محاضرة تحت عنوان: تحرير المحسوس لأمّ الزين بنشيخة المسكيني
فئة: أنشطة سابقة
احتضن المقر الجديد لمؤسسة مؤمنون بلا حدود بتونس العاصمة يوم السبت 5 مارس الجاري، محاضرة ألقتها الدكتورة أم الزين بن شيخة المسكيني حول كتابها: "تحرير المحسوس ولمسات في الجماليات المعاصرة"، وأدار الجلسة الدكتور نادر الحمامي. وقد حضر اللقاء ثلة من المثقفين والباحثين.
وبعد الترحيب بالضّيوف، أشار نادر الحمامي في تقديمه للمحاضرة إلى مجموعة من النّقاط من بينها أنّ اشتغال أم الزين بن شيخة على فلسفة الجماليّات يتجاوز في الحقيقة النّظريات الجماليّة الغربيّة إلى محاولة توطين البحث في الجماليّات في اللغة العربية، وأن اهتمامها يميل إلى الاحتفاء بجماليات الرّائع أكثر من جماليّات الجميل؛ لأنّها ترى في جماليات الجميل نوعا من تبرير الواقع، في حين أن جماليّات الرّائع تدخل ضمن إطار الجماليّات الاحتجاجيّة أو جماليّات الاحتجاج. وصنّف بناء على ذلك، عمل أم الزين في إطار التّجاوز؛ أي تجاوز قسور الفكر العربي أساسا الذي يتوجّه نحو مشاكل العقل دون فلسفة الجماليّات، مشيرا إلى أنّ الفنّ في نهاية المطاف، لدى أم الزين، هو إمكانيّة من ضمن إمكانيّات أخرى لتحقيق المواطنة.
كلمة أم الزين بن شيخة المسكيني:
استهلّت أمّ الزين كلمتها بشكر مؤسسة مؤمنون بلا حدود قائلة: هي '' بلا حدود، لأنّها تحترم ثقافة الاختلاف، وتسهر على إمكانيّة اختراع فضاءات حرّة، ولأنّها تؤمن جيدا بقدرة كل إنسان على أن يصنع من هذا العالم الذي سقط في الخراب منذ مدة من الزمن، أن يصنع منه بعض لحظات فرح وسعادة''.
وبيّنت أنها حينما تتكلم عن الفن أو الجماليات؛ فهي لا تقصد أبدا أنه ثمة إمكانية لتجميل ما يحدث، لأن ما يحدث فضيع، واستحضرت قولا لثيودور أدورنو على إثر المحرقة اليهودية: ''لم يعد ثمّة من جمال في هذا العالم''، لتقول بأنّنا نحن أيضا في هذا العالم العربي اليوم نعيش على إيقاع محرقة أخرى أو محارق أخرى.
''تحرير المحسوس'' هذا الكتاب يحمل رهانا فلسفيا، وهو أن نعرف كيف نستعمل أجسادنا، ونصل إلى إدراك صوت حواسنا، وتستلهم أم الزين في بيان ذلك قول سبينوزا: ''لا أحد في الحقيقة يعلم ما يستطيع الجسد...''، مؤكدة على أن من شأن هذه المعرفة أن تحمي أجسادنا من أن تتحوّل إلى فخاخ وكمائن ووسائل تفجير ونثر للخراب على شاكلة ما يتمثّل الإرهابيّون أجسادهم. وينطلق ذلك الرّهان الفلسفي العميق أساسا من سؤال الذات ''متى سنستمع إلى صوت حواسّنا؟''.
وبما أن الكتاب كان نتاج لقاءات وورشات أكاديمية مع الطلبة، كانت في الغالب منطلقات لدروس أو لمحاضرات، استحضرت فيها أم الزين تجارب فلسفيّة وفنية معاصرة كثيرة، وسعت إلى تحليلها من وجهات فنّية وفلسفيّة تقوم أساسا على مساءلة المحسوس، فقد تفرّعت في متونه ثنايا مختلفة؛ فمن آرتور شوبنهاور إلى دولوز إلى سلفادور دالي إلى فينسنت فان خوخ إلى دريدا إلى ريشارد رورتي إلى طوني نيغري وغيرهم... حاولت أم الزين تلمّس كل الثّنايا التي وقع تجريبها كأحداث فلسفيّة عميقة في العقل الإنساني الكبير، وحاولت ضخّ هذه التّجارب الفلسفية والفنّية في الثقافة العربية، وهذا ليس غريبا عن منهجها في كتاباتها، ففي كل ما كتبت كان ثمّة اهتمام بأحداث فلسفيّة وفكريّة وروحيّة عميقة وقعت في العقل الفلسفي العالمي (الغربي تحديدا)، وكان ثمّة في مقابل ذلك عمل على استضافتها في لغة الضّاد.
لذلك لم تخل كلمتها من إشارات عميقة إلى علاقة الكتاب بأوجاع الواقع الذي يعيشه العالم العربي، والإنسان العربي باعتباره قيمة لا تتساوى مع الإنسانيّة في نظر العالم السّياسي والاقتصادي والثّقافي الحديث والمعاصر، ما ينتهي به إلى فضاءات مظلمة وهويّات متداخلة ومتصارعة، انطلاقا مما يُسوَّق له من مصالح وإغراءات تغيّبه عن إدراك جماليّات حسّه ووجوده في هذا العالم، فتسري فيه العدميّة، ويصبح غير ذي قيمة إلاّ من جهة كونه عددا أو رقما في قائمة قتلى الصّراعات الهوويّة الرّاهنة.
تحرير المحسوس من ماذا؟ وأين يعتقل هذا المحسوس كي نقول بتحريره؟
تنطلق أم الزّين من قول دولوز: ''الفنّ يصلح لتحرير الحياة حيثما وقع اعتقالها'' في كشف أدوات الفن و ''أسلحته'' التي تتجاوز غايات التّسلية والتّرفيه والإمتاع، كما تتجاوز غايات التّزويق والتّرميق والزّخرفة، إلى اعتبار أساسي معاصر ينظر إلى الفن من زاوية دفاعيّة ونضاليّة لتحديد المكان الأصلح للإنسان في الكون، والنّظر إليه على أنّه كائن منتم إلى عالمه، ومنتظم في الزّمان الذي يحيا فيه دون قيود انتمائية أو هوويّة أو عقدية أو إيمانية محدودة وقاتلة.
فللفنّ سياساته وللجمالية فعلها الانتمائي إلى عالم المحسوس، مجال الأحياء الفاعلين في تحديد وجودهم ومعرفة أنفسهم في إطار تفاعلي يجمعهم بالعالم؛ عالمنا اليوم الذي استحالت فيه السّياسة إلى فعل ''تآمر'' على الإنسان من أجل قتله وتفظيعه بكل الأشكال اللاإنسانية. وتستدرك أم الزين قائلة: ''نحن لا نبكي على الإنسان أو الإنسانية اليوم، ولسنا بصدد إنتاج بكائيّات متواطئة مع الأمر الواقع، كتلك البكائيات التي تمعن في قتل الإنسان وتمهّد الطّريق للمشي في جنازته، لتقتله أكثر من مرّة''.
ومن التأكيد على أن رهانات تحرير المحسوس تُعنى بتحرير اللّغة من الخطابات الدعويّة والإيديولوجيّة والسّياسية التي تستبله العقول والأجساد، والتي تستعمل الفقراء في هذا العالم وقودا لنارها، تمضي أمّ الزين في تحليل ذلك بالاستناد إلى ما حدث في الوعي الفني في الفلسفة المعاصرة وفي الورشات الفلسفية التي تحلّل الأعمال الفنية؛ فعندما نرى مثلا الفقراء الذين لا يملكون شيئا في هذا العالم غير أجسادهم العارية يقتلون الفقراء من أمثالهم، بدوافع هوويّة وعقديّة وإيديولوجيّة، وعندما نرى آلة الحرب الغربيّة تقتل العرب والمسلمين، وهم على ذلك الفقر والتشتّت والعدميّة، يعيشون ''مجرّد حياة'' (une vie nue)، فإنك ترى الشّعوب العربيّة والإسلاميّة شبيهة بـ "الأحذية" لا قيمة لها في ذاتها، مثل لوحة فان خوخ بالأبيض والأسود، التي كتب عنها دريدا مئة صفحة، ولا شيء يملأ فضاءها غير الأحذية، لذلك ختمت أم الزين كلمتها بالقول: ''نحن حمقى، كل الشعوب العربيّة حمقى، لأننا نوقّع بأيدينا موتنا، ونتآمر على أنفسنا، والمثقّفون منّا يصطفّون وراء الحمقى، ليكتبوا في النّهاية سردياتهم عمّا حدث''.
وانتقلت الكلمة إلى الحاضرين الذين ساهموا في إثراء اللّقاء بتدخّلات رشيقة، لامست ما طرح في المحاضرة من قريب، من خلال التّعريج على طبيعة المحسوس وعلاقته بالتمثّل الفنّي أو الجمالي للعالم، والعلاقة التي يثيرها العمل الفنّي بين مجرد التّعبير عن الحس الجمالي المطلق والواقع بكل ما يحتمله من أوجاع وخراب، كما تطرّق المتدخّلون في النّقاش إلى ما يتفرّع عن اهتمامات الكِتاب، كما بسطتها أم الزين في مداخلتها، إلى معالم الواقع الفنّي المهزوز، والذي لا يقف عند حدوده التي يرسمها كتاب ''تحرير المحسوس'' على اعتبار الفن الحديث والمعاصر ليس دائما حمّالا لرسالة ذات علاقة بديهية بالواقع، وأن العمل الفني قد يتحوّل إلى جزء من خراب العالم وغياب الجمالية.