لقاء فكري حواري حول كتاب: "في نقد الخطاب الاستشراقي: سيرة محمد ونشأة الإسلام في الاستشراق الفرنسي المعاصر"
فئة: أنشطة سابقة
احتضن مقرّ مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، السبت 25 يناير الجاري، اللّقاء الفكري الحواري حول كتاب: "في نقد الخطاب الاستشراقي: سيرة محمد ونشأة الإسلام في الاستشراق الفرنسي المعاصر" لحسن بزاينية، وهو بحث جامع عن نصوص الاستشراق الفرنسي المعاصر من خلال أبرز أعلامه: ماكسيم رودنسن وجاكلين شابي وديكوبير ودي بريمار. وقد اعتمد فيه صاحبه على مساءلة تلك النّصوص في ضوء العلوم الإنسانيّة والفلسفة، وإظهار ما فيها من تهافت وما فيها من إحكام، وبيان ما يشدّها إلى التّقليد الاستشراقي من وشائج، وما أصابها من تأثير الاستشراق الأنجلوسكسوني. وقد قدّم الأستاذ نادر الحمّامي قراءة تفصيليّة في محاور الكتاب أعقبها تفاعل مباشر بين الكاتب والحضور.
وطرح الأستاذ نادر الحمّامي في كلمته بعض الملاحظات المتعلّقة بمسألة كتابة السّيرة، في المصنّفات القديمة والحديثة وفي المصنّفات الاستشراقيّة، مبيّنًا أنّ المصنّفات الإسلاميّة لم تكتب سيرة محمّد كما هي في التّاريخ، وإنّما كتبت سيرة محمّد النّبي، في حين أنّ الكتابات الاستشراقيّة بحثت عن سيرة محمّد التّاريخي كما عاش في القرن السّابع الميلادي، وأرجع ذلك إلى أنّ المستشرقين بحثوا بشكل وضعاني عن محمّد التّاريخي كما بحثوا عن المسيح التّاريخي. وبيّن الحمّامي كيف أنّ ذلك التّوجّه انتهى إلى اعتبار أنّ سيرة محمّد قد كانت في ضوء التّاريخ السّاطع مقارنة ببقيّة سير الأنبياء، بمعنى وجود مواد تاريخيّة ثابتة بالنّسبة إلى محمّد. وخلص من ذلك إلى سؤالين محورييّن؛ الأوّل حول سبب تعدّد الكتابات حول سيرة محمّد ما دام في الإمكان الوصول إلى محمّد التّاريخي كما أرادت التّاريخانيّة والوضعانيّة، والثّاني يهمّ البحث في الخلفيّات الإيديولوجيّة والفكريّة والعقائديّة التي تقف وراء التوجّه الوضعاني القائل بإمكان الوصول إلى محمّد التّاريخي.
وأشار بعد ذلك إلى بعض النّقاط النّقديّة التي تعلّقت بمدوّنة الاستشراق الفرنسي التي اعتمدها المؤلّف، وخصّص القول في بعضها مشيراً إلى الخصوصيّات التي ميّزها بها المؤلّف وميّز بها الاستشراق الفرنسي عن غيره، وأكّد على أن مجرّد اعتماد اللّغة الفرنسيّة في الكتابة لا يكفي لتبويب بعض الكتابات ضمن الاستشراق الفرنسي، قائلا "إنّ اللّغة لا تحدّد صنف الاستشراق". وقد خصّص القول في كتابات جاكلين شابي التي خرجت عن التّقاليد التّاريخانيّة والتّاريخيّة الفرنسيّة إلى مجال الأنثروبولوجيا التّاريخيّة. كما أشار إلى أنّ كتابات دي بريمار تكرّس نظرة سلبيّة جدّاً إلى الإسلام بشكل "خبيث"، فتنتهي إلى تأكيد "السّمة الحربيّة للإسلام" وأنّ العنف متجذّر فيه وهو من ماهيته، ما يؤدّي إلى قناعة مفادها الارتباط الوثيق بين ماهية الإسلام والماهية الإسلاميّة العنيفة. وبيّن بذلك خروج جاكلين شابي عن المدرسة التّاريخيّة النّقديّة الفرنسيّة الكلاسيكيّة إلى المنزع الانثروبولوجي، إلى جانب اعتبار دي بريمار مواصلة حرفيّة للمدرسة الأنجلوسكسونيّة التي تضخّمت في نهاية السّبعينيّات من القرن العشرين مع أطروحات وونزبرو وأطروحات مايكل كوك وباتريشيا كرون.
وأحيلت الكلمة إلى صاحب الكتاب فبيّن أنّ البحث عن محمّد التّاريخي في الكتابات الاستشراقيّة، هو أقرب إلى "العبث" ولا يملك أساساً صلباً يستند إليه، خاصّة في ظلّ افتقاد المصادر التّاريخيّة وقلّة الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها، وعرض في هذا الجانب رأي محمّد أركون الذي اعتبر أنّ الأفضل هو تتبّع تاريخ صورة محمّد لدى أجيال المسلمين، وتمثّل المسلمين للنّبوّة؛ وعلى هذا الأساس فإنّ القول بأنّ سيرة محمّد كانت في ضوء التّاريخ السّاطع، وهم وقع فيه بعض المستشرقين الكلاسيكيّين، لأنّه "كلّما تقدّمنا في البحث في السّيرة وفي حياة النّبي محمّد، إلاّ ونقصت معرفتنا بتلك الفترة وكثر شكّنا وازدادت ريبتنا في ما كنّا نعرف". وبيّن أن كتابة السّيرة كانت دائما تحمل دوافع ذاتيّة ونفعيّة تتجاوز البعد المنهجي والأكاديمي، وبيّن أنّ بعض الكتابات الاستشراقيّة اختصرت العرب وأفقهم الثّقافي في القبيلة وفي عبادة الأوثان، وقال إنّ هذا الرّأي مردود عليه، على اعتبار أنّ العرب قديماً كانت تجمعهم علاقة مثاقفة وتبادل وتفاعل مع الآخر. وبيّن أنّ دي بريمار هو من بين المستشرقين الفرنسيّين الذين تخلّوا عن كتابة السّيرة الخطّية، واهتمّوا في المقابل ببعض المسائل من تاريخ محمّد والإسلام المبكّر لاعتقادهم العلمي بأنّ الشّكل الخطّي لا يخرج عن المجال السّردي وما يتخلّله من وهم وخيال. واعتبر أنّ أغلب المستشرقين الفرنسيّين تأثّروا بالشّكّ في المصادر الإسلاميّة الذي عبّرت عنه المدرسة الاستشراقيّة الأنجلوسكسونيّة، واعتمدوا على المصادر الخارجيّة، وأهملوا مع ذلك الكتابات العربيّة الحديثة حول السّيرة والإسلام المبكّر عموماً.
واختتم اللّقاء بمداخلات بعض الحضور، ممّن تفاعلوا مع ما قُدّم، وأثاروا بعض الملاحظات العامّة حول الجدوى التي يمكن أن ينتظرها الباحث اليوم من الاستشراق، وأهمّية المنهج في المباحث الاستشراقيّة، وضرورة فصل السّياقات الإيمانيّة عن السّياقات العلميّة والأكاديميّة، كما أشار البعض الآخر إلى نخبويّة هذه المباحث رغم خطورتها وتأثيرها على المجال الحضاري والفكري المباشر، وأهمّية النّخب المثقّفة الموكول إليها مهمّة إيجاد استراتيجيّة خطاب توصل بها الأفكار الكبرى والمفاهيم المعقّدة إلى الفئة العامّة من المجتمع.