لقاء فكري حواري حول كتاب ناجية الوريمي بوعجيلة: ''الاختلاف وسياسة التّسامح''
فئة: أنشطة سابقة
احتضنت قاعة بول ريكور بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، الأربعاء 05 أبريل الجاري، اللقاء الفكري الحواري الذي نظّمته مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث بالاشتراك مع نادي لقاءات الأربعاء، حول كتاب ''الاختلاف وسياسة التّسامح: بحث في الإشكاليات الثّقافية والسّياسية في سياسات الرّشيد والبرامكة والمأمون'' للدكتورة ناجية الوريمي بوعجيلة.
وقد قدّم الدكتور نادر الحمامي قراءة في الكتاب عرض خلالها جملة من الأفكار النقدية، أعقبتها مداخلة المؤلفة حول كتابها، وقد أدارت اللقاء الدكتورة حليمة ونّادة، بحضور ثلة من الطلبة والباحثين.
استهل نادر الحمامي قراءته بتحديد موقع الكتاب ضمن مؤلفات الكاتبة عموما، مؤكدا أن ناجية الوريمي بوعجيلة صاحبة مشروع، وأن لها سياقا فكريا ومنهجيا واضح المعالم في الدرس الحضاري الذي تنفرد به الجامعة التونسية، يقوم على تفكيك الخطاب والحفر في النصوص القديمة ولم شتات من مادة واسعة لا يقدر على جمع شتاتها من المصادر المتعددة إلا باحث متمرّس ذو رؤية واطّلاع، وهو شأن الكاتبة. كما أشار إلى رافد منهجي آخر يقوم عليه مشروع الكاتبة، وهو الإفادة بشكل دقيق من نظريات المعرفة الغربية الحديثة دون إسقاطها على تلك النصوص بشكل غير مبرّر، فلا تغفل عن وضع الخطابات التي تحللها في سياقها الفكري والتاريخي والحضاري.
وثمّن الحمامي ما اعتبره في الكتاب من مراجعة قامت بها الكاتبة لبعض ما أوردت من أفكار ومسائل في أطروحتها المنشورة ''في الائتلاف والاختلاف: ثنائية السائد والمهمش في الفكر العربي الإسلامي''، بعد سنوات من البحث والتأليف، وقال إن هذا ما يجب أن نتعلّم منه، لأنّ الفكر يبقى دائما قابلا للمراجعة.
وعلّق من ثم على المنشأ الغربي الاصطلاحي الحديث لمفهوم التسامح (La Tolérance)، معتبرا أن البحث فيه قام على تبيئته انطلاقا من كونيّة المفهوم، رغم ما أشار إليه من أن كلمة ''تسامح'' تتضمّن تراتبية وترتبط في الذهنية الإسلامية بمبدأ ''العفو عند المقدرة''، وأن المفهوم قد تمّت ترجمته إبان عصر النهضة العربية بكلمة ''تساهل''، وفسر بذلك ما اعتبر أنه احتراز في الكتاب حول مدى الإقرار بوجود التسامح في التراث العربي الإسلامي أو عدم وجوده اصطلاحيا، وخلص إلى التساؤل حول ما إذا كان التسامح في الحضارة العربية الإسلامية يمثّل الاستثناء، وأن القاعدة إنّما هي اللاتسامح، محتجّا بأن الكتاب قام على لحظتين تاريخيتين محددتين هما تجربة الرشيد مع البرامكة وتجربة المأمون، فحسب، ولم يقم على كامل فترات التاريخ الإسلامي، فكأن هاتين التجربتين قد مثّلتا الاستثناء في واقع حضاري إسلامي غير متسامح.
وأشار الحمامي إلى أن الكاتبة نحت منحى في الكتاب ضد التعميم، ومن ذلك أنها كرهت التعميم الذي قال به الباحث الألماني يان أسمان من أن التوحيد يؤدّي إلى سياسات اللاتسامح، ورأت على خلاف ذلك أن الإيمان مشرّع للخير، والعقل منسّب للحقيقة ومشرّع للاختلاف، وخلص الحمامي إلى التساؤل قائلا: ''أليست بعض قيم الشرّ مبنية على الإيمان؟'' مستعرضا مثال الحركات الإسلامية التي تتبنى العنف وتمارسه انطلاقا من إيمانها المبدئي بأن ذلك ما ينبغي أن يكون، وأن ما تمارسه إنما هو الدّين الصّحيح، مؤكّدا على خطورة العامل الإيماني في توليد العنف واللاتسامح، كما تساءل قائلا: ''أليس هنالك عنف يمارس باسم العقل والتنظير العقلي من ناحية أخرى؟'' مشيرا إلى سياقات التوظيف العقلي والمنهجي في عمليات إنتاج العنف والفكر اللامتسامح. وانتهى من ذلك إلى التأكيد على أن الإيمان ليس مشرّعا للخير، وأن العقل ليس منسّبا للحقيقة وليس مشرّعا للاختلاف.
وختم الحمامي قراءته في الكتاب بالإشارة إلى جانب آخر من رفض الكاتبة للتعميم؛ وقد تمثّل في التمييز في أهل السنة أنفسهم بين أهل الحديث وأهل الكلام، واستند إلى ما نحت إليه الكاتبة من أن الإشكال في مسألة التسامح ليس مع أهل السنة عامة، وإنما هو في فئة منهم، أي أصحاب الحديث المكرّسين لسلطة النص (من الحنابلة إلى الوهابيين وصولا إلى داعش...)، ليقول إن المذاهب الإسلامية كلها تلتقي في ما تعتبره ثوابت، ولا اختلاف بينها في ذلك، وأنها تدور جميعا في فلك البنية الدينية الواحدة المنغلقة على ذاتها التي ترفض الاختلاف، ومن ثم ترفض التّسامح.
وأحيلت الكلمة إلى دة. ناجية الوريمي بوعجيلة، فقدمت لمحة عن أقسام الكتاب الكبرى، واعتبرت أنها مراجعات في تحليل الخطاب التراثي الذي يستند إلى مجموعة من المناهج التي تجمع بدورها بين ما هو نصّي وما يحيط بالنص. وقالت إنها قد توصّلت من خلال هذا الكتاب إلى نتيجة مهمة تتعلّق بشخصية محورية ما يزال تأثيرها متواصلا إلى اليوم، أي الشافعي، وهو الشخصية الفكرية الأكثر تأثيرا في صياغة الفكر السني الرسمي، نظرا إلى إبداعه لعلم أصول الفقه، وتأسيسه لقاعدة عدم جواز الاجتهاد في كل ما ورد فيه نص، وقالت إن المصادر لا تذكر أنه كان زيديا معتزليا في طور ما قبل المحنة مع الرشيد، وقد أمّنه انتسابه القرشي من الرمي بالزندقة، قبل أن يصبح سنّيا من أصحاب الحديث، ويلتحق بصفوف العلماء المقرّبين من السّلطة، ''فأصبح هناك عالم قريش، وهو الشافعي وسائس قريش وهو الرشيد''.
وأشارت من ثم إلى ما تضمّنه القسم الثاني من الكتاب، والذي اهتم بالبرامكة، وقالت إن كل ما يشاع عنهم فيه الكثير من التجوّز، ويجب أن ينسّب إلى حدّ بعيد، ومن ذلك نسبتهم إلى الفرس والقول إنهم ينافسون الرشيد على الحكم ولذلك ألحق بهم ما ألحق... واعتبرت أن حقيقة ما حدث هو أن جزءا من البرامكة الذين كانوا في السّلطة مع الرشيد اتبعوا سياسة متسامحة تقوم على جمع كل المذاهب وأصحاب الديانات الأخرى، وقالت إن سبب محنتهم أنهم لم يتوافقوا مع أصحاب السّياسة الرسمية السنّية الأرثوذوكسية المعادية للاختلاف.
واعتبرت في القسم الثالث من الكتاب أن كل ما قيل عن عدم تسامح المأمون، وأنه قضى على كل المخالفين له، وأنه حاول أن يفرض وجهة نظره على أصحاب الحديث إلى غير ذلك... لا يعدو أن يكون سوى الرواية الرسمية لما حدث، وقالت إن حقيقة ما حدث هو أن أصحاب الحديث الذين تطوروا إلى درجة أنهم أصبحوا مؤسسة دينية لها سلطة تناظر اجتماعيا سلطة الخلافة لم يقبلوا بسياسة المأمون الذي واصل ما بدأه البرامكة في اتجاه التّسامح، وقالت إن تدخل المأمون للحد من سلطة هذه المؤسسة الدينية المنافسة للخلافة كان عنفا مشروعا. وأشارت إلى أن القسم الرابع من الكتاب يدرس الخطاب الأرثوذوكسي وكيف صاغ قيم اللاتسامح التي اعتُبرت هي الدين الصّحيح الذي يجب أن يطبّق.
وعقّبت الكاتبة في ختام كلمتها على بعض النقاط النقدية التي وردت في مداخلة نادر الحمامي، وأشارت إلى أن التعميم لا يجوز دائما عند النظر في مسائل التراث، واعتبرت أن في هذا التراث بعض المناطق المضيئة خاصة في مسألة التسامح، وأنه لا يمكن أن توضع جميع التجارب السياسية والدينية والفلسفية في زاوية واحدة.