ندوة: المنطق واستعمالاته
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود (المغرب) ندوة بعنوان "المنطق واستعمالاته" يومي 11 و12 فبراير 2017 بفضاء المؤسسة بالرباط (صالون جدل). وقد جاء اهتمام المؤسسة بالمنطق في إطار جهودها في تنشيط الحقل الثقافي المغربي، واحتفائها بالفكر الفلسفي، وانفتاحها على الجامعة المغربية والباحثين والمفكرين.
فقد تحقق للجامعة المغربية تراكم معتبر في اشتغالها بالمنطق تدريسا وتأليفا، ما يستدعي وقفة تأملية لمدارسة، ليس فقط قضايا المنطق وإشكالاته، بل كذلك تطبيقاته في مختلف الحقول القريبة منه. وقد شكلت تظاهرة من هذا الحجم بحق فرصة يلتقي فيها باحثون من جامعات مغربية مختلفة ومن تخصصات متعددة للنظر في المنطق من زوايا متعددة: من حيث تاريخه وتصوره، ونماذجه، وأشكاله، ومن حيث دوره في تشكل المعارف الفلسفية والعلمية في الفكرين القديم والمعاصر، ومن حيث صلته بأصناف أخرى للتدليل، مثل علم أصول الدين وعلم أصول الفقه.
وهكذا، كانت الندوة فرصة لطرح تساؤلات عميقة ودقيقة ما زالت تشغل إلى يومنا هذا الوسط الأكاديمي من قبيل: هل المنطق آلة صورية محايدة تصلح للفلسفة كما تصلح لغيرها من العلوم التجريبية والعلوم الشرعية، لا يحتكره لا علم، ولا دين، ولا إيديولوجية، ولا حضارة بعينها، أم أنه جزء من الفلسفة، ونسيج مضامينها، وقانون العلوم التي تدور في فلكها؟ ما صلة المنطق الأرسطي البرهاني بأنماط أخرى من الاستدلال، كالنمط الطبيعي الحواري، والحجاجي، والاشتباهي؟ ما صلة المنطق بعلوم أخرى مثل علم الكلام و علم أصول الفقه والتصوف؟ وإلى أي حد تقبل العلوم الشرعية المنطق الفلسفي، أم أنها لها منطقا خاصا بها؟
وقد استهلت أشغال الندوة بجلسة افتتاحية صبيحة السبت 11 فبراير، حيث ألقى د. مولاي أحمد صابر كلمة باسم المؤسسة، رحب فيها بالحضور الكريم من محاضرين وحاضرين ومشاهدين، وأكد حرص المؤسسة على خدمة البحث العلمي، مع الانفتاح على الباحثين بمختلف مشاربهم. ثم تفضل بعد ذلك منسق الندوة د. فؤاد بن أحمد بعرض كلمته، حيث أبرز سياق الندوة، وأهدافها، وأهميتها. ونوه باحتضان المؤسسة لهذه الثلة من الباحثين المتخصصين في هذا الميدان الدقيق الذي لم يحض بعد بما يليق به من الاهتمام في الفضاء الثقافي، وأكد أن من مقاصد الندوة تقريب المنطق من الطلبة، والباحثين، والمهتمين، والفاعلين في الشأن الثقافي العام.
وبعد ذلك، انطلقت الجلسات العلمية، بالجلسة التي ترأسها د. حمو النقاري (الرباط)، واستهلت المداخلات بورقة د. سعيد بنتاجر (البيضاء) والتي عنونها "من المنطق الكلاسيكي إلى المنطق الحواري"؛ بيّن فيها كيف أن منطق الحوار هو توسيع للمنطق الكلاسيكي بإضافة البعد الجدلي له، مع الأخذ بعين الاعتبار التفاعل بين الطرفين المتجادلين، ووقف عند قدرة هذا المنطق على استيعاب وتقويم الاستدلالات المعتادة في الحياة اليومية. وفي المداخلة الثانية، قدم د. رشيد الراضي (فاس) دراسة بعنوان "المنطق الاشتباهي في نمذجة التفكير التقريبي" عرف فيها بهذا المنطق وظروف نشأته، ورهاناته العملية، وعلاقته بالتفكير التقريبي وبمفهوم الاحتمال، وكذا دوره في مراجعة مبدأ الثالث المرفوع. ووقفت المداخلة الثالثة في هذه الجلسة، والتي قدمها د. يوسف السيساوي (مراكش) تحت عنوان "التناقضات والشكوك في التفكير المنطقي المعاصر: نحو بناء منطق للفكر المركب" عند التحولات التي عجلت بتصدع العقل المنطقي الكلاسيكي وانهيار مبادئه، وما أفرزه ذلك من أنساق منطقية معاصرة تتماشى والتحولات التي عرفتها العلوم المعاصرة مثل الرياضيات والفيزياء.
وفي الجلسة العلمية الثانية التي ترأسها د. محمد أيت حمو (فاس) تمحورت المداخلات حول المنطق المعاصر وتطبيقاته في الحقول المعرفية المختلفة، حيث تطرق د. إبراهيم مشروح (الرباط) في ورقته "التمنطق والتفلسف: أصول تنازع الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية الوجود والعدم"، إلى مسألة إعمال المنطق أو إهماله في مجال الفلسفة؛ بين فلسفية كلاسيكية متشبثة بالمنطق، وأخرى معاصرة تصر على إقصاء الميتافيزيقا باسم المنطق، مع الوضعية المنطقية. فيما تطرق د. خالد بوزبع فنان (فاس) في مداخلته "التأسيس المنطقي لنظرية المجموعات" إلى التأسيس المنطقي للحساب عند فريجه بناءً على مبدأ الاحتواء. أما مداخلة د. عبد الرحيم البيدق (الرباط) "التطبيق في المنطق: مقاربة علمية وفلسفية"، فقد سارت في الاتجاه نفسه الذي سارت فيه المداخلة التي سبقتها، مبرزة تميز تطبيقات المنطق الذاتية عن تطبيقاته في غيره من المجالات، ليقف عند درجة التعقيد الذي بلغته الأبحاث المنطقية المعاصرة.
أما الجلسة العلمية الثالثة من مساء نفس اليوم، والتي ترأسها د. أحمد مونة (تطوان)، فقد تمحورت حول علاقة المنطق بالعلوم الإسلامية؛ حيث حاول الباحث خالد ترغي (الرباط) في مداخلته "علم المنطق والأصول: أية علاقة" أن يجيب عن التساؤلات التي تطرحها علاقة المنطق بالفقه: كيف تصور الفقيه المنطق؟ وكيف اشتغل به؟ وكيف يمكن الانتفاع به؟ فيما طرح د. محمد أيت حمو في مداخلته "الاستدلال ببرهان الخلف لدى المتكلمين: الغزالي أنموذجا" منطق المتكلمين من خلال نموذج محدد هو برهان الخلف، وأبرز كيف ساهم هذا البرهان في صياغة استدلالات المتكلمين بشكل جعلها تتقاطع مع منطق الفلاسفة، وتمتاز عنه في نفس الوقت. أما الباحث د. سعيد البوسكلاوي (وجدة)، فقد طرح علاقة المنطق بالكلام من خلال برهان آخر هو برهان إبطال التسلسل إلى ما لا نهاية في الزمان، باعتباره مقدمة للاستدلال على حدوث العالم، وأبرز كيف تلقى المتكلمون دليل يحيى النحوي هذا، وكيف رد عليهم الفلاسفة المشاؤون.
أما الجلسة العلمية الرابعة، والتي ترأسها الدكتور يوسف سيساوي، فقد أبرزت تطبيقات المنطق في علم الأصول مع الدكتور أحمد مونة، وفي علم النفس الفلسفي مع د. عبد العالي العمراني جمال (باريس)، وفي الخطابة والشعر مع د. فتح الدين عبد اللطيف (البيضاء)؛ وهكذا أبرزت المداخلة الأولى: "علم المنطق والأصول: أية علاقة" علاقة علم المنطق بعلم الأصول وأوجه التقاطع بينهما من خلال مفاهيم ثلاثة: مفهوم القول، ومفهوم الانتقال، ومفهوم اللزوم. وطرحت المداخلة الثانية: "صلة المنطق بعلم النفس: عن مفهومي التصور والتصوير عند ابن رشد" صلة المنطق بعلم النفس الفلسفي من خلال مفهومي التصور والتصديق، وكيف يتقاطع ما هو منطقي مع ما هو معرفي سيكولوجي، ومحدودية الاستدلال التقليدي عند ابن رشد عندما يتعلق الأمر بمعرفة الموجودات المفارقة. أما المداخلة الأخيرة، "المنطق بين الخطابة والشعر: ابن رشد أنموذجا"، فطرحت الخصوصية المنطقية للشعر والخطابة مقارنة مع البرهان والجدل، وكيف عمل الفلاسفة المسلمون على توسيع المنطق الأرسطي ليشمل الأقاويل الإقناعية والشعرية.
وقد أعقب كل جلسات الندوة نقاشا مستفيضا غطى جل المداخلات، أعطيت فيه الكلمة للحضور أساتذة وطلبة ومهتمين، وتنوعت كلماتهم بين التعقيب الأكاديمي المتخصص، والنقد العلمي البناء، والتساؤلات العلمية المفتوحة التي تنبه إلى إشكالات منطقية دقيقة تنتظر البحث العلمي، خصوصا ما تعلق بعلاقة المنطق بالعلوم التي ترعرعت في البيئة الإسلامية، ودور الأبحاث المنطقية المعاصرة في الكشف عن أساليب الاستدلال التي ميزت هذه العلوم.
وختمت الندوة بكلمة المؤسسة، تقدم بها د .مولاي أحمد صابر جدد فيها الشكر للجميع حضورا ومحاضرين، ونوه بعمل منسق الندوة وتفانيه في سبيل إخراجها إلى الوجود. ثم كلمة منسق الندوة د. فؤاد بن أحمد الذي أشاد بروح الود والتفاهم التي سادت بين جميع المتدخلين في هذه الندوة، وعبر مختلف أطوارها منذ إعدادها وحتى ختمها، وجدد الشكر لكل من أسهم في نجاحها، الذي سيكتمل مع نشر أوراق المداخلات من طرف المؤسسة مشكورة. ثم عرض لأبرز التوصيات التي تمخضت عنها الندوة، والتي شددت على حاجة الحقل الثقافي المغربي لمزيد من الأبحاث العلمية المتخصصة، التي من شأنها أن تكشف عن أوجه تطبيقات المنطق في مختلف العلوم والتخصصات، والآليات الاستدلالية التي تشبعت بها علومنا التراثية، وعن أوجه الاستفادة من كل ذلك في مختلف مناحي حياتنا.