخية هي الغالبة على حساب مقاربات أخرى ممكنة.
كما اعتبر أن تلك المقاربات القائلة بوجود مؤثّرات من الجاهلية في الإسلام أو عدم وجود ذلك، خاصة الإيمانية منها، هي كلّها مقاربات وضعانية، وسواء كانت إيمانية أو غير إيمانية فهي وضعانية، لأنّها تاريخية، وهي تتصارع في ما بينها في نفس تلك الدّائرة، وقال إن الصورة التي لدينا عن الجاهلية هي صورة الإسلام عن الجاهلية، فهي صورة دينية عن الجاهلية، وأن الإسلام كغيره من الدّيانات المستندة إلى الوحي تقسم التّاريخ بحسب ثلاث فترات متمايزة: فترة ما قبل الوحي وفترة الوحي وفترة ما بعد الوحي... وأشار الحمامي إلى وجود اهتمام خاص في الكتابات التّاريخية وفي السّيرة النبوية وكذلك في مجال الدّراسات القرآنية بمحيط نشأة الإسلام، يحيل على اعتبار الجاهلية هي الفترة السّابقة على الإسلام.
وصنف من ثم الاختلافات إلى صنفين؛ صنف أول يسعى إلى البرهنة على وجود مؤثّرات داخلية وخارجية في كل المستويات أثّرت في ظهور الدّين الإسلامي ومثّلت مصادر معارف النّبي، وصنف آخر من البحوث ويمثّله في الغالب المسلمون، وهو القائل بعدم وجود هذه المؤثّرات، وأنّها لا تفسّر مطلقاً ظهور النبي في القرن السابع، وأنّها لا تبرّر البعثة المحمّدية.
ولاحظ أن الدّراسات المتعلقة بالإسلام نشأة وتطورا وأفكارا قد انتمت إلى هذين الاتجاهين، إضافة إلى الدّراسات ذات الطابع الإيماني، واهتم في هذا السّياق بالبحوث التاريخيّة، وبين أنّها على اختلافات توجّهاتها اشتركت في العديد من القضايا، وأنّه اختار التطرّق إليها من زاويتين هما؛ كيفيّات التّعامل مع المصادر ولاسيما الإسلامية منها. والزّاوية الثّانية ترتبط بما سعت إليه الدّراسات ذات المنزع التّاريخي من محاولات الوقوف على ملامح المحيط العام الّذي نشأ فيه الإسلام ومدى تأثير ذلك المحيط في بداية الدّعوة المحمّديّة.