الوحي والمقاربات الحداثية: بين تطوير الفهم واستعاب المعنى
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في مقرها الكائن بمدينة الرباط بالمملكة المغربية، ندوة علمية تحت عنوان:"الوحي والمقاربات الحداثية بين تطويرالفهم واستعاب المعنى" ، وذلك يوم الخميس الموافق لـ31 أكتوبر2013 ،عوض يومي29 و30 أكتوبر2013 حيث كان مزمعا عقدها في الجزائر، وبالرغم من تغيير برمجة ومكان الندوة من الجزائر إلى المغرب لأسباب لوجيستيكية محضة، فإن الندوة شكلت فرصة علمية مميزة لتلاقي الباحثين الجزائريين والمغاربة قصد تبادل الأفكار والرؤى حول موضوع الوحي، ما جعل هذا اللقاء العلمي فضاء حرا أغناه النقاش الجاد والمثمر.
افتتحت الندوة بكلمة كل من الأستاذ محمد العاني، مدير عام مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والدكتور الحاج دواق، مؤطر الندوة وأستاذ بجامعةمنتوري – قسنطينة/ الجزائر.
في كلمته الافتتاحية، أكد الأستاذ العاني على أن المؤسسة لا تدخل أي وسط إلا من خلال الباحثين، آملا أن يكون للمؤسسة نشاطات مستقبلية في الجزائر؛ فدورها الرئيس، على حد قوله، هو تشجيع المشاريع البحثية المشروطة بالعلمية، الجادة والهادفة، والتي تخاطب الإنسان ككائن حر وعاقل، لأنه خلق على ذلك النحو كيفما كان المكان.
في حديثه عن الإيمان، المتجدر في النفس العربية، والذي يعد رصيدا مهما، تساءل عن كيف يمكن تميزه بشكل عقلاني وإيجابي في النفس العربية؟ كيف يمكن أن يسهم في تحريرالإنسان من كل القيود ويسهم في سعادته في معاشه؟ كما أكد كذلك على ضرورة التعاطي مع مفهوم الوحي، محورالندوة، بالعقل؛ فالوحي مرحلة من مراحل تطور الإنسان وارتقائه، وبالتالي يجب أن يكون في خدمته.
واختتم كلمته بقولة محمد أبو قاسم حاج حمد: "استخلف الإنسان بالعقل" لذا يجب أن لا نخشى من التعاطي العلمي مع الوحي.
وأشار الدكتور الحاج دواق في كلمته على أننا "مجتمعات نصية بامتياز". النص موجود غير أنه كيف يمكننا أن نفعل وجوده من وجود مكلس إلى حضور مفعل؟
توزعت أنشطة هذا اللقاء على ثلاث جلسات، تمحورت المداخلة الأولى للجلسة الأولى، والتي ألقاها الدكتور اليامين بن تومي حول موضوع "التسييق والتاريخانية الجديدة في الخطاب الديني المعاصر"، حيث افتتح محاضرته بطرح إشكالية الفصل بين ما هو ديني وبشري، وإلى أي مدى يمكن قطع المسافة الفاصلة بينهما.كما تساءل حول كيف يمكن تسييق النص البشري دينيا؟ فلاشك أن المخارج التي اضطلع بها موجة من المفكرين في الإسلاميات، حاولت أن تراجع المخزون الاصطلاحي لأكبر المفاهيم حضورا في الثقافة العربية الإسلامية، ألا وهو " مفهوم النص". فهذا الكائن الزمني الذي يمتد في التاريخ، يتطلب تجديدا في رصيده التحتي الاصطلاحي وفق ما يقول به علماء نظرية التلقي والقراءة، حيث يجعلونه في مواجهة مباشرة مع الواقع. هذه الضرورة المنهجية أعادت في تصور المحاضر قلب الجهاز المفاهميي لمحاولة ربط النص بواقعه؛ أي تقييسه على نص الوحي.
جاء موضوع المداخلة الثانية للدكتور شراف شناف،حول أنسنة الخطاب الديني، قراءة في تأويل العقل الحداثي العربي لجدل الاهوت والناسوت، إذ رام في مداخلته تفحص المدونة النقدية الحداثية العربية، ومعايرة أدواتها وآلياتها الإجرائية في نقد الخطاب الديني، وتحليل طبيعة العلاقة بين هذا العقل الحداثي وبنية الخطاب الديني وطموحاته الإستراتيجية الأنسنية التي تستهدف ترويض جموح الديني وتفكيك سلطته النسقية. وتتراوح هذه المدونة ما بين"حفريات محمد أركون" و تفكيكات "علي حرب"و تأويلات "نصر حامد أبو زيد"و جينيولوجيات "أدونيس" وإذا كان هؤلاء الحداثيين يرون أن الأنسنة كإستراتيجية نقدية تكرس كل القيم التي تعيد للإنسان اعتباره، وتحرره من سلطة اللاهوت أو الكهنوتية، فإن الأمر قد ينقلب إلى شكل آخرمن التطرف والإقصاء.
وتطرقت محاضرة الدكتور الزغيمي إلى موضوع الوحي والتاريخ أيهما يشمل الآخر: الوحي أم التاريخ؟. فقد استهل مداخلته بالاستشكال : هل يقول التاريخ كل شيء؟ فالرؤية اتجاه التاريخ ظلت إيجابية إزاء هذا السؤال، بل أكثر من ذلك أصبحت بمثابة معتقد جديد يتبناه قطاع واسع من الباحثين والمثقفين المعاصرين. فهم، المثقفون والباحثون، يقولون أن حكم التاريخ لا يحابي. لكن أين يبدأ التاريخ؟ يظل هذا السؤال محرجا للمؤرخ وخاصة المؤرخ الميتافيزيقي، إذ تواجهه مشكلة البداية.لا غرابة إن كانت جميع كتب التاريخ القديمة تنطلق من خلق آدم، وقصة السقوط وهكذا. ماذا عن الوحي في هذه المسألة بالذات؟
أشار الدكتور أن الوحي لا يعاني عجزا مذكورا فيما يتعلق بهذه المسألة؛ فالبداية دوما من الله. وليست المسألة محل اختلاف بين الكتب السماوية. فبالرغم من أن التاريخ دراسة موضوعها الماضي، لكن فلاسفة التاريخ أرادوا من التاريخ أكثر من ذلك، وذهبوا إلى حد الوثوق في إمكانية أن يقول التاريخ أشياء تتعلق بالمستقبل؛ فهو لم يكن سوى الفترة التي استطاع الإنسان أن يعيها ويعبر عنها كتابة. في ختام كلمته أكد على أن الوحي لم تواجهه كل المشاكل المذكورة أعلاه، فهو، على حد قوله، خارج الزمان، إذ يبدو الزمن كله لحظة وجيزة "حين" و لا يعتبر القرآن مثلا هذه الحياة كلها من بدايتها إلى نهايتها سوى "حينا".
وسعت محاضرة الأستاذ الرحموني بومنقاش إلى طرح الضوابط التداولية للنص الديني "التفسير أنموذجا. أشارالمحاضر إلى أن القراءة المعاصرة في حقل الدراسات القرآنية تأسست على التجديد والرغبة في تذليل ما يبدو عصيا في النص. وعلى ضوء مبدإ التجديد، سعت هذه الأخيرة إلى أنسنة النص بنقله من وضع التقديس إلى وضع التأنيس. كما قدمته كنص مفكك يغلب عليه الرمز والاستعارة والأسطورة ولا تناهي المعنى. هذه القراءات الساعية إلى الاستخلاص من النص القرآني "تدينا ينسجم مع فلسفة الحداثة" ليست سوى قراءات " مقلدة غير مبدعة حسب طه عبد الرحمان. من هذا المنطلق، حاول المحاضر تقعيد الخوض في النص الديني، استنادا إلى ما أصله المفسرون القدامى من ضوابط، وضمن ما يعرف بالتداولية، باعتبارها استراتيجية في تحليل الخطاب وعلما جديدا في التواصل.
وتوزعت الجلسة الثانية على ثلاث مداخلات، تمحورت المداخلة الأولى، والتي ألقاها الدكتور بشير ربوح، حول موضوع الدين والتاريخ عند إدوارد سعيد. سعت ورقته إلى طرح منظور إدوارد سعيد إلى المنحى الديني من خلال اعتماده على رؤية خاصة ودقيقة إلى مفهوم التاريخ؛ فهو يرفض تكون الحقيقة خارج التاريخ البشري الذي تصنعه الكائنات البشرية في ضعفها وقوتها. على هدي هذا التوجه، تساءل المحاضر كيف يمكن أن نتحدث عن علاقة قوية بين التاريخ والمعرفة؟ وهل التاريخ قادر على تقديم ضمانة كافية لاستخراج معنى الحقيقة؟
في حين جاءت المداخلة الثانية حول موضوع جدل الدراسات النقدية الحديثة والمعاصرة للكتاب المقدس، والتي حاضرت فيها الدكتورة نعيمة إدريس، ففي بداية مداخلتها أشارت المحاضرة على أن جهود تفعيل الدراسات النقدية للكتاب المقدس، بدأت أكثرمن ثلاثة قرون في الغرب كما عرف مفهوم نقد النص المقدس، أراد ردود أفعال بين التأييد والرفض. فتحول الدين في أروبا الحديثة إلى موضوع بحث مستقل لتخصصات علمية عديدة بعد هذا التطور التاريخي، مكن الدراسات الدينية من أن تعرف تطورا وتقدما نوعيين. في إطار" نقد النص المقدس" طرحت المتداخلة إشكالية هل الكتاب المقدس كلام الله أم ان النص إنسان يعتريه ما يعتريه من نقائص وتشوهات؟ فبعد رصد تاريخ تشكل النقد الديني في الغرب المسيحي في العصر الحديث ومرورا عبر دراسات يد سان سيمون، سبينوزا، وجان كمحاولات رائدة و جريئة.
جاءت مداخلة الدكتور محمد الشريف الطاهر حول موضوع الوحي والتاريخ في المنظور المعرفي التوحيدي. تطرقت هذه المداخلة إلى علاقة الوحي بالتاريخ؛ فكل قضية لا يمكن فهمها إلا بردها إلى مركباتها الداخلية، سواء أكان حال الكشف عن حقيقة موجودة أم من عدم وجودها. فتحليل العلاقة بين الوحي و التاريخ لا يجب تحليلها بالاكتفاء عند حدود البحث عن الماهيات كماهية الوحي و ماهية التاريخ وغيرها، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل العلاقة بين العنصرين كعلاقة السيطرة أو الحلول.
تطرقت المحاضرة الأولى للجلسة الثالثة إلى موضوع "مكانة الوحي في مشروع من العقيدة إلى الثورة(قراءة نقدية للنصوص)، والتي حاضرت فيها الدكتورة جاري جويدة من جامعة الجزائر. طرحت المحاضرة موقف حسن حنفي من الوحي والنبوة استدلالا بمقدمة رسالته في اللاهوت والسياسة لسبينوزا الذي ذهب إلى القول أنه "لم يتلق أي شخص وحيا من الله دون الالتجاء إلى الخيال، وينتج ذلك عن أن النبوة لا تتطلب ذهنا كاملا، بل خيالا خصبا" وأضاف أن الأنبياء قد جهلوا الكثير من الحقائق كل حسب قدرته.
لاشك أن الحنفي، زعيم اليسار الإسلامي، يتعامل مع الوحي كما يتعامل مع أية وثيقة تاريخية بين يديه سلمها ويحسها ويقرأها ولا يهمه ما الذي تكلم به، وبالتالي فليس هناك فرق بين الوحي وبين كلام البشر. استنادا إلى نصوصه، والتي يغلب عليها التناقض والتضليل، على حد قول المحاضرة، جاءت هذه المداخلة من أجل إعادة قراءة هذه النصوص قراءة نقدية موضوعية ومطارحة لإشكالات الوحي في مشروع حسن حنفي.
وعرفت المداخلة الثانية من الجلسة الثالثة طرح موضوع إعادة قراءة النص القرآني وفق مقاربات محمد أركون، والتي ألقتها الدكتورة ليندة صياد، في إطار ما يسمى ب_ الإسلاميات التطبيقية_ والتي تسعى إلى إحداث قطيعة جدرية مع الدراسات الإسلامية التقليدية، التي تطغى عليها العصبيات الاجتماعية أوالمذهبية، حيث يرى أركون أن مسألة الاجتهاد مسألة معتبرة داخل تراث الفكر الإسلامي بصفتها امتيازا يحتكره الفقهاء. لهذا يدعو إلى تجاوز المفهوم التقليدي للاجتهاد والممارسة العقلية المحدودة.ويعتبر أركون الخطاب القرآني متجدرا في التاريخ، وهو ما اصطلح عليه بالتاريخية؛ بمعنى أن الأحداث والممارسات والخطاب، أصلها واقعي وخاضعة للتطور والتغيير.
وتناولت مداخلة الأستاذ مقنعي الصلة بين الوحي والواقع في فكر حسن حنفي- محاولة للتفهم رصد دقيق لمشروع حسن حنفي، حيث اعتبر مشروعه الفكري منبثقا من الواقع كمادة للفكر وقطب رحاه، يدور حوله ويدور، يحركه وحوله يتحرك؛ فمشروع هذا المفكر يعد محكا تمتحن عليه المسلمات كلها، يقول: " أنا أتقبل كل النبوات وكل الوحي وكل الآراء وعلي أن أمتحنها" وهنا تتخلق إشكالية التوفيق بين القداسة/الثبات والتاريخانية /التغير.
وفي توضيحه لعلاقة النظام الوحياني وتعارضه مع الواقع، صور لنا المحاض جرأة حسن حنفي من الإعلان أن الإنسان قادر بعقله أن يفهم القوانين الاجتماعية، كما أنه قادر بحريته على الاختيار دون اللجوء إلى الوحي.
واختتمت الندوة بكلمة مدير المؤسسة الأستاذ محمد العاني الذي شكرالطاقم الذي سهر على إنجاح هذه الندوة، كما ثمن مجهودات الباحثين الجزائريين الذين حجوا إلى هذه الندوة من جامعات مختلفة من الجزائر، والذين قدموا ورقات غنية علميا وأكاديميا حول أحد أهم المواضيع والأكثر جدلا، ألا وهو الوحي.