ندوة: قراءة في كتاب "دولة الفقهاء"
فئة: أنشطة سابقة
نظَّمت مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث مدارسة لكتاب "دولة الفقهاء" بمشاركة مؤلفه نبيل فازيو، والأستاذين عبد الكريم كريبي ومحمَّد الهاشمي، وذلك يوم الجمعة 10 نونبر 2017، بصالون جدل الثقافي، ابتداء من الساعة الرَّابعة بعد الزَّوال.
رحَّب الدُّكتور عبد النَّبي الحري بالمشاركين وبمؤلّف الكتاب، ويندرج هذا الكتاب ضمن مشروع قراءات لنصوص تعالج إشكاليَّة الدّيني والسياسي، الذي يشتغل عليه قسم "قراءات" خلال هذا الموسم الثقافي.
ثمَّ تناول الكلمة الباحث عبد الكريم كريبي، الذي اعتبر ورقته قراءة "مع" و"بـ" كتاب دولة الفقهاء، محاولاً من خلاله اختبار إمكانيَّة قيام ما يمكن تسميته "إبستمولوجيا الفكر السياسي". متسائلاً: كيف يمكن أن يكون التناول الإبستمولوجي للفكر السياسي؟ ومسجّلاً أوَّلاً أنَّ كتاب "دولة الفقهاء" لا يدرس الوقائع السياسيَّة للمجتمعات الإسلاميَّة خلال العصر الوسيط، بل يدرس ما كتبه فقهاء السياسة الشرعيَّة حول هذه الوقائع. إنَّ الكتاب، حسب كريبي، دراسة لخطاب نظري أو كتابة سياسيَّة، وليس دراسة لأحداث تاريخيَّة. وهذا ما يجعله، بطبيعة موضوعه، أَدْخَلَ في صنف الدّراسات الإبستمولوجيَّة. لكن لا يكفي أن يكون الموضوع "إنتاجاً نظريَّاً" كي تكون الدراسة دراسةً تعتمد على المقاربة الإبستمولوجيَّة.
لقد تضمَّن الكتاب بعض الالتفاتات الإبستمولوجيَّة، لكنَّ هذه الملامح سرعان ما ستذوب في بحر من التحليلات التي لم تكن، في نظر كريبي، تعتمد مقاربة واضحة وواعية، سواء كانت مقاربة إبستمولوجيَّة أو غير إبستمولوجيَّة. لقد كانت الأفكار تتوالى والتحليلات تَتْرَى دون إطار منهجيّ واعٍ ومقصود. وقد تواصل "السهو المنهجي" إلى درجة صارت معها الدّراسة تعاني خصاصاً على مستوى المنهج بشكل عام، وعلى مستوى المقاربة الإبستمولوجيَّة بشكل خاص.
هكذا يعتقد كريبي أنَّ الخصاص الإبستمولوجي في الكتاب يكمن في ذهول التأويل لديه عن طبيعة مقولة القانون، وذهوله عن طبيعة "الدَّولة".
من جهته، أكَّد الأستاذ محمَّد الهاشمي أنَّ كتاب "دولة الفقهاء" يمثل استثناءً فريداً في مقاربة المسألة السياسيَّة داخل دواليب الفكر الإسلامي، وذلك لقدرته على الخروج من الخطاطة الكلاسيكيَّة التي تتأرجح في الغالب بين إعلاء نرجسي من متانة الطرح التراثي واكتفائه بذاته، وبين نزعة استئصاليَّة ترى في هذا التراث لحظة لاغية لا طائل من العودة إليها، اللهمَّ إن كان ذلك في سبيل إظهار ضحالتها وقدامتها المستشنعة. ما استطاعه كتاب الباحث نبيل فازيو، حسب الهاشمي، إنَّما هو تلك القدرة على الاقتراب من هذا المجال المحتدم بالانفعاليَّة بروح العالم المستقصية والمستكشفة؛ وهو ما جعله في ظنّ الهاشمي يتمكَّن من أن يستشفَّ ملامح مميّزة لعقل فقهي يقف على مسافة واحدة، سواء من سجاليَّة العقل الكلامي أو من البرهانيَّة المتعالية للعقل الفلسفي، بل إنَّه يتجاوز أيضاً العقل الفقهي الأصولي في صوره الكلاسيكيَّة بقدرته على أن يتجاوز المباحث التي كانت تعدّ وقف الفقيه وسياجه في الآن نفسه.
لم يتحدَّث الباحث أبداً عن وجود دولة فقيه بنيت على منوال قوله وحسب شروط معياره، لهذا فإنَّ الذين يكتفون برجم الغيب من خلال قراءة العنوان، يغفلون أنَّ رهان الرجل، في اعتقاد محمَّد الهاشمي، كان يتوجَّه صوب تفكيك مادَّة هائلة من المعطيات داخل مجال ما يدعوه بفقه السياسة الشرعيَّة بغرض ضبط سيرورات بناء القول الفقهي حول إشكاليَّة المشروعيَّة والشرعيَّة التي تحفُّ كلَّ الأسئلة الأخرى المرتبطة بالسلطة السياسيَّة وجميع مؤسَّساتها.
لقد راهن الأستاذ فازيو، في نظر الهاشمي، على إعادة بناء الحساسيَّة الذهنيَّة الفقهيَّة التي بدت كما لو أنَّها تسمع صوت التاريخ وتحاول الخروج من تصلّب الذهنيَّة المنقطعة عن مفعولات الزَّمان، بحيث تصلح لأن توفر نواة لذهنيَّة دينيَّة مختلفة، ولكنَّه مع ذلك لم يقع أبداً في أيَّة هلوسات دعويَّة؛ بل اكتفى بالمجاهدة مع مكتبة نصوص هائلة، ليحاول أن يفهم هذه الظاهرة الثقافيَّة، ولكي يفتح الباب، في رأي الهاشمي، أمام استكشاف ذهنيَّات أخرى تقابل ذهنيَّة الخاصَّة، سواء كانت فلسفيَّة أو كلاميَّة أو فقهيَّة، وفي ظنّ الهاشمي سنتوفَّر على كلّ أطياف العقل الإسلامي حينما نتمكَّن يوماً من أن نجري رصداً شبيهاً بما قام به فازيو للذهنيَّة العاميَّة في مظانّها التراثيَّة، سواء في رقائق الزهَّاد أو في رقاعات الشعراء أو أخبار عامَّة النَّاس. حينها ستتَّضح رؤيتنا للتراث، وسيكون بالإمكان أن نحقّق وعياً جيّداً بتجربتنا التاريخيَّة في مجموعها.