ندوة بعنوان: "أبو العلاء المعرّي: العمى والبصيرة وجدل الثنائيات "
فئة: أنشطة سابقة
استذكر أكاديميون ونقاد أردنيون الشاعر الفيلسوف أبو علاء المعري، مؤكدين أنه كان يتمتع بطاقة ثقافية وفكرية وأدبية كبرى في الثقافة العربية، تجاوزت آلاف الكتب والبحوث والمقالات، ليقدم لنا لونا جديدا لم تعرفه الثقافة العربية من السخرية المكتومة الجادة، مبينين أنه لم يصلنا من إنتاجه سوى القليل.
الندوة التي نظمتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث ومركز شرفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب في عمّان السبت 4 آذار (مارس) 2017، جاءت بعنوان: "أبو العلاء المعري: العمى والبصيرة وجدل الثنائيات"، وشارك فيها كل من د. محمد عبيد الله ود. تيسير أبو عودة، وأدارتها د. شهلا العجيلي.
أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة فيلادلفيا د. محمد عبيد الله، وصف المعري بأن "ظاهرة ثقافية متجددة؛ تدعو إلى العقل، وتعوّل على دور النقد، وتؤمن بالنقل والرواية، وتقدم صورة رفيعة لإمكانيات اللغة العربية ومحتواها الثقافي النادر"، مشيراً إلى أن شيخ المعرة عقلاني مؤمن من نوع فريد، صدّق بالنتيجة الكلية، ولكنه لم يطمئن بالطرق الموصوفة إليها.
وقال عبيد الله، إن المعري "طاقة ثقافية وفكرية وأدبية كبرى في الثقافة العربية، تجاوزت الكتب والبحوث التي تناولته آلاف الكتب والبحوث والمقالات، وتعدّدت طبقات قرائه واتجاهاتهم وتخصّصاتهم، وهذا اختبار لجدّية آثاره وعمقها، ومؤشّر على بعض ما تتضمّنه من نقاط القوّة والعمق، وما تستدعيه من القراءة والتأويل"، لافتاً إلى التشكيل الفريد في حالة قابلة لتعدد القراءات؛ لأن الثقافة دوما بحاجة إلى من يجدّدها، ويثير سكونها.
ونوّه عبيد الله إلى أن المعري قدم لنا لونا جديدا لم تعرفه الثقافة العربية من السخرية المكتومة الجادة، ربما أفاد من الطريقة التي انتهجها المتنبي في بعض شعره ومواقفه، ولكنها بلغت عند المعري مداها، سخرية لا تهدف إلى الإضحاك، وإنما تتولد من مفارقات الحياة، وتدفعنا للتأمل قبل كل شيء. ومن أمثلة ذلك ما جاء في رسالته "رسالة الغفران"، وكذلك رسالة "الصاهل والشاحج".
وأوضح عبيد الله أن المعري كان "معارضاً بامتياز"، حيث ابتعد عن الحكام والأمراء، وكان موقفه حاسما في أن يضرب عن سياسة عصره، وهو يرى انحطاطه السياسي، ولكنه مع هذا الإضراب، لم يعف السياسة من نقده، فانتقد الحكام، ووجه لهم سهامه. واضطر في بعض الأحيان على كره منه إلى المداراة وإلى شيء من "التقية" السياسية واضطر إلى مقابلة بعضهم، كما في مواجهته للأمير صالح بن مرداس وردّه عن المعرة.. وكذلك مراسلاته في أواخر حياته مع داعي الدعاة الفاطمي الذي كان عقلا ولسانا للدولة الفاطمية. في هذه المواقف، نجد المعري وهو يعاني الحرج ويتكرّه أو يتحرّج من هذه اللقاءات، ويحاول أن يجد سبيلا للنفاذ منهاـ والتخلص من إكراهاتها بطريقة علائية متميزة.
من جانبه، دعا الأستاذ المساعد في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في الجامعة العربية المفتوحة د. تيسير أبو عودة إلى الانتباه لفعل الكتابة والمحو ومجاز العمى والبصيرة، إذا أردنا أن نتعقب إشارات أبي العلاء وفلسفته وأفكاره والتراكم الإبيستمولوجي للمعنى الغائب أو المؤجل كما يسميه ديريدا، بعيداً عن المغالطات المؤدلجة أو الاختزال المسبق. وما يزيد المهمة صعوبة المهمة التأويلية التي نحن بصدد التصدي لها ما ذكر في شرح التبريزي أن جل تصانيف المعري التي تربو على 200 مجلد قد أعدم أكثرها وسلم منها ما خرج عن المعرة قبل استباحتها.
ورأى أبو عودة أن المعري الشاعر والفيلسوف، ربما يكون أكثر شخصيات الفكر الإنساني تأثيرا وتناقضا ومفارقة، في شعره ونثره وفكره؛ فنحن أمام إرث كوني عظيم متراكم من متون شعرية ونثرية ظلت رهينة التأويل والتكفير والمحو والاختزال والتسطيح عبر قرون متعاقبة، بين فريق تلقف المعري كنص مغلق تحكمه أدوات الفقيه والحاكم بأمر الدولة المتدينة والدين السياسي.
وأشار أبو عودة إلى أن هناك من يرى المعري في صورة "الزنديق المهرطق في سياق تفسيره للثنائيات الكونية: كالوجود والعدم والنفس والإيمان والنشور والشك والعقل، كما بدا الأمر جليا وملتبسا في لزومياته ورسائل الغفران وسقط الزند، وبين فريق آخر يرى في مشروعه الشعري والفلسفي نموذجا هيرمونيطيقيا مستقلا لا يخضع لحراس النقد التقليديين ولا التأويلات المسطحة"، لافتاً إلى أن البعض يراه محملاً بنصوص طباقية مرتحلة حسب مفهوم المفكر إدوارد سعيد، يستحيل تأويلها بعيداً عن سياقها الزمكاني والوجودي والثيولوجي والعقلي، ولا يمكن لنا فهمها أو التشابك معها دون معرفة أسرارها الفيلولوجية والبلاغية والفلسفية.
ونوه أبو عودة إلى أن الشروحات الكثيرة التي قدمت لنا عن المعري، ما قدم لنا في وصف عبقرية المعري وقدرته الشعرية والفلسفية، يعد ضربا من الأسطورة والفانتازيا، لافتا إلى أهمية منهج المعري الحداثوي والإنسانوي، والذي يتوسل بنزعة الشك والتناقضات المتآلفة شكلا وثيمة في معتقده ورؤيته ولغته، ما يجعلنا أكثر تشكيكا بكثير من مقولات النقد التي تدافع عن أرثوذكسية الثنائيات: الإيمان أو الكفر، والوجود والإنسان، والحرية والجبرية، إذ يقول المعري: "لا تقيّد عليّ لفظي فإني/مثل غيري تكلُّمي بالمجاز".
وخلص أبو عودة إلى سؤال التأويل والكتابة الذي يبقى جاثما أمامنا كالجثة ما لم نخلخل بنية العلاقة الأزلية بين الدين والفن والأدب، ونشرع بطرح الأسئلة ذاتها التي طرحها "دانتي" في "الكوميديا الإلهية"، "المعري" في "رسائل الغفران"، "ميلتون" في ملحمته "الفردوس المفقود": الجنة والنار والوجود والما وراء والذات البشرية ليست إجابات عن نصوص إلهية أو بشرية، بقدر ما هي أسئلة جمالية وفلسفية تتطلب منا البحث عن الحقيقة العارية.