التأويليات وعلوم النص محور مؤتمر دولي بكلية آداب تطوان
فئة: أنشطة سابقة
نظم مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان (جامعة عبد المالك السعدي/ المغرب) بشراكة مع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث يومي 17 و18 أبريل 2019 مؤتمرا علميا دوليا حول "التأويليات وعلوم النص"؛ وذلك بمشاركة نخبة من الأكاديميين والباحثين المتخصصين في عدد من الجامعات العربية والمغربية. وشهد اليوم الأول جلسة افتتاحية أدارها د. أحمد هاشم الريسوني أكد فيها على أهمية المؤتمر واعتزاز الكلية باحتضان أشغاله العلمية وبخاصة، وهو يمد جسور التواصل العلميِّ بين مشرق العالم العربي ومغربه، ويناقش قضايا العلاقة بين التأويليات والعلوم النصية من زوايا بحثية، ومرجعيات معرفية متعددة. ثم تلتها كلمة نائب رئيس جامعة عبد المالك السعدي المكلف بالبحث العلمي د. أحمد الموساوي، والتي أشار فيها إلى راهنية إشكال التأويليات في الدراسات الأكاديمية، وتميز المختبر في عقد شراكة متينة مع مؤسسة بحثية رصينة مثل مؤسسة مؤمنون بلا حدود، وعبر عميد الكلية د. محمد سعد الزموري في كلمته عن سعادته الغامرة باحتضان كلية الآداب بتطوان لهذا المؤتمر العلمي الدولي لما للجدية التي يتميز بها مختبر التأويليات في تنظيم مؤتمراته وندواته، سواء على مستوى الإعداد أم إصدار أعماله المحكمة بالتزامن مع انعقادها أم نجاحهم في استقطاب نخبة رصينة من الكفاءات الأكاديمية المتخصصة.
أما كلمة المنسق الإقليمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود د. صابر مولاي أحمد، فبين فيها أهمية التعاطي مع الدرس التأويلي اليوم والعناية به؛ فالتأويل اليوم هو المعول عليه في الخروج من الانسدادات التي تعاني منها الثقافة العربية في الزمن الحاضر، سواء انسدادات باسم الدين والهوية والمتجسدة في الأصولية الدينية التي تستعدي الحداثة، أو انسدادات باسم الحداثة والتقدم وما شابه ذلك؛ من التيارات الإيديولوجية التي تستعدي مقومات الثقافة الإسلامية؛ فالدرس التأويلي في نظر الأستاذ صابر سيمكننا اليوم من الانفتاح على الماضي بما يخدم ثقافة الحاضر، ويمكننا في الوقت ذاته من فهم ثقافة الحاضر بما يفيد المستقبل؛ كما أنه سيكون له دور مهم وفعال في بسط ثقافة الحوار والتواصل بين مختلف مكونات المجتمع الواحد وبين الثقافات بشكل عام؛ وقد أشاد الأستاذ صابر بالجهود العلمية التي بذلها المنظمون في مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية التابع لكلية الآداب بتطوان؛ كما أشار إلى كون مؤسسة مؤمنون بلا حدود تولي عناية خاصة من حيث البحث والنشر للمعرفة التي تتصل بالفلسفة التأويلية، وقد خصصت مجلة لهذا القطاع المعرفي باسم "مجلة تأويليات" فضلا على نشر الكتب والبحوث والترجمات التي تهتم بهذا الجانب المعرفي المهم.
واختتمت هذه الجلسة بكلمة د. محمد الحيرش منسق مختبر التأويليات الذي اعتبر أن اختيار العلاقة بين"التأويليات وعلوم النص" موضوعا للبحث والمدارسة في جلسات هذا المؤتمر جاء لتحقيق مطلبين: أحدهما يتمثل في تجسيد الهوية التعددية للمختبر من خلال إثارة إشكالات معرفية أفقيةٍ تتداخل في بحثها أنظار متكاملة ومقاربات متفاعلة، وهو النهج الذي سار عليه المختبر في مختلف برامجه وفعالياته العلمية. والثاني يتصل بتهييئ سياق منفتح للتواصل العلمي المنتج والرصين بين أبرز الأكاديميين العرب والمغاربة المتخصصين في قضايا التأويليات والعلوم النصية واللسانية؛ وذلك بما يسهم في تبادل الخبرات والمعارف المتعلقة بهذه القضايا، وتقاسم التفكير في مرجعياتها الكونية، وتعميق اجتهادات عربية قادرة على محاورة هذه المرجعيات (الكونية) والمشاركة الفاعلة في إغنائها. ولعل ما سرّنا وأقنعنا في المختبر بجدوى ما كنا مقبلين عليه، أننا وجدنا لدى مؤسسة بحثية جادة هي مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" التي تربطها بكليتنا اتفاقيةُ شراكة علمية (وجدنا لديها) تفهما لمسعانا وتطلعا كريما إلى الاشتراك معنا في عقد هذا المؤتمر والوفاء بشق من متطلباته التنظيمية
وقد دارت الجلسة العلمية الأولى حول "النص الفلسفي وأسئلة الحقيقة والتأويل"، وقد نسقها د.عز الدين الشنتوف الذي أعطى الكلمة في البداية للفيلسوف والمفكر المغربي د.عبد السلام بنعبد العالي الذي انطلق في مداخلته "الحقيقة ولباسها" من تساؤل حول إذا ما كانت مسألة الحقيقة على خطورتها تؤول في النهاية إلى قضية لباس ومسألة مظهر؟ مبينا أن طبيعة الحقيقي تتجلى في تمنّعه وحرصه على التحجب. على هذا النحو يغدو تاريخ الحقيقة- في نظر بنعبد العالي- تاريخ مكبوتاتها؛ فهي تخفي خداعها بأن تظهره في المجاز. هذه "المسرحة" التي تسدل الستار حتى إن رفعته، وتَضَع اللثام حتى وإن أماطته، وتلبس الحجاب حتى إن نزعته، تطال الكائن في جميع أبعاده، وهي التي تتحكم في إنتاج المعاني وتحديد الدّلالات .حينما يُنزع اللباس، ويُكشَف الستار ويُماط اللثام والحالة هذه، فإنه لا يَكشف عن شيء، وإنّما لا يكشف إلا عن بنية الاختفاء ذاتها، تلك البنية التي تجعل اللباس، ليس غطاء يوضع "فوق" ما يستره، وإنما أثناء ما يظهر، إنه فعل الطيّ ذاته.
وركز د. سعيد توفيق في مداخلته "أخلاقيات التأويل: رؤية جادامرية" على أهمية الوقوف على ما يمكن تسميته "بأخلاقيات التأويل"، وهو مفهوم إشكالي بطبيعته؛ لأنه يتداخل مع مفهوم المنهج؛ وهذا يستدعي ابتداءً السؤال: هل للتأويل منهج؟ وبأي معنى يمكن أن يكون التأويل منهجًا؟ وما دور الأخلاق هنا؟ وبذلك فإن مسعانا في هذا البحث يهدف إلى تجاوز هذه الإشكالية، من خلال الكشف عن الشروط العديدة لإمكانية التأويل، باعتبارها شروطًا لها طبيعة أخلاقية، وتعد بمثابة منهج له في الوقت ذاته. وعندما نتحدث عن "أخلاقيات التأويل"، فإننا يجب أن نرجع إلى الفيلسوف الحجة في هذا الصدد: هانس- جيورج جادامر. ومع ذلك، فإنه لا يهدف من رواء مداخلته إلى ترديد أقوال جادامر في هذا الصدد، وإنما يسعى إلى تأويلها من خلال الاستعانة بها في صياغة رؤية أخلاقية شاملة لكل تأويل.
أما د.محمد أبو هاشم محجوب، فقدم مداخلة بعنوان: "نهاية النّص وبداية التأويل: عالم النّص: من الأفق الشعري إلى الحدس الفكري" بين فيها أن هذا العمل يعمد إلى اختبار مفهوم النص في انغلاقه التقليدي وفق تعريفاته الكلاسيكية، وذلك من خلال مَعْرَف "عالم النص" الريكوري، الذي يمتحن المنزلة البلاغية والميتافيزيقية لمفهوم الاستعارة، لينتهي إلى تسديدها نحو نوع من التزييد النظَراني الذي يضطلع بالاستعارة معنى معطيا للتفكير. وهو يحاول في مرحلة أولى مسايرة المفهوم من خلال كتابي الاستعارة الحية والزمان والسرد، ليحاول ضربا من تملك الاستعارة الحية من خلال "التطبيق" على قصيدة للمتنبي تقيم عالم الأنا الحديث كأحد عوالمها الممكنة، فتنفتح الفلسفة السينوية في هذا السياق، عالما لنص المتنبي، لا يعني قصدا له، وإنما إمكانا يصبح متاحا به.
وتناول د. محمد شوقي الزين في مداخلته الموسومة بـ"النص وتأويلاته: استدارة هيرمينوطيقية" قول باسكال:«إنَّها دَائرَة لانِهَائِيَة، مَرْكَزُها في كُلِّ مَكَان ومُحِيطُهَا في غَيْر مَكَان». وإن لم يكن باسكال صاحب العبارة، سبقه في ذلك نيكولا الكوزي بصيغة أخرى، رياضية ولاهوتية في الوقت نفسه. ما قصَّة هذه الدائرة وأيُّ تعليم نستخلصه منها بشأن النص وتأويلاته؟ أبادر بالقول بأن النص والتأويلات تؤدّي اليوم الوظيفة نفسها التي كانت بالأمس رياضية ولاهوتية، في تبيان أن مركز الدائرة موجود في كل مكان وأن محيطها مفقود في كل الأمكنة. هل النص موجود في كل التأويلات وفي الوقت نفسه مفقود فيها؟ هل يؤدّي هنا النص دور المركز والتأويلات دور المحيط أو الهامش؟ بأيّ معنى النص موجود ومفقود في الوقت نفسه في التأويلات التي يتيحها؟ هل التأويلات هي سليلة النص أم تستقل بقيمة أنطولوجية هي كينونة هذه التأويلات ذاتها، منفصلة عن النص ولها قائمة خاصة بها؟ أنطلق من هذه العبارة لتسويغ ما يمكنني تسميته «الاستدارة الهيرمينوطيقية» التي هي أكثر من مجرَّد «الحلقة التأويلية»، «أكثر من» معناه «أدق وأعمق وأوسع»، لأنها نوع من الرياضيات التي ترى أوجه التقاطع أو التوازي أو التداخل بين النص وتأويلاته. لننطلق أولاً من الحلقة التأويلية لنرى وجه التَّسويغ في الاستدارة الهيرمينوطيقية.
وانعقدت مساء اليوم نفسه الجلسة العلمية الثانية، وكان موضوعها "النص التخييلي وإبدالات التأويل"؛ وقد تكفل بتسييرها د.خالد أمين افتتحت بمداخلة د. عبد الله إبراهيم "الإيهام بصدق المُحالات السردية- ضرورة الكذب السردي-". تطرق فيها إلى الرواية بوصفها فنا دنيويا؛ لأنها تنشد إقامة صلة مع العالم بواسطة التمثيل، وفيها يترتّب شأنها، بداية من التفكير بها وصولا إلى تلقّيها، مرورا بكتابتها، وتأويلها. ولا يراد بهذا القول إنّ الرواية تستنسخ العالم، فالأصوب أنها تتولّى تمثيل أحداثه المتناثرة بحبكة تجعله قابلا للإدراك والفهم، باقتراح صور لفظية متخيّلة دالّة عليه، وبذلك تُسهم في إثراء فهم العالم؛ فعالمها الافتراضي ينبّه القارئ إلى ما في عالمه من تجارب وخبرات. تلتقط الرواية بالتخييل السردي ما غاب عن الإنسان في العالم، وما ظلّ جاهلا به لقصور في حواسّه، أو لأنه غير قادر على استيعاب صوره المتفرِّقة، فتتولّى هي إعادة تشكيلها بما يلبّي حاجته للمعرفة، وقدرته على الإدراك.
إنّ دنيوية الرواية تنزع عنها أية وظيفة لا صلة لها بالعالم، فلها الكفاءة في استيعاب التجارب الإنسانية المختلفة، وتمثيل الهويات المتباينة، وهي تتخطّى اللغات، والثقافات، وتستوفي أحوال الإنسان حيثما كان، إن طابع المرونة في مبناه وفّر لها القدرة على ذلك، فهي تلبس لبوس مرجعياتها الثقافية، وبذلك تعدّدت قضاياها، وتنوّعت وظائفها، وبمرور الوقت، طوّرت قابلية في تنويع أساليبها، وأشكالها.
هذا وأثار د. عبد الرحيم جيران في مداخلته المعنونة "إنتاج النص: التآول وتدوين الليالي " إمكانية استرجاع "الليالي" إلى موضعها الأصليّ الذي ليس سواها. معتمدا في هذا المسلك الإصغاء إلى حكاياها، لا في ما تحكيه فحسب، بل أيضًا في يتخفّى من حكي وراء ما تحكيه. ويتطلّب توجُّهٌ من هذا القبيل سمعًا ثانيًا مرهفًا. ونختار موضوعًا لنا- في هذا المسعى- مسألةَ إنتاج النص بوساطة تدوين "الليالي"، والكيفية التي يصير بوساطتها هذا التدوين مكوِّنًا مركزيًّا في فهمها. وليس المعوَّل عليه في هذا الاختيار النظر إلى التدوين بعدِّه مجرَّد بحث في مصدرها الأصليّ، وكيف أفضت إعادة تدوينها ّإلى الابتعاد عن هذا المصدر أو الاقتراب منه، وإنّما البحث عن أثر فعل التدوين في تسريدها ، وما ينجم عنه من تآول".
وتطرق د. عبد اللطيف محفوظ في مداخلته المعنونة ب:"التأويل السيميائي للنصوص الشعرية: (قراءة في قصيدة " حيث أنا")، إلى أن أهمية تجربة الشاعر المغربي محمد بنطلحة، وتميزه باتجاه متفرد في بناء المعنى الذي يتجلى في قدرته على خلق التوازن بين الصورة الشعرية والمعنى الاجتماعي، وعلى استقطاب القراء الباحثين، وهو صنيع قلما تستطيع التجارب الشعرية الأخرى تحقيقه، لأنها في الغالب تتوجه إلى قراء غير متعينين. وقد تسنى لتجربته تحقيق ذلك بفضل خلق نصوصه فسحات معرفية وارفة تتيح للقارئ أن يرتاد، في ظلها، عوالم ممكنة معمورة بالمدهش المُنَشَّطِ من قبل توليفات بين معان منحلة عن أدلة قانونية، ومعان موسوعية محفزة من قبل قوة تأويلية نسقية؛ بيد أن بنطلحة، وإن كان يتعمد إخفاء استراتيجياتها وخلفياتها، فإن قصائده تبدو مؤسسة، من جهة، على المعرفة باللغة التي تتساوق مع القدرة على استكناه الأدلة القانونية في مستواها المجرد، والمعرفة بالعالم المرتبطة بالقدرة على ربط نسخ القوانين المنحلة في الوجود بسياقات فعلية تعترف بها الموسوعة، الشيء الذي يرجح أنه يستند إلى نوع مخصوص من التمثيل القائم، في بنائه للتدلال (sémiosis)، على الفرض المبني (Abduction)، والذي هو نوع مخصوص من الاستنتاج المنطقي القائم أساسا على تشييد المعرفة انطلاقا من مماثلات حدسية مدعمة بحدود مؤسسة على تجاورات مقبولة، ومن جهة ثانية، على معرفة معمقة بالسياقات المناسبة للأدلة الممثل بها، والتي تصبح في ذهن القارئ، ذي المعرفة المتطورة، موضوعات دينامية تحدد معان خارج المعنى الموجود داخل الأدلة التمثيلية، والتي ليست سوى موضوعاتٍ مباشرةٍ.
أما مداخلة د. محمد الحيرش، فتناول فيها موضوع " الإبدال التأويلي وعلوم النص: إشكالات واقتراحات "، وتروم هذه الدراسة تحليلَ الأسباب المعرفية والقيمية التي تضافرت في ما بينها لإرجاع أسئلة التأويل إلى صدارة البحث والاهتمام، وبيان الأهمية التي صارت تحظى بها في أزمنتنا الراهنة من خلال انتظامها في إبدال paradigme)) تأويلي أضحى يمثل للعلوم النصية واللسانية ولمجمل العلوم الإنسانية واجهة حيوية تستلهم منها هذه العلوم طائفة من الحوافز والإمكانات لتجديد النظر في موضوعاتها، والاجتهاد في إيجاد البرامج الفهمية الملائمة لمقاربة هذه الموضوعات وتأويلها. وقد بينا كيف التأمت الإرهاصات الأولى لإبدال التأويل بعدما حصل التنبه إلى المضايق التي يشكو منها إبدال البنية، وبعدما تنامى الوعي بتفاقم المآزق النظرية والإيبستيمولوجية التي انتهى إليها إبدالٌ فقد إنتاجيتَه وقوته التوقعية والاستكشافية. لهذا يمثل اليوم الاندراج في الأفق المعرفي والقيمي لإبدال التأويل تحولا نحو البحث عن أرحب المسالك التأويلية وأقومها تفهما لمعاني اللغات والنصوص، واستكشافا لها بما تستحقه من تفاعل وتسامح وإنصاف.
وإلى جانب هذا، درسنا ما ترتب على ذلكم التحول من آثار في علوم النص من جراء احتكاكها بمقتضيات الإبدال التأويلي، واشتباكها مع القضايا والأسئلة التي يثيرها. وقد مكننا ذلك من استخلاص بعض الركائز العامة التي ينهض عليها استلهامُ تلكم العلوم لنواظم إبدال التأويل، وينبني عليها انخراطُها في دينامية التوجهات النظرية التي ما فتئ يشقُّها. كما عمدنا إلى مناقشة هذه الركائز واقتراح تنظيم لها في صيغة برنامج متعدد الانشغالات تشترك علوم النص في الاسترشاد به، وتدبُّرِ موضوعاتها في ضوء مستلزماته ومسلماته.
وشهدت فعاليات اليوم الثاني من المؤتمر تواصل الجلسات بجلسة خصصت لمدارسة محور "النص الديني وسياقات التأويل""، وقد نسقها د. الطيب بوعزة. ففي مداخلة د. فتحي إنقزّو الموسومة بــ"من الفيلولوجيا إلى الهرمينوطيقا: شلايرماخر والمناظرة مع آست وفولف في محاضرات 1829"، اقترح إعادة تأليف العناصر التي تشكلت منها تأويلية شلايرماخر في نص الخطابين اللذين ألقاهما في أكاديمية برلين عام 1829 على وتيرتين متكاملتين: المناظرة مع فولف وآست على صعيد العلم الفيلولوجي كعلم بروح العصر القديم وآثاره، حيث يتكامل الوجهان الصناعي والفلسفي في استخلاص قواعد جديدة للعمل التأويلي، ووضع الفهم، بآلياته وحدوده، أساساً أقصى له؛ واستخلاص الدرس الفلسفي من هذه المناظرة المزدوجة: أن كلية التأويلية هي مسارٌ يتعين بناؤه بالتدريج لأنها من جنس الفكر، وأنها تقع في مراتب وسطى، وتُساوق المنطوق والمكتوب، فلا تقف عند الإنشاءات الفنية للروح الكلاسيكي، ولا تتطلع إلى علياء الميتافيزيقا، وإن كانت روحانية خالصة.
وعقب ذلك تدخل د. صابر مولاي أحمد في موضوع "النص القرآني: نحو مداخل تأويلية معاصرة"، وأشار فيها إلى أن "فهم" وتأويل النص القرآني وتدبّره، لا ينبغي أن يدور في دائرة الكم من الأخبار والأثر والأقوال المتعددة والمتنوعة بتعدد وتنوع خلفياتهم المذهبية والثقافية...، بمعزل عن الكيف "النوعية". فالكيف يقتضي تمحيص ونقد وتحليل ما قال به المتقدمون، وعدم الوقوف عند ما ذهبوا إليه، وذلك بالعمل على نسج مقولات ومقاربات وإضافات علمية تستجيب لمقتضيات الزمن الحاضر؛ صحيح يكون المطلب الكمي في غاية الأهمية، ولكنه يفقد قيمته عندما لا يكون كيفيا؛ فالفهم والتأويل يفقد قيمته المعرفية عندما يرتبط بالكم على حساب الكيف؛ هذه المداخلة تدور في سياق النظر والبحث حول آفاق ومداخل تأويلية معاصرة في التعاطي مع النص القرآني.
وقدم د. رشيد بن السيد ورقة بعنوان: "لوي ماير الفلسفة تؤول الكتاب المقدس: مشروع ديكارتي ضمن أفق سبينوزي" تطرق فيها إلى مناقشة ماير وضعية النص المقدس في هذا الكتاب؛ أي الوحي انطلاقا من مناخ فكري يتميز بانتشار النزعة العقلانية للفلسفة الديكارتية والتي تفرض وجود فرق بين التصور والفهم، وتعلن عن وجود فارق بين النهائي واللانهائي، إذ يترافق الإعلان عن اللانهائية الإلهية عند كل من ماير وسبينوزا بتجانس بين طبيعة الفهم النهائي واللانهائي، الإنساني والإلهي، والذي يؤول إلى رفض كل ما هو خارق أو فوق طبيعي أي مجاوز للطبيعة وقوانينها. وبخصوص مسألة الوحي فليس بلوغ الإلهي، ووضعية النصوص المقدسة، والوعد بالخلاص والسعادة القصوى الأبدية بالنسبة إلى الإنسان هي ما يشكل الرهان فقط؛ أي المسائل الأخلاقية والدينية، لكن هناك نظرية إبستمولوجية تتجلى في حدود وإمكانات وقدرة المعرفة الإنسانية؛ أي حدود وعلاقة العقل بالخيال.
وضمن الجلسة نفسها تدخل د.يوسف العمّاري بورقة عنوانها "مكر التأويل: ابن رشد وغاليلي وتأويل النصوص المقدَّسة " تناول فيها بالتحليل وجها من أوجه انقلاب رهان التأويل إلى ضد ما يتوخاه المؤوِّل، خاصة حينما يجري التأويل على نحو يضطر فيه صاحبه إلى محاورة خصمه داخل ساحته وبأدواته؛ وذلك من خلال الوقوف على محاولتَيْ كل من ابن رشد وغاليلي، وجعل تأويل العبارات الكتابية مفتاحا لحل نهائي للصراع الكائن أو الممكن بين الدين والعلم: فبينما كان رهان ابن رشد الدفاع عن الفلسفة وعلوم المنطق من داخل الشريعة، انتهى إلى التضييق على مزاولة الأولى وإخضاعها لأحكام الثانية؛ وبينما كان رهان غاليلي تثبيت استقلال نطاق فلسفة الطبيعة وعلوم الرياضيات عن اللاهوت، صار إلى جعلها خادمة للاهوت ومقاصده.
وبعد استراحة قصيرة انطلقت أشغال الجلسة العلمية الموالية التي نسقها د.الإمام العزوزي. واستهلها د. عبد الله بريمي بمداخلة تناول فيها موضوع "السيميائيات الثقافية: النص والضرورة التأويلية"، وأشار فيها إلى أن مفهوم النص في السميائيات الثقافية مبيّنا أن النصوص لا ترسو عند نقطة واحدة من التطور، بل إنها تعود من الماضي الثقافي محمّلة بدلالات جديدة في كل عصر جديد، وأن خلود النصوص وهم من الأوهام، وأن الثقافة بسطوتها الهائلة وتغيرها الدائم وتأويلاتها المتعددة تحدّ مع الزمن من سطوة النصوص أيًّا كانت طبيعتها. وتنطلق المداخلة من فرضيات السميائيين شارل ساندرس بورس ويوري لوتمان وأمبرطو إيكو في اهتماماتهم بالسياق الذي أُنتِجت فيه العلامات وتم تأويلها كما أن العلامة في تصورات هؤلاء المفكرين تستمد قيمتها من تأثيرها على القائم بعملية التأويل؛ حيث إن السميائيات ثقافية بطبيعتها، ولا يمكن تأويل العلامات خارج السياق الثقافي الذي تُوجد فيه، وإذا كان لابد من وجود مجال تفيد منه السميائيات فهو مجال التحليل الاجتماعي والثقافي. كما تحاول أن تلقي الضوء على أن اللغة ليست ببساطة مسألة علاقات بين التعبير والمحتوى (ونسق من العلاقات الخاضعة لسنن ما)، وليست الهُوية السميائية ذات قيمة متغايرة بهذا التبسيط (كما في النموذج السوسيري)، ولكن اللغة أيضًا – ودائمًا – هي مسألة لها علاقة بالاستنباط والتأويل والاستدلال: فكل علامة تنفتح على لعبة تأويلية ويمكن «استخدامها لكي تعني وتقول شيئا آخر غير ما وضعت له في الأصل»، (أي: ففي سياق معين، يمكن لكل علامة أن تعني شيئًا مختلفًا عن معناها «المعتاد»)؛ لأن كل علامة تبدأ في تغيير أو تكييف معناها حسب السياق والمستخدِم والقائم بالتأويل.
أما د. محمد بوعزة فتناول في ورقته "النص والتفكيك والتأويل" آليات هذه الاستراتيجية الشاملة للتفكيك في قراءة النصوص، كاشفين عما تقدمه من إمكانات تفيد في توضيح معضلات تأويل النص، ومتسائلين في الآن نفسه عن حدودها. ونشير هنا إلى أننا اخترنا طرح إشكالية هذه الدراسة، دور التفكيك في تغيير الرؤية للنص وما ترتب عليه من نتائج، بالكتابة عن "نموذج تفكيكي" في خطابنا العربي المعاصر؛ يتمثل في كتابات المفكر اللبناني علي حرب، وبالتحديد كتاب النص والحقيقة الذي صاغ فيه مشروعه الذي أسماه ب"نقد النص". ومعنى ذلك أن تفكيرنا في النص والتفكيك، لن يتخذ مسارا نظريا مجردا، نكتفي فيه بعرض معلومات نظرية، بل سنفكر في هذه الأسئلة من خلال "التورط" في قراءة نقدية لممارسة حقيقية في التفكيك العربي، حظيت بتمثيلية مهمة، لأننا نعتقد أن محاورة النظريات والأفكار من خلال الاشتغال بالنصوص، يساعد في الفهم الموضوعي للمشكلات التي تطرحها، وذلك بمعاينة تطبيقاتها واستخداماتها في صيرورة الممارسة. هذا وقد أنهى المؤتمر أشغاله بجلسة ختامية نوه فيها د. رشيد برهون بنجاح هذا المؤتمر وبرصانة المداخلات العملية التي تعاقبت على جلساته. كما أثنى على تمكن اللجنة التنظيمية من إصدار أعمال المؤتمر كاملة بالتزامن مع أيام انعقاده.
ثم تلتها كلمة ممثل الضيوف التي ألقاها د. عبد الله إبراهيم شكر فيها الضيافة الكريمة والاستقبال الرائع الذي قوبلنا به في كلية تطوان وفي جامعة عبد المالك السعدي، والهيئة العلمية المشرفة على مختبر التأويليات وعلى هذه الندوة "شكرا ندر أن صدر منه لهيئة نظمت مؤتمرا حضرته من قبل..ولمؤسسة مؤمنون بلا حدود على ما قاموا به من عمل معهود. ثم أعلن في ختام كلمته عن موضوع المؤتمر القادم الذي ستدور أشغاله حول: "الأدب والمعرفة من التأويلية العامة إلى التأويليات الخاصة".