ندوة: "في إعادة قراءة السيرة''
فئة: أنشطة سابقة
انتظمت بمقر مؤمنون بلا حدود وجمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية، بتونس العاصمة، الأربعاء السادس عشر من شهر نوفمبر الجاري، أمسية فكريّة حواريّة تحت عنوان ''في إعادة قراءة السيرة'' اشتملت على ثلاث مداخلات برئاسة دة. حليمة ونادة، وحاضر فيها كل من د. يوسف الصدّيق بمداخلة بعنوان ''استحالة السيرة'' تلته دة. ناجية الوريمي بوعجيلة بمداخلة بعنوان "قراءة السيرة وغياب المنهج من خلال "أيام محمّد الأخيرة" لهالة الوردي"، ثم قدّم د. نادر الحمّامي مداخلة بعنوان ''البعد الرمزي في التصنيف في السيرة''.
افتتح اللقاء د. نادر الحمامي بكلمة ترحيبية بالحضور من متدخلين وجمهور، وبيّن بأنه ينتظم بالشراكة والتعاون بين مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" ممثلة في جمعية الدراسات الفكرية والاجتماعية و"لقاءات الأربعاء" التي تشرف عليها الأستاذة حليمة ونادة في إطار المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، ونزّل الندوة في إطارها بالإشارة إلى محاورها.
وانتقلت الكلمة إلى دة. حليمة ونادة التي ترأست الجلسة، فقدّمت الندوة وألمحت إلى فكرتها الأساسية، من خلال محاولة الجمع بين آراء حول ما دُوّن عن السيرة النبوية، والمساهمة في الحفر فيها بما يمكن أن ينير رؤية القارئ باتجاه حيّز مهم من التاريخ الإسلامي الذي يكتسب حضوره في واقعنا الحديث والمعاصر ولازال يؤثر فيه بقوة.
وتناول الكلمة، من ثم؛ د. يوسف الصدّيق الذي عبّر في البداية عن الحيرة المتواصلة التي تنتابه كلّما فكّر في مداخل التراث الإسلامي ومن بينها السيرة؛ ذلك أن المفاهيم والآراء والأفكار التي اعتمد عليها في قراءاته منذ زمن طويل لم تجد لها بعدُ موطنا في العربية، وبقيت في اللغات الأجنبية. وتناول بعد ذلك الكتاب الذي مثّل بالنسبة إليه دافعا للحديث عن السيرة الآن، وهو كتاب (Les Derniers Jours de Muhammad) ''أيام محمد الأخيرة'' لهالة الوردي، وانطلاقا من ذلك بدأ بالإشارة إلى فلسفة آلان باديو (Alain Badiou) صاحب كتاب (La Philosophie et l'Événement)، وبيّن أنه من الكتب الأساسية التي وجب الاطلاع عليها، لأن صاحبه يعتقد ألاّ أهميّة على الإطلاق بين ما نسميه بالحدث بالمعنى التاريخي للكلمة أو بالمعنى الآني لها وبين آليات تشكّله (تأصّله في الواقع)، وانتهى من ذلك إلى اعتبار أن الحدث لا يُتعرّف إلا بما ليس هو، أما الواقع فهو عبارة عن نتيجة، وحاول بعد ذلك تطبيق تلك الفكرة على قراءة السيرة، فبيّن أن الأمر لا يختلف في حقيقته عما ذهب إليه "باديو" رغم أنه أعمق من ذلك بكثير؛ ذلك أن السيرة المحمدية توفر لنا أمارات وإشارات قد صيغت بعد قرون من وفاة محمد، وكلّها كانت تأتي من ضغوط سياسية واضحة متأتية من الصراعات السياسية والاجتماعية والتاريخية، وقال بأنه منذ ''طبقات بن سعد'' المؤلّف في السيرة إلى مؤلّفات: طه حسين وحسين هيكل حول السيرة، نحن نعيش على آراء لا تمت للرسول بصلة، ما يجعلنا اليوم أمام موقفين إما موقف "معروف الرصافي" الذي رفضته كل العقول الأرثدوكسية الإسلامية، أو موقف من يأخذ بالشكل الإيماني الشعبي البسيط.
انطلاقا من ذلك التمزق في فهم السّيرة وفي التعامل بها ومن خلالها، أشار إلى ما توصّل إليه بعض المستشرقين من قول بأن هناك ''محمّدون كثيرون لا محمدا واحدا'' وقد اعتمدوا في ذلك على أثر/ رسم حائطي قديم جدا فيه مجموعة أشخاص واقفين متشابهي الهيئة واللباس ولكن وجوههم من دون قسمات، وفي الرسم توجد شخصية أخرى تشبه الملاك كأنّها جبريل يخاطب مجموعة من البشر، وهذا قد قيل منذ زمن النبوّة من طرف مؤرّخ معاصر للرسول واسمه ثيوفراست (Théophraste) الذي أكّد أن محمدا لم يكن وحده وإنما كان من ضمن مجموعة، وأكد أنه، رغم ضعف ثقافته ووسطه البدائي، كان يعرف معارف عديدة عن الكون (...) واستخلص من ذلك أن الفرضيّات لا حصر لها بشأن إعادة قراءة السيرة، فإذا ما أردنا اتباع النهج الإيماني فيمكن أن نعتقد في أنه رسول موحى إليه وجاءه جبريل في غار حراء... (إلى نهاية القصّة)، ولكن علينا أن نقتنع أن ذلك ليس له علاقة أبدا بالتاريخ والوجود بأي حال، وإذا لم ننظر بمقتضى الإيمان فهناك الفرضية الأخرى التي تدّعي بأنه؛ ليس برسول، وليس بنبي، ولا يمت إلى ما كانت اليهودية والمسيحية تعتقد بأنه من صنف الرسالة والنبوّة، وأنه شخص مصاب بمرض الصرع كما تحدّث عن ذلك ثيوفراست. وقال إن إعادة قراءة الكتابات القديمة والحديثة في السيرة تبيّن بأن هناك إرادة في إخفاء إما التاريخ ''العلماني'' الخالي من علامات الرسالة ونبوة الرسول، وإما إخفاء مقامات النبوّة ذات الطابع الديني الواضح، وقد وصف ذلك بقوله: '' لقد أقيم جدار/حائط بين ما جاءنا عن النبي وما جاءنا النبي به''.
ثم طرحت الكلمة للنقاش، فتم الاهتمام بأهم ما ورد في المداخلة، والإشارة إلى مفهوم الاستحالة في علاقة بما ذكر الصدّيق من عوائق تكمن خاصة في ذلك الحاجز بين تاريخية الرسالة المحمدية وأثرها أو تأثيرها العقائدي، وتمت الإشارة في سياق ذلك إلى مقارنات عديدة بين ما قدّمه المستشرقون وما أدلى به العرب في المسألة، ومن ذلك ثلاثية "هشام جعيط" حول السيرة، حيث أعلن جعيط أن المصدر الأول والوحيد والموثوق لكتابة السيرة هو النص القرآني، وما يمكن أن يطرحه ذلك من إشكاليات في إعادة كتابة السيرة المحمدية، من قبيل التساؤل هل كان الاهتمام بالسيرة أوّلا ووفق ذلك كان ترتيب القرآن تاريخيا، أم إن الترتيب التاريخي للقرآن يمكن أن يوصلنا إلى كتابة السيرة؟ كما اهتم النقاش بمفاهيم من التاريخ أحرجت كتّاب السيرة فأخفوها أو همشوها وأغفلوها، مما يحيل في النهاية على عدم موثوقية السّيرة باعتبارها معطى مكتملا عن الديني أوّلا وعن التاريخي ثانيا.
ثم استؤنفت الجلسة بعد استراحة قصيرة بمداخلة دة. ناجية الوريمي، التي قدّمت لها بالقول: إنها عمل منهجي بالأساس وينطلق من التساؤل ''كيف نقرأ؟''، وقالت أنها تهتم، كما يوحي بذلك العنوان، بكتاب هالة وردي، الذي أثار ضجّة حتى أنه، في السنيغال مثلا، تم منعه، وتعرّضت الكاتبة إلى كثير من المضايقات بسبب الكتاب، وقالت: ''إن الكتاب مغامرة وهو عودة إلى مسألة ما قبل المناهج في القراءة''، ورأت بأن الأساسي في قراءة السيرة أو في إعادة إنتاجها هو أن نقدّم قراءات ذات أسس منتجة بغض النظر عن طبيعة التناول أكان إيمانيا أو علمانيا. وأشارت إلى الثورة التي تحققت في عالم مناهج القراءة الحديث، ووصفت ذلك بالانفجار المعرفي، وتقاطع الاختصاصات على أساس التوصل إلى تفكيك الخطاب وإعادة بناء النصوص. وأكّدت على أن الخطاب عندما ينتج حقيقة فإنها تظلّ حقيقة ذلك الخطاب نفسه، بمعنى أنه ربما لا تكون لها علاقة بالواقع بالشكل الذي يخاتل فيه الخطاب ويدّعي أنه يقدّم حقيقة. وأشارت بعد ذلك إلى افتقار كتاب الوردي إلى المنهج، وقالت بأنه مجرّد تجميع روايات من مصادر مختلفة والتعسّف عليها من أجل خلق تصوّر معيّن موجود في ذهن الكاتبة مسبقا وتريد أن تبرهن عليه.
وقد قسّمت مداخلتها إلى ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى سمّتها ''في ضرورة المنهج: فعل القراءة والتأويل''، المرحلة الثانية عنونتها بـ ''غياب المنهج والوقوع في تناقضات داخلية''، أما المرحلة الثالثة فقد وسمتها بـ ''غياب المنهج وتشظية النصوص''. وقالت عن هذه المراحل التي اعتبرت مداخل نقدية لقراءة الكتاب، بأنها تصوّرتها بناء على اطلاعها على الكتاب الذي خيّب ظنّها به، رغم غوصه في المدوّنات القديمة واشتغاله عليها، وعابت على الكاتبة إغفالها لكل ما تم تأليفه حديثا في إعادة قراءة السيرة والتراث الإسلامي عموما، فأوحت وكأنها دائما هي أوّل من كتب فيه، ورجّحت أن يعود ذلك إلى سبب عدم الاطلاع بحكم اختلاف الاختصاص، وإلى اعتمادها معيارا خاصّا في التّعامل مع كل ما كتب في هذا الموضوع ولم تستثن من ذلك كتابات المستشرقين. وختمت المداخلة بالإشارة إلى أخطاء كبيرة في الترجمة، من ذلك الوقوع في سوء فهم للنصوص وأسماء الأعلام.
وأحيلت الكلمة بعد ذلك إلى د. نادر الحمامي، فانطلق من عبارة ذكرتها الأستاذة ناجية الوريمي في مداخلتها حول كتاب هالة وردي ''هذا موجود وهذا موجود''، وقد نبّه إلى ما تعنيه هذه العبارة من أن كتب السيرة احتوت الشيء ونقيضه، وبيّن أن ذلك يحيل على أسئلة جوهرية كثيرة، ومن بينها التساؤل عن طبيعة مصنّفات السيرة، وإلى أي جنس من الكتابة تنتمي، والحال أنها عوملت في مقاربات عديدة على أنها مصدر تاريخي، وتساءل من ثم هل تُعتبر كتب السيرة،في النهاية، جنسا من الكتابة التاريخية؟ وبيّن أن مقاربات السيرة متنوعة ومتفرّعة ومختلفة سواء كانت إيمانية أو غير إيمانية، أو كانت تاريخية لا يهمها سوى البحث في الوقائع المجرّدة في التاريخ، أو كانت تاريخانية مغرقة في البعد التاريخي، أو أدبية أو نفسية إلخ... فإنّها تَعتبر أن في السيرة ما هو واقعي وينتمي إلى مجال التاريخ، وقال: إنها كلّها توجد في إطار ما يمكن أن نسميه ''صراع وضعانيات''. وتساءل انطلاقا من ذلك عن أوان التجاوز للسيرة باعتبارها تاريخا صحيحا يمكن البناء عليه، معتبرا أن هذا الاعتبار الذي نوليه للسيرة باعتبارها تاريخا، قد تجاوزته المدارس الاستشراقية التي ذهبت إلى أن النص الذي يمكن أن نعتبره تاريخيا لا يمكن في نهاية المطاف إلا أن يكون نصا لغويا؛ أي أنه يستعمل العبارة والجملة والتركيب والتقديم والتأخير وغير ذلك مما نعلمه من تقنيات السّرد، وقدّم مثالا على ذلك مما قاله عبد الله العروي في كتابه ''مفهوم التاريخ''، وانتهى إلى تأكيد اختلاف الواقع عن الحقيقة، معتبرا أن الواقع المعيش يمكن أن يتحوّل إلى أسطورة، وأن الأسطورة يمكن أن تتقنّع فيه سواء كانت تاريخ شخصيّة فذّة أم تاريخ مدينة أم تاريخ أمّة... فقد تتسرب الأسطورة إلى التاريخ من أجل أسطرة الواقع، وبالتالي جعل التاريخ أكثر فاعلية في وعي الناس وسلوكهم. فليس الواقع هو ما يفعل في وعي الناس وإنّما الصّور، واعتبر أن ما يخلد في الذاكرة الجماعية ليس الواقع على حقيقته، أي كما هو، وإنما الأسطورة والصور الخارقة، التي تجعل نص السيرة، في النهاية، خاضعا لرغبة براغماتية تعمل على تحويله بشكل متواصل إلى مقتضى الصورة التي يمكن أن تجعل منه نصّا فاعلا في الناس ومؤثّرا في توجّهاتهم وفي أفعالهم مهما اختلف الزمان والمكان، وكان الابتعاد عن الحدث الواقعي الذي اندرج في التاريخ وتم تلوينه بكل الفترات التاريخية التي مرّ بها انطلاقا من لحظة التأسيس الأولى إلى اليوم؛ لذلك تتطلب إعادة قراءة السير اعتبارها نصا رمزيّا بالأساس، واعتبر أن فهم مستوى ترميزها في علاقتها بالواقع القديم والجديد على السواء يجب أن يكون هو الأساس في كل عملية إعادة قراءة أو إعادة كتابة لها.
واختتمت الندوة بمداخلات نقاش سلّطت الضوء على محتوى كتاب هالة الوردي ''أيام محمد الأخيرة'' وناقشت أهم ما تم عرضه من طرف المحاضرين، بالإضافة إلى الإشارة إلى طبيعة تقسيم المهتمين بالسيرة من زاوية الرؤى الخاصة بهم إلى علمانيين ومتديّنين، وطرحت إمكانيات التجاوز التي تقدّمها القراءات الحديثة للسيرة لما تم تأليفه منذ القديم، واعتبار أن كل فترة من فترات التاريخ تعكس هواجسها وتطلّعاتها على النص الذي تعيد كتابته، والسيرة لا يمكن أن تخرج عن ذلك.