ندوة: "في الفكر السياسي الحديث: مقدّمات و مراجعات"
فئة: أنشطة سابقة
في الفكر السياسي الحديث: مقدّمات و مراجعات
مصر- القاهرة
30 مارس 2014
في إطار برنامج الندوات السنويّة لقسم الدين والسياسة بمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وبالتنسيق مع مركز دال للإعلام السمعي والبصري، انعقدت بالعاصمة المصريّة الندوة السنويّة الثانية لقسم الدين والسياسة، تحت عنوان: في الفكر السياسي الحديث: مقدّمات ومراجعات.
تندرج هذه الندوة ضمن أعمال قسم الدين والسياسة بالمؤسّسة في سياقين عام وخاص.
يتمثّل السياق الأوّل في الأهداف القصوى التي يسعى إليها القسم،وهي تقديم تصوّرات ذات صلاحيّة للعلاقة بين الديني والسياسي في السياق العربي الإسلامي.
المقصود ليس الحسم في مسألة الفصل بين الديني والسياسي أو الوصل بينهما؛ فرؤية القسم تجري خارج هذه الثنائيّة المعيقة التي حكمت الجدال بين الدارسين لهذه الإشكاليّة، وحوّلته إلى خطاب سجالي ومهاترة مانعة لإنتاج المعرفة، إنّما المطلوب استكشاف إمكانيّات أخرى، سواء في صيغة الأسئلة الموجّهة لدراسة هذه الإشكاليّة، أو في تصوّر العلاقة بين هذين القطبين الموجّهين للحياة البشريّة. في الحالتين المطلوب هو صياغة أنظمة نظريّة ذات صلاحيّة نظريّة وواقعيّة تاريخيّة.
أمّا السياق الثاني، فهو السياق الإجرائيّ، ويتمثّل في اعتبار الوصول إلى هذا الأفق المطلوب، غير متيسّر دون تبيّن الإشكاليّات التي يثيرها هذا الموضوع. ولعلّ أبرز هذه الإشكاليّات إشكاليّة الدولة.
فالعلاقة بين الديني والسياسيّ تثار من داخل هذا البراديغم السياسي التاريخي، وتنطبع به.
في هذا السياق، تأتي هذه الندوة تتمّة لورشة سابقة نسّقها القسم تحت إشراف المؤسسة بالعاصمة التونسيّة في 11 شتنبر 2013، وسلّط فيها الاهتمام على مختلف المشكلات المتعلّقة بالدولة نظريّا؛ أي بما هي مشروع مجتمعي، وجهاز مؤسّساتيّ. وقد تعلّقت الورقات البحثيّة المعروضة بالإشكاليّات التي تثيرها المقولات الرئيسة المكوّنة للدولة، كإشكاليّة رؤية العالم، وإشكاليّة التشريع، وإشكاليّة الدسترة...
وفي هذه الندوة، تواصل الاهتمام بالدولة لكن من منظور تطبيقي؛أي الدولة في تشكّلاتها التاريخيّة، والتغيّرات الملحقة بنوعها الأمثل، وتجريداتها النظريّة التي تمسح كامل الأطياف المفهوميّة الفاصلة بين الدولة الأمّة والدولة متعدّدة الثقافات.
في هذا السياق الإجرائيّ،يعدّ من الضروري قبل التفكير في نوعيّة الأسئلة الراجحة حول موضوع الدينيوالسياسيّ راهناً، والبحث عن طبيعة العلاقة الممكنة بين الدينيّ والسياسيّ،تبيّن أنّ الدولة ليست شكلاً واحداً، وأنّها ليست فوق التاريخ أو نهاية له.
ولهذا الأمر كان هذا المبحث من المقدّمات أو المراجعات الأساسيّة التي تقتضيها كلّ بداية تأسيسيّة جديدة.
وتبعا للتوجّه النظريّ الوقائعي، فقد انقسمت ورقات المتدخّلين في الندوة إلى قسمين تقريبا.
فمن ناحية أولى، تعلّق القسم الأوّل منها بإنجاز قراءة لمشاكل تطبيقيّة أنتجتها ممارسة نموذج الدولة الأمّة من قبل الدولة الوطنيّة المعاصرة.
وفي هذا الإطار كانت الجلسة الأولى الصباحيّة، والتي ترأّسها الأستاذ د. ياسر قنصوّة، وتحدّث فيها الباحث المصري إبراهيم الهضيبي (باحث في الاقتصاد السياسي والدمقرطة والحركات الإسلاميّة في الشرق الأوسط، وبمركزFRIDE) في ورقة بعنوان: "انتصار الدولة على الإسلام: إعادة إنتاج الدين لتمكين الدولة" عن عمليّة استحواذ الدولة الناشئة في مصر عقب فترة الاستعمار على تنظيم الفضاء الديني من خلال إعادة إنتاج للدين في موضعه وأحكامه وتجلياته المجتمعية جميعا، وذلك في سياق حاجتها للسيطرة على المجتمع بإعادة إنتاج هويّته. وهذه العمليّة التي تمت بالأساس في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، ولم تزل آثارها ممتدة، توجد إشكاليات كثيرة في علاقة الديني بالسياسي من حيث الخطاب والمؤسسات والتشريعات والقوة، وتواصل التضييق على الفكرة الإسلاميّة وتمنعها من اختبار مدى صلاحيّتها التاريخيّة.
ثمّ تقدّم د. سامح محمّد اسماعيل الباحث في العلوم السياسية وفلسفة التاريخ ، والمشرف حالياً على قسم الأبحاث بمركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي بالقاهرة، بعرض ورقته المعنونة "الماركسيّة بين حرق المراحل وتطويع النظريّة" وقد انصبّ اهتمامه على نقد الماركسيين العرب في إغفالهم عمليّة تكييف الماركسيّة بحسب الظروف الموضوعيّة التي تحياها الدول العربيّة، لا سيما إبان أحداث الربيع العربي، هذا الإغفال الذي كان وراء عجزهم عن التأثير الفعلي في الواقع الذي خاطبوه، رغم أنّ أغلب مطالب الثورة كانت توحي بتوافقها مع الحلّ الماركسي. وجرّه ذلك إلى استعراض الكيفيّة التي جرى بها تعديل النظريّة الماركسيّة في الدولة بين منظّريها الأوائل ومن حاولوا تطبيقها عمليّا؛ أي بين ماركس من جهة ولينين و ستالين من جهة أخرى.
وتلت ذلك مداخلة الباحث الماركسي والناشط السياسي في المقاومة الفلسطينية ثم في اليسار العربي، الفلسطيني سلامة كيلة، وتعلّقت بدورها بتوضيح سوء الفهم التاريخي القائم حول علاقة الماركسيّة بالدولة وبالدين. فانصبّ اهتمام الباحث كما يبيّنه عنوان ورقته (الماركسيّة والدولة العلمانيّة) على تكذيب التصوّر الذي يلصق بالماركسية اعتبارها للدولة أداة قمع طبقي. فبيّن أنّ الماركسية تنظر للدولة، باعتبارها ضرورةً تاريخيةً نشأت من أجل تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ووضع الحدود والقوانين التي تحكم المجتمع. وبالتالي، فهي ترى فيها أداة تنظيم.
كانت الدولة بحاجة إلى الدين في مرحلة معينة من التطور لكي تفرض سطوتها. ومع الرأسمالية والحاجة، لتشكل "الدولة/ الأمة"، كان ضرورياً تجاوز الدين كأيديولوجية مسيطرة، وإنهاء دوره "المجتمعي"؛ أي كتشريع يخص المجتمع مفروض من الله. هذا ما فرض العلمنة التي عنت فصل الدين عن الدولة، أو تحويل الدين إلى معتقد شخصي يتعلق بالقناعة بوجود خالق. من هنا ما كانت علاقة الماركسية بالعلمانية، صداميّة، وإنّما جرت في سياق انطلاقها مما توصّلت إليه الرأسماليّة، وهو العلمنة.
وكانت المداخلة الأخيرة في الجلسة الصباحيّة للباحث المدرّس بجامعة باريس1 كريم الشاذلي، تحت عنوان "شرعيّة القضاء: دراسة للحالة المصريّة على ضوء بعض النماذج الغربيّة". وقد تطرّق فيها إلى إحدى الإشكاليات التطبيقيّة المتعلّقة بسلطة الدولة في المنوال الديمقراطي، ألا وهي إشكاليّة شرعيّة السلطة القضائيّة. طرح المتدخّل الإشكال على النحو التالي: تستمدّ السلطتان التنفيذيّة والتشريعيّة شرعيّتهما من الانتخابات،لكن من أين يستمدّ القضاء شرعيّته؛ فالقضاة ليسوا منتخبين؟ حتّى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين تمّ تفادي الإجابة عن هذا السؤال،لكن بداية من ذلك التاريخ ظهرت نظريات لفهم طبيعة عمل القاضي، تجاوزت النظرية السائدة التي تعدّه مجرّد مطبّق للقانون، لتصل إلى حدّ استنتاج أنّ القاضي ينشئ القاعدة القانونيّة مثله مثل المشرّع، بل هو قادر على إلغائها أيضا. ومن هنا، أصبح لزاماً على الفقهاء أن يهجروا النظريّات التقليديّة في شرح عمل القاضي. ولم يعد ممكنا تجنّب الإجابة على سؤال مصادر شرعيّة القضاء. لهذا اهتمّ الباحث في ورقته بدراسة النماذج المختلفة، في إسباغ الشرعيّة على القضاء خصوصا في ظلّ التطوّرات التي طرأت على العمل القضائيّ في العقود الأخيرة. وعلى ضوئها بحث في مصادر شرعيّة القضاء المصري وكيفيّة بناء شرعيّة جديدة له خصوصا بعدما تأثّرت ثقة الناس فيه، بعد ثورة 2011.
أمّا الجلسة المسائيّة، وكانت برئاسة سلامة كيلة، فكانت مداخلاتها ذات توجّه نظريّ، انصبّ على عرض النقد الموجّه لمفهوم الدولة الأمّة بداية بمنظّري الدولة متعدّدة الثقافات كيورغن هابرماس وويل كيمليكا، وصولاً إلى نقّاد التوتاليتاريّة الملازمة لكلّ دولة، بل لكلّ سلطة لاسيما مع ميشال فوكو.
فتناولت المداخلة الأولى لـ د. مرشد القبّي أستاذ الحضارة الحديثة بالجامعة التونسيّة، تحت عنوان "من يحكم الدولة؟" قضيّة الحكم في مؤسسة الدولة وما يتّصل بها من الإشكاليات في المستويين المفهومي والإجرائي، وذلك بالنظر في مصادر الفلسفة السياسية وفي كتابات علماء السياسة ومفكريها الذين أبدوا اهتماماً بها من قبيل أعمال باريتو وموسكا وداهل وغيرهم... وذلك في سياق الإسهام في تعميق الفهم في مسألة الحكم وفي طبيعة السلطة، بمعناها السياسي الدقيق، وممارستها وإدارتها وتداولها في مؤسسة الدولة.
فلئن كان الشاغل الرئيس، منذ القدم، لدى الفلاسفة المهتمّين بالمسألة السياسية هو البحث عن النظام الأمثل وعن الأجدر من المؤهّلين لتولّي الحكم في هذا النظام، فإنّ علماء الاجتماع والسياسة قد اتّجهوا حديثا إلى البحث عمّن يحكم فعلاً في مؤسّسة المؤسّسات : الدولة. وفي هذا الإطار، برزت مفاهيم الطبقة السياسية والنخبة أو النخب الحاكمة وغيرها... في حين بقي الإشكال المتّصل بمعضلة الحكم من منظور الفكرة الديمقراطية قائماً منذ فجر الحداثة السياسية، إذ كيف السبيل إلى المواءمة بين الإقرار بحقّ الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه ويجسّد بذلك سيادته من جهة، وبين التسليم بضرورة حصر الحكم في أيدي مجموعة أو أقليّة، ليكون تدبير الشأن العام واتّخاذ القرار وتنفيذه أمراً ممكناً إجرائيّاً وعمليّاً من جهة أخرى.
وكانت المداخلة الثانية لأستاذ الفلسفة السياسية -كلية الآداب – جامعة طنطا، د. ياسر قنصوة، تحت عنوان " الدولة متعدّدة الثقافات (وحدة التنوّع أم مأزق التفتيت؟)"، وتطرّق فيها إلى الإشكال الأكبر للدولة متعدّدة الثقافات، وهو إمكانيّة سقوطها في التفتيت مقابل سعيها إلى الوحدة المتنوّعة، هذا التعارض ناتج عن واقعين تعيشهما هذه الدولة؛ هما واقع تفرضه طبيعتها دولة راعية للتعدّد الثقافي من داخل سعيها إلى المركزة؛ فهيتسعى إلى تثبيت أركان التباينات الثقافية القائمة بين المركز والأطراف والنظر إليها من خلال واقع الاستمرارية للتباينات دون محاولة تذويبها أو محوها، تطلعاً إلى ما يجب أن يكون من أجل وحدة الدولة واستقرارها. وفى المقابل، تواجه هذه الدولة بواقع ثانٍ تمثّلهجملة من المعوقات التي تحول دون إمكانية التطبيق لمحتوى هذا التنظير أهمها: السعى إلى تحصيل أكبر قدرٍ من السلطة المركزية لدى الجماعات الثقافية فى مقابل منازعة أو ممانعة من قبل الأكثرية المهيمنة، وتمسّك الأقليات القومية بأسبقيتها كشعوب متميزة الأصل على الصورة التى تجمعها فى كيان الدولة التي تنتمي إليها. ومن هنا تتهدد وحدة الدولة واستقرارها، ليتحول الفشل فى معالجة هذه الرؤية إلى مأزق التفتيت لكيان الدولة.
ولم تبتعد المداخلة الثالثة للباحث التونسي أستاذ الفلسفة السياسيّة بالجامعة التونسيّة د. مصطفى بن تمسّك، تحت عنوان "الدولة الأمة بين تحديات العولمة والاعتراف بحقوق الهويات" في اهتمامها بالتحدّيات المفروضة، على الدولة الأمّة في سياق ظهور بديلها النظري في ما يعرف بالدولة متعدّدة الثقافات. يعرض بن تمسّك إلى عمليّة نزع السحر عن مفهوم الدولة الأمّة أو بداية نهاية صلاحيّته؛ فبعد افتضاح طابعه الاستعماري نهاية القرن التاسع عشر وبعد إعلان النظام العالمي الجديد نهاية القرن العشرين، تعرضت سيادة الدولة الأمة إلى تهددين: الأول متأت من العولمة. أما الثاني، فيصدر عن الحركات المهمشة والأعراق المنكوبة، التي صارت تطالب بالاعتراف بنكبتها وبالحقوق الثقافية والعرقية المتساوية.آخر المداخلات كانت مع الباحث د. أشرف منصورأستاذ الفلسفة الحديثة و المعاصرة بجامعة.؟؟؟
الورقة كانت بعنوان: " السلطة على الطبيعة والحقيقة (تحليل فوكو لعناصر الحوكمة في عصر الدولة الليبرالية الجديدة)"
ركزت هذه الدراسة على أبحاث ميشيل فوكو السياسية التي درست تحولات السلطة من العصر الكلاسيكي وعبر عصر الحداثة وحتى عصر ما بعد الحداثة، تلك الأبحاث المتمثلة في الدروس الثلاثة التي ألقاها فوكو في الكوليج دو فرانس أواخر السبعينيات: "يجب الدافاع عن المجتمع" (1976)، و"الأمن والإقليم والسكان" (1978)، و"مولد السلطة الحيوية" (1979)؛ وتناولت الدراسة ذلك التحول الذي رصده فوكو في ممارسات السلطة من آليات الضبط والرقابة إلى ميكانزمات إدارة البيئة الحيوية للسكان داخل إقليم الدولة.
وتمثّل الهدف من هذه الدراسة في البحث في كيفية رصد فوكو لتحولات الطبيعي والحقيقي من العصر الكلاسيكي إلى عصر الليبرالية الجديدة، والكشف عن تمفصلهما في إطار نظرية فوكو في العلاقة بين السلطة والمعرفة، وتوضيح تشكيل الطبيعي والحقيقي بالمعنى الحيوي النيوليبرالي لعناصر الحوكمة الليبرالية الجديدة؛ مع إشارة إلى إمكانية التفكير بنفس هذه المنهجية وبنفس هذا الجهاز التفسيري الفوكوي في طبيعة السلطة في الإسلام، باعتبارها هي الأخرى سلطة حيوية، من خلال السيطرة البيوسياسية على الأجساد عبر الشعائر الدينية وطقوس الطهارة ونظام الزواج؛ وكل ذلك في محاولة للكشف عن المضمون الرعوي البيوسياسي للسلطة في الإسلام.
كان تفاعل الحضور مع المداخلات متوسّطاً عموماً، مع ميل إلى مناقشة أكبر للموضوعات التي تناولت الإشكاليات التطبيقيّة المعروضة في الجلسة الصباحيّة. ويمكن أن يردّ ذلك إلى الطبيعة المختصّة للمداخلات التي تقتضي جمهوراً حاملاً لمعرفة مختصّة بهذه المواضيع، أو إلى إحراجات الوضع المصري الراهن الذي جعل بعض الحضور يبحثون من خلال هذه الندوة عن بعض الإجابات لأسئلتهم المفتوحة.
و لئن لم تتطرّق المداخلات إلى الكثير من المحاور المقترحة على البحث التي تضمّنتها الورقة العلميّة للندوة، فإنّها نجحت في المزاوجة بين النظري والتطبيقي في دراسة الإشكاليات والتنوّعات المرتبطة بالظاهرة السياسيّة المسمّاة دولة. ونبّهت إلى مسالك بحث جديدة ورؤى مغايرة إلى هذه الواقعة التاريخيّة، وهي في سياق الأهداف القصوى لقسم الدين والسياسة مثلت محطّة كشفت إشكاليات أخرى يتعيّن التفكير فيها في مرحلة المقدّمات و المراجعات.