قراءة في كتاب "الإسلام والحداثة: مقاربات في الدين والسياسة"
فئة: أنشطة سابقة
نظمت مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث ورشة علمية حول كتاب" الإسلام والحداثة: مقاربات في الدين والسياسة" بحضور مؤلفه مراد زوين. جامعة الحسن الثاني، وذلك يوم السبت 17 أكتوبر ابتداء من الساعة الرابعة بصالون جدل الثقافي بمقر المؤسسة بالرابط.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب يعد واحدا من المؤلفات العديدة التي نشرتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وقد كان مؤلفه، مراد زوين، أول المتدخلين في الندوة، حيث بين أنه يمكن اعتبار كتاب " الإسلام والحداثة: مقاربات في الدين والسياسة"، مسحا لمسألة العلاقة بين الدين والدولة في الفكر العربي المعاصر، على امتداد أكثر من قرن ونصف، منذ أواسط القرن 19م إلى بداية القرن الحالي، منذ الفكر الإصلاحي النهضوي إلى فكر أزمة الدولة الوطنية.
وذكر المؤلف أن اهتمامه لم يكن منصبا على تأريخ العلاقة بين مجالين فكريين ( الديني والسياسي)، بل كان همه الوقوف على جوهر ومنطق التفكير في هذه العلاقة لدى مفكرين يختلفون في المرجعيات والمنطلقات النظرية، وبالتالي محاولة تجاوز ثنائية الفصل والوصل، بالبحث عن دور الدين ودور الدولة في المجتمع وفي مخيال الأفراد والجماعات.
ولتسهيل مهمته، قسم مراد زوين الكتاب إلى ثلاثة فصول : يتعلق الأول بإشكالية علاقة الدين بالدولة لدى الإصلاحيين النهضويين، عالج فيه علاقة الديني بالسياسي من خلال محطتين بارزتين؛ تخص الأولى جدال محمد عبده وفرح أنطون، والثانية تخص كتاب "الإسلام وأصول الحكم " لعلي عبد الرازق.
و أشار إلى أنه اعتمد في هذا الجزء على النصوص، واستخراج موقف كل نموذج من علاقة الدين بالدولة، للوصول إلى استخراج جوهر ومنطق التفكير في علاقة الدين بالدولة، بمعنى هل التفكير يقف عند حدود مسألة العلاقة بين الدين والدولة أم يتجاوزهما نحو مسألة أعمق؟ وماهي آليات ومرجعيات تفكير كل نموذج ؟
وفي الفصل الثاني المتعلق بإشكالية العلاقة بين الدين والدولة عند المفكرين المعاصرين، تعامل فيه مع أطروحات نظرية تختلف في الموقف والنظرة إلى مسألة علاقة الدين بالدولة عامة، وإلى العلمانية خاصة، وقد صنف هذه الأطروحات إلى ثلاث :
تتعلق الأولى بالطرح المدافع عن الفصل بين الدين والدولة، الذي يرى أن العلمانية شرط لتحقيق الحداثة السياسية وبوابة التقدم الاجتماعي والاقتصادي، وتناول بالدرس أحد المناصرين لهذا الطرح: محمد أركون .
وتتعلق الثانية بالموقف المناهض للفصل بين الدين والدولة، معتبرا أن العلمانية كمفهوم دخيلة على الثقافة والتراث العربيين بكون الإسلام لا حاجة له للفصل؛ لأنه دين ودنيا، وهو نموذج محمد عابد الجابري.
أما الأطروحة الثالثة، فإنها تتعلق بالطرح التوفيقي الذي يتبنى التوفيق بين الدين والدولة من جهة، وبين الحداثة والتقليد والأصالة والمعاصرة من جهة ثانية، مبنية على أسس علمانية جديدة تنبثق من شروط وإشكاليات الواقع العربي، واعتمد كنموذج برهان غليون .
أما في الفصل الثالث، فقد انصب اهتمام الكاتب، كما ذكر خلال عرضه، على البعد النظري لمفهوم الاختلاف في علاقته بالهوية، من خلال مفاهيم العلمانية، والغيرية، والدولة المدنية في الفكر العربي المعاصر.
فإذا كان قد قام بعملية تحليل المواقف المختلفة لمفهوم العلمانية في الفصلين السالفين، ففي هذا الفصل حاول استخراج تعريف للعلمانية في بعد شمولي كتصور للعالم والحياة الاجتماعية في ارتباط بعملية تحديث بنيات المجتمع العربي؛ أي كمفهوم إجرائي لا يقتصر على البعد السياسي فحسب، بل كذلك الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .
تناول الكلمة بعد ذلك، الدكتور عز الدين العلام أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني، والذي انطلق من التساؤل: كيف تصوّر المفكّرون العرب العلاقة بين الدين والسياسة؟ موضحا أنه سؤال لا يكتسي أهمّيته فقط فيما أثاره سابقا من مناقشات حادّة، بل وأيضا فيما يعيشه العالم العربي اليوم، ناهيك عن مساءلته مباشرة لطبيعة الدولة والنّظام السياسي السائد (والمُرتجى).
جوابا عن هذا السؤال، قال العلام إن مراد زوين استعرض آراء ثلاثة مفكّرين نهضويين؛ الأوّل سعى للتّجديد والإصلاح من داخل التراث العربي-الإسلامي دون أن يتنكّر للعقل، وهو محمد عبده. والثاني فكّر في الموضوع من خارج الدائرة التراثية داعيا لتبني الفكر الليبرالي والفصل بين المجالين الديني والسياسي، وهو فرح أنطون. أمّا الثالث، وهو يشكّل فعلا استثناء زمانه، فقد بيّن انتفاء العلاقة بين الدين والسياسة من داخل التراث الفكري والوقائع التاريخية التي عرفتها التجربة العربية- الإسلامية، وهو علي عبد الرازق.
وفي محور ثان، أشار العلام، إلى أن المؤلف استعرض تصوّرات ثلاثة مفكّرين طبعوا الساحة الثقافية العربية. الأوّل دعا إلى تصوّر جديد للعلمانية، وتحييد الدين مستعينا بقراءة نقدية للعقل العربي الإسلامي، وهو محمد أركون. والثاني نفى أصلا وجود مثل هذا المشكل دون أن يتنكّر لركائز الفكر الحديث مناديا بضرورة تبيئة المفاهيم الحديثة داخل التربة العربية- الإسلامية، وهو محمد عابد الجابري. أمّا الثالث، فقد حاول التوفيق بين اتّجاهين متقابلين بتأكيده على أنّ "الديمقراطية" هي السبيل الوحيد لحل هذا النّزاع، ويتعلّق الأمر ببرهان غليون.
وفي المحور الأخير جمع المؤلّف، حسب العلام، بين مناقشة بعض المفاهيم المحورية ذات الصلة بسؤال العلاقة بين الدين والسياسة ك"الهوية" و"الغيرية" و"المدنية" مستعينا من حين لآخر بعدد من المفكرين والسياسيين، مثل عبد الله العروي وعلي أومليل وعلال الفاسي وراشد الغنوشي.
لقد حاول المؤلّف، في نظر الدكتور عز الدين العلام، من خلال مناقشاته لمختلف الآراء الواردة في الكتاب أن يبيّن أنّ سؤال العلاقة بين الدين والسياسة هو أعمق من قضية وصل أو فصل على المستوى السياسي الضيّق. هو في العمق قضية مجتمعية متعدّدة الجوانب، حلّها الأساس يكمن في بناء الدولة الحديثة، وتبنّي الدمقراطية، والدخول إلى الحداثة. ليتساءل العلام : هل كان الباحث مبدعا في هذه النّقطة؟ هل نجح في بلورتها؟
وفي إجابته عن هذه التساؤلات النقدية، سجل العلام الملاحظات التالية:
يتعلّق أوّلها بتركيبة الكتاب ككل، ذلك أنّه بدل أن ينطلق المؤلّف من الإشكال الرئيس المبتوت في العنوان ليسائل المفكّرين...انطلق من هؤلاء المفكّرين أنفسهم ليبسط آراءهم في الموضوع واحدا بعد الآخر ، حتّى أنّ الكتاب كاد في غالبيته أن يتحوّل إلى قراءات وتلخيصات لما كتب هؤلاء، ناهيك عن استعراضها أحيانا بدون مناقشة.
وتتعلّق الثانية ببعض النّقط التي كانت تستدعي من المؤلّف أخذها بعين الاعتبار، خاصة وأنّها تزيل بعض الغموض الذي اكتنف الكتاب، وفي مقدّمتها ضرورة التّمييز بين الإسلام كعقيدة والإسلام كوقائع تاريخية عينية، وهو التّمييز الذي يسمح لنا بتجاوز بعض المسلّمات الخاطئة، وعلى رأسها القول بأنّ الإسلام ، وعلى خلاف المسيحية، دين ودولة في آن واحد، كما يسمح لنا بإدراك الفارق النّوعي، على خلاف ما يُعتقد، بين "الجهاد" و"الحرب"، ومن تمّ بين "الخلافة" و"الدولة الشرعية" (أو ما نسمّيه عادة بالدولة الإسلامية !).
وفي نفس السياق، كان من المستحسن درءا لكلّ التباس أن يؤكّد المؤلّف في معرض مناقشته للتجربة العربية–الإسلامية الفارق النّوعي بين "العلمانية" Laïcité، وبين ما يُمكن ترجمته ب"الدنيوية"Sécularisme ، ذلك أنّ "الدولة الدينية" في واقع الأمر لا وجود لها على أرض الواقع، وأنّها بطبيعتها، وكيف ما كانت، لا يمكن أن تكون إلاّ دنيوية، أمّا استغلالها أو توظيفها للدين، فتلك مسألة أخرى.
وأخيرا، رغم كلّ الملاحظات، لا يشكّ العلام في كون الكتاب مناسبة إضافية لمناقشة سؤال لا يزال العالم العربي عاجزا أمامه.
أما الورقة الثانية، فتقدم بها الباحث المصطفى اليحياوي، الأستاذ بجامعة الحسن الثاني، بين أنه يسعى من خلالها إلى تقديم قراءة معرفية لكتاب الأستاذ مراد زوين حول "الإسلام والحداثة"، معتمدا على مقاربة تقاطعية للكتاب مع الاتجاهات الفكرية والتصورات النظرية التي سبق وأن تطرقت لإشكاليته الكبرى أي: ما علاقة الإسلام بالحداثة؟ في ارتباط مع خمس ثنائيات مركزية في الفكر العرب المعاصر: ثنائية الدين والدولة، وثنائية السياسة والديمقراطية، وثنائية الأنا (العرب) والآخر (الغرب)، وثنائية النص والعقل، وثنائية الفرد والمجتمع.
ولعل أهم ما يستنتج من هذه القراءة:
أولا أن الباحث، في نظر اليحياوي، وهو يحاول سبر أغوار الكتابات العربية النهضوية والمعاصرة التي قاربت إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة، تارة بالتلخيص والاستقراء، وتارة بالتأويل والنقد، أوجد لنفسه مساحة لتخريج فرضيات الارتكاز لتطوير مشروع فكري جديد للدولة المدنية يتجاوز معيقات الصراع بين المحافظين والمنفتحين حول العلمانية والعلاقة مع الغرب والعلم والتقدم.
تقوم هذه الفرضيات على إعادة صياغة الإشكالية بالتركيب بين الدين بوصفه "ذروة السيادة العليا"، والدولة بوصفها "ذروة السيادة السياسية"، والمجتمع بوصفه واقعا متحولا: فيه العيش المشترك مرهون بجدوى تسليم الأفراد بوحدة المصير، وفيه الحرية وعاء، لتداول الأفكار وتجنيب الرداءة الجماعية، وتطويع الواقع لأفق مجتمعي يسوده التسامح والتقدم باختيارات ثقافية مترفعة على ساحة معركة "الميتافيزقيات المتصارعة" و"اللاهوتيات المتنازعة".
وثانيا أن الباحث، حسب اليحياوي، يعتبر تحديات الديمقراطية والحرية وأنسنة المجتمع، ما بعد الربيع العربي، ضرورات قيمية "أخلاقية" لا يجب أن تخضع لمعيارية الذهنية الفقهية، ولا لمكر الحداثة السياسية التبريرية للاستبداد والتسلط، لأنها في آخر المطاف تمثل "الطريق الآمنة" لتمثل ثقافي جديد للإسلام في تقاطعه مع مستلزمات الحداثة والعلم، بعبارة أخرى لا قوامة حضارية بدون "جمالية متعالية" تستحضر حاجات المجتمع للتغيير والديمقراطية والحرية والتسامح في التأليف بين الدين والدولة، حيث هما معا وظيفتان في المتخيل الجماعي يستشعر وجودهما الفرد والمجتمع لتحصين الاختلاف كقاعدة مجتمعية، والتعدد كمبدأ وغاية، والهوية كمتغير في التاريخ.
غير أن هذا الطموح "المثالي" في تصور التعايش بين الدين والدولة لبلوغ رفاه المواطنين الأحرار في مجتمع يسوده التواصل والإبداع والحق في التنوع والنقد والتعبير، يصطدم، حسب اعتقاد مصطفى اليحياوي، بإمكانية التنصل كلية عن وعي بتاريخ النشأة والوجود لمجتمع من مقدماته أن الحي لا يقوى على العيش بدون تذكر. وهنا تكمن صعوبة المهمة المجتمعية للمثقف، باعتباره حائزا على المسافة الكافية، لأن تجعله ذا ذهنية علمية قادرة على التخلص من الحس المشترك في توضيب الممكن لتذويب الصراع بين الأفراد حول جدوى استحضار الدين في فهم الحاجة للعيش بسلم وسلام في دنيا مجتمع لا تستقيم فيه السياسة إلا بتدبير عقلاني وعادل للتنافس الشرس في المصالح بين الأفراد والجماعات.
أما المداخلة الثالثة والأخيرة، فتقدم بها الأستاذ إدريس هواري وقف فيها عند الأسئلة الأساسية التي دفعت الاستاذ مراد زوين إلى تأليف كتابه، مبينا أن بواعث تأليف هذا الكتاب توجد في سؤال النهضة الذي ما فتئ جل مفكري الفكر العربي المعاصر يطرحونه. و اتخذ هذا السؤال عند الأستاذ مراد زوين شكل سؤال عن الحداثة، بعد أن كان سؤالا يدور حول الأصالة و المعاصرة أو حول التأخر التاريخي.
السؤال الذي شغل الأستاذ مراد زوين، في نظر إدريس هوراي، هو سؤال الشكل الذي اتخذه حضور الدين في الفكر العربي المعاصر الذي انشغل بالحداثة: هل يجب الجمع بينهما أم الفصل بينهما؟ و هذا السؤال يتخذ بعده الأساسي، عندما نجعل منه سؤالا يتمحور حول علاقة الدين بالسياسة. فيصبح السؤال عند الأستاذ مراد زوين هو كيف وأين تتقاطع الذروة الدينية بالذروة السياسية؟
لمتابعة الجدة و الطرافة المميزتين لمحاولة الأستاذ مراد زوين، حسب هواري، عمد الأخير إلى بيان الإطار النظري الذي اعتمده؛ مستنتجا أنها محاولة تستند إلى شكل جديد من المثقف وسمه بالمثقف الخرائطي carthographe، وهو مثقف يضع خريطة ما يقع و ما يمكن أن يقع حوله الصراع والجدل والتدافع الفكري من أجل ربح معركة الحداثة التي فرضت سؤال الدين و السياسة.
هكذا وقف هواري عند بعض خصائص هذا المثقف، مشيرا إليها تحت علامات خاصة هي: الاهتمام بالتاريخ و الراهن و الانفتاح على كل الممكنات. معتبرا أن هذا التأطير النظري قد سمح له متابعة المقاربة التي اعتمدها مراد زوين، لتناول إشكال الدين و السياسة مخالفا بذلك المقاربات التي اعتمدت لتناول هذه المسألة، و هي إما المقاربة التي تقول بالفصل (نموذج فرح أنطون ، محمد أركون ، محمد عابد الجابري و إلى حد ما برهان غليون) أو المقاربة التي تقول بالوصل( نموذج علال الفاسي ، محمد عبده ، أنوار الجندي و الغنوشي).
تكمن أهمية مقاربة الأستاذ مراد زوين، حسب ورقة هواري، في كونها تقدم تحليلا ملموسا لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الدين و السياسية و هو ما يعني الاهتمام أساسا بالفرد المتدين الذي يحمل القيم الدينية ، و من خلاله تمر الحمولات الدينية كممارسات واعتقادات، هذا من جهة؛ أما من جهة أخرى، فالأمر يتعلق بالمجتمع الذي يمارس فيه الدين، و هو ما يعني الأخذ بعين الاعتبار طبيعة الممارسة السياسية التي يخضع لها الأفراد ذواتهم كذوات متدينة ومدنية. و من خلال الوقوف عند أشكال التقاطع بين الممارستين ، الذاتية و المجتمعية، سيصبح سؤال الحداثة والإسلام أو الدين و السياسة سؤالا تاريخيا، يحيلنا إلى الواقع التاريخي. من هنا أهمية الحديث عن الدولة المدنية التي نعتقد هي البؤرة التي تجمع الممارستين و تعطيهما القوة التي تجعل الحداثة والإسلام يسيران في طريق الانبعاث بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية.
إن كل حديث عن الدولة المدنية يحيلنا إلى التطور التاريخي الذي عرفه الغرب. و الحالة هاته لا يمكن إلا الإقرار أن سؤال الحداثة يرتد إلى التساؤل عن علاقة هذا التطور التاريخي بالإسلام كحضارة و دين.
وفي هذا الإطار وقف إدريس هواري مع مراد زوين عند ثلاثة مفاهيم يعتقد أنها تفتح باب النقاش حول علاقة الإسلام بالحداثة، و هي : مفهوم العلمانية و مفهوم السلطة السياسية و مفهوم التسامح.