ندوة حول قراءة في كتاب: "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"
فئة: أنشطة سابقة
في جو معرفي تعددي ، منفتح على كل المواقف والآراء، عرف صالون جدل الثقافي، الكائن بمقر مؤسسة مؤمنون بلا حدود بالعاصمة المغربية الرباط، نقاشا علميا متميزا حول كتاب الدولة المستحيلة، لوائل حلاق، يوم السبت، ثالث أيام شهر رمضان المبارك، الموافق ل20 يونيو 2015؛ شارك فيه مجموعة من الباحثين الأكاديميين، ينتمون إلى تخصصات معرفية متعددة ؛ الفلسفة(سعيد بنسعيد العلوي)، (العلوم السياسية والقانون الدستوري (عبد العلي حامي الدين)، التاريخ (محمد جبرون) .. كانت مداخلات السادة الأساتذة متميزة بطابعها العلمي والموضوعي، بعيدة كل البعد عن كل أشكال الأدلجة والاستقطابات التي جعلتنا نعيش حالة من الضحالة الفكرية والسطحية المعرفية،
جدير بالذكر، أن هذه القراءة للترجمة التي قام بها عمرو عثمان لكتاب ""الدولة المستحيلة –الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي" لوائل حلاق، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلال السنة الجارية، تأتي كفاتحة لسلسلة قراءات سيعرفها صالون جدل الثقافي طيلة الموسم الثقافي، يتم خلالها فتح مجالات للنقاش مع عدد من المؤلفات الفكرية المهمة.
-1-
افتتحت الندوة بمداخلة الدكتور سعيد بنسعيد العلوي، والموسومة ب"الإسلام والدولة –قراءة في كتاب وائل حلاق "الدولة المستحيلة"-، والتي بين في بدايتها أن وائل حلاق يصدر في كتابه، موضوع الندوة، عن أطروحتين اثنتين متمايزتين؛ تقول أولاهما بوجود علاقة تناف تام بين الإسلام وبين الدولة الحديثة ،وتقول ثانيتهما، وهي، في نظر العلوي، أقل وضوحا من الأولى، إن الحداثة برمتها( والدولة أحد تجلياتها) توجد في مأزق ، وهذا المأزق ذو طبيعة أخلاقية أولا وأساسا، ومن ثم يصح الحديث عن " المأزق الأخلاقي " للحداثة الغربية.
هكذا يرى الأستاذ بنسعيد، أننا أمام معالجة سياسية قانونية من جهة أولى (الإسلام والسياسة، الدولة المستحيلة)، ومعالجة تتصل بمبحث الأخلاق، من جهة ُثانية. الأمر الذي يحمل قارئ كتاب حلاق على طرح السؤال التالي : "ما العلاقة بين الدولة المستحيلة (أو الدولة الإسلامية ، في لغة حلاق) وبين المأزق الأخلاقي عامة والمأزق الأخلاقي للحداثة خاصة ؟ وبالتالي، كيف يكون لأطروحتين متغايرتين أن تتآلفا في صعيد واحد ؟
في مقاربته لهذا السؤال/ الإشكال، ابتدأ السيد العلوي بعرض لأهم مضامين الكتاب، المبثوثة في فصوله المختلفة، من أجل تبين طبيعة الأطروحة الأولى، التي في نظره تبقى هي الأطروحة المركزية للكتاب، وهي أطروحة الدولة المستحيلة، ليعود في نهاية ورقته إلى معالجة سريعة للأطروحة الثانية.
وخلال هذه الرحلة، بين العلوي أنه من الخطأ القول إن الدولة لم يكن لها وجود قبل العصر الحديث ، مستنكرا ما اعتبره إصرارا عجيبا، عند حلاق، على التمييز بين " الدولة الإسلامية "( وهذه مستحيلة)، وبين " الحكم الإسلامي " بينما اعتبر العلوي أن ذاك هو الواقع الذي تحقق فكريا وتاريخيا. كما أنه من الخطأ، أيضا، الاعتقاد أن الدولة في الإسلام تتنافى ماهويا مع الدولة الحديثة. ومرد ذلك النقص عند وائل حلاق في المعرفة السياسية من جهة، والإدراك الواعي العميق للإسلام، حيث تكون الدولة قضية مصلحية وليس شعيرة دينية أو ركنا من أركان الإسلام.
يخلص العلوي من مناقشته هذه إلى أنه لا يوجد سبب منطقي يحمل على القول بالتنافي المطلق بين الإسلام وبين الدولة الحديثة. اللهم إذا تعلق الأمر بمفهوم الدولة الإسلامية كما يتداوله قادة ورموز حركات الإسلام السياسي، الذين يصدق على مفهومهم هذا نعت الاستحالة حقا، وفي هذا الصدد تمنى العلوي لو أن وائل حلاق أفرد كتابه لتوضيح هذه القضية الأخيرة، لكان قد أسهم بنصيب عظيم في دفع العديد من الغموض الذي يحيط بقضية العلاقة بين الإسلام و السياسة.
وفي معرض حديثه عن الأطروحة الثانية، يستهل قوله بأن الارتباط بين الدولة الحديثة والحداثة يرقى عند حلاق إلى درجة البديهيات. ومن المعلوم أن للحداثة منطقها الذاتي وجوهرها الخاص، المتمثل في تجريد الدولة من كل نفحة أخلاقية أو "صوفية" بتعبير العلوي، ومن تم يتساءل : "كيف يريد للدولة الحديثة أن تنتج "إنسانا أخلاقيا "(والكلمة له) على نحو ما يرغب فيه لا على نحو ما هو كائن" ؟
يلاحظ الدكتور العلوي، أنه من خلال تمعننا في فقرات الفصل الخامس من الكتاب (الفرد السياسي والتقنيات الأخلاقية لدى الذات) "أن الحيرة والقلق اللذان يلازمان وائل حلاق في الخلاصات المقارنة التي ينتهي إليها هي بالضبط هذا الجنوح الغريب إلى إضفاء معنى، وإضافة مكون لا تقبله مسيرة كل من التاريخ والفكر في الغرب الأوروبي، وهو محاولة إكسابها نفحة صوفي أخلاقية لا تقبلها طبيعة هذه الدولة ولا تطيقها.
وقد ختم العلوي مداخلته بإشارة إلى أن مراجع وائل حلاق، هي مراجع من الدرجة الثانية، لا تحيل على الأصول، وإنما تكتفي بالاستناد إلى كتابات ثانوية في المواضيع التي طرقها، سواء في ما يتعلق بالتراث الفقهي الإسلامي أو التراث الفلسفي الغربي، اللهم احتفاء حلاق الكبير بفقرات من كتاب "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي، وهي دلالة على ميل واضح نحو نزعة عرفانية صوفية.
-2-
من جهته، انطلق الدكتور عبد العلي حامي الدين من القول إن كتاب "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي"، يعد جزءا من مشروع كبير لوائل حلاق، وامتدادا بشكل أو بآخر لأعمال سابقة له ككتاب المقدمة والشريعة. موضحا أن حلاق يحاول الإجابة عن التساؤلات الإشكالية التالية:
هل الدولة الحديثة مجرد أداة محايدة للحكم يمكن استخدامها لتنفيذ وظائف معينة طبقا لاختيارات الحاكمين وقراراتهم؟ بما في ذلك إمكانية تحديد شكل الدولة وطبيعتها، سواء كانت ديموقراطية ليبرالية، أو نظاما اشتراكيا أو دولة إسلامية تطبق القيم المتأصلة في القرآن؟ وتبعا لذلك، هل يمكن للحكم الإسلامي أن يسمح بأية سيادة أو إرادة سيادية غير سيادة الله؟
يختصر حامي الدين جواب وائل حلاق عن التساؤلات السالفة الذكر في ما كتبه في السطور الأولى من كتابه، خلال تقديمه لأطروحة الكتاب، وهي أن مفهوم "الدولة الإسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة.
وبعد استعراض لأهم عناصر هذه الأطروحة ومفاهيمها الأساسية، كمفهوم الدولة الحديثة، ومفهوم الدولة الإسلامية، ومفهوم الحكم الإسلامي، ومفهوم الشريعة، وقف عبد العلي عند هذا المفهوم الأخير، مبينا أن مسايرة حلاق في تعريفه للشريعة يعني تجريد الأمة من فاعليتها السياسية، وكأنه لا دور لها في إبداع أنماط سياسة تناسب عصرها. في حين أن مبدأ الشورى لم يشرع بين المسلمين إلا للحسم في القضايا المستحدثة مع المرونة في تطبيق الشريعة نفسها، حتى ولو جاءت على شكل توقيفي كما هو معروف في العديد من القضايا الجنائية.
وفي هذا السياق، يلاحظ حامي الدين بأن مفهوم مقاصد الشريعة غائب تماما عن مختلف فصول كتاب الدولة المستحيلة، على خلاف ما نجده عند باحث مسيحي آخر ، من نفس الحجم، واشتغل على نفس الموضوع بالتركيز على مبحث المقاصد، وانتهى إلى خلاصات مختلفة، وهو إيليا حريق في كتابه "الديموقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب".
لقد اختار وائل حلاق أن يقدم حلا صعبا ومعقدا لإشكالية العلاقة بين الدولة، يختلف عن الحلول التبسيطية والاختزالية، من قبيل، أن الحل يكمن في "الفصل بين الدين والدولة" أو القول بأن "الإسلام دين ودولة" أو القول بأن "الإسلام هو الحل" ، أو القول بأن ‘الدين والدولة لا يجتمعان إلا في شخص الحاكم".. لكنه حل، في نظر حامي الدين، مغرق في الحلم والطوبى.
ذلك أن السؤال الذي على المسلمين طرحه، أو إعادة طرحه، فمن أجل تجاوز إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، في نظر السيد حامي الدين هو ذلك السؤال المنهجي الذي طرح الصحابة على الرسول عليه السلام: "أهو الوحي أم الرأي"؟
إن إعادة طرح هذا السؤال كافية، في اعتقاد الدكتور عبد العلي، أن تذكر المسلمين المعاصرين بأن قضايا السياسة وتدبير شؤون الحكم لم يفصل فيهما الوحي تفصيلا شافيا، وتركت للمسلمين ليقدروا مصالحهم على ضوء المقاصد والقيم الكبرى..
-3-
وبعد ذلك، قدم الدكتور محمد جبرون قراءته للكتاب، التي اختار لها العنوان التالي: "الدولة الإسلامية بين الإمكان والاستحالة(قراءة في «الدولة المستحيلة» لوائل حلاق)"،حيث نبه إلى الاهتمام الكبير الذي حظي به الكتاب منذ ظهوره من طرف الباحثين والكتاب والصحفيين، مشيرا إلى عدد القراءات والتقارير الصحفية التي أنجزت حول هذا المؤلف وكاتبه، الشيء الذي جعله، حسب جبرون، يحتل صدارة مبيعات الكتب في المعارض والمكتبات العربية. مرجعا سبب هذا الاهتمام إلى طبيعة موضوعه الذي يشكل انشغالا مركزيا في الفكر العربي المعاصر، وأطروحته المثيرة التي جاءت تقريبا على غير هوى جل التيارات الفكرية العربية.
ولما كان محمد جبرون قد صدر له نفس الناشر (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) كتاب تحت عنوان "مفهوم الدولة الإسلامية –أزمة الأسس وحتمية الحداثة-، تضمن أطروحة مغايرة لأطروحة وائل حلاق، فإنه لم يتردد، منذ البداية عن التصريح بنيته، الرامية إلى الاشتباك النقدي مع أطروحة الدولة المستحيلة، بعدما قدم وصفا موجزا لمحتوى الكتاب واعتنى أكثر بمحالة تقديم أطروحته بقدر كبير من الدقة والوضوح؛ لينتقل، بعد ذلك، إلى التعقيب عليها وبيان حدودها العلمية.
هكذا بين جبرون، أن أطروحة "الدولة المستحيلة" تنبع من جدلية حضارية مختلفة لحضارتنا الإسلامية، جدلية تكابد إخفاقات الدولة الحديثة، الشيء الذي دفع حلاق إلى البحث عما ينفع الإنسانية من تجربة الحكم الإسلامي، باعتباره أحد النماذج الممكنة التي قد تحل في إطارها أزمة الحداثة الأخلاقية.
لكن هذا الاعتقاد لم يمنع وائل حلاق من التشديد على رفض الجمع بين لفظي الدولة والإسلامية، فهما نقيضان لا يجتمعان، مما دفع جبرون إلى التساؤل هل الأمر فعلا بهذه الصورة، وأن طبيعة الشريعة وجوهرها ناف لمنطق الدولة، ووجود أي منهما يلغي بالضرورة الآخر؟، هل قدر المسلمين، والقول دائما لجبرون، أن يعيشوا بدون دولة، وإذا سعوا إلى ذلك لا بد أن يضحوا بشريعتهم؟.
لم ينتبه وائل حلاق، حسب جبرون، إلى أن الحكم الإسلامي، كما هو حال حكم الدولة الحديثة، يعكس حقائق سوسيولوجية واقتصادية وسياسية شديدة الصلة بظروف العصر الوسيط، فهذا النظام في جزء كبير منه متوافق مع بيئته ومجتمعه ومعطيات تاريخه.
ومن هذه الجهة، لم يكن "الحكم الإسلامي" إسلاميا خالصا، كما يعتقد حلاق، بل فيه من آثار نظم حكم الأوائل الشيء الكثير، وذلك نظرا للتثاقف السياسي والحضاري الذي حصل بين شعوب وحضارات البحر الأبيض المتوسط، ومن ثم يجب، في نظر جبرون، الانتباه أثناء الدعوة إلى نظام حكم إسلامي في العصر الوسيط إلى أن كثيرا مما ندعو إليه هو من أصول فارسية أو رومانية أو يشبهها.
إن الدكتور جبرون يرفض منطق الاستحالة الذي يتبناه حلاق، ويعبر عن تفاؤله بإمكانية ظهور أشكال أخرى من الحكم الإسلامي متوافق مع معطيات الدولة الحديثة ومع المبادئ الأخلاقية الإسلامية، خاصة أن مفهوم الدولة الحديثة، كما تضمنه كتاب الدولة المستحيلة، يبدو ضيقا وغير قابل للتكرار في بيئات ثقافية مغايرة للبيئة الثقافية الغربية.
يواجه جبرون هذا التضييق بما تشهد عليه التجارب الإنسانية من تثاقف وتعارف إنساني، وهي التجارب التي تنقض هذه الأطروحة. ذلك ،أن أحداث الماضي والحاضر تؤكد إمكانية انتقال التجارب والمفاهيم، وتبييئها بحسب معطيات وظروف البيئات المستقبلة، من بينها مفهوم الدولة، الذي خضع لعمليات نقل متكررة، وبصورة تراعي الخصوصيات المختلفة.
وفي هذا السياق، يدعونا محمد جبرون إلى التأمل في تجارب عدد من الدول العربية، والتي حاولت أن تجد، في نظره، تسوية معينة مع الإسلام، والتخلص من بعض مكروهات الحداثة السياسية، وعلى رأسها تجربة الدولة المغربية في طبعتها الجديدة مع العاهل محمد السادس، والتي حاولت، حسب قوله، أن تؤسس لصلة بين الزمني والديني، وبالتالي الربط بين الأخلاقي والعقلاني في المجال السياسي دون أن يهمين أحدهما على الآخر. وهو ما يؤكد، في نظره دائما، الدولة الإسلامية ممكنة في العالم العربي الحديث، في ضوء معطيات التاريخ، ودروسه، وأن هذا العالم العربي يمكن أن يتحقق من هذه الدولة دون أن يتخلى عن خصوصياته الأخلاقية والثقافية.