ندوة علمية: "محمد عزيز الحبابي الفيلسوف والإنسان"
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في قاعة صالون جدل التابعة لمقرها الرئيسي بالعاصمة الرباط وخلال يومي 12 و13 مارس 2016، ندوة علمية تحت عنوان "محمد عزيز الحبابي الفيلسوف والإنسان" تركزت حول الإرث المعرفي الذي خلفه الفيلسوف المغربي الراحل محمد عزيز الحبابي، صاحب مفهوم الشخصانية.
انطلقت الندوة بكلمة افتتاحية ألقاها المنسق الإقليمي والمشرف على قسم الندوات بالمؤسسة الدكتور مولاي أحمد صابر رحب فيها بالباحثين والحضور الذين آثروا على أنفسهم من أجل حضور الندوة، والتي خصصتها المؤسسة لإلقاء الضوء على المسار الأكاديمي لمحمد عزيز الحبابي الذي لم يلق من الاهتمام الشيء الكثير، بسبب ظروف تتنوع بين الخصوصية الإيديولوجية وبين الواقع الصعب الذي تعيشه الفلسفة الإسلامية عموما في العالم العربي والإسلامي، مذكرا بالمسار الذي قطعه الحبابي سياسيا ومناضلا قبل أن يكون باحثا في مشروعه الفلسفي الذي تشبث فيه بالإنسان كعنصر جوهري في هذا الكون.
من جانبه، أوضح الأستاذ يوسف بن عدي الذي نسق أعمال ندوة الحبابي هذه، في كلمته الترحيبية، أن الهدف من إقامة هذه الندوة هو استعادة حلقة مفقودة من تاريخ الفكر الفلسفي المغربي والعربي، ومن تاريخ الثقافة الإسلامية دراسة وتأويلا نقدا وتقويما، وهي أيضا مناسبة ممتازة للفت الانتباه إلى فلسفة لطالما عانت ظلما فلسفيا وفكريا، والشاهد على ذلك انصراف جيل كامل على وجه الإجمال، إلى الانقطاع الفكري، ومحاورته محاورة فلسفية وعلمية، حتى صار كل ما كتبه الحبابي من شعر وفلسفة وفكر وفكرولوجيا وكأنها لعنة تطاردنا جميعا، بل تطارد كل الأفكار والمذاهب والمدارس، قبل أن يتساءل بن عدي بالقول: "هل يمكننا أن نشطب على الفكر من دون قراءته وتأويله؟"، موضحا بأن إيمان مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إيمان بلا حدود بالقوة والفعل، في بناء فكر عقلاني تنويري اختلافي بعيد عن الإقصاء أو التهميش تحت أية ذريعة أو سبب، وهو إيمان بالنقد الذاتي والمراجعة المستمرة للأفكار والتصورات، وهو ما يترجم اليوم في هذه الندوة حسب بن عدي.
اليوم الأول للندوة
الجلسة العلمية الأولى: الشخصانية في مشروع عزيز الحبابي
افتتحت أشغال الجلسة العلمية الأولى التي سيرها الدكتور إبراهيم مشروح، بمداخلة الباحثة التونسية الدكتورة فوزية ضيف الله، والتي كانت بعنوان "قراءة في مفهوم الشخصانية عند الحبابي: المنطلقات الفيلولوجية والغايات الفلسفية"، موضحة أن هذه الندوة هي عبارة عن إعادة اكتشاف لهذا الفيلسوف بناء على كون الظروف التي حفت بظهوره، والتي كانت غير صالحة لبروز فكره، لذلك فهذه المناسبة جيدة لإعطائه حقه ولو بعد رحيله، وهو بالتالي اعتراف بهذا الثراء في فلسفة الحبابي الذي نلمسه حين قراءة مؤلفات الحبابي، المتميزة بغزارة وتعدد الزوايا التي تطرق من خلالها إلى الفلسفة وإلى مفاهيم الشخصانية بشقيها الإسلامي والواقعي.
كما رصدت مداخلة الباحثة التونسية المنحى التأويلي في قراءة الحبابي لمفهوم الشخصانية بشقيها الإسلامي والواقعي من خلال تبين مجالات الطرافة والجدة ضمن هذه القراءة دون غض النظر عن اشتداده إلى نصوص سابقة عليه، عربية وغربية عمد إلى استثمارها وإعادة محاورتها من جهة البحث عن مصطلحات مميزة للفكر العربي الإسلامي المعاصر، لتبقى فلسفة الحبابي واحدة في كامل مراحلها حتى لو بدت متطورة على ثلاث مراحل، متمايزة ومترابطة على حد تعبير محمد وقيدي، وبالتالي فإن الشخصانية الواقعية الشخصانية الإسلامية موحدة ومتوفرة وواضحة ومؤكدة في أدبه وشعره وفلسفته وكذلك في تصوراته الغدية.
وركزت الباحثة في مداخلتها على عدة عناصر؛ أولها المنطلقات الفيلولوجية في بحث لحبابي عن مفهوم الشخص الكائن والشخصية، ثم التأسيس الفلسفي لمفهوم الشخصانية بشقيها الإسلامي والواقعي، وأخيرا الغايات الفلسفية لدى الحبابي.
وأوضحت الباحثة أن اهتمام الحبابي بمفهوم الشخصانية في مجاليها الإسلامي والواقعي، جعله يقدم لها دراسة شاملة، تناولت الجانب اللغوي الاشتقاقي، والجانب الاصطلاحي التوافقي، وتناولت جملة من النصوص القديمة منتمية إلى مجالات متعددة؛ كما استثمر الحبابي العديد من المرجعيات في إنشاء ملامح هذا المفهوم، ولعل ما يميز تناوله هو تشبعه بالقصد الفيلولوجي التأويلي والقصد الفلسفي العميق دون إغفال أو تغافل الجانب العربي الإسلامي.
المداخلة الثانية في الجلسة العلمية الأولى، قدمها الدكتور عبد الحي أزرقان بعنوان "الشخصانية من منظور إسلامي"، حيث ركز الباحث على كتاب الحبابي حول الشخصانية الإسلامية، إذ إنه ومنذ بداية هذا الكتاب، أكد الحبابي أنه سيتناول المفهوم وسيحدد المفهوم وتحديد شروط المفهوم الشخصانية في الثقافة الإسلامية داخل المحيط الإسلامي، وكذا تطوير المفهوم الذي جاء نتيجة اهتمامه بالتوجه الفلسفي وتبنيه والدفاع عنه، واعتباره فكرا فلسفيا وتوجها فلسفيا يتناسب والكائن الإنساني، خاصة وأنه يتناسب حسب الفكر السائد حين ذاك مع ما يبحث عنه المفكر من فكر يتناسب والممارسة في إطار الفلسفة العملية أو الفعلية والتي تتعامل مع الإنسان وتستطيع أن تحدد الإنسان، باعتباره كائنا ملموسا، وهو ما تعاطى معه الحبابي وتبناه في ذات الوقت باعتباره مغربيا وباعتباره عربيا ينتمي إلى العالم المتخلف أو السائر في طريق النمو، في محاولة حل إشكالية البحث عن طريق التخلص من هذا التخلف، وكذلك لمواجهة التيارات أو الدفاع عن الذات؛ أي محاولة تبيان تناسب الفكر العربي والإسلامي مع الفكر الجديد.
كما يوضح الباحث أنه من الواضح، أن الشخصانية الإسلامية في مشروع محمد عزيز الحبابي قد ظهرتْ في سياق تجاوز الفلسفة المثالية والفلسفة المادية ومقولاتهما المذهبية. وينجلي هذا التجاوز في تأويل وقراءة محمد عزيز الحبابي للشخصانية من منظور إسلامي فريدٍ وإعادة النظر في مفهوم الشخص ولواحقه (الذات، والوجه..) من حيثُ هو وسيلة لنقل الإنسان من كيان فردي تابع إلى كيان شخصي بناءٌ انطلاقا من ذاته ومحيطه.
المداخلة الثالثة، والتي ألقاها الأستاذ إبراهيم مجيديلة بعنوان "النزعة الإنسانية في فلسفة محمد عزيز الحبابي" كانت محاولة لمعالجة قضية في فلسفة عزيز الحبابي، وتتعلق بالنزعة الإنسانية التي أسسها الحبابي، والتي تعيد الاعتبار للإنسان وتعمل على إنقاذه من كل أشكال الاستلاب سواء كان وراثيا أو روحيا أو مثاليا، انطلاقا من إنجاز قراءة تأويلية لمسارها في الإسلام، وكذا من خلال الدخول في حوار نقدي مع الفلسفات الغربية لبناء تصور حول الإنسان.
وأوضح الباحث أن هناك تقديرا لشخصانية الحبابي التي تقدم ذاتها كتوجه فلسفي وأخلاقي جديد يروم صياغة نظرية فلسفية ونظرية نزعة إنسانية في الإسلام في أبعادها الوجودية والفلسفية والأخلاقية والاجتماعية وهذه الدعوة تنطلق مما ذكره الحبابي أن الإسلام هو دين شخصاني يتيح للكائن البشري أن يتشخصن ويؤنسن العالم من خلال الصلات التي تجمعه بين المعتقدات والأفعال، وبشكل عام يرى الباحث أن المقصود في هذا السياق الدفاع عن دعوى وجود نزعة إنسانية أو وجود رؤية فكرية متمركزة حول الإنسان في المشروع الفلسفي للحبابي.
كما ركزت مداخلة الباحث المغربي حول مشروع الفيلسوف الحبابي وبشكل خاص حول الشخصانية الإسلامية التي جعل منها سندا لتطوير نموذج للهوية الإسلامية المعاصرة في أفق كوني منفتح على الإنسانية بكل مفرداتها الأنطولوجية والمعرفية والقيمية، ولصياغة رؤية فكرية إسلامية تقوم على تدشين حوار بين صورة الإنسان (الكائن والشخص) في الإسلام وفي الأنثروبولوجيا الغربية المعاصرة، انطلاقا من مصادر الإسلام ثم من إسهامات رموز الفلسفة الشخصانية في الغرب.
الجلسة العلمية الثانية: الفيلسوف محمد عزيز الحبابي في القراءة والتأويل
استهل مداخلات الجلسة العلمية الثانية الدكتور محمد الشيخ بمداخلته المعنونة بـ "هاجس التأصيل في الفكر الفلسفي العربي المعاصر شخصانية الحبابي"، وفيها أوضح أن جهود الفلاسفة العرب أثمرت في القرن الماضي، وبداية هذا القرن على ما ينيف عن ستة عشر مذهبا فلسفيا من بينها على الخصوص الجوانية التي قال بها الفيلسوف المصري عثمان أمين والشخصانية المتوسطية للفيلسوف اللبناني حبشي والشخصانية الواقعية لمحمد عزيز الحبابي والوجودية لعبد الرحمن بدوي وغيرها، وكل هذه المذاهب ووجهت بنوع من الاستخفاف مثلما كان في القديم عندما استخف الفلاسفة العرب ببعضهم البعض كما حدث مع ابن رشد في كتاب تهافت التهافت حين يصف المذاهب الفلسفية التي قال بها ابن سينا والفارابي بأنهم من ضعاف الحكماء.
وكذلك نفس الأمر يحدث للفلاسفة العرب المعاصرين؛ فمنذ أن كتب أمين سكندر مقالته هل توجد حقا فلسفة عربية، بدأت النزعة التشكيكية في وجود مذاهب فلسفية عربية، وهذا الأمر اشترك فيه كل فلاسفة العرب كما يوضح الشيخ.
كما تحدث الشيخ عن هاجس التأصيل عند الفلاسفة العرب، حيث إن كل المذاهب الفلسفية العربية المعاصرة منذورة إلى هذا الهاجس، حيث يريد الكل أن يؤصل إما بالعقيدة أو يؤصل باللغة، وهي فلسفة يحاول أن يشتق أصحابها من رحم اللغة العربية أو العقيدة الإسلامية أو كذا بالتأصيل من التراث الصوفي كما عند عبد الرحمن بدوي في وجوديته، وبالتالي فإن كل هذه المذاهب يغزوها هاجس التأصيل والعودة إلى الأصل؛ وهذا الهاجس حسب الشيخ، لطالما استبد بالفلسفة العربية المعاصرة ـ التي ناهزت الخمس عشرة مدرسة ـ وهو انهمام أغلب فلاسفة العرب المعاصرين بمحاولة "تأصيل" توجهاتهم الفلسفية عن طريق الأوبة إلى التراث. وهكذا تجد رحمانية زكي الدين الأرسوزي ـ وهي الأقدم بين المذاهب الفلسفية العربية تعود إلى حضن اللغة العربية، لكي تؤصل لنفسها، وقس على ذلك "كيانية" شارل مالك و"وجودية" بدوي و"جوانية" عثمان أمين، وشخصانية محمد عزيز الحبابي.
المداخلة الثانية، قدمها الدكتور فؤاد بن أحمد بعنوان "الحبابي وتاريخ الفلسفة"، وفيها أوضح أنه لم يكن التأريخ للفلسفة عموما وللفلسفة الإسلامية خصوصا واحدا من انشغالات الحبابي الأساسية، لكننا نفترض أنه صار كذلك عرضا وصدفة تفاعل مع مجريات الأنشطة الجامعية والأكاديمية من حوله. وبالفعل، فقد سجل الحبابي حضوره في المناسبات التي شهدت اهتماما بأعلام الفلسفة الإسلامية منذ الفارابي إلى ابن خلدون مرورا بابن رشد والغزالي ناهيك عن الفلسفة الغربية مجسدة في كانط وديكارت، وباستثناء كتابه المدخلي عن ابن خلدون، فإن كل ما كتبه في الفلسفة الإسلامية عبارة عن ورقات في ندوات وليست أبحاثا ابتداء؛ بمعنى أن الندوات التي أقيمت هنا وهناك كانت وراء ورقات الحبابي في الفارابي وابن طفيل والغزالي، وإلى ذلك فقد شارك في نقاشات فكرية سادت الجامعة المغربية في زمن ما، فقد دخل في نقاشات مع الجابري وأمليل وازنيبر والشهابي والمنوني والعلوي وغيرهم بخصوص مسائل تتصل بجهة من الجهات بقضايا تاريخ الفلسفة عموما وتاريخ الفلسفة الإسلامية خاصة.
كما نظر الباحث في مداخلته في موقف الفيلسوف المغربي المرحوم محمد عزيز الحبابي من التأريخ للفلسفة بوصفه تقليدا علميا معروفا؛ وذلك من خلال النظر في حيثيات «موقف الحساسية»- كما أسماه- من هذا التقليد. معالجا طبيعة قراءة الحبابي للمنجزات الفلاسفة عموما (ديكارت وغيره) والمسلمين (الفارابي والغزالي وابن طفيل وآخرين)؛ وذلك من خلال منهج أطلق عليه منهج «مداعبة النصوص ومحاورتها انطلاقا من قضايا الإنسان الراهن». متتبعا النتائج التي تؤدي إليها هذه المقاربة والآفاق التي تفتحها من أجل تأسيس فلسفة الحبابي الخاصة التي تنظر للشخص ولكائن الغد.
أما المداخلة الثالثة، والتي ألقاها الدكتور لحسن تفروت بعنوان "فكر الحبابي بلسانين أو الكتابة بيدين" فتبين من خلالها أنه ليس المقصود بأن فكر الحبابي بلسانين أو الكتابة بيدين، أنه كتب بلغتين العربية والفرنسية، حيث إن تعبيره بالكتابة باللغة العربية والفرنسية توضع على درجة واحدة، فقد كتب أغلب كتاباته بالفرنسية وترجمها هو نفسه للعربية وقام بنحت ونسج مجموعة من المفاهيم الجديدة، ولكن المقصود بلساني الحبابي هو اكتشافه للغة جديدة هي اللغة الإفريقية السائدة اليوم في التشاد وفي مالي، ففي تحديده لهذه الشخصانية وربما الأمر سيبدو مختلفا عما ألفناه، سيتحدث في مقال منفرد ومتميز عن الشخصانية الإفريقية، وقد اعتمد الحبابي في تحليله لهذا المفهوم على "المونتو" الذي يعني باللغة الإفريقية الشخص، وقد اعتدنا على أن الحبابي يصنف ضمن الشخصانية الإسلامية أو ضمن الفلسفة الغدية وهذا واقع، أو ضمن ما يسمى بالشخصانية الواقعية.
ولكننا اكتشفنا حسب الباحث تفروت، في هذه المقالة حول الشخصانية الإفريقية أن هذه الشخصانية تتحدث خارج الفلسفة الغربية كما يصرح بذلك الحبابي نفسه، وتتحدث خارج الثقافة الإسلامية، علما أن الثقافة الإسلامية التي يتحدث عنها الحبابي تصبح جزءا من مكون الشخصانية الإفريقية في شمال إفريقيا، حيث يحاول إيجاد نوع من التكافؤ الدلالي بين كلمة المونتو وكلمة الشخص ولكنه يركز أكثر على كلمة المونتو.
ويضيف الباحث، معلوم أن الحبابي ألف بلغة أخرى، لكن بعد مدة قام بترجمة أعماله. وهذه تجربة فريدة وقليلة، إنها عملية الكتابة المزدوجة، الكتابة بيدين. ربما العملية تحفظ الكاتب من خيانة الترجمة، لكن السؤال العالق هو الدوافع التي جعلت الحبابي يشرف على نقل فكره إلى العربية. فماذا خلقت هذه التجربة على مستوى عملية التلقي، تلقي الحبابي في المجال التداولي العربي عامة والمغربي خاصة ؟
الجلسة العلمية الثالثة: مشروع محمد عزيز الحبابي في الحريات والتحرر
استهلت الجلسة الثالثة بمداخلة الباحث الألماني الدكتور د. كينر ماركوس، والتي جاءت بعنوان
Le double dialogue du « personnalisme musulman » : entre chrétiens et musulmans, entre théologiens et philosophes
حيث تناول فيها مفهوم الشخص في علاقته بالحوار وفي التواصل البين ذاتي، كذلك ركز على مفهوم الحوار وبحث الحوار من جهة كونه مقارنة بين الأنساق وبين الأشخاص، وتبين لديه أن الحبابي اهتم بمفهوم الشخص ضمن سياق إسلامي كما يورد المتكلمة، حيث إن الشخص ورغم هذا السياق الإسلامي الذي بحث فيه الحبابي يظل مفهوما فلسفيا ولا يتحول إلى مفهوم ثيولوجي، وهذه الفكرة تقترن بالقسم الثاني الذي تحدث فيه عن ضرورة التمييز بين الثيولوجيا والفلسفة، حيث إن لكل مجاله الخاص كما لا يمكن الخلط بين المجال الفلسفي والجانب الثيولوجي
كما بحث الدكتور كينر في علاقة الحرية بالشهادة، وأورد أن الحرية هي شرط لتحقق الشهادة وهذه الحرية هي شرط لتواجد الحل بين العلاقة بين الفلسفة والثيولوجية، كما تبين له أن مفهوم الشخص عند الحبابي هو مفهوم تتوسطه الشهادة من جهة والحرية من جهة ثانية، والشخص من جهة تكفله والتزامه بالحرية سيتكفل بأخذ القرار نحو الإيمان والدين، وهنا تحدث عن حرية الدين رغم أن الحبابي لا يتحدث صراحة عن الحرية الدينية، لكن حديثه عن الحرية في مجالها الشخصاني يوصلنا مباشرة إلى الحديث، وإن كان ذلك بطريقة غير مفصح عنها عن الحرية الدينية، أي حرية المعتقد، ولكنه يشدد على أهمية هذه الحرية، حيث إنها هي من ستخول للشخص حرية الاختيار في الإيمان أو عدمه.
كما تطرق الباحث الألماني إلى حوار الحبابي للغرب المسيحي في استناده إلى أدلته وحججه من السنة والقرآن بامتياز. إذ في هذا الإطار، طور أدلته وجدله وفق دعاوى التيولوجيا الإسلامية. وهذا هو الذي منح القدرة على تعزيز الحوار داخل المجتمع المسلم. فهذا الأخير هو الذي سوف يعزز أو يحتاجه الحوار بين الأديان.
المداخلة الثانية، قدمها الدكتور إبراهيم مشروح بعنوان "من الشخصانية إلى المؤانسة"، حيث انطلق من نص لطه عبد الرحمن يقول فيه: "انظر إلى المتفلسفة العرب المعاصرين يؤولون إذا أول غيرهم ويفككون إذا فكك غيرهم سواء أصاب في ذلك أم أخطأ، وقد كانوا من زمن غير بعيد طوباويين أو وجوديين أو شخصانيين أو ماديين جدليين مثلهم سواء بسواء كما لو أن أرض الفكر لم تكن واسعة فيفسحوا فيها". وعلى محك هذا النص، يتساءل الباحث مشروح، هل كان الحبابي فيلسوفا بمعنى الكلمة وهل يخرج من هذه الوصمة التي وصمه بها طه عبد الرحمن، وغيرهم ممن تعاطوا للنظر الفلسفي؟ ليخرجوا من إشكالية أصالة الفلسفة الإسلامية إلى إشكالية الانخراط في الفكر الفلسفي الكوني، وإن شابتهم أعطاب أو تعرضوا لكثير من الغبش في رؤيتهم الفلسفية؛ لأن الأمور لا تتوضح للإنسان إلا عندما يخرج من الكهف.
كما تطرق الباحث في مداخلته لعدة عناصر من بينها "تمجيد الروح الفلسفية للحبابي" و"الشخص والأنثروبولوجيا الإسلامية" ثم "من الشخصانية إلى المؤانسة"، محاولا النظر في أسس ومنطلقات الفلسفة الشخصانية لمحمد عزيز الحبابي بقصد الاستمداد منها في أفق مجاوزة فلسفية، حيث التبشير بميلاد فلسفة متواضعة وسمت بــ ’’فلسفة المؤانسة ‘‘ وذلك بغية الاستفادة من التوظيف الفلسفي للمرجعية الإسلامية في ما اجترحه الحبابي من سبيل إلى ما أطلق عليه الشخصانية الإسلامية.
اليوم الثاني من الندوة:
الجلسة العلمية الرابعة: من الشخصانية إلى الغدية
تميز اليوم الثاني من ندوة" محمد عزيز الحبابي الفيلسوف الإنسان" التي نظمت في صالون جدل للفكر والثقافة التابع لمؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، بسجال فكري حر حول فكر الحبابي، واعتبر بعض المتداخلين أن الشخصانية الإسلامية هي منعطف أساسي في فكر الفيلسوف الحبابي، الذي لم يقتصر فقط على مفهوم الحرية التي نظر إليها بمنظور خاص، بل أسس للبنات التفكير الغدي، باعتباره نسقا يعبر عن الأمل وطموحات الإنسان في بعده الكوني، وبذلك يكون الحبابي من الأعلام العربية التي أعلت من شأن المشترك الإنساني، وفطنت لأهميته منذ عقود مرت. من جهة أخرى، انتقد بعض الباحثين في ورقاتهم خجل الحبابي في اتخاذ موقف تجاه الفلسفة، إذ تارة ما يلبس جلباب الفيلسوف لينزعه تارة أخرى ويستبدله بجلباب الفقيه.
في مداخلته المعنونة بـ "منزل الجدل الفلسفي بين الشخصانية والغدية" طرح الدكتور محمد مزوز، باحث وأكاديمي مغربي و أستاذ الفلسفة بجامعة محمد الخامس، جوهر النسق الفكري للمفكر محمد عزيز الحبابي، انطلاقاً من مفهوم الحرية عند برغسون، واعتبرها شعورا باطنيا بالديمومة، والذي تمكن الحبابي من إثبات بأن الحرية هي مجموعة من الحريات ومن خلال تصور العلاقة بين الكائن والشخص، إذ لاحظ الحبابي بأن مفهوم الكائن ظل تصوره ساكنا منذ الفلسفة اليونانية مرورا بالعصور الوسطى غلى أن جاء هيجل، بيد أن الفلاسفة الوجوديين رفضوا التصور الهيجلي عن لكائن بكونه تجريدا ميتافيزيقيا. من خلال مجادلة برغسون وسارتر تمكن الحبابي من التأكيد على أن الكائن البشري ليس مجرد ذاتية ولا شعورا صرفاـ بل لأنه شعور ب..وفي...ومع إنه ملتحم طبيعيا بذوات أخرى، فالحياة من رسم مسار مركز للوضع البشري، الذي يبدأ من "الكائن حين يصبح ذاتا شاعرة وموضوعا لشعوره، ثم يصل إلى درجة الوعي (أي الشعور بالشعور). علما أن الكائن الواعي، كائن يتعرف على الطبيعة، ويعمل على التصرف فيها؛ هذا الكائن هو الشخصية". وأن الشخصية هي "اتجاه متوتر نحو الشخص، وليس الشخص إلا صيرورة ترمي إلى الكمال في تصاعدها نحو الإنسان"، وهكذا تتضح معالم هذه الطريق: من الكائن إلى الشخص وصولا إلى الإنسان.
انطلق الباحث الدكتور رشيد بوطيب ، في مداخلته الثانية المعنونة بـ "في نقد الحاجة إلى الشخصانية" من درس الأدب العربي والعلوم الإسلامية في جامعة محمد الخامس في الرباط، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة فرانكفورت، من منطلق أن الفيلسوف لا يتفلسف من خارج العالم ، ليرسم معالم فكرته التي تجلت في كون الحبابي حرر الأنا من انفصامه بين السطحي والعميق.
وقال بوطيب إنه على الرغم من أن الحكم الذي أطلقه ريكور كان على الشخصانية قاسيا، وكان في الآن نفسه سطحيا حين كتب يقول: "ماتت الشخصانية، يظل الشخص"، وذلك لثلاثة أسباب. طبعا لقد اختفى التيار الشخصاني من الخطاب الفكري الغربي، لكن هل يعني ذلك أن الأسئلة التي شغلت الشخصانية وتلك الأجوبة، ولو الشذرية التي قدمتها، قد اختفت؟ طبعا لا؛ فسؤال الحرية وسؤال الآخر والعيش المشترك والسؤال الديني، كلها أسئلة مازالت تشغل الفلسفة والعلوم الإنسانية ليس في الغرب فقط ولكن في السياق الإسلامي أيضا.
واعتبر بوطيب أن الشخصانية الإسلامية هي منعطف أساسي في فكر الفيلسوف الحبابي، الذي لم يقتصر فقط على مفهوم الحرية التي نظر إليها بمنظور خاص، بل أسس للبنات التفكير الغدي، باعتباره نسقا يعبر عن الأمل وطموحات الإنسان في بعده الكوني، وبذلك يكون الحبابي من الأعلام العربية التي أعلت من شأن المشترك الإنساني وفطنت لأهميته منذ عقود مرت.
وأضاف بوطيب أن الشخصانية اليوم عنصر مهم وراهني بعد ما عرفه العالم العربي بما سمي "بالربيع العربي"، إذ إن راهنية الشخصانية المرتبطة بمفهوم الشهادة كعنصر راهني بامتياز، وأن مفهوم التحرر هو أكثر أهمية من الحرية.
وقال الدكتور مصطفى عارف، في مداخلته التي حملت عنوان "الكتابة الضدية عند محمد عزيز الحبابي: هاجس النهضة والهوية الإسلامية"، إن محمد عزيز الحبابي استطاع أن يؤسس لمشروع فكري فلسفي ينصب على مفهوم الشخص والشخصية والشخصانية، هذا دون أن نهمل الجانب الأدبي والروائي في فكره، غير أن مواقفه ترددت بين جلباب الفقيه تارة، وجلباب الفيلسوف تارة أخرى، وبذلك لا يختلف الحبابي على حد قول الباحث عارف عن النزعة الفلسفية الغربية ذات النزوع المسيحي.
وأضاف عارف أن الحبابي في أدلته عن الشخصية يبني طرحه على أمثلة دينية، من بينها مثلا مسألة الشهادة، وهو الأمر الذي يقدم علاقة مقدم الشهادة بالله، لكنها لا تسمو لتكون مقاربة فكرية وفلسفية شاملة لمفهوم الشخصية، ذلك ان القرآن الكريم لا يستهدف الشخص إلا في ظل لجماعة.