محاضرة د. فوزي البدوي حول: "مساهمة ميرسيا إلياد في دراسة الأديان"
فئة: أنشطة سابقة
انعقدت بمقرّ مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث وجمعيّة الدّراسات الفكريّة والاجتماعيّة، بتونس العاصمة، يوم الأربعاء الموافق ل 26 فبراير، الحلقة الثّانية من سلسلة المحاضرات حول "تاريخ الأديان" التي يؤمّنها أستاذ الأديان المقارنة بجامعة منّوبة الأستاذ فوزي البدوي حول موضوع: "مساهمة ميرسيا إلياد في دراسة الأديان".
وأشار المحاضر في البداية إلى أنّ دراسة الأديان كما يراها العلم الحديث تختلف تمامًا من حيث المنهج والرّؤية والهدف عن الدّراسة اللاّهوتيّة للأديان، واعتبر أنّ الدّراسات الدّينيّة في كلّيات اللاّهوت لا تتّسع لتقبّل وجهات مختلفة حول الدّين، لأنّها غير قادرة على النّظر في المسائل الدّينيّة من خارج إطار الاعتقاد الذّاتي. وبيّن في المقابل، أنّ دراسة تاريخ الأديان خارج ذلك الإطار اللاّهوتي "المنسجم داخليّا" يتطلّب نوعًا من الشّروط الأخلاقيّة والمعرفيّة التي يجب أن تتوفّر في دارس هذا العلم؛ وأوّل تلك الشّروط كما حدّدها، هي البعد عن المعياريّة، على اعتبار أنّ عالم الأديان ليس من شأنه أن يقيم مفاضلة بين الأديان، وإنّما من شأنه أن يتعامل مع الأديان كلّها بما فيها الدّيانات البدائيّة و "الدّيانات الأكثر تجريدًا"، على ذات المستوى من الاحترام، ولذلك "فليس من مشمولات عالم الأديان أن يردّ على ديانة ما باسم ديانة أخرى"، وبما أنّ تاريخ الأديان يفصل بين الدّين والتّديّن، فليس من الضّروري أن يكون دارس الأديان منتميًا إلى دين من الأديان. وقال البدوي: ''هناك فاصل بين مستوى الإيمان بدين ما، والتّخصّص في دراسة ذلك الدّين''، وبيّن من ثم أنّ شروط التّخصّص لا تقتضي الانتماء، وإنّما تتطلّب قدرًا معيّنا من التّخصّص والتّكوين المعرفي والفكري والفلسفي والثّقافي واللّغوي، وأكّد أنّ دارس الأديان يستطيع دراسة المقدّس ووصفه وتحليله من خلال ما يراه من أثر الاعتقاد لدى الإنسان المتديّن، وأنّه بذلك يكون في سياق دراسة التّجربة الدّينيّة لدى الإنسان المتديّن.
وعرّج البدوي من ثمّ على طبيعة التّكوين العلمي والمعرفي لدى ميرسيا إلياد، مبيّنًا أنّه توفّر على الّشروط التي مكّنته من أن يكون دارس أديان من خلال التّجربة الإنسانيّة، وأن يختلف بذلك عن نظرائه من علماء اللاّهوت الذين يدرسون الدّين من داخل سياق الوحي والمقدّس ولا يتخارجون عن ذلك. واعتبر أنّ التّكوين الذي تلقّاه إلياد منذ نشأته في رومانيا إلى جانب تجربته الفكريّة والرّوحيّة وانتقاله للعيش في الهند، ثمّ في فرنسا، ثمّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، قد ساعده ليحوّل مسار اهتمامه من الثّقافة المسيحيّة التّقليديّة إلى اكتشاف ديانات أخرى كالتي توجد في شبه القارّة الهنديّة. وأشار إلى تميّز التّجربة التي خاضها إلياد من حيث تأثيرها في إنتاجه الفكري والعلمي حول الأديان والحضارات والثّقافات والبنى الأسطوريّة والتّمثلات الرّوحيّة... ما جعل توجّهاته في ذلك تحدث ردود أفعال متباينة حوله، ويطاله بموجب ذلك الكثير من النّقد والتّهجّم، واعتبر أنّ النّقد السّياسي الذي تعرّض له لا يطال الجوهر العلمي لأبحاثه وأفكاره.
وحول المنهج الذي اعتمده إلياد في أبحاثة الكثيرة ومشاريعه الفكريّة، أشار البدوي إلى أنّ دراسة الظّاهرة الدّينية لديه توزّعت على مراحل منهجيّة بدءًا بالمرحلة التّاريخيّة، فالمرحلة الظّاهراتيّة (الفينومينولوجيّة)، وصولاً إلى المرحلة التّأويليّة (الهيرمنيوطيقيّة)؛ وبيّن في تفصيل المرحلة الأولى أنّ "على عالم الأديان أن يكون مؤرّخًا محترفًا؛ أي أن يشتغل ضمن المفاهيم التي حدّدها المؤرّخون ويتمكّن من علم التّاريخ"، واعتبر أنّ المؤمن التّقليدي يجد صعوبات في دراسة الدّين وفق منهج علم الأديان المقارن، لأنّه يعتبر الدّين الذي ينتمي إليه منيعًا عن النّقد التّاريخي إلّا في الحدود التي لا تتعارض مع المقدّس. وبيّن في تفصيل المرحلة المنهجيّة الثّانية، أنّ الفهم الفينومنولوجي للظّاهرة الدّينيّة الذي يقوم على الوصف والتّرتيب والتّحليل ينتهي إلى إلغاء خصوصيّة الإنسان المتديّن، على اعتبار أنّها خصوصيّة واهمة، لأنّ جميع البشر يشتركون في مقولات دينيّة أساسيّة.وبالتّالي، فإن الفينومينولوجيا إنّما هي تحرير للإنسان من وهم الخصوصيّة. وبيّن في تفصيل المرحلة المنهجيّة الثّالثة، والتي أسماها المرحلة التّأويليّة، أنّ العالم قد تحوّل من إطار التّناغم إلى إطار المواجهة مع تطوّر البنية الذّهنيّة للإنسان، وقدرته على طرح أسئلة لم يعد بمقدور الأديان الإجابة عنها. وبالتّالي، فإنّ الإنسان عمد إلى تأويل الدّين ليفهم رسالته بحسب مقتضى الواقع الذي وجد فيه على مرّ الزمان. وخلص البدوي إلى بيان أهمّية هذه المراحل المنهجيّة الثّلاث التي بنى عليها ميرسيا إلياد فكره حول الأديان، وقال إنّها قدّمت فهمًا للظّاهرة الدّينيّة استطاع علم الأديان المقارن اعتماده وتطوير النّظر من خلاله إلى الظاهرة الدّينيّة، كما اعتبر أنّ تناول الأديان خارج كلّيات اللاّهوت لا يعني أنّ الإنسان استطاع أن يتحرّر من الدّين، أو أن يسيطر على الظّاهرة الدّينيّة بمختلف أشكالها، بل إنّ "الإنسان الحديث ما يزال بعد لم يتحرّر من الدّين رغم ادّعائه ذلك، وأنّه لا ينفكّ يواصل البحث عن أجوبة للكثير من أسئلته العميقة في الدّين".