محاضرة : ''جدل التأصيل والمعاصرة في الفكر الإسلامي"
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود ورابطة تونس للثقافة والتنوع بمقرهما بتونس العاصمة، الأحد الثامن عشر جانفي/ يناير، لقاء فكريا مع الأستاذ محمد المستيري، افتتح اللقاء الأستاذ احميدة النيفر، وقدم كلمة ترحيبية بالضيف وبالحضور، وتلاه الأستاذ محمد السبتي الذي عرّف بالأستاذ المستيري وقدم لمحة موجزة عن مضامين الكتاب.
والأستاذ محمد المستيري متحصل على الإجازة في أصول الدين من جامعة الزيتونة بتونس، ومتحصل على الماجستير وعلى شهادة الدكتوراه سنة 1994 في الفلسفة ببحث عن نظرية الأخلاق بين المتكلمين والفلاسفة، بقسم الفلسفة الوسيطة من جامعة السوربون، وهو يشغل الآن خطة أستاذ علم الكلام بجامعة الزيتونة، وأستاذ فلسفة الاقتصاد بكلية الاقتصاد والتصرف بصفاقس، وهو أستاذ زائر بجامعات أوروبية وعربية، ورئيس مركز الدراسات الحضارية بباريس ورئيس تحرير مجلة رؤى التي تصدر عن هذا المركز، وعضو كرسي أبحاث الحوار الفلسفي والديني بين الثقافات التابع لمنظمة اليونسكو، له عدة أبحاث وكتابات، منها كتاب ''رسالة في أصول الدين'' الذي صدر سنة 2004، ثم كتابه الأخير الصادر بتونس بعنوان ''جدل التأصيل والمعاصرة في الفكر الإسلامي''، وهو موضوع هذه المحاضرة. ورد الكتاب في ستة فصول، حاول من خلاله المستيري طرح السؤال القديم برؤية جديدة ''لماذا تخلّف المسلمون في حين تقدم غيرهم؟''
مداخلة الأستاذ محمد المستيري:
أشار الأستاذ المستيري في البداية إلى السؤال المحوري الذي أقام عليه عمله البحثي، ألا وهو سؤال النهضة، مفترضا أن هذا السؤال كان، منذ أن طرح في نهاية القرن التاسع عشر، من أهم العوائق التي واجهت مشروع النهضة الإسلامي، ذلك أن السؤال الذي طرح قضية التقدم والتخلف كان هو ذاته يدّعي الإجابة، ويحصرها في العودة إلى أصول الإسلام مع الانفتاح على الصناعات الإفرنجية الأجنبية، وبهذا الحل النهائي والتام وقع إنهاء سؤال النهضة، فلم يكن من الممكن مراكمة السؤال وإقامته على أسس واضحة فلسفيا ومعرفيا، وما كان ممكنا، فقط، هو محاولة تنزيل معنى العودة إلى ''الإسلام الصّحيح'' والأصول الإسلامية ''الصّحيحة'' وفكرة إحياء الصلة بالتراث الإسلامي والصلة بالعقيدة الإسلامية وبالإيمان، اعتقادا أن ذلك هو ما سيحيي مشروع النهضة، وسيحيي التحضّر في العالم الإسلامي من جديد.
وقال إن هذا التصوّر لسؤال النهضة كان جائزا في ذلك العصر؛ أي في القرن التاسع عشر، حيث طرح في إطار ما يسمى الجامعة الإسلامية أو الوحدة الإسلامية من أجل استحثاث هبّة أو ''انتفاضة'' للحفاظ على الأصول الإسلامية والحفاظ على وحدة المسلمين ضد الاستعمار السياسي والعسكري والثقافي، ولكن لم يكن هذا السؤال قد طرح ليؤسس للفكر، وإذا جاز الحديث عن الفكر الإسلامي فليس ذلك إلا تجاوزا لأن الفكر لابد أن يقوم على مبادئ ثلاثة أساسية صنّفها المستيري تباعا، وهي:
- التأصيل: وهو ليس عودة إلى الأصول، بل هو استخراج منهج في التعامل مع الأصول؛ أصول الذاكرة وأصول الواقع الراهن.
- المعاصرة: وهي ما لا يمكن لأي فكر، مهما كان، أن يتجاوزها، فلا يمكن لأي فكر أن يكون إلا معاصرا، فالفكر الإسلامي في تاريخه تأسس على مناظرات (مناظرة الذات أي المناظرة الداخلية، ومناظرة المغاير أو الآخر أي المناظرة الخارجية) وعلم المناظرة هو علم مؤسس لجميع العلوم الشرعية، ولذلك فالفكر الإسلامي أو أي فكر آخر يجب أن يكون معاصرا كما يجب أن يكون إنسانيا أو كونيا.
- الكونية: وهي مفهوم ملازم للفكر الإنساني في أبعاده الخاصة التي تقوم على ثبات الأصول وتحقيق المعاصرة، والكونية كما الخصوصية لا يمكن أن تكون إلا متعدّدة، والخصوصيّة في الحقيقة هي بداية مشروع للكونية كما يمكن أن تكون نهاية للكونية، إذا لم تكن تحمل هاجس الإنسانية وفكرة المعاصرة، وقادرة على إنتاج الإنساني من جديد.
وخلص من ذلك إلى أن العائق الأكبر لمشروع النهضة إنما هو عائق فكري، فسؤال النهضة لم يكن سوى سؤال استنهاضي (هبّة الأمّة واستفاقتها) في لحظة استعمارية فاصلة، ولم يكن حينئذ سؤالا "نهوضيا" بمعنى مناظرة الحداثة مطلقا، إذ لا يوجد في سؤال النهضة تفكير في الحداثة ما عدا في بعض المناقشات الجانبية للأفغاني ولمحمد رشيد رضا حول العلمانية واعتبار أنها ''فتنة جديدة أشد من فتنة وضع الحديث''... فهي مناقشات جانبية وغير معمقة وغير فلسفية أساسا، وبالتالي لم يكن سؤال النهضة، في نظره، سؤالا معاصرا للحظته واصلا العودة إلى الإسلام بالتعلق بالحداثة.
ثم أشار إلى أن الحديث عن الفكر الإسلامي المعاصر هو حديث مجازي واستباقي ويقوم على حلم التأسيس، ذلك أن المسلمين لا يمتلكون تلك الأسس الثلاثة للفكر (الأصول، المعاصرة، الكونية) فليس لديهم أصول فكرية أو معرفية أو فلسفية خاصة بهم ومغايرة عن السائد في الحضارات الأخرى، وهم ليسوا منخرطين فعليا في العصر كما أنهم لا ينتجون فكرا كونيا أو معرفة كونية، ولا يساهمون في التطور الإنساني الكوني؛ فقلما نجد مساهمة فكرية إسلامية في الحوار المضموني الحضاري، وقلّما نجد مناظرا للقضايا الإسلامية من بين المفكرين أو المشتغلين في الفكر الإسلامي، ولعل ذلك ما يؤدي بالضّرورة إلى غياب الفكر الإسلامي في المجال التنموي الاقتصادي والسياسي والمجتمعي، وانتهى المستيري إلى اعتبار أن ''الفكر الإسلامي'' لا يزال داعيا إلى الفكر، ولا يمكن أن نطلق عليه تسمية الفكر بشكل نهائي بعد، فهو لم يبدأ بعد فعل التأسيس، وأن الاكتفاء بسؤال النهضة كما طرح في زمانه، والحل الذي ورد مع ذلك السؤال، وهو العودة إلى الإسلام بالمعنى الهلامي العام، هو الذي جعل السياسة مفارقة للفكر وجعل المشكلات المدنية، بالمعنى الفلسفي، مفارقة للتفكير، وجعل النخب مفارقة لشعوبها؛ ذلك أن مفهوم ''الشعب'' أضحى اليوم أقرب إلى مفهوم ''الجمهور'' الذي يستجيب لفعل التحشيد للمطالبة ببعض الحقوق؛ من ذلك المطالبة بالحق في الوجود والحق في الحرية والكرامة... ولكنه يفتقد إلى الرابط الأساسي الثقافي الذي يصله بالنخب المفكرة التي تتمتع بالوعي السياسي والثقافي المؤسس على الأصول والمعاصرة.
وأكّد على أن السؤال عن التأصيل هو سؤال عن المعاصرة، فهو يتحدث عن التأصيل وكأنه يتحدث عن وجوب المعاصرة وحديثه عن جدل التأصيل والمعاصرة هو نقد لهذا الجدل، ذلك أن التأصيل يجب أن يكون في صلب المعاصرة لا مفصولا عنها وأن يتأسس ضمن المعاصرة، فالذي يشتغل بالحداثة عليه الإلمام بالأصول التوقيفية من قرآن وسنة، والأصول الاجتهادية التي وضعها أهلها في علم الأصول أو علم أصول الفقه وباقي الأصول المؤسسة للعلوم الشرعية إلى جانب الإلمام بالأصول المعاصرة التي نشترك فيها مع الإنسانية، وهي أصول حداثية، وأن من يخالف ذلك، إنما هو يميل إلى أحد الطرفين، فإما أن يكون ماضويا، وإمّا أن يكون تغريبيا. وقدّم مثالا عن ذلك المجتمعَ التونسيَّ واصفا إياه بـ ''المجتمع التّغريبي'' مبيّنا أن ''الآخر في تونس حاضر بقوة من خلال التقليد والانتماء للسياق الحضاري الغربي ولكنه ليس انتماء حقيقيا بقدر ما هو انتماء مشوّه''...
وبيّن أن اللحظة المعاصرة ليست لحظة أسئلة حول ''نحن والغرب، أو نحن والحداثة'' فهذه الأسئلة في تصوّره هي أسئلة خاطئة، إذ هي نتجت عن السؤال الرئيس النهضوي الذي يقابل بين ''نحن'' المتخلفون و''الآخر'' المتقدم، في حين أن تلك المقابلة دائما بين النّحن والآخر الخارج عنّا، هي مقابلة خاطئة؛ فالآخر يعيش في ضميرنا الجمعي، وهو جزء من حياتنا اليوميّة ومتعلق بنا من جهة اندراجه في بوتقة الكونية، وقدّم مثالا آخر عن ذلك ممّا تشهده الساحة السياسية في تونس من محاولات بناء توافقات سياسية بين اليمين واليسار، مؤكدا أن تلك التوافقات هي في الحقيقة نتاج فلسفة نيوليبرالية غربية حديثة مبنية على فكرة السّوق الليبرالية التي لا تقبل الأيديولوجيات وتسعى الى إذابتها في إطار توافقي لا تظهر معه الهويّة السياسية، ولا يسمح لها بالتميّز أيديولوجيا.
النقاش:
تداول الحضور النقاش حول مجموعة من النقاط التي نذكر بعضها فيما يلي:
- أشرت إلى غياب الفكر الإسلامي المؤسس في الواقع الراهن، ووصلت إلى الحديث عن المجتمع التونسي بوصفه مجتمعا تغريبيا، وهذا كلام غير واقعي وغير صحيح، باعتبار أن الدولة التونسية، التي تُعتبر رائدة في مجال القوانين الاجتماعية عربيا وإسلاميا، نلاحظ أن جل منظومتها التشريعية والقانونية هي مستمدّة من الفكر الإسلامي؛ وحتى مجلة الأحوال الشخصيّة، التي نسبت إلى البورقيبية، هي في مضامينها وفي روحها إسلامية كلّيا، ثم إن الفكر الإسلامي المؤسس حاضر في الزمن الراهن في المجال الاقتصادي ومجال المعاملات المصرفية الإسلامية، فنحن نعيش ضمن الفكر الإسلامي وفي سياقه ولسنا خارجه ولا يمكن وصفنا بالانبتات عنه، أو الحديث عن عدم وجود هذا الفكر في حياتنا الراهنة اليوم.
- دعوت إلى تجاوز السؤال القديم للنهضة، ويبدو أن ذلك مثار جدل كبير، فهل بقراءتك التي أقمتها على ثنائية التأصيل والمعاصرة، استطعت تجاوز ذلك السؤال، أم أنك سايرت مشروع رواد النهضة من حيث أردت نقده؟
- أشرت إلى أن طرح السؤال نحن والغرب هو طرح خاطئ، لأن الغرب كامن فينا من حيث هو جزء من الكونية، لكن ذلك لا يستقيم عمليا في الممارسة؛ فنحن نعيش مع الغرب ونقف على اختلافات عميقة فكريا وحضاريا لا نزال بعيدين عن مستوى الاشتراك معه فيها.
- طرحت مشكل المفاهيم وهو مشكل أساسي، فلا يمكن في أية مرحلة من مراحل التحول الحضاري أن تتحقق أي تغييرات نوعية بدون ضبط المفاهيم، ونفهم من تعاملك مع مفهومي المعاصرة والأصالة، أنك لا تميز بين المفهومين، فترى أن كل معاصرة تقتضي تأصيلا وأن كل أصالة تقتضي تعصيرا، فهل المعاصرة هي عملية مزامنة؛ أي أن نعيش زماننا ونقبل ما فيه متجاوزين كل التراث؟ وهل التأصيل هو الرجوع بالضرورة إلى عصر ذهبي ما في التراث؟
- لكل عصر أسئلته، وسؤال النهضة مع شكيب أرسلان كان يعبّر عن عصره، وكان يعني أن يعترف المسلمون بأنهم متأخّرون، فما هو حسب رأيك السؤال الذي يجب أن يطرح في عصرنا اليوم ويكون ملتقى القضايا التي نبّهت إليها؟
ردّ الأستاذ المستيري:
بعد شكر الحضور على التفاعل مع ما طرح من أفكار، أشار المستيري بشكل إجمالي وموجز إلى بعض النقاط التي أثارها المتدخلون متجاوزا أكثرها، فذكر بأن ما وصم فكر النهضة هو غياب سؤال المنهج وسؤال المنهج هو في ذاته سؤال التأصيل، وهذا ما لم يدركه كثير ممن حاولوا أو يحاولون تأثيث الخطاب الإسلامي بالاستدلال بالتراث أو الاستدلال بظاهر النص، فالتأصيل ليس العودة إلى الأصول لا التراثية ولا القرآنية، وإنما هو منهج التفكير الإسلامي في النص وفي الواقع، والفكر الإسلامي الاجتهادي قام على سؤال المنهج، ولا يمكن التفكير من داخل الفكر الإسلامي إلا اعتمادا على المنهج، من ذلك منهج العلاقة بين العقل والنقل لاعتبار المصلحة التي تكمن فيها السعادة.
وأشار إلى أن مسألة السعادة هي مسألة أساسية في الفلسفة اليونانية والوسيطة والحداثية والإسلامية، حيث نجدها في الفكر الكلامي وفي الفكر الأصولي الفقهي في مسألة تحقيق مصالح العباد من خلال تحقيق السرور والنفع... فالتأصيل لابد أن ينتج معاصرة مغايرة، والمعاصرة الإسلامية يجب أن تكون مغايرة للمعاصرة الحداثية اللادينية، إذ يجب أن تؤمن بالوفاق لا بالفراق بين العقل والنقل، ولذلك فكل محاولات أسلمة مفاهيم الحداثة الغربية ومنها العلمانية والمدنية والديمقراطية... هي محاولات غير تأصيلية وغير معاصرة، وخلص في النهاية إلى فكرة اعتبرها أساسية، وهي أن غاية إنتاج معاصرة إسلامية، إنما هي تحقيق السعادة.