ندوة: مداخل تأويل القرآن من النص إلى رؤية العالم
فئة: أنشطة سابقة
احتضنت العاصمة المصرية القاهرة يوم الاثنين 13 أكتوبر 2014، ندوة علمية بعنوان: "مداخل تأويل القرآن من النص إلى رؤية العالم" نظّمتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وقد شارك فيها عدد من الأساتذة الجامعيين والباحثين في تقديم عدد من المداخلات وفي الاستماع إلى جملة من الأسئلة والملاحظات والتعليقات والردّ عليها في جلستي النقاش التي بدأت من 12 ظهراً، حتى الخامسة مساءً بفندق بيراميزا بالدقي.
أدار الجلسة الأولى خالد محمد عبده الباحث في الإسلاميات والتصوف، واستهل الجلسة بالحديث عن التعامل مع القرآن في العصر الحديث، وخصّ بالذكر المؤسسات التعليمية المصرية وكيف تعاملت مع القرآن، بداية من الأزهر والترجمات العربية لأمهات الكتب الاستشراقية الكلاسيكية، وانتهاء بنصر أبي زيد وتعامله مع النص القرآني، ثم تحدث الأستاذ جمال عمر الباحث المختص في نصر أبي زيد وكتاباته، والذي ألّف مؤخرًا كتابًا عنه يحمل عنوان: (أنا نصر). كان جمال عمر قد اقترح أن نتحدث عن مداخل القدماء والمحدثين في التعامل مع القرآن خلال القرون الثلاثة الماضية، بعد أن قدّم ورقته عن التأويلية عند نصر أبي زيد، وبدأ حديثه بما قام المسلمون بإعادة النظر فيه من الأصول التي تأصلت وسادت، والتي لم تكن مجرد أصول للفقه، بل أصبحت أصولا للتفكير الذي ساد عند المسلمين لقرون. فقد أعادوا التفكير في القياس الفقهي وأسسه وفي الإجماع ومعناه، وفي القرن الأخير ظهرت دراسات نقدية للسنة من حيث أسس جمعها ومدى حجيتها وانفرادها بتشريع عن القرآن.
وظلت جهود المسلمين حول القرآن مجرد محاولات لفتح المعاني القرآنية لتتسع لمتغيرات العصر، ولم تتعرض هذه الجهود لإعادة التفكير في القضايا التي تم إغلاق باب الحوار حولها، وسادت إجابات حولها، لتصبح هذه الإجابات من أفكار وتصورات بشرية عقيدةً تطير دونها الرقاب إذا مُسّت.
محاولات متواضعة من الشيخ محمد عبده مثّلت إعادة التفكير؛ ففي الطبعة الأولى من رسالته في التوحيد، تبنى مفهوم خلق القرآن عند المعتزلة؛ وهو التبني الذي حُذف من الطبعة الثانية من الكتاب، وجهود كل من فضل الرحمن من باكستان عن الدور النبوي في تشكُل معاني القرآن. وحسن حنفي في الإشارة إلى العلاقة التفاعلية بين السماء والأرض، وإصرار محمد أركون على الدور الشفاهي للقرآن قبل جمعه بين دفتي المصحف عملية التقنين التي حددت وحجمت من معانيه ودلالاته.
لكن كل هذه الجهود لم تفتح الباب للحديث عن كلام الله بعيداً عن السؤال التراثي عن كون القرآن مخلوق أم قديم.
واستعرض جمال عمر محور جهود نصر أبي زيد بمراحلها التي مر بها، ورأى أنها دارت حول ماهية القرآن وطبيعته وعن كيفية قراءته؛ فقد درس تراث المعتزلة وخصومهم حول هذه القضية، وجهود التراث الصوفي ممثلاً في ابن عربي حولها. ودرس جهود النحاة والبلاغيين، وجهود الفقهاء والفلاسفة المسلمين، ودرس جهود المُحدَثين حول القرآن وطبيعته وكيفية قراءته وإشكالياتها.
لقد وقف أبو زيد على الاستخدام النفعي الذي قدمه القدماء والمحدثون لآيات القرآن في سجالاتهم، لكي يجعلوا نصوص القرآن تنطق بأفكارهم المُسبقة، فكان تساؤله عن لماذا يحدث هذا؟ قد أفضى إلى أن يسأل، هل يمكن إيجاد مفهوم موضوعي للنص خارج إطار التحيزات الأيديولوجية للقارئ؟
فوجد أن ضعف ثمار عملية التحديث ومحاولات التجديد الفكري والديني التي مرت خلال القرنين الماضيين، أن بذرة أزمتها هو قيامها على نفس الأساس اللاهوتي لخطاب التقليد. وأدرك تاريخية التصورات اللاهوتية المعتزلية التي كان قد تبناها هو في مرحلته الأولى، وأنها ابنة عصرها، وأن تصور بنية القرآن على أنه نصٌّ، والتي دافع عنها هي لُبّ الأزمة.
وأن الطبيعة الخطابية للقرآن، والتي تم تهميشها في عملية جمعه في مصحف، هي التي شكلت التعامل معه. وأدرك أهمية التحليل الخطابي للقرآن قبل البدء في التحليل النصي. وأدرك أهمية السعي وراء الرؤية القرآنية للعالم الرابضة في بنية القرآن. لكنها في كل جهوده قد قدم ما يمكن أن يكون مقدمة. مقدمة نحتاج إلى دراستها دراسة نقدية تكشف عن عناصرها من أجل البناء عليها لتجاوزها.
لذلك، فإن دراسة مداخل القدماء والمحدثين والغربيين للقرآن مهمة للوقوف عليها لبناء منهج تأويلي مُنتج ابن لزماننا، نابع من أسئلتنا وهموم عصرنا. ولكن ليس دراسة التعامل مع القرآن كما فعل الذهبي مثلا في رسالته للدكتوراه التي نشرها تحت عنوان التفسير والمفسرون، حيث عرض مجموعة من المعلومات عن مجموعة من كتب التفسير ومجموعة من المفسرين وتصنيفهم حسب الطرق التقليدية. من حيث تفسير بالرأي أو تفسير بالرواية، أو تفسير على حسب المذهب الفقهي للمفسر أو المذهب المعتقدي...إلخ، بل نتناول هذه الجهود في مداخلها. من حيث مدخل لاهوتي/كلامي يحاول أن يقرأ القرآن بحثا عن عقيدة أو مدخل فقهي/قانوني يحاول أن يستنبط قواعد وأحكام ضابطة لحياة المسلمين من القرآن أو مدخل صوفي ساعياً إلى استلهام منظومة أخلاقية وروحية تربط المسلم والإنسان عموماً بالكون وتواصلهم مع الذات الإلهية. أو مدخل يحاول الوصول إلى مبادئ كلية على أساسها نستطيع فهم أجزاء الشريعة نفهم الإسلام أو مدخل فكري وفلسفي يسعى إلى إيجاد منظومة فهم كلية من خلال قراءة الإسلام والقرآن للوصول إلى رؤية فلسفية. وكذلك مداخل المُحدثين والغربيين من حيث منطلقات القراءة.
بتعبير آخر محاولة الوصول إلى القواعد والمنطلقات الفكرية التي قامت عليها هذه الجهود قديماً وحديثا في محاولاتها الكشف عن عوالم القرآن تلك العوالم التي كانت تغذي بعضها بعضا؛ فاللغوي والبلاغي والفقهي والكلامي والصوفي كانت تتفاعل وتغذي بعضها البعض. وحين تكلست الجهود وتم اختصار التعامل مع القرآن في الرؤية الفقهية للعالم التي سادت حياتنا القرون السبعة الماضية.
وختم جمال عمر مداخلته متحدثًا عن نصر: ففي محاضرته الرابعة كباحث مقيم بمكتبة الإسكندرية، في ديسمبر 2008م، وكانت بعنوان "إعادة تعريف القرآن"، بعد محاضرة عن التأويل اللاهوتي وأخرى عن التأويل البلاغي، وثالثة عن التأويل الصوفي. عرض نصر أبو زيد لأهمية الانتقال من التركيز على الطبيعة النصية للقرآن إلى الطبيعة الخطابية وأعطى نماذج وأمثلة لذلك، وكيف أن العديد من المشكلات التي اختلف فيها أجدادنا لها إجابات من خلال هذه النقلة. إلا أنه أضاف مفهوم نقطة البحث عن "الرؤية القرآنية للعالم"، والتي تناولها بعد ذلك في محاضرته الافتتاحية لمؤتمر: "السياقات التاريخية للقرآن" الذي انعقد في أبريل 2009م بجامعة "نوتردام" الأمريكية، ومحاضرته بجمعية ألوان الثقافية، بنيويورك في الشهر نفسه. وكان السؤال الذي يشغله: هل من كل هذه المداخل المختلفة التي تعاملت مع القرآن، المدخل اللاهوتي بحثا عن عقيدة، والمدخل الفقهي بحثا عن تشريعات تُنظم الحياة والمدخل اللغوي البلاغي، بحثا عن إعجاز القرآن وتفرد بنائه اللغوي والبلاغي والمدخل الفلسفي بحثا عن رؤى فلسفية للحياة وللعالم والمدخل الروحي الصوفي، بحثا عن أخلاق، ومدخل المقاصد الكلية للقرآن والشريعة، بحثا عن قواعد كلية هادية لاستخراج أحكام ومقاصد، وهي مداخل جزأت الظاهرة القرآنية وكانت في فترات الازدهار تغذي بعضها البعض لكنها في عصور الضعف والتراجع أصبحت، تضع جدران بين بعضها البعض؛ فهل توجد رؤية كلية للعالم داخل الخطاب القرآني؟ تتشكل من هذه المداخل ومن التعامل مع القرآن في بنيتيه: بنية ترتيب التلاوة الحالي وكذلك بنية ترتيب النزول على مدى أكثر من عقدين من الزمان؟ وهذا هو السؤال الذي تركنا نصر أبوزيد وهو يفكر فيه، تركنا لكن يظل سؤاله حيا يقف أمامنا، يبحث عن باحثين فيه وعن إجابات، فهل سيظل السؤال معلقا حائرا لمدة طويلة؟ وهذا هو سؤالي.
ثم قدّم عبد الراضي عبد المحسن أستاذ الفلسفة الإسلامية ووكيل كلية دار العلوم ورقته عن المنهجية والمعرفية في القرآن الكريم، بادئًا حديثه بقوله: قد يبدو من غير المألوف أن نلتمس دلالتين أو اصطلاحين من بنات الفكر الفلسفي الأصيل في ثنايا نص سماوي واجب الطاعة والتسليم له. لكن لو تأملنا الغايات والأهداف التي تغياها القرآن الكريم واستهدف تحقيقها أو تفعيلها من خلال وسائله وأدواته التبليغية أو الإقناعية لزالت عنا الدهشة. فالقرآن الكريم قد جاء بمثابة الثورة الشاملة التي تستهدف تغيير وجه الإنسانية: عقيدة وشريعة، أخلاقا سلوكا، معرفية ومنهجية. وإذا أردنا استشراف أبعاد الرؤى المعرفية والمنهجية في القرآن الكريم، فسنجد أنفسنا إزاء القضايا الثلاث التي أطلق العقل الفلسفي لنفسه العنان في تساؤلاته الثلاثة الشهيرة حولها:
ما الله؟ ما العالم؟ ما الإنسان؟
وبدأ عبد الراضي حديثه عن المنهجية القرآنية قائلاً: جاءت المنهجية متماهية مع طبيعة النفس الإنسانية: فطرة، عقلا، حسا، ووجدانا، بحكم الهدف القرآني بإحداث التنوير الشامل في الحالة الإنسانية. فإن كان المنهج كما ارتضاه الدكتور عبد الرحمن بدوي هو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة إن كنا بها عارفين، فإن زخم المنهجية القرآنية جاء محتشدا حافلا بنوعي المنهجية معا، منهجية البحث عن الحقائق، ومنهجية إثبات وتثبيت الحقائق والاستدلال والبرهنة عليها.
ولأن القرآن كما قلنا لم يتوجه خطابه المنهجي للعقل فحسب كما غلب على الخطاب الفلسفي، فإن تنوّع الزخم المنهجي في القرآن لم يتوقف كذلك عند العناية بنوعي المناهج التي تستهدف الحقيقة من حيث الكشف عنها أو الاستدلال عليها، بل حلّق ذلك الزخم بعيداً بتنوع طرائقه المنهجية، وأدواتها ومجالات تأثيرها، وليس ذلك التنوع مجرد استنباط شخصي واجتهاد ذاتي من جانبنا، بل هو قطع وتصريح قرآني في قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) [المائدة / 48]، باختلاف المناهج وتنوعها ليس فقط بحسب الأديان والأمم لكن أرى والله أعلم بحسب الطوائف والتيارات والمذاهب لذلك أعقبها بقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة / 48].
ويتضمن الزخم المنهجي في القرآن كما أشار الدكتور عبد الراضي المناهج التالية:
1- المنهج التجريبي المستند إلى عمل الحواس ومقرراتها؛ يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة / 260].
2- المنهج العقلي، يقول تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام، وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم). وذلك بيان وتفصيل للبرهان العقلي في قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه). [الروم / 37].
3- المنهج الباطني المستند إلى صدق الشعور النفسي الذي لا يستطيع الإنسان تكذيبه، يقول تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) [النمل / 62]، ويقول تعالى في اعتماد الإنسان هذه المنهجية خاصة عند ما يخيم خطر الموت: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بريح طيبة وفرحوا جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) [يونس / 22].
4- المنهج التاريخي: المستند ليس فقط إلى المعرفة التاريخية، بل كذلك إلى الأثر التاريخي المشاهد للعيان. يقول تعالى عن أهل ثمود: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون) [النمل / 52].
ولم يجعل القرآن تفصيل المنهجية التاريخية اختيارًا، بل جاء الأمر به إلزاميًّا لكونه مناسبًا لمختلف طبائع الإنسانية المتنوعة في عمق إدراكاتها وقوتها، فتكرر الأمر به «سيروا في الأرض فانظروا» ست مرات.
ثم جاء الحديث عن المعرفية في القرآن الكريم، يقول الأستاذ عبد الراضي عن المعرفية: إنها نتاج إعمال العقل وإمعان النظر واستبطان الوجدان والمدركات الداخلية معًا، وهي محصلة نشاط ووسائل وقوى المعرفة الوجدانية العقل والحس إلى جانب الوحي الإلهي؛ فهي تجمع بين الفعل الإنساني والخير السماوي. وقد جاءت هذه المعرفية شاملة مسائل وشواغل وقضايا الإنسانية على مدار أعصرها، مما لا يمكن حصره في هذه الوريقات إلا في عناوين برقية: اعتقاديات، كونيات، إنسانيات، تشريعات، أخلاقيات وسلوك، وجدانيات، أحياء،...إلخ.
لكن ما لا يمكن إغفاله من إشارات حول المعرفية القرآنية:
1- المسئولية الذاتية عن التماس هذه المعرفية وتحصيلها بأدواتها (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا) [الإسراء / 36]. وكذلك المسئولية عن توظيفها وتفعيلها: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ق / 18].
2- التجرد عن الهوى والاحتكام إلى الموضوعية في قضايا المعرفية وأحكامها ومتطلباتها ومقتضياتها وعدم بناء المعرفية دون قيام دليل صحتها عليها، وبالتالي عدم تأسيس الأحكام المعرفية على الظن. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ) [الحجرات / 12].
وإذا تأسست المعرفية فلا مجال إلا العدل بها، وفيها قال تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) [الأنعام / 152]. أما الميل مع الهوى، فمنهي عنه في القول أو الفعل المعرفي. قال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) [ص / 26].
3- اجتناب معوقات المعرفة الصحيحة، مثل الاستناد إلى شغب العقل الجمعي الذي يحول بين الإدراك الصحيح للحقائق والوقوف على البراهين، بخلاف التعامل الذاتي الفردي. قال تعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) [سبأ / 46].
4- التزام التدرج المعرفي بالبدء بمعرفة النفس فمن لم يدرك مكنون ذاته، ولم يع مكونات محيطه، فهو بعيد عن سليم الفكر وصائب النظر، كما لو كانت تلك حكمة سقراط على معبد دلفي: اعرف نفسك.
قال تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق) [الروم / 8].
5- الهدف النهائي من تلك المعرفية الارتقاء والتميز في الحياة العاجلة والآجلة، فإذا كان العارفون لا يستوون مع غير العارفين، فإن من لم يعمل بموجب معرفته ويستغني عن أدواتها وثمراتها سيكون أفسد النادمين.
وقبل أن تنتهي أعمال الجلسة الأولى في هذه الندوة، منح المستمعون فرصتهم للتعليق على ما جاء في ورقتي الأستاذ جمال عمر، والدكتور عبد الراضي، وكان من جملة الحضور من عقّب بكلمة وسؤال: أحمد محمود مدرس التاريخ بجامعة القاهرة، وشريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، وجمال فوزي أستاذ التاريخ بكلية دار العلوم، ومحمد حربي الصحفي بالأهرام، وأشرف البولاقي... وكانت قضية نصر وتعامل دار العلوم معها وإيصالها إلى قضية رأي عام عبر منابر المساجد والخروج بها من حرم الجامعة نقطة النقاش بين الأساتذة والمتداخلين.
كما وجّه سؤال معرفي حول تعامل الصحابة مع القرآن للدكتور عبد الراضي، وشدد عبد الراضي على أن تعامل الصحابة مع القرآن لم يقتصر على التلقّي والتعبد، بل تعدّاه إلى النظر والتدبّر، ولهم آثار في هذا السياق، وكانت هذه النقطة محل خلاف بين المتداخلين والمناقشين في الجلسة.
بعد الاستراحة بدأت الجلسة الثانية، وكان الحضور فيها أكثر سواء على منصّة المحاضرات أو المستمعين، وأدار هذه الجلسة الأستاذ جمال عمر، وقدّم ثلاثة من الأساتذة كلماتهم، وهم: علي مبروك أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، والذي صدر مؤخرًا له كتاب عن القرآن بعنوان: نصوص حول القرآن: في السعي وراء القرآن الحي. وعبد الباسط هيكل أستاذ العلوم اللغوية وآدابها بجامعة الأزهر. وعصام فاروق أستاذ أصول اللغة بجامعة الأزهر.
بدأت الجلسة بمداخلة الدكتور علي مبروك، والتي شدد فيها على أهمية التعامل مع القرآن باعتباره مركز التأسيس في الثقافة الإسلامية بشكل عام؛ وبمعنى أن كل التشكيل الثقافي في الإسلام قد تمحور حوله بالأساس. لكن كونه مركزاً لا يلغي أنه قد استحال، هو نفسه، إلى أحد الموضوعات التي كانت ساحة لاشتغال تلك الثقافة؛ وبمعنى أن الطرائق التي قاربته الثقافة من خلالها قد حددت شكل فعاليته وحضوره في العالم. وكموضوعٍ لاشتغال الثقافة، فإنه كان لابد للتحولات التي خضع لها مسار تلك الثقافة، أن تنعكس على طريقة تصوره، على نحوٍ كامل؛ وهي التحولات التي واكبت التحول في مسار السياسة، في تاريخ الإسلام، من ممارسة مفتوحة، إلى ممارسة مقفولة ومطلقة. وبالطبع، فإن ذلك يعني أن القرآن قد راح يخضع لنفس التحولات التي يمكن القول إنها قد تركت تأثيرها السلبي عليه؛ وبكيفية فقد معها القدرة على أن يكون أساساً لقولٍ جديد. وبالطبع، فإن أي استدعاءٍ للقرآن ليكون أساساً لقولٍ جديد، يتجاوز به المُعاد والمكرور، إنما يستلزم تخليصه من أحابيل الثقافة التي أمسكت به عبر شبكة من المفاهيم والتصورات والمقولات التي اكتسبت قداسته، أو كادت. فإن عملية السيطرة المعرفية- وبالتالي السياسية- على القرآن قد تحققت من خلال جملة المفاهيم والقواعد والمقولات التي تفيض بها كتابات أهل اللغة والتفسير والحديث والفقه والصوفية والمتكلمين وغيرهم؛ والتي يلزم دراستها وتفكيكها. ولعل ذلك يكون جزءاً من السعي، لا إلى مجرد استعادة القرآن الحي فحسب، بل وإلى تحرير الوعي الراهن الذي لا يزال واقعاً بالكلية- على صعيد نظامه العميق- في قبضة تلك الثقافة؛ وعلى النحو الذي يسمح بحضورٍ جديد لكلٍ من القرآن والوعي.
وضمن سياق مسار التحولات، فإنه يمكن الإشارة إلى واقعة استدعاء القرآن ليكون فاعلاً في الصراع السياسي، المتفجر حرباً دموية في صفين، بين الإمام علي وبين معاوية ابن أبي سفيان، إذ يكشف ما جرى عن طريقتين في التعامل مع القرآن، تختلف الواحدة منهما عن الأخرى، على نحوٍ كامل. وهكذا، فإن تباين الموقف السياسي قد انعكس كاملاً على الموقف من القرآن؛ وحيث بدا وكأن غلبة الواحد منهما سوف تحدد كل المسار اللاحق في التعامل مع القرآن. فإذ بدا أن القرآن يحضر، مع الإمام علي بن أبي طالب، باعتباره ساحة يتواصل عبرها البشر ناطقين عنها بما يفهمون؛ وذلك بحسب مقولته الشهيرة: "القرآن كتاب مسطور بين دفتين لا ينطق بلسان وإنما ينطق عنه الإنسان"، فإنه يحضر، مع معاوية، بوصفه سلطة إخضاع وإذعان وذلك بحسب ما تكشف رمزية رفع المصاحف فوق أسنة الرماح. وفي كلمة واحدة، فإنه كان التباين بين القرآن كساحة لإنتاج فهم من جهة، والقرآن كسلاح هيمنة وحكم، من جهة أخرى.
وبالطبع، فإن الانتصار السياسي لمعاوية قد ترتب عليه تعاظم النظر إلى القرآن بوصفه أداة إخضاع وحكم؛ وعلى النحو الذي تجلى في ابتداء سيرورة التعالي به من خطاب لإنسان إلى صفة قديمة لله. وليس من شكٍّ في أن هذا الوضع الذي استقر عليه حتى الآن قد آل إلى الإفقار المعرفي الكامل له؛ وبما أعاقه عن أن يكون منتجًا لأية دلالة جديدة. وهكذا، فإن "السلطوية" قد راحت تقوم بتثبيت نفسها، تعالياً بالقرآن من الأرض إلى السماء، ليصبح القول فيه ليس متاحاً لأيٍّ كان، بل من اختصاص فئة محددة هي التي تملك وحدها الحق في النطق عنه. لقد بدا وكأنه التحول من قرآن "الإنسان" إلى قرآن "السلطان"؛ الذي سيقرنه المأثور قراناً صريحاً بالقرآن، مع استقرار القول: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالسلطان".
في مواجهة هذا التاريخ الطويل، فإننا نحاول استعادة القرآن أو ما نعتبره القرآن الحيّ الذي هو قرآن الإنسان لا قرآن السلطان، ونتصور أن هذه الاستعادة ممكنة من خلال دراسة متعمقة تتمحور حول هذه الأفكار:
- الفكرة الأولى تدور حول: لزوم التحول من طريقة في مقاربة المفاهيم تعتمد على التعاطي الإيديولوجي الكامل معها، إلى طريقة أخرى في المقاربة تعتمد على الدرس المعرفي للمفاهيم، وعلى النحو الذي تتحول معه من ساحات تناحر إلى فضاءات تحاور.
- الفكرة الثانية: القرآن ما قبل التدوين/ التقنين...وسوف نركز في هذه الفكرة على ما يخصّ لغة القرآن ابتداءً من الحديث المشهور "أنزل القرآن على سبعة أحرف" الذي يرتبط بالسعي لاستيعاب ظاهر التنوع اللغوي التي اتسع لها القرآن، وبما يكشف عن مراعاته للشرط البشري. كذلك ما يخص جمع القرآن وتدوينه وما ورد بخصوص ذلك من مرويات أهل السنة التي تكشف عما يمكن اعتباره حضوراً فاعلاً لإنسان في هذه المسألة.
- الفكرة الثالثة: التعالي بالقرآن، عن تحويل القرآن من خطاب للإنسان إلى صفة قديمة لله، نحلل موقف الحنابلة وكل ما يتعلق به، وموقف (الأشاعرة والماتريدية)، والشكل المعرفي الذى تحقق به فعل التعالي. وبالطبع، فإنه يلزم متابعة التداعيات التي ترتبت على هذا التعالي؛ وفيما يخص تصورات الحقيقة والمعرفة والتاريخ بالذات.
- الفكرة الرابعة: تفكيك الأطلقة
ولعل الخطوة الأولى والجوهرية في هذا التفكيك تتمثل في تحليل ظاهرة الوحي على العموم واكتشاف المنطق الذي يتحكّم في التحولات الحاصلة داخلها الظاهرة من لحظة إلى أخرى، وكيف أن الإنسان يدخل كمكوّن جوهري في تركيبها، وإلاّ فإن استبعاده سوف يؤدي إلى افتراض التغيّر في الذات الإلهية نفسها؛ وهو ما لا يقبل الضمير الديني على العموم.
وأحال الدكتور علي مبروك على كتابه الصادر حديثًا عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، والذي ناقش فيه هذه الأفكار بشكل مستفيض.
وفي المداخلة الثانية، تحدث الدكتور عبد الباسط هيكل عن تأويلية نصر أبي زيد وقراءة التراث، مستهلاً حديثه بقوله: حاولت الدراسات والمناهج المعاصرة الخروج من حالة الركود الفكري التي تعيشها دراسات التراث العربي، فجاء بعضها تلفيقياً يمزج القديم بالحديث في محاولة لإيجاد مشروعية للحديث، وجاء بعضها مرتديا ثوب حداثة لم يحسن كاتبوها حياكة ثوبها، فأتوا بدراسات سمتها الإغراب وحالتها الاستلاب، في الوقت نفسه تمسك البعض بنظرة استعلائية قوامها أننا نملتك من الدرس والبحث ما لا نحتاج معه إلى تحديث أو تحريك، متخذا من قراءات القدامى للنص جزءاً من النص، فوقع تحت سلطة نص مصطنع على نحو أصاب العقل بالكثير من الجمود، وأصاب البحث بحالة من النقل، وتمخض عنهما حالة من الترديد المسبق للنتائج قبل التعرف على المقدمات، وسوق الأحكام قبل مناقشة الأفكار، فاستحوذ على البحث التراثي أقلام صارخة تنفعل وكأنها تفعل، وكتابات حالمة صبغت الأفكار بألوان محلية لتكسبها شرعية القبول والتداول، وخطاب جماعات إسلامية أفسدت اللغة، فجعلت المفعول والفاعل سواء، والخطاب متداخلا مع النص، وجعلت التفكير انفعالا أداته الوجدان، وليس حالة مستمرة وسيلتها العقل.
وفي خضم تلك المساجلات، جاءت التأويلية عند نصر بعيدة عن التسليم أو التلوين أو الاستنطاق أو العزل للتراث، ونتاج حوار جدلي مع الفكر الغربي لم يكتف فيه بالاستيراد والتبني ولم يفر منه بالانكفاء على الذات، فبنى مشروعه الفكري على الاختيار بوصفه عملية مستمرة من القبول أو الرفض العقلي، وقد جاءت تأويليته منتجا فكريا جديدا تأثر بالهرمنيوطيقا الغربية، والدراسات العقلانية ذات الطابع التأويلي في التراث العربي، فلا يمكن لقارئ تأويلية نصر أن يفهمها دون التعرف على مفاهيم اللغة والنص وعملية الفهم والتفسير والتجربة والتاريخ والمعنى والمغزى، وجدلية الثابت والمتغير، وعلاقة الجزء بالكل في التأويلية الغربية عند ديلثى وجادامر وهيتش، ولا يمكننا كذلك أن نرى التأويلية عند نصر منفصلة عن ابن عربي والجرجاني والقاضي عبدالجبار؛ فالمدخلات التراثية والغربية اختمرت في نفس وفكر نصر منجزة تأويليته في نسختها العربية.
وليس التأويل بدخيل على التراث العربي، فقد عرفته الدراسات القرآنية واللغوية والنقدية، فلم تخل كتب المفسرين القدماء منه، متمثلا في استنباط دلالة التراكيب بما تتضمَّنه من حذف وإضمار وتقديم وتأخير وكناية واستعارة ومجاز. فالتأويل بوصفه "تعبير عن عمليات ذهنية على درجة عالية من التعمق في مواجهة النصوص والظواهر مستهدفة الوصول إلى المغزى دون القطع بأنها الحقيقة الكامنة في النص حاضر في التراث مشكلا إحدى منطلقات تأويلية نصر.
فتنطلق تأويلية نصر في قراءة التراث من قاعدتين الأولى: اكتشاف دلالات النص التراثي في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، والثانية: محاولة الوصول إلى "المغزى"، فاكتشاف الدلالة والوصول إلى المغزى إحدى إشكاليات القراءة التي تحاول تأويلية نصر التغلب عليها."
ونجد صدى لتعدد المستويات الدلالية للنص والتمييز بين المعنى الظاهر في النص، والمغزى الكامن فيه،والتي تناولها نصر في تأويليته عند عبدالقاهر -وإن توقف عبد القاهر عند حدود ثقافةٍ لم يمكنه تجاوزها- حين يميز في النص بين معنى هو ظاهر النص الناتج من محصلة علاقاته السياقية، ومعنى المعنى وهو باطن النص الناتج من محصلة علاقاته الاستبدالية، فلم يشغل عبدالقاهر نفسه بالمعنى الظاهر على السطح في دراسة التراث، بل شغله المغزى المستهدف من النصوص، فتعامل مع النصوص بوصفها رموزا وإيماءات وإشارات تحتاج إلى تفسير منه، وكان عبدالقاهر من سابقيه كنصر من عبدالقاهر تجاوز المستوى اللغوي الظاهر للنص، وأخذ يبحث في المستويات اللغوية الكامنة في النصوص، وبدأ يناقش ما تضمنه من مفاهيم وتصورات وفق ما أسماه نصر "الهدم والبناء" أحد منطلقات تأويلية نصر أبوزيد، فالشيخ عبدالقاهر لا يجد سبيلا لطرح مفاهيمه إلا من خلال عمليتين تبدوان متعارضتين: هما الهدم والبناء، أو هما الإثبات والنفي، فينفي عبدالقاهر من مفاهيم وتصورات سابقيه ما يتناقض مع مفاهيمه وتصوراته، أو يؤكد مفاهيمه عن طريق تأويل بعض نصوص سابقيه، فيثبت بالتأويل وهذا البناء، أو ينفي بالإنكار وهذا الهدم.
من هنا رفضت التأويلية القراءة الأحادية الثابتة للتراث أو تلوينه بقراءة مرضية للجميع؛ لذا تقف التأويلية على الجانب المقابل من المدرسة التوفيقية والمدرسة الظاهرية التي تؤكد على المعنى الثابت، والدلالة الظاهرة، منتجة نمطا فكريا تقليديا يرتكز على الثبات والتثبيت والدفاع عن الماضي بمضمونه مهما كان صادما أو متناقضا مع العقل، وهذا من شأنه تزييف معرفة الحاضر بماضيه، وسد الطريق أمام مستقبل يتخذ من اللحظة الحاضرة نقطة مراجعة وتقييم للماضي الذي يؤدي الوعي به إلى حسن التخطيط للمستقبل، وقد ظل الصراع بين تأويلية نصر والمدرسة الظاهرية متجددا؛ لأن تأويليته تنال من أفكارهم التي توحد بين الدين والفكر، وتلغي المسافة بين الذات والموضوع، وتحول النصوص الثانوية إلى نصوص أولية لها من القداسة ما للنصوص الأصيلة من الحسم الفكري والقطعي.
فتسعى التأويلية إلى "تحرير التراث"؛ أي تحرير قراءة التراث من أية سلطة مسبقة للنص على القارئ، فمبدأ تحكم النص أو بعبارة أصح تحكم فهم خاص لفئة معينة للنص يسجن العقل، ويسلب الإنسان أبرز خصائصه التي ألحّ عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: "لعلهم يتفكرون" ويتعارض خطابهم مع الإسلام في أهم أساسياته، وهي الدعوة إلى التفكر وإعمال العقل... وهنا يصطدم نصر بالمدرسة الأكثر استحواذا على الخطاب الديني، والناطق الرسمي باسم فهم التراث التي أطلق عليها الظاهرية.
فأنصار المدرسة الظاهرية قديما وحديثا "اتخذوا من الحاكمية سلاحا لإهدار دور العقل ومصادرة الفكر على المستوى العلمي والثقافي، ومدّ مفهوم الجاهلية كي يشمل كل اتجاهات التفكير العقلي في التراث الإسلامي."
ويتبع تحرير التراث من أية سلطة مسبقة للنص إسقاط القداسة عن أي طرح بشري ليس له عصمة تمنع عنه النقد والنظر والمراجعة والتقييم، فتعامل نصر مع التراث ينطلق من إعمال العقل والارتكاز على الفهم والاستنباط، فيسيطر على خطابه اتجاه نقدي لا يرى للتراث قداسة بوصفه فكرا بشريا حول الدين؛ لذلك يدرس التاريخ دراسة نقدية كما فعل ابن خلدون، ويدرس تاريخ الفرق الإسلامية، والاتجاهات الفقهية والكلامية والفلسفية من المنظور النقدي.
وتنظر التأويلية إلى التراث كوحدة فكرية واحدة، تتجلى في أنماط وأنساق جزئية متغايرة في كل مجال معرفي خاص، فتتجنب تأويلية نصر فصل الأفكار الجزئية عن سياق منظومتها الفكرية العامة، فتعدد التراث بين اللغة والنقد والبلاغة والعلوم الدينية لا ينفي الوحدة في إطارها النظري العام، فلم يكن سيبويه -مثلا- وهو يضع البناء النظري والقوانين الكلية للغة العربية معزولاً عن إنجازات الفقهاء والقراء والمحدثين والمتكلمين، ولم يكن عبدالقاهر الجرجاني يتحدث عن المجاز منفصلاً عن جدل المنشغلين بعلم الكلام وأصول الفقه حول التأويل والتعطيل للمتشابه من آي القرآن الكريم.
فالتراث كله كتلة واحدة مترابطة، وإن باتت حديثا فروعا منفصلة لا ينتبه الباحثون إلى طبيعة توحدها، فتأويلية نصر ترى أن أية قراءة واعية للتراث قراءة تصل الحاضر بالنص وتربط النص بمختلف المجالات المعرفية للتراث "هناك فارق كبير بين الإيمان "النظري" بوجود علاقات تنتظم المجالات المعرفية للتراث وبين التحقيق "العيني" من التأثيرات المتبادلة التي تكشف عن وحدة المنظومة الفكرية للتراث. وهذا التحقق العيني الملموس يجب أن يكون أحد هموم القراءة الواعية للتراث في أي مجال من مجالاته، فالقراءة التي تعكف على مجال ما عكوفا منغلقا تعجز عن اكتشاف الدلالات الحقيقية لمنجزاته المعرفية.
وتنطلق التأويلية عند نصر من موقف التساؤل الدائم والمراجعة المستمرة، القادرة دوما على تصحيح الأخطاء، والتقدم نحو مزيد من الاجتهاد والتجديد. وتصبح القراءة معه فعلا مستمرا لا يتوقف، يبدأ من الحاضر والراهن وينطلق إلى الماضي والتراث ثم يرتد إلى الحاضر مرة أخرى في حركة لا تهدأ ولا يقر لها قرار، لكنها الحركة التي تؤكد الحياة وتنفي سكون الموت، إنها حركة الوجود والمعرفة في نفس الوقت، وتجد لهذا المنطلق جذورا عند عبدالقاهر، إذ يبدأ صوغ قضيته ومناقشة فكرته بطرح سؤال ينطلق منه، مفاده: ما الذى يميز كلاما عن كلام؟ وما الصفة الباهرة التيبهتت العرب في النص القرآني.
وتنفر التأويلية من منطقة "اللاتعليل، ولا تقبل الأقوال المرسلة، وتحرص على التفصيل في معرفة الخصائص، والتعليل للنتائج، فالاختزال من آفات الخطاب الديني، وإحدى إشكاليات تحليل النصوص التراثية، "فاختزال الفكرة في كلمة يحول المعرفة إلى كبسولات تُغني عن الدخول في التفاصيل استمرارا لعصر التلخيصات التي كانت إيذاناً بأفول عصر التقدم والازدهار في تاريخ المسلمين، ويلتقي نصر في بحثه عن العلل واهتمامه بالتفاصيل بعبدالقاهر الجرجاني الذي أنكر على القدامى عمومية القول بلا تفصيل، وإصدار الحكم بلا تعليل. ففي قضية الإعجاز القرآنيالتي تمثل شغله الشاغل، لا يقنع بآراء السابقين عليه في القول بالإعجاز دون ذكر الحجة وبيان العلة.
وفي ختام حديث الدكتور عبد الباسط، أشار إلى نقطة تستحق الدراسة، وهي أن خصوم نصر أبي زيد تقاطعوا معه في كثير من الآراء والأفكار التي نادى بها، ووعدنا الدكتور بأنه سينجز هذه الدراسة، وتكون بين يدي القارئ عن قريب.
واختتم الدكتور عصام فاروق من جامعة الأزهر فاعليات هذه الندوة بمداخلته التي كان مدارها على (السهولة والتيسير في النصِّ القرآني) مقدمًا تصورًا لمدخلٍ لغوي لفهم النص القرآني وتأويله، قائلاً: حينما نمعن النظر في النص القرآني، نجد أن السهولة والتيسير اللذين أشار إليهما ربنا في قوله: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) لتنساب من كل عناصره التكوينية، بدءًا من الأصوات المؤلفة له من حيث ورودها على نمط يشع بالنصاعة والسهولة في تتابعات لها طابعها المميز البعيد عن تنافر الأصوات. وكذلك بنية الكلمات التي تم اختيارها وتأليف حروف مبانيها بدقة متناهية وانتقاؤها معجميا؛ ما يجعلها ذات إيحاء خاص لا تقوم كلمة أخرى مقامها، ولا تحل موضعها، إضافة إلى اكتناز الكلمة الواحدة بالمعاني الكثيرة، وما لذلك من أثر بالغ في فهم النص القرآني بطرق متعددة ظهرت أكثر ما ظهرت في تفسيرات المفسرين واجتهاداتهم المتعددة.
فإذا أضفنا إلى ذلك اكتناز القراءات القرآنية بمعانٍ موازية لما تحمله الكلمة في قراءة أو رواية واحدة وقفنا على كنزٍ ثريٍّ من المعاني يتناسب مع الاختلاف الطبيعي في قدرات العقل البشري، ثم يأتي تأليف الجمل على نحو محكم خاطفًا للأبصار، فللتقديم والتأخير مغزاه، وللحذف والإطناب مراده وفحواه، وغيرها من الأمور التي قد يظنها البعض توترًا أو اضطرابًا داخل النص القرآني؛ حين يجد الجملة نفسها وقد تركبت بأكثر من شكل في أكثر من موضع من كتاب الله- من مثل قوله (نحن نرزقكم وإياهم) [الأنعام / 151] و(نحن نرزقهم وإياكم) [الأنعام / 31]- وما ذلك إلا لعدم مراعاة السياقين الجزئي والكلي للآيات، وهو مدخل لغوي تدعو الورقة إلى الاعتناء به عند النظر في النص القرآني المقدَّس.