ورشة علمية حول كتاب: "في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية" للدكتور نور الدين أفاية
فئة: أنشطة سابقة
شهد صالون جدل الثقافي الكائن بمقر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" بالرباط ندوة علمية من أجل مدارسة كتاب "في النقد الفلسفي المعاصر؛ مصادره الغربية وتجلياتها العربية" لكاتبه الدكتور محمد نور الدين أفاية، وذلك يوم الجمعة 27 مايو 2016، شارك فيها الباحثان نبيل فازيو وعبد الواحد أيت الزين بحضور مؤلف الكتاب الدكتور أفاية نور الدين.
اعتبر الدكتور نبيل فازيو في مداخلته أن كتاب في النقد الفلسفي المعاصر أتى ليكرس المنظور الفلسفي الذي ما انفك أفاية يصدر عنه في تناوله لمختلف القضايا التي تؤثث مشهد متنه الفكري؛ منظور الاستقلال الفلسفي الذي يجد خير تعبير عنه في التبرم، مما أسماه نزعةَ نصية فشا أمرها بين جل المشتغلين في الحقل الفلسفي العربي، وصيرت فعل التفلسف عندنا قرين الشرح والتعليق والتحشية على النصوص الفلسفية الكبرى، سواء منها التي أنتجها التراث الفلسفي القديم والكلاسيكي، أو تلك التي ما انفك الفكر الغربي المعاصر يمطر بها الوعي العربي، منذ أن أدرك هذا الأخير حقيقة تأخره التاريخي إبان القرن التاسع عشر.
إن الخطاب الفلسفي العربي، يقول الدكتور فازيو نقلا عن مؤلف الكتاب (أفاية)، يتكئ، دوماً، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، الأمر الذي جعله يعاني 'غربة مزدوجة'؛ غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيرا ما يعاند كل تفكير عقلاني، تنويري، وغربة عن الروح الفلسفية، من حيث هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف، أو بما هي 'معرفة فرحة' تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي إلى تحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها.
في الأحوال جميعها، يكون موضوع الفكر العربي موضوعا يقع خارجه؛ فهو إما مستمد من التراث وإشكالياته، أو من الفكر الغربي المعاصر ومداراته. يعني هذا أن هوة سحيقة ما انفكت تفصل الوعي عن واقعه في العالم العربي، وهذا ما انتبه إليه ، في نظر نبيل فازيو، أفاية عندما دعا إلى الزج بالفلسفة في معمعة الراهن، حتى تمكن الوعي من أن يصير وعيا بالحاضر ومشروطا بمشكلاته. لا ينبغي أن نفهم من هذا الموقف إعراضا من صاحبه عن دراسة التراث الفلسفي أو عن الإفادة من درس الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، بقدر ما ينبغي أن ننتبه، يقول فازيو، إلى دعوته إلى استثمار مكتسبات الفكر الفلسفي برمته في بلورة فهم معقول للواقع وتحولاته.
وعلى الرغم من عنايته بمفهوم النقد، وبصرف النظر عن الصورة البانورامية التي قدمها لقارئه عن مسار مفهوم النقد وتشكلاته الحديثة والمعاصرة، فإن أفاية، حسب فازيو، لم يرد لكتابه أن يكون قولا تعليميا في مفهوم النقد وتاريخه، بقدر ما بسط فيه القول في مكانية الإفادة من مفهوم النقد في تحليل كثير من الأسئلة التي ما تزال تستوقف الوعي العربي، من قبيل سؤال الديمقراطية، والحرية، والسلطة، والمعنى، والاختلاف، والحق...إلخ، وهي أسئلة ينضح بها متن أفاية برمته. وعلى مثال الجابري الذي ظل مهووساً بمفعول الإيديولوجيا وأثرها السلبي في التشويش على الوعي العربي، نبه أفاية، حسب فازيو دائما، إلى ما يضطلع به التضخم الإيديولوجي من دور في تعميق غربة الوعي العربي عن راهنه.
إن أفاية، حسب فازيو، يعول على النقد في مواجهة معضلة التضخم الإيديولوجي، التي يراها منبعاً لمختلف أشكال السلوك اللاعقلاني وثقافة الانسحاب التي هيمنت على الوعي العربي. والملاحظ على إعماله لمفهوم النقد إبقاؤه على حمولته وكثافته الفلسفية الحديثة؛ فهو يوظف المفهوم دون أن يفصله عن سياقاته التأسيسية الكبرى؛ عن فلسفة كانط، وشلينغ والمثالية الألمانية، وصولاً إلى تجلياته المابعد حداثية عند مدرسة فرانكفورت وفلاسفة الاختلاف. غير أنه، في مقابل ذلك، يقول فازيو، يعمل على تطويع المفهوم، ليصير قادرا على احتواء القضايا التي تواجه الفكر العربي اليوم. ولا أدل على ذلك من اهتمامه المزمن بمسألة المتخيل وعلاقتها بالعولمة التي خصص لها حيزا مهما من كتابه التواصل الخلافي، الأمر الذي يشي بأن الرجل لا يدرك النقد في معناه الأداتي الضيق، وإنما يتخذ منه استراتيجية لخلخلة التشكلات الإيديولوجية والدوغمائية التي تكبل الوعي وتحول بينه وبين الواقع.
على ضوء هذه المعطيات، يقول فازيو، يمكن أن نفهم كثيرا من المواقف التي أعرب عنها أفاية في كتابه عن النقد الفلسفي، من قبيل تشديده على حاجتنا الملحة إلى الفكر الفلسفي النقدي، على مستوى ترسيخ الديمقراطية كما على مستوى التربية القائمة على الحرية والجرأة والنقد. بل ويمكننا أن نفهم، أيضا، مراجعته النقدية لأبرز المشاريع الفكرية التي أفرزها تطور الفكر الفلسفي العربي المعاصر، من قبيل ما نجده عند مفكرين كالعروي، والجابري، وناصيف نصار، وعبد الكبير الخطيبي؛ فالثابت في اختلاف هذه المحطات كلها إلحاحه على ضرورة تأسيس وعي نقدي بالقضايا التي ما تزال تجثم بظلالها على الوعي والثقافة العربية.
وبعد مداخلة نبيل فازيو، جاء دور مداخلة الباحث عبد الواحد أيت الزين، الذي اختار لها العنوان التالي:" النقد فلسفيا: هواملٌ وشواملٌ، قراءة في كتاب "النقد الفلسفي المعاصر، أصوله الغربية وتجلياته العربية"، استهلها بالقول إن الفلسفة والنقد سيان، حضوره من حضورها، وغيابها من غيابه. لنقل وبمبالغة واعية بذاتها، الفلسفة ليست إلا نقدا، ولن تكون إلا كذلك، سلبُها هذه الخصيصة، تنصيبٌ لمشانق إعدامها. في البدء كان النقد وفي "الختام"، ذاك عنوان ملازم للكتاب محط النظر. "النقد الفلسفي المعاصر: أصوله الغربية وتجلياته العربية" محاولة من طرف محمد نور الدين أفاية، لتبين هوامل وشوامل النقد الفلسفي.
رتق أفاية لحساسيات فلسفية مختلفة، يقول عبد الواحد أيت الزين، أضفى على كتابه بعدا حواريا بشأن ما يتعلق بالنقد من مفاهيم وأسئلة. بيّنٌ وواضحٌ حميميةُ العلاقة بين النقد وأسئلة الوجود والقيم والمعرفة، لذلك ليس بمستغرب أن تشكل فرصة محاورة الكتاب، مناسبةً للنبش في قضايا الذات والزمن والجسد والسلطة والموت والحياة والديموقراطية...إلخ، في علاقتها بعقل بشري، "كتب عليه أن يرهَق بأسئلة ليس بمُكنتِه ردها، فهي قدرُه" كما صرح بذلك كانط في مستفتح نقده للعقل الخالص.
النقد، بالأحرى الكتابة في النقد وحوله ، يقول أيت الزين، شكَّل لدى أفاية مدخلا من مداخل تناول بعض هموم الإنسان المعاصر. فبعد حكاية نهاية المرويات الكبرى بصدد الخلاص الإنساني، وتصاعد موضة الولع باغتيال الأبطال الكلاسيكيين للوجود (الله، الطبيعة، الفاعل...)، ترسخ لدى المهتمين وعي بمسيس الحاجة إلى التفكير النقدي، لمساءلة ما ترتب عن ذلك من إشكالات جديدة، همّت الوضع البشري في سياق تصفية الحساب مع تركة " حقبة الفراغ"، التي خلَّفَها موت "النسق" وانسحاب "الثيولوجيا" وتصاعد خطابات تهييج "ملكات الإدراك الحسي"، وللنقد الفلسفي دوره في إعادة ترتيب الأمور، للخروج من العالم أقل غباء مما ولجناه به، كما عبّر عن ذلك ميلان كونديرا.
النقد بالنسبة إلى أفاية، حسب أيت الزين، وعي بالمسؤولية التاريخية، التي يستشعرها الفيلسوف في لحظات "الأزمة"، وإيقاف ٌ للإنسان المعاصر على أوهامه، قصد حمله على الانفلات منها، بالمراهنة على قلق السؤال، وشغب الفكر، والجرأة على استعمال العقل الخاص بدون وصايات قبلية جاهزة. للنقد بداهات، وعلى رأسها التبرم مما هو بدهي، ومراجعة لكل ما يتقدم إلينا باسم "الحقيقة واليقين"، وبكلمتين، إنه تشخيص وتأسيس، كما سيوضح أيت الزين في اللاحق من القول.
إنه يعتقد أن كتاب "النقد الفلسفي المعاصر"، هو بمثابة تتويج لجهود سابقة لصاحبه، حيث انشغاله منذ زمن، بالحفر في بعض مبهمات الفكر الإنساني من قبيل بلاغة الهامش (المرأة، الاختلاف، الكتابة، الصمت، المحظور...)، بالإضافة إلى عمله على استنطاق المتخيل بغية تجاوز حوار الطرشان بين تلك الثنائيات الميتافيزيقية التي تسيدت الفكر العربي من قبيل العقل واللاعقل، الشرق والغرب، الذات والآخر، ويبدو أن للأمر، صلة بإيمانه العميق بجدوى "أخلاقيات المناقشة الهابرماسية" في التأسيس لقواعد "العيش المشترك" وتجنيب العالم المزيد من المآسي، فيكفيه الرعب الذي يصيح من حوله في كلّ لحظة وحين.
هكذا سعى عبد الواحد أيت الزين، وهو يحاول استعادة بعض القضايا الرئيسة للكتاب، أن يقود بعض رؤاه إلى أقصاها بتدارس رهاناتها، موجَّهِا لها ببعض الأسئلة الأساسية، التي يرتبط معظمها بإيماءاته الآنفة الذكر، حيث ينوه برغبة أفاية في استنبات فكر نقدي قوي في الفضاء العربي، يساعد على تخطي الأحلام المجهضة، بالتخلص من مستتبعات الوعود العربية المخذولة، ولعلّ هذا من مستوجبات كل حديث عن "النقد الفلسفي المعاصر في تجلياته العربية".