محاضرة: "المفاهيم في التداول الفكري المعاصر"
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" محاضرة تحت عنوان "المفاهيم في التداول الفكري المعاصر" ألقاها الدكتور سعيد شبار، زوال يوم السبت 4 يناير 2014.
بدأ المحاضر محاضرته بالشكر الموصول لمؤسسة مؤمنون بلا حدود التي رأى فيها بكونها تعمل جاهدة على المساهمة في الدفع بالبحث العلمي الجاد.
واعتبر الدكتور سعيد شبار بكون المفاهيم تعد بمثابة اللبنات في بناء المنهج؛ ومن ثم، فالتجديد في جزء كبير من نظم المعرفة يرتبط بإعادة بناء المفاهيم والاصطلاحات بالعمل على تبيئتها وتحريرها حتى تنسجم مع المحيط الثقافي والاجتماعي بقالب يغلب فيه ما هو كوني وإنساني.
وإذا أمعنا النظر في المجال الثقافي العربي، يضيف المحاضر، سنجده يعاني من غياب التفاهم والتواصل والحوار البناء بين التيارات الفكرية المختلفة، إذ الجزء الكبير من هذه المعضلة معضلة النقص في التفاهم والتواصل والتحاور يعود لضعف منهجي في تبيئة وتحرير المفاهيم والاصطلاحات، تبيئتها بالعمل على بنائها وفقا للزمن الذي نحن فيه. أما تحريرها، فذلك يعني تجريدها من الحمولات الثقافية والتاريخية والسياسية...وهذه المفاهيم والاصطلاحات، مثل: مفهوم التراث والأصالة والحداثة والحرية والتقدم والإسلام والإيمان والليبرالية والشورى والديمقراطية والعقل...
ويرى الدكتور سعيد شبار بأنه لا يمكن الدفع بإنهاض الفكر والثقافة دون الاستناد إلى كل الفاعلين في الحقل الثقافي والمعرفي، على الرغم من اختلاف توجهاتهم ونزعاتهم الفكرية والمنهجية... قد تنتج عنه الأحادية في التفكير والرأي والتشدد في الموقف وفي رؤية الآخر، بينما العمل على توسيع التفكير الجماعي الذي يأخذ بمبدإ المحاورة والتواصل والتفاهم قد يكون مدخلا للنهوض وتقوية المشترك الإنساني.
كما استحضر المحاضر الكثير من الأمثلة من الموروث الثقافي الإسلامي في تعاطي الأوائل مع مجمل المفاهيم بشكل حيوي، وذلك بكونهم عملوا على تحديد طبيعة المفاهيم وشكلها ودلالاتها ومعانيها، وهذا شيء متداول ومعروف؛ فالمطلوب اليوم هو التحلي بالروح الإيجابية في قراءة الخلفيات والمؤثرات التي كانت من وراء تلك المفاهيم الناشئة في زمن ومكان معينين في استجابة لظرف معين، وبهذا نجد أنفسنا أمام قراءة علمية واعية لجزء كبير من موروثنا الثقافي الذي تعد الكثير من المفاهيم بمثابة مفتاح له، ومع الأسف، فالتخلي عن أداء مهمة التفاعل الإيجابي التي أشرنا إليها من قبل، أسقطنا في اختلال وظيفي للجهاز المفاهيمي.
يمضي الدكتور سعيد شبار في التحليل، ليرى أن الأصل في المفاهيم الحياد من حيث النشأة، وبعد النشأة تأتي خصوصيات المفاهيم من خلال عمل اجتهادي تقوم به ثقافة أهل بلد ما أو لظرف سياسي ما أو ظرف اجتماعي ما ... ومن هنا يحصل التطور في التعامل مع المفهوم، وهذا التطور يصحب معه الكثير من الحمولات؛ فالإشكال القائم اليوم في التعاطي مع المفاهيم يكمن في مصادرتها مصادرة كلية، بما يكرس التعاطي الوظيفي مع المفهوم كآلية للإقصاء والتصنيف وغير ذلك.
ويذهب المحاضر إلى كون التصنيفات التراثية في تعاطيها مع المفهوم والمصطلح، والتي نطلع عليها اليوم ما هي إلا مجرد صناعة أحدثها الإنسان من قبيل: أهل الرأي وأهل الحديث وأهل اللغة... والذي ينبغي أن ننتبه إليه، ولا نغفل عنه أن القرآن الكريم له استعماله الخاص والفريد للمفهوم والمصطلح، إذ ينبغي أن نعمل على تجلي مدلول القرآن لكثير من المفردات والمفاهيم، مثل الإسلام الإيمان العقل السليم الحوار الحكمة.... وهذا لا يعني أننا سننطلق من الصفر، بل على العكس من ذلك، إذ سنفسح المجال للنص القرآني، ليغني المفاهيم والاصطلاحات بحمولته المعرفية المفتوحة على الإنسان والكون. وهذا الأمر لا ينبغي أن يتم بمدخل توفيقي أو تلفيقي، بل ينبغي أن يكون عملا مؤسسا بشكل علمي.
وفي الأخير، اعتبر شبار في سياق الحديث عن التناول المنهجي للمفهوم بكون النص والعقل والواقع تعد مصادر متكاملة في إنشاء وبلورة المعارف وليست متقابلة. فلا يمكن للمعرفة أن تكون من النص وحده، إذ لايبقى معنى للقرآن دون الإنسان الذي يعد موضوع الخطاب القرآني؛ فالإنسان مستخلف ومكلف ومطالب بفقه وتنزيل تعاليم الوحي في الواقع، وهو مجال حركة واستخلاف هذا الإنسان، والواقع تحكمه كذلك سنن ونواميس ونظام دقيق وثابت ومطرد. كما لا يمكن للعقل وحده أن يكون مستقلا بالمعرفة، وكل التجارب العقلية التي استقلت بالمعرفة تحولت إلى نزعات عقلية متحيزة إلى درجة تأليه العقل كما في التجربة الغربية. فالعقل عاجز عن معرفة الحقائق الكونية والإنسانية المنتمية إلى عالم الشهادة، فكيف بالأسرار الخفية وعالم الغيب كله. ولا يمكن للواقع أن يستقل وحده كذلك بالمعرفة وإلا لتحول بدوره إلى نزعات واقعية.
فاشتغال هذه المصادر في تكاملها أمرا ضروريا لترشيد وتصويب المعرفة بما يجعلها خادمة للإنسان وبانية للعمران من غير تحيزات أو تمركزات مضرة بهما، سواء كانت من الذات أو من الغير. لكن للأسف التجربة التاريخية في عمومها لم تأخذ بعين الاعتبار هذه المصادر في تكاملها، فأهمل الاجتهاد العقلي كما أهمل الواقع التنزيلي، وتضخمت بالمقابل نزعات نصية بدت، وكأنها كل ما يمكن إنتاجه تفاعلا مع الوحي.